قراءة في رواية " فرانكشتاين في بغداد " لأحمد سعداوي
تعويذة سحريّة لبغداد
أحمد الحلي
"تساءل محمود ، فرد عليه عزيز بأن ناهم (مساعد هادي العتاك)
قتل في تفجير بحي الكرّادة مطلع هذه السنة ، ولأن ناهم ليس له صلات
أوعائلة كبيرة سوى امرأته وبنتيه الصغيرتين ، فقد ذهب هادي إلى المشرحة لتسلّم جثته
، وهناك أصيب بصدمة كبيرة ، حين شاهد كيف اختلطت جثث ضحايا التفجير مع بعض ،
قال الموظف في المشرحة لهادي ؛ اجمع لك واحداً وتسلّمه ، خذ هذه الرجل وتلك اليد
وهكذا ، الأمر الذي تسبب بصدمة كبيرة لهادي ..."
أن تُمسك يداك برواية حقيقة لا يضيع وقتك هباءً في قراءتها وتتبع أحداثها فذلك أقصى ما يمكن للمرء أن يحصل عليه ، بل أن ذلك بمثابة العثور على كنز حقيقي ، وهنا نود أن نتطرّق إلى ظاهرة باتت متفشية في الوسط الثقافي والأدبي تتعلق بالطموح المرضي لدى عدد من الأدباء ولا سيما بين أوساط الشعراء واستماتتهم في كتابة رواية ، من دون أن تتوفر لديهم المؤهلات التقنية والفنية والإحاطة التامة بمداخل ومخارج فن الرواية الذي أرى أنه من العسير حقاً أن يسلس قياده إلا لمن لديه احترافية عالية جداً .. ، وفي حقيقة الأمر لا نعرف ما الذي ينتظره هؤلاء الذين يقحمون أنفسهم وأسماءهم فيما لا طائل من ورائه ، ولكن مهلاً قد نجد لهؤلاء بعض المسوغات ، أبرزها على سبيل المثال حصول معجزة ما أو لنقل ضربة حظ لا يمكن أن تأتي قط ...
نسوق هذا الكلام ونحن ننتهي من قراءة رواية " فرانكشتاين في بغداد" للروائي العراقي أحمد سعداوي ، والذي يبدو أنه عمل بجد ومثابرة وأناة قل نظيرها من أجل إنجاز رائعته الروائية هذه والتي نحسب أنها تستحق عن جدارة أن تكون واسطة العقد التي تزين جيد السرد العراقي ...
المفرح في هذه الرواية ، أنها جاءت عراقية صميمة ، نبعت من حيثيات الواقع العراقي وتموجاته الكارثية ما بعد التغيير الذي حصل في العام 2003 ...وإن اتكأت في إطارها الشكلي على ثيمة عالمية هي شخصية فرانكشتاين التي أبتدعها الكاتبة الإنكليزية ماري شيلي وصدرت سنة 1818 وتدور أحداثها عن طالب ذكي اسمه فيكتور فرانكنشتاين يكتشف في جامعة ركنسبورك الألمانية طريقة يستطيع بمقتضاها بعث الحياة في المادة، يبدأ فرانكنشتاين بخلق مخلوق هائل الحجم ) كما أن هناك بعض الامتدادات الطفيفة وخطوط التلاقي مع بعض شخصيات رواية " الحياة هي في مكان آخر" للتشيكي ميلان كونديرا ...
بوسعنا توصيف رواية سعداوي هذه على أنها سمفونية أو نشيج يتم عزفه من خلال مختلف أنواع الآلات الموسيقية ، وكل آلة تعزف موسيقاها ضمن جوقة الآلات في ذات الوقت الذي تنتحي فيه جانباً فتعزف موسيقاها الخاصة ...
ويبرز لنا " الشسمه " ، أو الذي لا اسم له ، بوصفه العنوان الأبرز والأكثر ديناميكية وفاعلية بين شخصيات الرواية ، وتمثل لنا شخصيته ، وبحسب المفهوم الفرويدي المعادل الموضوعي الأكثر نجاعة وحسماً في بغداد لما جرى ، وكما يتضح فإن هذا الـ"الشسمه" هو كائن مخلّق على يد شخص يعيش على هامش الحياة اسمه هادي العتاك يعيش في منطقة البتاويين ببغداد ، والذي يفقد مساعده وعضده الذي كان بمثابة ابنه ، فتنطوي ذاته على حقد مرير مدمر على كل من تسبب بهذا الخراب واليباب ...
يقول سعداوي بشأن بطله هذا ؛ " سعيت من خلال روايتي إلى أن أسلط الضوء على مقطع معين من الحياة التي عشناها بوصفنا مجتمعا خاضعا لسطوة العنف و"الإرهاب"، وأردت أن أركز على قدرة الخوف حين يتضخم على صنع أعتى الوحوش سواء كانوا وحوشاً افتراضية لا وجود لها أصلاً على أرض الواقع، أم أشخاصا تحوّلوا بسبب رائحة الدم إلى وحوش في نهاية المطاف ".
وبطريقة غاية في السرية والخفاء يتلاعب سعداوي بأفكار قرائه ويجعلهم يذهبون بهذا الاتجاه أو ذاك ، وكأنه يلعب معهم لعبة " الغمّيضة" الساحرة ، فلا تكاد تعي شرك فصام الشخصيات الذي وضع لك بعناية ...وبالتالي نستطيع فهم أبعاد العلاقة بين الشسمه وبين خالقه وموجده من العدم ، من خلال بعض الحوادث وما يجري بينهما من تحاور ، حيث يتهمه بأنه يقف خلف موت حارس الفندق الشاب " حسيب محمد جعفر الذي بات روحه تحل في جسده .. وبما يشبه العتب المر أو الاتهام يقول له ؛
- لقد تسببت بمقتله ، لو أنك لم تمر من أمام باب الفندق ، لما تقدم الحارس حتى بوابة الأعمدة الحديدية ، لربما بقي بالقرب من الكابينة الخشبية البعيدة نسبياً عن الباب الخارجي ، وأطلق نيرانه على سائق السيارة الانتحاري من مسافة بعيدة ، ربما يصيبه الانفجار لاحقاً ببعض الجروح أو يرميه العصف بعيداً فيصاب برضوض وخدوش ، ولكنه من المؤكد لن يموت وسيعود في صباح اليوم التالي إلى زوجته وابنته الصغيرة زهراء ، ولربما يفكر ، وهو يفطر مع زوجته الشابة وطفلته بأن يترك هذا العمل الخطر ويعمل بائعاً للحب الشمسي على الرصيف في قطاع 44 ، قال الشسمه مظهراً تصميمه الأكيد على تنفيذ مهمته التي جاء من أجلها هذه الليلة ، تجادل معه هادي مستجمعاً شجاعته للدفاع عن نفسه ، فهو ، بوجه من الأوجه ، بمثابة أبيه ، فهو الذي أتى به إلى هذه الدنيا ، " أليس كذلك " ؟
- أنت مجرّد ممر يا هادي ، كم من الآباء والأمهات الأغبياء أنجبوا عباقرة وعظماء في التأريخ ، ليس الفضل لهم ، وإنما لظروف وأحوال وأمور خارجة عن سيطرتهم ، أنت مجرّد أداة ، أو قفاز طبي شفاف ألبسه القدر ليده الخفية ، حتى يحرّك من خلالها من خلالها بيادق على رقعة شطرنج الحياة .
الشخصية المحورية الثانية هي شخصية الصحفي محمود السوادي الذي تقع على عاتقه رواية ما حدث ، ولاسيما الجانب المتعلق بسيرة الـ شسمه ، وتتماهى شخصيته مع شخصية باهر السعيدي الذي يعمل رئيس تحرير مجلة "الحقيقة" ، يقرأ محمود بإعجاب عمود رئيسه ؛ " هناك قوانين يجهلها الإنسان ، لا تعمل على مدار الساعة كما هي القوانين الفيزيائية التي تتحرك وفقاً لها الرياح وتنزل الأمطار وتتحرك الصخور من الجبال ساقطة إلى الأرض ، وغيرها من القوانين ، هناك قوانين لا تعمل إلا في ظروف خاصة ، وحين يحدث شئ ما وفقاً لهذه القوانين يستغرب الإنسان ويقول إن هذا شئ غير معقول ، إنها خرافة أو في أفضل الأحوال معجزة ، ولا يقول إنه يجهل القانون الذي يحركها ، الإنسان مغرور كبير لا يعترف بجهله أبداً ..."
افترض محمود أن هذه الفقرة تلخص ربما بشكل منطقي فكرة الشسمه ، عن أسباب وجهود وظهوره ، غير أن العتّاك يتمسك بصيغة أكثر خيالية ، فالـ شسمه مصنوع من بقايا أجساد لضحايا ، مضافاً إليها روح ضحية ، واسم ضحية أخرى ، إنه خلاصة ضحايا يطلبون الثأر لموتهم حتى يرتاحوا وهو مخلوق للانتقام والثأر لهم .
وكان محمود ، وأثناء قيامه بمهماته الصحفية في منطقة البتاويين ببغداد تعرف إلى هادي العتّاك الذي يذيع صيته في المنطقة من خلال حكاياته الغريبة المهلوسة التي يتفق الجميع أنها كاذبة ، ولكن الفضول وحده هو الذي يدفعهم إلى سماع المزيد منها ...
الفضول ذاته ، يدفع محمود إلى التوغل أكثر فأكثر مع حكايات هادي العتّاك عن الشسمه ، محاولاً أن يصل إلى ماهيته ، على الرغم من أنه يساوره الشك في إمكان وجوده أصلاً ، إلا أنه وجدها مادة دسمة تتضمن جرعات جيدة من الإثارة المطلوبة في عمله الصحفي ، وفي محاولة منه لاستجلاء حقيقة الأمر يزود محمود هادي بجهاز التسجيل الخاص به لغرض أن يقوم بتسجيل حوار أو مقطع من حوار مع هذا الكائن الغريب ذي الإمكانات الخرافية والقوى الخارقة ، فيعرب له عن استجالة تنفيذ مهمة كهذه ، فهذا الكائن يتمتع باليقظة الخارقة أيضاً ومؤكد أنه سيقتله إذا علم بذلك ، فيقترح عليه أن يكاشفه بالأمر ، وأن من حقه من أجل أن لا تتعرض صورته إلى المزيد من الشوّه أن يبدي رأيه ويعبر عن نفسه للجمهور الذي بات يتسع في تتبع ومتابعة أخباره ، فبعضهم ناقم وساخط على ما يقوم به ، وبالفعل يتم تنفيذ هذا المقترح فيأتي صوته عبر جهاز التسجيل ؛
" ليس لديَّ وقتٌ كثير ، ربما أنتهي ويذوب جسدي وأنا أسير ليلاً في الأزقة والشوارع حتى من دون أن أنهي مهمتي التي كُلّفت بها ، أنا مثل هذه المسجلة التي أعطاها ذلك الصحفي المجهول لوالدي العتّاك المسكين ، والوقت بالنسبة لي هو مثل هذه البطارية ، ليس كثيراً أو كافياً ، هل هذا العتّاك المسكين والدي حقاً ؟ ، إنه مجرّ ممر ومعبر لإرادة والدي الذي في السماء أنا مخلّص ومنتظر ومرغوب به ومأمول بصورةٍ ما ، لقد تحرّكت أخيراً تلك العتلات الخفية التي أصابها الصدأ من ندرة الاستعمال ، عتلات لقانون لا يستيقظ أبداً ، اجتمعت دعوات الضحايا وأهاليهم مرّةً واحدة ودفعت بزخمها الصاخب تلك العتلات الخفية فتحركت أحشاء العتمة أنجبتني ، أنا الرد على ندائهم برفع الظلم والاقتصاص من الجناة ...."
وما يتضح لنا من خلال مجريات أحداث الرواية أن الـ شسمه ، لا يعمل لوحده ، فثمة هناك بالإضافة إلى أبيه هادي أتباع ومريدون كثيرون من مختلف المشارب والتوجهات ، هناك المجانين ؛ الأكبر والكبير والأصغر والساحر والفيلسوف والسفسطائي و" العدو" ، وكذلك الأتباع العاديون ، وكان الجميع يطلق عليه لقب " القدّيس" ، وكانوا يعملون معاً في ما يشبه ورشة عمل من أجل إعادة ترميم جسده بعد كل عملية مواجهة يقوم بها فيتعرّض للإصابة أو فقدان بعض أعضاء بالإضافة إلى أن بعضهم كان يمده بالمعلومات الضرورية حول تحركاته ، نقرأ في اعترافاته أيضاً ؛
" كان الستة ، قد وصلوا بعد نقاشات حامية إلى قرار حاسم ؛ نزل المجانين الثلاثة من العمارة وقطعوا الشارع المعتم باتجاه الساحة التي جرى فيها إعدام الشابين خلال النهار ، سحبوا جثة القتيل ، الذي يبدو أنه كان شجاعاً وتركوا ذلك المتوسل الخائف الباكي ، حملوها حتى العمارة ، وفي غرفة بالطابق الأرضي جرت عملية إعدادها لتوفير قطع غيار مناسبة لي ، تم تقطيع الأجزاء التي أحتاجها ، وضعوها في كيس بلاستيكي أسود وتركوها هناك ، قام المجنون الأكبر بنزع الأجزاء التالفة في جسدي ، ثم تولى المجنون الكبير والصغير خياطة الأجزاء ، ثم حملوني جميعاً إلى الحمّام في الطابق العلوي ، غسلوني من الدماء وسوائل البلازما اللزجة ، جففوني ، أعطاني " العدو" ملابس ضابط في القوات الخاصة الأمريكية مع بطاقات هوية مناسبة ، ثم تولى السفسطائي عملية ترميم وجهي بالمساحيق ، كساني بطبقة كثيفة من الماكياج النسائي وأعطاني المرآة ، نظرت إلى وجهي فلم أعرف نفسي ..."
ويضيف قائلاً ؛ " كان المجنون الأكبر يرى أنني صورة الإله المتجسّدة على الأرض ، وأنه "الباب" لهذه الصورة ، كانت رؤيتي محرّمة عليهم ، لذا حين كنتُ أنزل من الطابق الثالث ويصادفونني في الممرات أو عند السلّم يسجدون على الأرض بسرعة ويغطون وجوههم بأيديهم خشية ورعباً ...
ثم يوجّه نداءه إلى من يصغون إلى اعترافاته " أعرف أن الأمور لم تجري مثلما أحب ، لذا فأنا أطلب ممن يسمع تسجيلي هذا أن يساعدني ، وأن لا يعرقل عملي ، حين أنتهي منه وأغادر عالمكم هذا بأسرع وقت ممكن ، فلقد تأخرت كثيراً ، أعرف أن لديّ أسلافاً كثيرين ، ظهروا ها هنا في هذه الأرض في حقب وأزمان ماضية ، أنجزوا مهامهم في أوقات المحن العصيبة ، ثم غادروا ولا أريد أن أكون مختلفاً عنهم ... " .
بوسعنا أن نلحظ أن أحداث الرواية تتشظى كذلك على مستويات أخرى ، وإن كانت تلتقي جميعها عند محور الشسمه ، فنعرف ، ومنذ بداية الكتاب أن هناك دائرة تعمل في بغداد تحت مسمى " دائرة المتابعة والتعقيب" ، المرتبطة بالإدارة المدنية لقوات الائتلاف الدولي في العراق ما بعد سقوط النظام السابق في العام 2003 ، وأن هذه الدائرة يرأسها العميد سرور محمد مجيد ، وفي مرحلة لاحقة ، وبعد التحقيق بشأن طبيعة عمل هذه الدائرة يتبين أن الدائرة تقوم بعمل هو خارج اختصاصها الذي ينحصر بأمور مكتبية تخص أرشفة المعلومات وخزن وحفظ الملفات والوثائق ، وأنها كانت توظف ، تحت إدارة العميد سرور مباشرة مجموعة من المنجمين وقارئي الطالع ، برواتب مرتفعة تصرف من الخزينة العراقية وليس من الجانب الأمريكي ...
يحاول العميد سرور ومعاونوه جاهدين الوصول إلى منفذي العمليات الإرهابية التي كانت تحصل في بغداد وقتلهم أو زجهم في السجن قبل أن يتاح لهم تنفيذ عملياتهم ، وكان العميد يبتغي من وراء ذلك إلفات نظر المسؤولين إلى العمل البطولي المنوط به ، بدلاً من أن يبقى يتحرّ في الظل ، وكان يخطط ، لإلقاء القبض على هذا المجرم الخطير الذي ظهر في بغداد مؤخراً ، حيث راحت ألسن الناس تتداول أخبار سيرته بشئ غير قليل من الفضول والتعاطف وأحياناً الفزع ، وكانوا يتحدثون عن سرعته وخفّته في تسلق أسطح البنايات والنفاذ من الحيطان وعدم تأثره بالرصاص المنهمر عليه ،
وعن طريق الصدفة تقع عينا العميد على العدد الأخير من مجلة "الحقيقة" التي يعمل فيها محمود السوادي ، فيقرأ عنواناً أثار انتباهه وهو ؛ "فرانكشتاين في بغداد" لمحمود نفسه ، فيأخذ بقراءة التحقيق على محمل الجد ، ذلك أنه تمت صياغته بالاستناد إلى الاعترافات المسجلة بصوت الشسمه الذي سلّمه هادي العتاك لمحمود السوادي ، يدرك العميد أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من إلقاء القبض على هذا الوحش المتربّص ببغداد ، فيرسل مساعديْه لإحضار الصحفي كاتب التحقيق ، ليقف بنفسه على الحقيقة ...
بعد الانتهاء من شرب الشاي الخفيف فاجأ محود وأصابه بالارتباك الشديد والقلق ، فهذا الرجل ، العميد سرور ، إنه باختصار يمثل السلطة ، وكونه صديق طفولة لرئيسه باهر السعيدي هو أمر ليس له أي وزن في حسابات هذا الرجل ، لقد عرف محمود لماذا كان السعيدي يسخر من العميد سرور ، إنه يعرف هذا الرجل وأمثاله جيداً ، فهو لا يتورع عن ارتكاب الظلم وعن استخدام القسوة المفرطة بأشكالها المختلفة خدمة للسلطة التي يعمل تحت إمرتها ، سواءٌ كانت هذه السلطة هي صدام أم الأمريكان أم الحكومة الجديدة ...
يقول له العميد ؛ " إنه ليس شاياً ، إنه مزيج نباتي من ورق لسان الثور ولسان العصفور ولسان الخنزير وعدة ألسنة أخرى ، وأنا أسميه اختصاراً " فاتح اللسان" ، لأنه يدفع من يشربه للانفتاح في الكلام وعدم إخفاء شئ ، وها أنت ترى أنني شربته معك .. ، يحاول محمود إخبار العميد بأن المقالة الصحفية التي تضمنت معلومات عن الشسمه ما هي إلا قصة خرافية قام بتلفيقها هادي العتّاك الذي يسكن في منطقة البتاويين ، لم يرغب العميد بكشف أسرار العمل أمام هذا المتهم ، لم يرد إخباره بأن الشسمه الذي يتحدث عنه والذي أسماه في مقالته بـ فرانكشتاين بغداد ، هو شخص حقيقي وليس خرافياً ، وأنه يصرف جل وقته منذ أشهر مضنية من أجل إلقاء القبض عليه ، وأن حياته ومستقبله المهني متعلق بهذا الرجل الغامض الغريب ، وأنه يسعى لكشف وتمزيق هالة الغموض التي يحيط بها نفسه ، وأنه أقسم على أن يُمسكه بيديه الاثنتين ليعرضه في التلفزيون ويرى العالم كله أنه مجرّد شخص تافه حقير ووضيع خلّف لنفسه أسطورة من جهل وخوف الناس وفوضى الواقع الذي يعيشونه لا أكثر ولا أقل ...
وفي نهاية اللقاء أو الاستجواب يخبره العميد ؛ " بالمناسبة أنا أمزح معك ، لا يوجد شاي اسمه فاتح اللسان ، هذا شاي خفيف مع مركب كيمياوي نذيبه معه ليمنع الأزمات القلبية ، وهي أزمات تحدث أحياناً للذين يتعرضون لضغط الاستجواب ، نحن نحميهم بهذا الشراب ونحمي أنفسنا من تهمة قتل المتهمين ..."
وثمة ما يمكن قوله أيضاً بشأن هذه الرواية التي تنفتح على آفاق وخيالات خصبة ، حيث تتشعب أحداثها في قنوات متعددة ، المصائر هنا معلّقة أو متأرجحة في أنشوطة ، ضمن همود الزمن أو تسارع وتيرته إلى حدودها القصوى ، بوسعنا أن نلمس الشغف وشعرية النص والحضور الفاتن لجسد المرأة ، الأمر الذي أتاح للإحداث أن تتصاعد وتتشابك في هارموني إيقاعي متماسك ، وما يحسب لسعداوي حقاً أنه فهم اللعبة جيداً وهو استعمل في روايته هذه لغة صحفية مبسّطة ، ولم يترك نفسه يقع فريسة المتطلبات اللغوية والبلاغية ....
الشئ الأخير الذي نود توكيده هنا بإصرار ، هو أن الشسمه ، ذا الأنف المزرر ، والذي ابتدعته مخيلة سعداوي وصنّعته لنا من أشلاء الضحايا ، ستبقى كينونته مترسّخة ، بوصفه حارساً أميناً ، تجثم روحه اليقظة عند بوّابات بغداد الأربع ، أو يستوي واحداً من الشواخص الضرورية المضافة إلى نصب الحرية فكأنه استدراك لجواد سليم ذاته على عمله ، شأنه في ذلك شأن الكائنات الخرافية الجاثمة على بوابة عشتار البابلية ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق