قصة قصيرة
وقائع التقرير صفر
عادل كامل
اختتم رئيس الأطباء تقريره بالعبارة التي طالما افتتح سعادة المدير خطاباته بها: العبقرية ان تخترع المدى الذي يقود إلى ما بعده، ومادامت لا تمتلك العبقرية أدوات البت بقضية ما، فما عليك إلا ان تتجاوز انغلاقها، ولكن عليك ان لا تتركها سائبة، فكما ان الصمت هو ليس أصلا ً من الأصول، فان الأصوات ليست قفلا ، وليست خاتمةً! ليطلب من مساعديه العودة إلى جذور المشكلة، قبل ان يرفع تقريره إلى سعادة المدير.
كان فريق العمل مكونا ً من أعضاء تم اختيارهم بعناية، وقد مكثت مناصبهم متوارثة، والتعديلات التي جرت، حتى في حالات وجود أعضاء غرباء، من خارج مجتمع الحديقة، فلا اثر لها، الأمر الذي يسمح لقرارات رئيس الأطباء ان تكون مرنة من غير ضعف، وشفافة من غير تعنت، وحرة من غير جبر، وطليقة من غير قيود، بوصفها غير قابلة للشطط، أو الشك، ليس لأن رئيس الأطباء يستمد صلاحياته من سعادة المدير شخصيا ً، في القرارات العامة أو في أدق تفاصيلها، بل لأن خبرته وممارسته الطويلة رسخت مبدأ استحالة الخروج على السياق، ومغادرة نظامه، من ناحية ثانية، ولأن أحدا ً لم ينبش في عوامل اختياره للمنصب، أو يحفر فيها، رسخت شفافية آليات العمل، وصرامته، من ناحية ثانية.
هكذا ـ كما في أعراف الاجتماعات وتقاليدها ـ بدد رئيس الأطباء الصمت، قبل إرسال التقرير، إلى المدير، قائلا ً:
ـ مع ان الأزمة الراهنة ترجعنا إلى ما قبل اكتسابها هذا الذي دعانا للتوقف عندها، إلا إنها ستأخذ موقعها في التسلل، فما من حلقة بإمكانها العمل خارج خيط السلسلة وقوانينها. وأنا لا أقول كما يقال ان الليل لا يعقبه إلا النهار، ولا أقول ان النهار ابن من أبناء الليل، حبل احدهما بالآخر، وأنجبه في أوانه، أو أجهضه لعلة من العلل، بل أقول انه آن لهما الانصهار لاستحداث نهارات تذهب ابعد من لياليها، واستحداث ظلمات وضاءة، لا حافات لأنوارها! فلا ثمة نور بدرجة واحدة، ولا ظلمات تحت الصفر!
تململ المساعد الأول، فأبدى ملاحظاته:
ـ إن مشكلة كهذه المشكلة، سيدي الموقر، تكاد تكتسب خصائص سابقاتها؛ فكلما أعدنا تفكيكها بدت إنها تتطلب حفرا ً أعمق، وكلما بدا الحل مستحيلا ً، ومستعصيا ً، وجدنا عقولنا تضطرب وتضطر لاختراع مشكلات تستوجب عدم الإهمال، أو التغاضي عنها.
أجاب رئيس الأطباء:
ـ لقد أوجزت أفكارك لسعادة المدير بوضح تام، مؤشرا ً ان مظاهر الصمت ترجع إلى عوامل مستقلة عن الضجيج، واللعلعة، والدندنة، والقرقرة، لأننا سنواجه المشكلة بالمقلوب: إذا كانت الأصوات قد شكلت المقدمات فهل ستكون النهايات متجانسة، ومتوازنة معها...؟
فقال المساعد الثاني:
ـ لو كان الصمت قرارا ً متأصلا ً فإننا لن نواجه كارثة خارج سيطرتنا..
ـ أحسنت.
وأضاف رئيس الأطباء:
ـ ان مبررات اتخاذ القرار بالإجماع يكاد يهدم مفهوم الفواصل، والمرونة، والاختلاف...، فهل ثمة ديمومة تستحدث مصيرها من غير تبني نظرية: دع الريح تذهب بعيدا ً في العمق!
ـ سيدي.
وقال المساعد الثالث:
ـ إننا مازلنا ندور كما تدور سمكة محتجزة في قارورة عطر، أو علبة نتانة! أليست الديمومة قائمة على مكوناتها وليس على ظاهرها، وان الظاهر ليس شبيها ً بالاختلاف بين العطر والجيفة لا في الدرجة ولا في النوع؟
رد المساعد الأول:
ـ دعنا نؤكد نفينا لوقوع ما حصل قبل ان نمضي في البحث عن علاجات له...، فهل حقا ً وقعت الكارثة، أو اكبر منها، نكبة، أو ما لا يوصف...؟!
أجاب رئيس الأطباء:
ـ ذات مرة قال القائد لي: إذا لم تكن هناك مكاسب ضارة، فدع الأمور تجري بسلاسة، وإذا كانت الخطوط المستقيمة تتعرض للعثرات فلا توقفها ودعها فهي تذهب ابعد من عثراتها...، فأنت لا تقدر على اختراع حتميتك ولا تقدر على دحضها، لأن القوانين تأخذنا معها حيث نؤسسها تامة عبر حلقاتها، ووقفاتها، وأبديتها... فقلت لسيادته: أنا لا أجد هناك مرضا ً شل حافات النطق، كي يسود ما يسمى بالإضراب الصامت، بل هناك تخلخلات تحصل لمرونة الأصوات وما فيها من كتمانات وضاءة! ابتسم سيادته بنعومة وسألني: هل هناك جهة ما لها يد عمياء تنوي دس الكلمات في مباهج حديقتنا الخالدة؟ فشرحت لسيادته الاحتمالات الواجب اتخاذها، كالاعتراف بان وجود المرض كان سببا ً بوجود علم الطب، كوجود الطب بضرورة استحداث معالجات متقدمة. فالمرض سابق على العافية، والصحة العامة، كالموت سابق على الحياة، ولكنه لن يقدر على محوها، أو نفيها..!
فقال المساعد الأول بصوت مذعور:
ـ لنأخذ مثال البعوض الذي استنزف أرواح الملايين من المخلوقات، ومنها البشر...، هل نعتذر له...، هل نقدم له ولاء الاحترام والنذور، وتهدئة عطشه للدماء...؟ هل ننحني له؟ هل نقيم المعابد والقصور والمؤسسات لإعلاء مجده والحفاظ عليه من الأذى، ومن التلف ...؟ ذلك لأننا في الواقع لا نمتلك قدرة القضاء عليه...؟
أجاب رئيس الأطباء:
ـ أكد القائد بضرورة دعم وجهة النظر المغايرة: البعوض ليس شريرا ً...، كالذباب والذئاب والصراصير...، فالبعوض بذاته شبيه بأي كائن وجد انه يتورط بنقل جرثومة المرض...
ـ من غير علمه، ولا قصده...؟ تساءل المساعد الرابع، فأجاب المساعد الأول:
ـ هذا يعني ان المرض موجود بمعزل عن البعوض...، وهذا بدوره يمنحنا فرصة أفضل للتقدم في ردم الفجوات بين المرض والعافية!
رد رئيس الأطباء:
ـ لكن القائد أكد ان المشكلة مادامت ليست في البعوض، فإنها ليست في المرض...، لأن سيادته أرجعنا إلى الأصول واصلها السابق عليها، فقال: هل يمكن للشر ان يكون سابقا ً على الفضائل...؟ فقلت له: سيدي، الجراثيم بحد ذاتها ليست شريرة، مثل البعوض والخنازير والنمور ...، ولكن المرض طالما أدى للقضاء على قطعان كاملة وأبادها إبادة تامة: اجتثها من غير زعيق ولا فحيح ولا نهيق.
تساءل المساعد الأول:
ـ أين يقع الشر إذا ً...؟
أجاب رئيس الأطباء بتردد:
ـ أكاد أصل إلى الاحتمال القديم: الحياة بحد ذاتها شبيهة بنقيضها، وهذا يعني ان الظلمات ما هي إلا درجة من درجات الإنارة...، كالمكان محض حركة ساكنة كاتمة لعللها. مثل أم مهما ذبح من أولادها فإنها لن تكل عن تقديم المزيد من مواليدها نذورا ً وفداء ً ...، ومثل من خسر شيئا ً يحث على تقديم ما تبقى منه حتى يوم يتحول التراب إلى جواهر!
ـ ولو قلبنا المعادلة ..، سيدي، هل سيشكل واقعنا أزمة كارثية أم ابعد منها ...؟
فكر رئيس الأطباء بصوت مسموع:
ـ القائد يرى انه لا يمكن للشر ان يكون سببا ً لوجود نقيضه ...، فالكل يتضمن أجزاءه عبر استحالة ان يكون كلا ً!
آ ...
تأوه المساعد الثالث:
ـ الشر في الديمومة، وفي من يجهل فك لغزها!
عقب رئيس الأطباء قائلا ً:
ـ هذا بمثابة اعتراف صريح بان الجرثومة لها صلة بالناقل لها نحو الآخر المستعد لاحتضانها، وإلا كيف حدث المرض...؟
رد المساعد الثالث ضاحكا ً:
ـ يتحتم علينا، في الأخير، سيدي، القضاء على الجميع! آنذاك لا جرثومة ولا براغيث ولا مرض ولا مرضى!
ـ وماذا لو ان شبح الوباء، أو قل طيفه، أصاب الحرس أو مساعدي قائدنا الأبدي...؟
تلعثم المساعد باحثا ً عن مخرج:
ـ لابد من قراءة المعادلة على نحو مختلف...، فلنقل: لا ظلمات، ولا يوجد من يحملها، وليس هناك من يستقبلها ويدعها تنبت وتنمو وتزدهر ...، مما يقود إلى: ليس هناك إلا الأنوار ـ والمباهج!
صفقوا له، عدا رئيس الأطباء:
ـ زميلنا الموقر، هل تقدر ان تنفي ترليونات المخلوقات التي نفقت، وزالت من الوجود ...؟
ـ سيدي، انك تقرر بخلاف منطق المدير القائد: إذا كان البعوض يمتلك قدرات حمل أمراض الموت، فهذا يعني ان علينا الاعتراف بخطره العظيم! وإلا ما هو لغز الديمومة القائمة على انتهاك حرمات الجرثومة ومن ينقلها ومن يستقبلها...؟
ـ أرجوك، لا تدع النقطة المعتمة تتسع...، ليس لعدم وجودها، أو لعدم وجود من يراها، أو لعدم ظهورها في ألجين التالي حسب، بل لأن السلسلة لا تتكون من هذه الحلقات أبدا ً.
نقر رئيس الأطباء بأصابعه النحيلة فوق منصة الاجتماع، فساد الصمت، وقال:
ـ نحن بصدد الاعتراف بان إضراب حيوانات هذه الحديقة عن إصدار الأصوات لا يفضي ـ لا من بعيد ولا من قريب ـ للتلويح بالتمرد الصامت!
ـ جميل، كيف عثرت على هذا المنفذ؟
ابتسم الأطباء، فقال رئيس الأطباء:
ـ القائد اخبرني بنفسه..، وقال لي: سر...، ولا تكترث لنباحهم، ولا لغطهم، ولا لهذيانهم، ولا لخوارهم..، فأنت مزكى من قبلي.
مكثت الوجوه شاخصة نحوه والعيون تحدق فيه بانتظار ان يكمل، فقال متابعا ً:
ـ ففي المؤتمر الأخير للحدائق الكونية، سألني كبير أطباء الإمبراطورية العظمى: كيف تخلصتم من الثالوث المخيف...، أي: المرض وحامله والمصاب...، فقلت له بسلاسة: ليس لدينا لا جرثومة ولا مصاب ولا وسيط بينهما...، ثم رحت استعرض وسائلنا في القضاء على الخطر الكامن للصمت!
ـ سيدي، سيدي..
فاعترض المساعد الأول:
ـ آن لنا ان نخبر سيادته بان صمت الجميع ليس صمتا ً...، بمعنى المرض والتمرد والعصيان، بل ولا صله له بالأسى والكآبة، وان صمت كائنات حديقتنا محض مراجعة دورية للغز الصوت المنتقل من الريح، عبر الفراغ، إلى الحناجر! فالجميع براء من المرض، والدسيسة، ونظريات المؤامرة!
هز رئيس الأطباء رأسه متمتما ً:
ـ وفي المؤتمر الكوني الأخير أخبرتهم انه إذا كان المرض يسبق، في وجوده، المستقبل له، فان العقار ليس إلا وسلة عدمية لديمومة الحياة! لأننا في حديقتنا لا ندوّن هذه المظاهر الزائلة.
وقرب رأسه من الجميع:
ـ فساد الصمت المطلق، على صعيد الكلام، أو عبر العقول!
صفق الجميع، وبضمنهم المساعد السابع والثامن والتاسع، فقال المساعد العاشر الذي أفاق من كابوس كان يعاني منه:
ـ ماذا كنا فعلنا لولا الصمت؟
ـ أحسنت.
متابعا ً أضاف رئيس الأطباء:
ـ فانا قلت لسيادته ـ في تقريرنا ـ ان الضجيج والفحيح والزئير والنعيق والطنين والصهيل والنعيب والعواء والنباح وحتى الزقزقة والتغريد والوصصة والبعررة والخرخشة والصلصلة والتأتاة وباقي الأصوات والمنبهات ليس أبدا ً علامات على الأفاعي أو الأسود أو الغربان وباقي الرفاق، بل دالة على إنها كائنات يتم عبرها المرور إلى مجال ابعد منها، الأمر الذي ينفي نفيا ً قاطعا ً مسؤوليتنا عما شاع من تمرد وعصيان أو ما شابه من الإشاعات ضد نظامنا السرمدي الأبدي الخالد...! وقلت ان تقريرنا يلخص بنية العرف العنيد بوجود الموجودات قبل وجودها، وان التشبث الأعمى بالموجودات كمثال للمقارنة محض تشبث بالوهم بدل العودة إلى أصل الأصول المتأصلة في الأصل، والى ما قبلها والى ما بعدها، مما ينفي مزاعم تقارير أجهزة تفكيك الإشارات المجفرة في عمل أجهزتنا الحاذقة وعدم قدرتها على التحليل وعلى الاستنتاج، لا يشير إلا إلى بهتان الفساد المروج للمفسدين! ومادامت معلوماتنا الصحية عن السلامة شفافة فان اللغط عن الإضراب ليس سرابا ً فلا وجود لمن رآه ولا وجود له في الوجود قبل ذلك.
ساد الصمت عميقا ً، بانتظار سماع آخر توصيات المساعدين. فقال الأول:
ـ هذا لا ينفي، سيدي الكبير، ان اللمسات واللمازات والهمزات دور ما في مصير الأصوات..
رد رئيس الأطباء:
ـ لقد شرحت لسيادته ان الجينات الحاملة للصوت تمت معالجتها بالترويض والتهذيب والحذف والإضافات ...، فكما سمحنا للتصنيفات التاريخية ان تميز بين أصوات القمل والنمل والجراد والديدان الذكية والأخرى ذات المخالب الحلزونية ...، فإننا لن نسمح لجرثومة الصوت إلا ان يكون ولائها لقائدنا.
صفق الجميع، فهتف المساعد الثاني بصوت ناري:
ـ آن ان يعلو صوت قائدنا عاليا فوق فوق فوق ذرى الأصوات!
فقال المساعد الثالث:
ـ إذا كنا لم نخط خطوة واحدة في المسار المعادي لمصائرنا ...، فان الركون إلى الصمت ليس مخالفا ً للأصوات بوصفها مرضا ً.
رد رئيس الأطباء:
ـ حقا ً هذه هي بصيرة المبصر، وهذا هو صواب ما بعد الصواب، لأن العلاج هو بحد ذاته ليس غاية إلا لأنه ليس وسيلة.
صفقوا وهتفوا فترة غير قصيرة. فقال المساعد الرابع:
ـ ها نحن نبلغ المراد: الشعب لم ينسحب من المشاركة في التصويت، ولا حتى في محاكاة صوت المطر، أو البراكين، أو الريح...، فالمخلوقات تتمتع بالاسترخاء، بعد ما عانته من الرفاهية، والرخاء، والآمان!
ـ أحسنت...، فانا بنفسي وضعت هذه الإشارة في الهامش يؤيد نظرية ان المرض مثل العدم من يعمل على إثبات وجوده فعليه ان يظهر نقيضه. لأن المخلوقات السعيدة تجد في الصمت بذور إنبات لغتها القادمة!
ـ لا، لا يا سيدي، كن حذرا ً...!
وأضاف المساعد الخامس:
ـ فلو تعلمت وتدربت وتثقفت فصائلنا الكلام فإنها ستطالب بالكتابة!
ـ آ ...، ملاحظة في غير أوانها.
وشرح رئيس الأطباء، مسترسلا ً:
ـ نحن لا ندحض نظرية الديمومة من غير قائمين عليها، ليس لأنها مستقلة، بل لأن الموجودات لن توجد لو كانت تمتلك قدرة عدم الوجود...، فما فائدة البعوض والقمل والعقارب وبنات أوى والذئاب والتماسيح...؟ فهناك الموجودات بمعزل عن الوجود، وبالقوة ذاتها هناك الوجود بمعزل عن ظاهره...، وهذا ما آثار انتباه كبار علماء العالم عندما شرحنا لهم كيف استنبطنا حقيقة وجودنا قبل الوجود وكيف إننا شرعنا ديمومتنا في الوجود من غير موجودات.
ارتجت القاعة بالتصفيق، والهتاف، لساعة كاملة، أعقبتها ساعة صمت. قال المساعد السادس:
ـ إذا ً فان الصمت الذي حصل لمخلوقات حديقتنا الغناء هو بمثابة نشوة، مؤانسة، وهو الذي يؤكد سلامة نظرية ان هناك الخلود من غير خالدين، وهناك الخالدين من غير خلود! مثل الأحلام تعقبها سلاسل متتابعة تتكامل بتتابع الأحلام...، مما ينفي ضرورة استخدام العقارات المضادة...، فالمناعة وجدت قبل المرض، وقبل وجود المرضى، وستبقى المناعة أبدية عبر مرور الزمن وحتى نهايته!
ـ لا..لا ..، هذه زلة لسان!
أجاب رئيس الأطباء مساعده السادس:
ـ مع إنني خبير بالنوايا وما بعدها فانك قصدت تحديدا ً ان وجودنا وعدمه يكمل احدهما الآخر بوجود تتابعات تكمل الديمومة. فالمجد ليس ضرورة لوجود الماجد والماجدة، لأن الماجدة والماجد هما يذهبان ابعد من المجد!
ـ نعم، سيدي، هذا ما دار بخلايا دماغي!
لكن رئيس الأطباء أضاف:
ـ وإشارتك حول نهاية الزمن هي الأخرى زلة لسان...؟
فصرح المساعد الأول:
ـ يتوجب ان يسلم، وبحرية شفافة، نفسه إلى الجهات المتخصصة بفحص سلامة الخلايا...، فان لم تظهر علامات إثم الزلات فانه قد يكون، زميلنا العزيز، ناقلا ً لجرثومة الكلام؟
نهض المساعد السادس، بهدوء، واخرج مسدسه الكاتم للصوت، ووضعه فوق صدغه:
ـ مخلوق مثلي بلغ هذا المنصب الرفيع يتوجب عليه ان يختار نهايته قبل ان يقررها سواه...، فانا اعترف ان لا نهاية للزمن، ولا خاتمة، وإلا فان الشر سيجد ذروته ويفقد علته ويكف عن الازدهار ...، فماذا ستفعل الأجيال من غير برغوث وشر وظلمات....؟ وماذا سيعمل السادة عظماء هذه الحديقة...؟
قال المساعد السابع:
ـ كان الراحل كثير الولولة، عديم الصبر، يثرثر ثرثرة ثرثارة، لا نفع في مضارها، وكل مضارها ضرر فقد النفع والنعومة...، وفي ظني انه اختار الاصوب من الصواب.
تمتم رئيس الأطباء مع نفسه بصوت غامض:
ـ أخشى ان اضطر إلى اتخاذ قرار مر...، حلاوته تأتي كالشر السابق على وجود الأشرار...، نهاية مقررة وسابقة على أفول نجمي وغيابه!
أجابه المساعد الثامن:
ـ لا يا سيدي الكبير...، فانا أخالفك الاعتقاد تماما ً، فالذنب وحده، مثل الشر، لا يعني عدم وجوده بوجودنا، وانه غير موجود بعدم وجودنا، فهو مستقل بذاته كاستقلال الصفر عن العدد...، تام المصير بلا علل، بلا شوائب...، لأنه هو ذاته علة علته. فأنت لم تذهب، ولا زميلنا الراحل الظريف، لأن الذنب، كالشر، لم تخترعه كائنات ومخلوقات وذوات هذه الحديقة...، الأمر الذي يجعل اختيارنا للصمت، ليس إلا فجوة نجاة من الإعياء، والوهن...!
اقترب رئيس الأطباء منه، وبفزع خاطبه:
ـ لم تبق جريمة، ولا تهمة، ولا نذالة، ولا خساسة، ولا شائبة، ولا معصية، ولا نكبة لم تلصقها بي!!
ـ لا...، أبدا ً...، فأنت اعرف بالمعرفة منا في آليات عملها المحنكة الراسخة رسوخ السابق على ظهور هذه العلامات ...، فأنت ـ سيدي المبجل ـ لست هو من بشر بالمرض، وأنت لست هو المرض، وأنت لست الناقل له...، وهذا ينفي ان كائنات ومخلوقات وذوات هذه الحديقة اختارت الصمت احتجاجا ً أو تمردا ً أو عصيانا ً...، أو بشائر ثورة!
ولم يدع المساعد الثامن أحدا ً بالكلام، فقال متابعا ً:
ـ فلا عصيان، ولا تمرد، ولا ثورة ...، لأن عوامل تكونها جميعا ً فاقدة لوجودها، وفاقدة لشرعيتها أيضا ً، فالعبيد يولدون هكذا حاملين جرثومة مصائر كل من لا يقدر إلا ان يولد عبدا ً...، الأمر الذي لا ينفي عني وقوعي في الانحراف!
ـ منحرف..، منحرف..، منحرف.
إنما بدت الوجوه تأخذ أشكالا ً ازدادت كثافة وهي تقترب منه حتى إنها راحت تحاصره، فرفع صوته:
ـ هل حقا ً إنها لم تجد سوى ان تتراجع وتغلق أفواهها بدل ان تطن وتجأر وتعوي وتزأر وتنهق وتنبح ...، بذريعة إنها قد تؤجل موتها لا أكثر ولا اقل.
ـ أين كنت أخفيت كل هذه الأصوات...؟
ـ أنا لم أخفها ..، فطالما لفت أسماعكم، أبصاركم، وعقولكم..
ضحك المساعد الرابع:
ـ اقسم بالفيل وبزحل، بالعقرب والحوت، بالنمل وبالهدهد، بالقائد وبالببغاء، إننا لم نسمع، لم نر، لم نستنشق، لم نلمس، لم نحس، ولم نتفكر!
ـ آ ....، لا ...، كل الاحتمالات محتملة إلا ان تصبح لغما ً، أو عبوة، أو حزاما ً ناسفا ً!
صمت برهة، ورد بصوت أعلى:
ـ لقد مكثت مخلوقات وكائنات وذوات حديقتنا تصرخ، تستغيث، تستنجد، تسترحم، تتضرع، تستجدي، تولول، تنوح، أزمنة أعقبتها أزمنة أخرى، ومضت قرون، وأعقبتها قرون، وهي بانتظار ان تجد من يصغي لها، يسمعها، ويسألها، كي يعرف لماذا هي تنوح، وتولول، تستغيث وتتضرع...؟
سمع احدهم يقهقه:
ـ أفاق عقله!
آخر أضاف:
ـ ربما ضميره استيقظ؟
فقال موجها كلامه إلى الجميع:
ـ لا، لا، لا، أيها الرفاق...، أنا مازالت أسير سلسلة محكمة لا تنتهي من الغرف المتلاصقة الموصدة ...، وصوتي لم يذهب ابعد من هذه المغارة!.
فسأله رئيس الأطباء بصوت رقيق:
ـ يبدو ان شيئا ً ما تحرك في طبقات دماغك السحيقة ...، وسمح لك...
واقترب كثيرا ً منه، وسأله:
ـ ألا تشعر ان الهواء نفد..؟
ـ لا اعرف، سيدي، الست أنت هو السيد الرئيس؟
متابعا ً، وهو يحدق مذعورا ً في الوجوه:
ـ كل الذي اتخذته مخلوقات وكائنات وذوات حديقتنا إنها اعتزلت! لأنها لم تعد تحتمل ان تبقى تعوي، تنبح، تولول، تصرخ، تستغيث، تتضرع، تستنجد ...؟
ـ ها أنت تجاوزت الحدود كلها. وكأن حيوانات هذه الحديقة أوكلتك نائبا ً عنها؟
ـ لست محاميا ً، بل ولم ادرس الحقوق، ولست عضوا ً في جماعة، أو طيف، لا اليوم ولا قبل وجودي، ولا حتى بعد موتي..، فانا لا انتمي إلى دين، أو طائفة، وليس لدي غلوا ً قوميا ً، ولا وطنيا ً، ولا مناطقيا ً، ولست كاتبا ً أو مفكرا ً أو مثقفا ً، ولم اشتغل في السيرك، ولا في منظمات المجتمع المدني، ولا الجماهيري، ولست ماسونيا ً، ولا عضوا ً في عصبة أصحاب الراية الرمادية، ولا شيوعيا ً، ولا من أي حزب من أحزاب الله، وغير الله، ولا نصيرا ً ولا مؤيدا ً لهذا ضد ذاك، أو ذاك ضد هذا، بل ولم اعمل مدافعا ً عن حقوق البعوض، أو الغزلان، أو البرغوث...، بل أنا هو هذا الذي يجهل كيف مازال يجد القليل من الهواء....، كي يحافظ على ديمومة موته!
وترك وجوههم شاخصة نحوه، تحدق فزعة في عينيه الشاردتين:
ـ بل كل ما ارغب ان أكون هو ان أكون هو أنا وليس آخر ...، يستدرجني للنطق نيابة عنه، حتى لو كان فأرا ً أو أسدا ً أو حمامة..، أنا ارغب بالقليل من الموت كي أعيش هلاكي من غير ذعر.
اقترب رئيس الأطباء منه:
ـ أرجوك، أيها المحترم، تهذب قليلا ً...، فقد أفرطت...، حتى تبدو قد أدمنت...، وقد اجتمعت فيك علل التمرد، والمعارضة، والعصيان! فأنت تكاد لا تعرف مع من تتكلم...، بل وتجهل إننا رأس الهرم في النخبة...، التي تشرف على السلامة...؛ سلامة هذه الحديقة...، فما معنى كل هذه الزلات...؟
ـ سيدي، مع إنني بكامل قواي العقلية، إلا إنني، في الواقع...، اشعر ان هناك ...، قوة ما توشك على الانفجار ....، وإنني غير قادر على منعها!
ودمدم مع نفسه بصوت غامض، معترفا ً انه كان يود لو عرف القائد الحقيقة كاملة، ليس إلا...!
لكن ذهنه شرد إلى صوت احدهم يحاور نفسه:
ـ كأن القائد لا يتتبع أحلام موتاه وهذياناتهم...؟
وسمع آخر يضيف:
ـ ولا يفك مشفرات التقارير التي ترده من هنا ومن هناك.
وأضاف ثالث:
ـ مسكين، قائدنا، لم يعد يعرف ماذا يجري.
تأوه بعمق، مرددا ً مع نفسه: أ ..، لو سمحتم لي بالصمت.
إنما انفجرت الحناجر، بصوت واحد، مدو ٍ:
ـ منحرف، منحرف، منحرف!
آنذاك، بهدوء، هو الآخر، اخرج مسدسه الكاتم للصوت، وصوبه فوق صدغه، وقال:
ـ لا غبار على ان التقرير بلغ كماله، دقته، نسجه، إحكامه، وذروته!
وصاح بصوت جهوري:
ـ لأن وجودنا ليس إلا فداء ً له! عاش عاش عاش القائد..!
صفقوا له طويلا ً، حتى لم ينتبهوا لغيابه. فقال المساعد التاسع:
ـ أقول...، وأنا بصدد هذه الخاتمة السعيدة، الباذخة، رغم ما شابها من التباسات، وزلات، ومفارقات، واقر واعترف بما ينبغي اتخاذه من قرارات جديرة بنا...، فالتاريخ ليس كله صفحات نعيب، نعيق، نباح، عواء....، بل إنها ستبقى تمتلك لغز ذهابها ابعد منا ...، وإنما هناك هذا الانجرار العنيد لوضع حدود للأصوات!
صمت برهة وتابع وسط الصمت التام الذي ساد:
ـ فانا أعلن عن انسحابي من هذه الهيئة الموقرة للعلماء والانضمام إلى الشعب الصامت...، فانا سأدربهم وأعلمهم أي فوائد لا تحصى يمكن ان يحصل عليها جراء إعلان الصمت، وعدم إرباك نظام حديقتنا الخالد بالنعيق والفحيح والدندنة والثغاء والنقيق والعربدة والكركرة والشقشقة والجئير، وما شابه من الاستغاثات وطلب الغفران والرحمة ...، وأعلن لكم بأنني كنت احد المحرضين على إعلان هذا التمرد الناعم الباسل البهي...، السلس الشفاف الأنيق...، الندي الطري والجميل...، بإغلاق أفواهنا، قبل ان تغلق بالقوة، أو بما فوق القوة، فبعد ان جربنا آلاف الوسائل ولم نحصد إلا رماد خسائرها علينا ان نرتكن إلى إعلان الصمت العام، الناجز، الكامل والتام.
لم ينبس أحدا ً بكلمة، حتى ان الإشارات الصادرة عن الأدمغة قد توقفت، خمدت، فقد كان رئيس الأطباء ينتقل من مساعد إلى آخر، يحدق في العيون، والأنوف، والأفواه، والآذان...، وعندما بحث عن فمه وجده توارى، وليس ثمة إلا ذبذبات تتموج وتتصادم لم تترك صوتا ً أو صدى، تملأ القاعة، وقد تخللت الفضاء فراغات مشغولة بذرات عديمة اللون والرائحة أثارت عنده رغبة بالعويل، والصراخ، إنما وجد انه لا يمتلك قدرة على التحكم بتحوله إلى فراغ.
24/3/2015
وقائع التقرير صفر
عادل كامل
اختتم رئيس الأطباء تقريره بالعبارة التي طالما افتتح سعادة المدير خطاباته بها: العبقرية ان تخترع المدى الذي يقود إلى ما بعده، ومادامت لا تمتلك العبقرية أدوات البت بقضية ما، فما عليك إلا ان تتجاوز انغلاقها، ولكن عليك ان لا تتركها سائبة، فكما ان الصمت هو ليس أصلا ً من الأصول، فان الأصوات ليست قفلا ، وليست خاتمةً! ليطلب من مساعديه العودة إلى جذور المشكلة، قبل ان يرفع تقريره إلى سعادة المدير.
كان فريق العمل مكونا ً من أعضاء تم اختيارهم بعناية، وقد مكثت مناصبهم متوارثة، والتعديلات التي جرت، حتى في حالات وجود أعضاء غرباء، من خارج مجتمع الحديقة، فلا اثر لها، الأمر الذي يسمح لقرارات رئيس الأطباء ان تكون مرنة من غير ضعف، وشفافة من غير تعنت، وحرة من غير جبر، وطليقة من غير قيود، بوصفها غير قابلة للشطط، أو الشك، ليس لأن رئيس الأطباء يستمد صلاحياته من سعادة المدير شخصيا ً، في القرارات العامة أو في أدق تفاصيلها، بل لأن خبرته وممارسته الطويلة رسخت مبدأ استحالة الخروج على السياق، ومغادرة نظامه، من ناحية ثانية، ولأن أحدا ً لم ينبش في عوامل اختياره للمنصب، أو يحفر فيها، رسخت شفافية آليات العمل، وصرامته، من ناحية ثانية.
هكذا ـ كما في أعراف الاجتماعات وتقاليدها ـ بدد رئيس الأطباء الصمت، قبل إرسال التقرير، إلى المدير، قائلا ً:
ـ مع ان الأزمة الراهنة ترجعنا إلى ما قبل اكتسابها هذا الذي دعانا للتوقف عندها، إلا إنها ستأخذ موقعها في التسلل، فما من حلقة بإمكانها العمل خارج خيط السلسلة وقوانينها. وأنا لا أقول كما يقال ان الليل لا يعقبه إلا النهار، ولا أقول ان النهار ابن من أبناء الليل، حبل احدهما بالآخر، وأنجبه في أوانه، أو أجهضه لعلة من العلل، بل أقول انه آن لهما الانصهار لاستحداث نهارات تذهب ابعد من لياليها، واستحداث ظلمات وضاءة، لا حافات لأنوارها! فلا ثمة نور بدرجة واحدة، ولا ظلمات تحت الصفر!
تململ المساعد الأول، فأبدى ملاحظاته:
ـ إن مشكلة كهذه المشكلة، سيدي الموقر، تكاد تكتسب خصائص سابقاتها؛ فكلما أعدنا تفكيكها بدت إنها تتطلب حفرا ً أعمق، وكلما بدا الحل مستحيلا ً، ومستعصيا ً، وجدنا عقولنا تضطرب وتضطر لاختراع مشكلات تستوجب عدم الإهمال، أو التغاضي عنها.
أجاب رئيس الأطباء:
ـ لقد أوجزت أفكارك لسعادة المدير بوضح تام، مؤشرا ً ان مظاهر الصمت ترجع إلى عوامل مستقلة عن الضجيج، واللعلعة، والدندنة، والقرقرة، لأننا سنواجه المشكلة بالمقلوب: إذا كانت الأصوات قد شكلت المقدمات فهل ستكون النهايات متجانسة، ومتوازنة معها...؟
فقال المساعد الثاني:
ـ لو كان الصمت قرارا ً متأصلا ً فإننا لن نواجه كارثة خارج سيطرتنا..
ـ أحسنت.
وأضاف رئيس الأطباء:
ـ ان مبررات اتخاذ القرار بالإجماع يكاد يهدم مفهوم الفواصل، والمرونة، والاختلاف...، فهل ثمة ديمومة تستحدث مصيرها من غير تبني نظرية: دع الريح تذهب بعيدا ً في العمق!
ـ سيدي.
وقال المساعد الثالث:
ـ إننا مازلنا ندور كما تدور سمكة محتجزة في قارورة عطر، أو علبة نتانة! أليست الديمومة قائمة على مكوناتها وليس على ظاهرها، وان الظاهر ليس شبيها ً بالاختلاف بين العطر والجيفة لا في الدرجة ولا في النوع؟
رد المساعد الأول:
ـ دعنا نؤكد نفينا لوقوع ما حصل قبل ان نمضي في البحث عن علاجات له...، فهل حقا ً وقعت الكارثة، أو اكبر منها، نكبة، أو ما لا يوصف...؟!
أجاب رئيس الأطباء:
ـ ذات مرة قال القائد لي: إذا لم تكن هناك مكاسب ضارة، فدع الأمور تجري بسلاسة، وإذا كانت الخطوط المستقيمة تتعرض للعثرات فلا توقفها ودعها فهي تذهب ابعد من عثراتها...، فأنت لا تقدر على اختراع حتميتك ولا تقدر على دحضها، لأن القوانين تأخذنا معها حيث نؤسسها تامة عبر حلقاتها، ووقفاتها، وأبديتها... فقلت لسيادته: أنا لا أجد هناك مرضا ً شل حافات النطق، كي يسود ما يسمى بالإضراب الصامت، بل هناك تخلخلات تحصل لمرونة الأصوات وما فيها من كتمانات وضاءة! ابتسم سيادته بنعومة وسألني: هل هناك جهة ما لها يد عمياء تنوي دس الكلمات في مباهج حديقتنا الخالدة؟ فشرحت لسيادته الاحتمالات الواجب اتخاذها، كالاعتراف بان وجود المرض كان سببا ً بوجود علم الطب، كوجود الطب بضرورة استحداث معالجات متقدمة. فالمرض سابق على العافية، والصحة العامة، كالموت سابق على الحياة، ولكنه لن يقدر على محوها، أو نفيها..!
فقال المساعد الأول بصوت مذعور:
ـ لنأخذ مثال البعوض الذي استنزف أرواح الملايين من المخلوقات، ومنها البشر...، هل نعتذر له...، هل نقدم له ولاء الاحترام والنذور، وتهدئة عطشه للدماء...؟ هل ننحني له؟ هل نقيم المعابد والقصور والمؤسسات لإعلاء مجده والحفاظ عليه من الأذى، ومن التلف ...؟ ذلك لأننا في الواقع لا نمتلك قدرة القضاء عليه...؟
أجاب رئيس الأطباء:
ـ أكد القائد بضرورة دعم وجهة النظر المغايرة: البعوض ليس شريرا ً...، كالذباب والذئاب والصراصير...، فالبعوض بذاته شبيه بأي كائن وجد انه يتورط بنقل جرثومة المرض...
ـ من غير علمه، ولا قصده...؟ تساءل المساعد الرابع، فأجاب المساعد الأول:
ـ هذا يعني ان المرض موجود بمعزل عن البعوض...، وهذا بدوره يمنحنا فرصة أفضل للتقدم في ردم الفجوات بين المرض والعافية!
رد رئيس الأطباء:
ـ لكن القائد أكد ان المشكلة مادامت ليست في البعوض، فإنها ليست في المرض...، لأن سيادته أرجعنا إلى الأصول واصلها السابق عليها، فقال: هل يمكن للشر ان يكون سابقا ً على الفضائل...؟ فقلت له: سيدي، الجراثيم بحد ذاتها ليست شريرة، مثل البعوض والخنازير والنمور ...، ولكن المرض طالما أدى للقضاء على قطعان كاملة وأبادها إبادة تامة: اجتثها من غير زعيق ولا فحيح ولا نهيق.
تساءل المساعد الأول:
ـ أين يقع الشر إذا ً...؟
أجاب رئيس الأطباء بتردد:
ـ أكاد أصل إلى الاحتمال القديم: الحياة بحد ذاتها شبيهة بنقيضها، وهذا يعني ان الظلمات ما هي إلا درجة من درجات الإنارة...، كالمكان محض حركة ساكنة كاتمة لعللها. مثل أم مهما ذبح من أولادها فإنها لن تكل عن تقديم المزيد من مواليدها نذورا ً وفداء ً ...، ومثل من خسر شيئا ً يحث على تقديم ما تبقى منه حتى يوم يتحول التراب إلى جواهر!
ـ ولو قلبنا المعادلة ..، سيدي، هل سيشكل واقعنا أزمة كارثية أم ابعد منها ...؟
فكر رئيس الأطباء بصوت مسموع:
ـ القائد يرى انه لا يمكن للشر ان يكون سببا ً لوجود نقيضه ...، فالكل يتضمن أجزاءه عبر استحالة ان يكون كلا ً!
آ ...
تأوه المساعد الثالث:
ـ الشر في الديمومة، وفي من يجهل فك لغزها!
عقب رئيس الأطباء قائلا ً:
ـ هذا بمثابة اعتراف صريح بان الجرثومة لها صلة بالناقل لها نحو الآخر المستعد لاحتضانها، وإلا كيف حدث المرض...؟
رد المساعد الثالث ضاحكا ً:
ـ يتحتم علينا، في الأخير، سيدي، القضاء على الجميع! آنذاك لا جرثومة ولا براغيث ولا مرض ولا مرضى!
ـ وماذا لو ان شبح الوباء، أو قل طيفه، أصاب الحرس أو مساعدي قائدنا الأبدي...؟
تلعثم المساعد باحثا ً عن مخرج:
ـ لابد من قراءة المعادلة على نحو مختلف...، فلنقل: لا ظلمات، ولا يوجد من يحملها، وليس هناك من يستقبلها ويدعها تنبت وتنمو وتزدهر ...، مما يقود إلى: ليس هناك إلا الأنوار ـ والمباهج!
صفقوا له، عدا رئيس الأطباء:
ـ زميلنا الموقر، هل تقدر ان تنفي ترليونات المخلوقات التي نفقت، وزالت من الوجود ...؟
ـ سيدي، انك تقرر بخلاف منطق المدير القائد: إذا كان البعوض يمتلك قدرات حمل أمراض الموت، فهذا يعني ان علينا الاعتراف بخطره العظيم! وإلا ما هو لغز الديمومة القائمة على انتهاك حرمات الجرثومة ومن ينقلها ومن يستقبلها...؟
ـ أرجوك، لا تدع النقطة المعتمة تتسع...، ليس لعدم وجودها، أو لعدم وجود من يراها، أو لعدم ظهورها في ألجين التالي حسب، بل لأن السلسلة لا تتكون من هذه الحلقات أبدا ً.
نقر رئيس الأطباء بأصابعه النحيلة فوق منصة الاجتماع، فساد الصمت، وقال:
ـ نحن بصدد الاعتراف بان إضراب حيوانات هذه الحديقة عن إصدار الأصوات لا يفضي ـ لا من بعيد ولا من قريب ـ للتلويح بالتمرد الصامت!
ـ جميل، كيف عثرت على هذا المنفذ؟
ابتسم الأطباء، فقال رئيس الأطباء:
ـ القائد اخبرني بنفسه..، وقال لي: سر...، ولا تكترث لنباحهم، ولا لغطهم، ولا لهذيانهم، ولا لخوارهم..، فأنت مزكى من قبلي.
مكثت الوجوه شاخصة نحوه والعيون تحدق فيه بانتظار ان يكمل، فقال متابعا ً:
ـ ففي المؤتمر الأخير للحدائق الكونية، سألني كبير أطباء الإمبراطورية العظمى: كيف تخلصتم من الثالوث المخيف...، أي: المرض وحامله والمصاب...، فقلت له بسلاسة: ليس لدينا لا جرثومة ولا مصاب ولا وسيط بينهما...، ثم رحت استعرض وسائلنا في القضاء على الخطر الكامن للصمت!
ـ سيدي، سيدي..
فاعترض المساعد الأول:
ـ آن لنا ان نخبر سيادته بان صمت الجميع ليس صمتا ً...، بمعنى المرض والتمرد والعصيان، بل ولا صله له بالأسى والكآبة، وان صمت كائنات حديقتنا محض مراجعة دورية للغز الصوت المنتقل من الريح، عبر الفراغ، إلى الحناجر! فالجميع براء من المرض، والدسيسة، ونظريات المؤامرة!
هز رئيس الأطباء رأسه متمتما ً:
ـ وفي المؤتمر الكوني الأخير أخبرتهم انه إذا كان المرض يسبق، في وجوده، المستقبل له، فان العقار ليس إلا وسلة عدمية لديمومة الحياة! لأننا في حديقتنا لا ندوّن هذه المظاهر الزائلة.
وقرب رأسه من الجميع:
ـ فساد الصمت المطلق، على صعيد الكلام، أو عبر العقول!
صفق الجميع، وبضمنهم المساعد السابع والثامن والتاسع، فقال المساعد العاشر الذي أفاق من كابوس كان يعاني منه:
ـ ماذا كنا فعلنا لولا الصمت؟
ـ أحسنت.
متابعا ً أضاف رئيس الأطباء:
ـ فانا قلت لسيادته ـ في تقريرنا ـ ان الضجيج والفحيح والزئير والنعيق والطنين والصهيل والنعيب والعواء والنباح وحتى الزقزقة والتغريد والوصصة والبعررة والخرخشة والصلصلة والتأتاة وباقي الأصوات والمنبهات ليس أبدا ً علامات على الأفاعي أو الأسود أو الغربان وباقي الرفاق، بل دالة على إنها كائنات يتم عبرها المرور إلى مجال ابعد منها، الأمر الذي ينفي نفيا ً قاطعا ً مسؤوليتنا عما شاع من تمرد وعصيان أو ما شابه من الإشاعات ضد نظامنا السرمدي الأبدي الخالد...! وقلت ان تقريرنا يلخص بنية العرف العنيد بوجود الموجودات قبل وجودها، وان التشبث الأعمى بالموجودات كمثال للمقارنة محض تشبث بالوهم بدل العودة إلى أصل الأصول المتأصلة في الأصل، والى ما قبلها والى ما بعدها، مما ينفي مزاعم تقارير أجهزة تفكيك الإشارات المجفرة في عمل أجهزتنا الحاذقة وعدم قدرتها على التحليل وعلى الاستنتاج، لا يشير إلا إلى بهتان الفساد المروج للمفسدين! ومادامت معلوماتنا الصحية عن السلامة شفافة فان اللغط عن الإضراب ليس سرابا ً فلا وجود لمن رآه ولا وجود له في الوجود قبل ذلك.
ساد الصمت عميقا ً، بانتظار سماع آخر توصيات المساعدين. فقال الأول:
ـ هذا لا ينفي، سيدي الكبير، ان اللمسات واللمازات والهمزات دور ما في مصير الأصوات..
رد رئيس الأطباء:
ـ لقد شرحت لسيادته ان الجينات الحاملة للصوت تمت معالجتها بالترويض والتهذيب والحذف والإضافات ...، فكما سمحنا للتصنيفات التاريخية ان تميز بين أصوات القمل والنمل والجراد والديدان الذكية والأخرى ذات المخالب الحلزونية ...، فإننا لن نسمح لجرثومة الصوت إلا ان يكون ولائها لقائدنا.
صفق الجميع، فهتف المساعد الثاني بصوت ناري:
ـ آن ان يعلو صوت قائدنا عاليا فوق فوق فوق ذرى الأصوات!
فقال المساعد الثالث:
ـ إذا كنا لم نخط خطوة واحدة في المسار المعادي لمصائرنا ...، فان الركون إلى الصمت ليس مخالفا ً للأصوات بوصفها مرضا ً.
رد رئيس الأطباء:
ـ حقا ً هذه هي بصيرة المبصر، وهذا هو صواب ما بعد الصواب، لأن العلاج هو بحد ذاته ليس غاية إلا لأنه ليس وسيلة.
صفقوا وهتفوا فترة غير قصيرة. فقال المساعد الرابع:
ـ ها نحن نبلغ المراد: الشعب لم ينسحب من المشاركة في التصويت، ولا حتى في محاكاة صوت المطر، أو البراكين، أو الريح...، فالمخلوقات تتمتع بالاسترخاء، بعد ما عانته من الرفاهية، والرخاء، والآمان!
ـ أحسنت...، فانا بنفسي وضعت هذه الإشارة في الهامش يؤيد نظرية ان المرض مثل العدم من يعمل على إثبات وجوده فعليه ان يظهر نقيضه. لأن المخلوقات السعيدة تجد في الصمت بذور إنبات لغتها القادمة!
ـ لا، لا يا سيدي، كن حذرا ً...!
وأضاف المساعد الخامس:
ـ فلو تعلمت وتدربت وتثقفت فصائلنا الكلام فإنها ستطالب بالكتابة!
ـ آ ...، ملاحظة في غير أوانها.
وشرح رئيس الأطباء، مسترسلا ً:
ـ نحن لا ندحض نظرية الديمومة من غير قائمين عليها، ليس لأنها مستقلة، بل لأن الموجودات لن توجد لو كانت تمتلك قدرة عدم الوجود...، فما فائدة البعوض والقمل والعقارب وبنات أوى والذئاب والتماسيح...؟ فهناك الموجودات بمعزل عن الوجود، وبالقوة ذاتها هناك الوجود بمعزل عن ظاهره...، وهذا ما آثار انتباه كبار علماء العالم عندما شرحنا لهم كيف استنبطنا حقيقة وجودنا قبل الوجود وكيف إننا شرعنا ديمومتنا في الوجود من غير موجودات.
ارتجت القاعة بالتصفيق، والهتاف، لساعة كاملة، أعقبتها ساعة صمت. قال المساعد السادس:
ـ إذا ً فان الصمت الذي حصل لمخلوقات حديقتنا الغناء هو بمثابة نشوة، مؤانسة، وهو الذي يؤكد سلامة نظرية ان هناك الخلود من غير خالدين، وهناك الخالدين من غير خلود! مثل الأحلام تعقبها سلاسل متتابعة تتكامل بتتابع الأحلام...، مما ينفي ضرورة استخدام العقارات المضادة...، فالمناعة وجدت قبل المرض، وقبل وجود المرضى، وستبقى المناعة أبدية عبر مرور الزمن وحتى نهايته!
ـ لا..لا ..، هذه زلة لسان!
أجاب رئيس الأطباء مساعده السادس:
ـ مع إنني خبير بالنوايا وما بعدها فانك قصدت تحديدا ً ان وجودنا وعدمه يكمل احدهما الآخر بوجود تتابعات تكمل الديمومة. فالمجد ليس ضرورة لوجود الماجد والماجدة، لأن الماجدة والماجد هما يذهبان ابعد من المجد!
ـ نعم، سيدي، هذا ما دار بخلايا دماغي!
لكن رئيس الأطباء أضاف:
ـ وإشارتك حول نهاية الزمن هي الأخرى زلة لسان...؟
فصرح المساعد الأول:
ـ يتوجب ان يسلم، وبحرية شفافة، نفسه إلى الجهات المتخصصة بفحص سلامة الخلايا...، فان لم تظهر علامات إثم الزلات فانه قد يكون، زميلنا العزيز، ناقلا ً لجرثومة الكلام؟
نهض المساعد السادس، بهدوء، واخرج مسدسه الكاتم للصوت، ووضعه فوق صدغه:
ـ مخلوق مثلي بلغ هذا المنصب الرفيع يتوجب عليه ان يختار نهايته قبل ان يقررها سواه...، فانا اعترف ان لا نهاية للزمن، ولا خاتمة، وإلا فان الشر سيجد ذروته ويفقد علته ويكف عن الازدهار ...، فماذا ستفعل الأجيال من غير برغوث وشر وظلمات....؟ وماذا سيعمل السادة عظماء هذه الحديقة...؟
قال المساعد السابع:
ـ كان الراحل كثير الولولة، عديم الصبر، يثرثر ثرثرة ثرثارة، لا نفع في مضارها، وكل مضارها ضرر فقد النفع والنعومة...، وفي ظني انه اختار الاصوب من الصواب.
تمتم رئيس الأطباء مع نفسه بصوت غامض:
ـ أخشى ان اضطر إلى اتخاذ قرار مر...، حلاوته تأتي كالشر السابق على وجود الأشرار...، نهاية مقررة وسابقة على أفول نجمي وغيابه!
أجابه المساعد الثامن:
ـ لا يا سيدي الكبير...، فانا أخالفك الاعتقاد تماما ً، فالذنب وحده، مثل الشر، لا يعني عدم وجوده بوجودنا، وانه غير موجود بعدم وجودنا، فهو مستقل بذاته كاستقلال الصفر عن العدد...، تام المصير بلا علل، بلا شوائب...، لأنه هو ذاته علة علته. فأنت لم تذهب، ولا زميلنا الراحل الظريف، لأن الذنب، كالشر، لم تخترعه كائنات ومخلوقات وذوات هذه الحديقة...، الأمر الذي يجعل اختيارنا للصمت، ليس إلا فجوة نجاة من الإعياء، والوهن...!
اقترب رئيس الأطباء منه، وبفزع خاطبه:
ـ لم تبق جريمة، ولا تهمة، ولا نذالة، ولا خساسة، ولا شائبة، ولا معصية، ولا نكبة لم تلصقها بي!!
ـ لا...، أبدا ً...، فأنت اعرف بالمعرفة منا في آليات عملها المحنكة الراسخة رسوخ السابق على ظهور هذه العلامات ...، فأنت ـ سيدي المبجل ـ لست هو من بشر بالمرض، وأنت لست هو المرض، وأنت لست الناقل له...، وهذا ينفي ان كائنات ومخلوقات وذوات هذه الحديقة اختارت الصمت احتجاجا ً أو تمردا ً أو عصيانا ً...، أو بشائر ثورة!
ولم يدع المساعد الثامن أحدا ً بالكلام، فقال متابعا ً:
ـ فلا عصيان، ولا تمرد، ولا ثورة ...، لأن عوامل تكونها جميعا ً فاقدة لوجودها، وفاقدة لشرعيتها أيضا ً، فالعبيد يولدون هكذا حاملين جرثومة مصائر كل من لا يقدر إلا ان يولد عبدا ً...، الأمر الذي لا ينفي عني وقوعي في الانحراف!
ـ منحرف..، منحرف..، منحرف.
إنما بدت الوجوه تأخذ أشكالا ً ازدادت كثافة وهي تقترب منه حتى إنها راحت تحاصره، فرفع صوته:
ـ هل حقا ً إنها لم تجد سوى ان تتراجع وتغلق أفواهها بدل ان تطن وتجأر وتعوي وتزأر وتنهق وتنبح ...، بذريعة إنها قد تؤجل موتها لا أكثر ولا اقل.
ـ أين كنت أخفيت كل هذه الأصوات...؟
ـ أنا لم أخفها ..، فطالما لفت أسماعكم، أبصاركم، وعقولكم..
ضحك المساعد الرابع:
ـ اقسم بالفيل وبزحل، بالعقرب والحوت، بالنمل وبالهدهد، بالقائد وبالببغاء، إننا لم نسمع، لم نر، لم نستنشق، لم نلمس، لم نحس، ولم نتفكر!
ـ آ ....، لا ...، كل الاحتمالات محتملة إلا ان تصبح لغما ً، أو عبوة، أو حزاما ً ناسفا ً!
صمت برهة، ورد بصوت أعلى:
ـ لقد مكثت مخلوقات وكائنات وذوات حديقتنا تصرخ، تستغيث، تستنجد، تسترحم، تتضرع، تستجدي، تولول، تنوح، أزمنة أعقبتها أزمنة أخرى، ومضت قرون، وأعقبتها قرون، وهي بانتظار ان تجد من يصغي لها، يسمعها، ويسألها، كي يعرف لماذا هي تنوح، وتولول، تستغيث وتتضرع...؟
سمع احدهم يقهقه:
ـ أفاق عقله!
آخر أضاف:
ـ ربما ضميره استيقظ؟
فقال موجها كلامه إلى الجميع:
ـ لا، لا، لا، أيها الرفاق...، أنا مازالت أسير سلسلة محكمة لا تنتهي من الغرف المتلاصقة الموصدة ...، وصوتي لم يذهب ابعد من هذه المغارة!.
فسأله رئيس الأطباء بصوت رقيق:
ـ يبدو ان شيئا ً ما تحرك في طبقات دماغك السحيقة ...، وسمح لك...
واقترب كثيرا ً منه، وسأله:
ـ ألا تشعر ان الهواء نفد..؟
ـ لا اعرف، سيدي، الست أنت هو السيد الرئيس؟
متابعا ً، وهو يحدق مذعورا ً في الوجوه:
ـ كل الذي اتخذته مخلوقات وكائنات وذوات حديقتنا إنها اعتزلت! لأنها لم تعد تحتمل ان تبقى تعوي، تنبح، تولول، تصرخ، تستغيث، تتضرع، تستنجد ...؟
ـ ها أنت تجاوزت الحدود كلها. وكأن حيوانات هذه الحديقة أوكلتك نائبا ً عنها؟
ـ لست محاميا ً، بل ولم ادرس الحقوق، ولست عضوا ً في جماعة، أو طيف، لا اليوم ولا قبل وجودي، ولا حتى بعد موتي..، فانا لا انتمي إلى دين، أو طائفة، وليس لدي غلوا ً قوميا ً، ولا وطنيا ً، ولا مناطقيا ً، ولست كاتبا ً أو مفكرا ً أو مثقفا ً، ولم اشتغل في السيرك، ولا في منظمات المجتمع المدني، ولا الجماهيري، ولست ماسونيا ً، ولا عضوا ً في عصبة أصحاب الراية الرمادية، ولا شيوعيا ً، ولا من أي حزب من أحزاب الله، وغير الله، ولا نصيرا ً ولا مؤيدا ً لهذا ضد ذاك، أو ذاك ضد هذا، بل ولم اعمل مدافعا ً عن حقوق البعوض، أو الغزلان، أو البرغوث...، بل أنا هو هذا الذي يجهل كيف مازال يجد القليل من الهواء....، كي يحافظ على ديمومة موته!
وترك وجوههم شاخصة نحوه، تحدق فزعة في عينيه الشاردتين:
ـ بل كل ما ارغب ان أكون هو ان أكون هو أنا وليس آخر ...، يستدرجني للنطق نيابة عنه، حتى لو كان فأرا ً أو أسدا ً أو حمامة..، أنا ارغب بالقليل من الموت كي أعيش هلاكي من غير ذعر.
اقترب رئيس الأطباء منه:
ـ أرجوك، أيها المحترم، تهذب قليلا ً...، فقد أفرطت...، حتى تبدو قد أدمنت...، وقد اجتمعت فيك علل التمرد، والمعارضة، والعصيان! فأنت تكاد لا تعرف مع من تتكلم...، بل وتجهل إننا رأس الهرم في النخبة...، التي تشرف على السلامة...؛ سلامة هذه الحديقة...، فما معنى كل هذه الزلات...؟
ـ سيدي، مع إنني بكامل قواي العقلية، إلا إنني، في الواقع...، اشعر ان هناك ...، قوة ما توشك على الانفجار ....، وإنني غير قادر على منعها!
ودمدم مع نفسه بصوت غامض، معترفا ً انه كان يود لو عرف القائد الحقيقة كاملة، ليس إلا...!
لكن ذهنه شرد إلى صوت احدهم يحاور نفسه:
ـ كأن القائد لا يتتبع أحلام موتاه وهذياناتهم...؟
وسمع آخر يضيف:
ـ ولا يفك مشفرات التقارير التي ترده من هنا ومن هناك.
وأضاف ثالث:
ـ مسكين، قائدنا، لم يعد يعرف ماذا يجري.
تأوه بعمق، مرددا ً مع نفسه: أ ..، لو سمحتم لي بالصمت.
إنما انفجرت الحناجر، بصوت واحد، مدو ٍ:
ـ منحرف، منحرف، منحرف!
آنذاك، بهدوء، هو الآخر، اخرج مسدسه الكاتم للصوت، وصوبه فوق صدغه، وقال:
ـ لا غبار على ان التقرير بلغ كماله، دقته، نسجه، إحكامه، وذروته!
وصاح بصوت جهوري:
ـ لأن وجودنا ليس إلا فداء ً له! عاش عاش عاش القائد..!
صفقوا له طويلا ً، حتى لم ينتبهوا لغيابه. فقال المساعد التاسع:
ـ أقول...، وأنا بصدد هذه الخاتمة السعيدة، الباذخة، رغم ما شابها من التباسات، وزلات، ومفارقات، واقر واعترف بما ينبغي اتخاذه من قرارات جديرة بنا...، فالتاريخ ليس كله صفحات نعيب، نعيق، نباح، عواء....، بل إنها ستبقى تمتلك لغز ذهابها ابعد منا ...، وإنما هناك هذا الانجرار العنيد لوضع حدود للأصوات!
صمت برهة وتابع وسط الصمت التام الذي ساد:
ـ فانا أعلن عن انسحابي من هذه الهيئة الموقرة للعلماء والانضمام إلى الشعب الصامت...، فانا سأدربهم وأعلمهم أي فوائد لا تحصى يمكن ان يحصل عليها جراء إعلان الصمت، وعدم إرباك نظام حديقتنا الخالد بالنعيق والفحيح والدندنة والثغاء والنقيق والعربدة والكركرة والشقشقة والجئير، وما شابه من الاستغاثات وطلب الغفران والرحمة ...، وأعلن لكم بأنني كنت احد المحرضين على إعلان هذا التمرد الناعم الباسل البهي...، السلس الشفاف الأنيق...، الندي الطري والجميل...، بإغلاق أفواهنا، قبل ان تغلق بالقوة، أو بما فوق القوة، فبعد ان جربنا آلاف الوسائل ولم نحصد إلا رماد خسائرها علينا ان نرتكن إلى إعلان الصمت العام، الناجز، الكامل والتام.
لم ينبس أحدا ً بكلمة، حتى ان الإشارات الصادرة عن الأدمغة قد توقفت، خمدت، فقد كان رئيس الأطباء ينتقل من مساعد إلى آخر، يحدق في العيون، والأنوف، والأفواه، والآذان...، وعندما بحث عن فمه وجده توارى، وليس ثمة إلا ذبذبات تتموج وتتصادم لم تترك صوتا ً أو صدى، تملأ القاعة، وقد تخللت الفضاء فراغات مشغولة بذرات عديمة اللون والرائحة أثارت عنده رغبة بالعويل، والصراخ، إنما وجد انه لا يمتلك قدرة على التحكم بتحوله إلى فراغ.
24/3/2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق