قصة قصيرة
ثلاث لحظات
عدنان المبارك
- يريد الإنسان أن يكون قديسا وشيطانا. في كل مرة أغلق عيني أرى نفسي في هيئة موفقة جدا ، أراها كما لو أنه من غير الممكن أن أكون بهذه الهيئة أبدا... ولأنه ليس دائما حين تغلق العينان يولد الهمّ الأكثر حقيقية ، ومعه ألم القلب والعالم .
جوزيف كونراد
بضع لحظات في الطريق إلى خارج الغرفة. العصب اللعين سيطر على الساق اليمنى. اللحظة الأولى انفجار للألم . لم أعرف من قبل مثل هذا العنف والاختراق الفظ للجسم. لحظة ؟ كانت دهرا طويلا. بدا لي أن الزمن اختفى فيه وجمد خارج الغرفة. المكان أيضا. في التالية اكتشفت أني لا أزال في الغرفة. متر ونصف أمامي كي أخرج. التالية كانت حريقا تنفث ناره مضخات أكبر من هذه الغرفة التي قفزت حينها الى الرأس صورتها كمكان ألتهمته النيران. بعدها لم أكن واقفا بل مطروحا على سجادتي. تذكرت ألوانها الوسط بين الصارخة والهادئة. ليس الطبيب وحده شخّص الحالة : فقدان المغنيز والبوتاس. انسحبت الأبالسة من الجسم في اللحظات التالية. هكذا خمنت : ليست لحظات بل خداع للحواس بقي لدقائق طويلة. على السجادة انفتح صندوق الذاكرة ذو القفل الصديء. لا شيء سوى هياكل عظمية لذكريات من مختلف السنين. وجدت أني لست بحاجة اليها ، فليس هذا هو المسلك الصحيح كي أكسب نتفا مما يسمى بالسعادة. تسرب خوف مبهم من أني سأفقد كل شيء. وحتى ما كتبته في صباح هذا اليوم الأسود عن عالم خال من الإنسان. عن مخلوقات شفاّفة ملأت الأرض. خصالها أكثر من رائعة : مفقودة الحواس ، بطيئة الحركة ، لا تعمل ، لا تشرب ، لا تأكل ، لا تفعل شيئا سوى البحلقة في السماء. لاوعيي أفرز رغباتي : أن لا أكون إنسانا وأبحلق في سماء فارغة تماما بل أني فقدت الجسم وجاءني بدله كيان آخر– لا مادي يتحرك بسهولة بين الأجرام. فالسرعة بمقاييسها المعهودة كانت من تركات الماضي. ولم لا اذا رحت الى مكان آخر في هذا الكون يرمي في حاوية ما للنسيان بكل هذه ( المصطلحات ) من زمكان وضوء وسرعة بل مادة وأثير؟ حتى السعادة صارت في اللحظة الثالثة ، أو ما بعدها بسبب اختفاء الزمن ، مجرد كلمة جوفاء رميتها غير نادم في حاوية أخرى / قبر من كان على الأرض. حالة غريبة تماما – لا ألم ، لامعاناة ، لاهموم نفسية ، لاعقل مضحكا يريد أن ينازل الوجود في الاثنين – المعنى واللامعنى. برقت في رأسي حينها فكرة مقلقة : سيعود كل شيء إلى حالته ( الطبيعية ) ، سأكون سجينا بلا سجّان معروف الهوية. أمي العجوز كانت تتأوه خارج الغرفة بل كانت تبكي. تذكرت أنها بكت أحيانا حين وجدتني مصرا على عدم الالتفات الى كل ما حولنا. لم تملك الجرأة الكافية كي ترى كيف أني ( ابتعدت ) عن هذا العالم. المسكينة لم تفقد الأمل في ( عودتي ). من جانبي سأحاول دحر الألم أولا. سألتهم المغنيز والبوتاس بوجبات أكبر من المقرر. بحثت محموما عن كل ما يتعلق بتأريخ الألم وفسيولوجيته - هو في منتهى الغرابة رغم أنه يرافقنا ، بشتى الدرجات والأنواع ، منذ الصرخة الأولى. عثرت على الكثير. لابد من منخل كبير كي أنخل وأفرز. كنت أعرف الكثير عنه لكن الآن أنا جاهل كبير. هل سيكرر هذا العصب الهجوم ؟ سأغلق صندوق الذكريات من جديد ، وأشطب على كل المعرفة عن الألم. صارت الكتابة عندي نزقا بل أشعر بحرية مطلقة في التصرف. قبل ساعتين حاولت أن ألحق ما كتبته عن الألم وغيره بهذا النص. لا أعتقد أنه سيكون صدمة لقرائي - هذا اذا كنت أملك هؤلاء - رغم أني سأحاول اخضاع النصين الى (الترهيم ). في الحقيقة لم أتردد كثيرا ، فكل ( خطيئة ) كتابية مباحة اليوم. سأكتب بأسلوب الترقيع لكن مع مراعاة هارموني الأشكال والألوان. قلت ( قبل ساعتين ). ربما قبل عشر ، ربما قبل خمس. لا أعرف فقد أخذت أعامل الزمن جواربا عتيقة مثقبة. ولست أنا الباديء هنا ، فطويلة هي قائمة الكتاب الذين أغرموا كثيرا بقلب الزمن على البطانة. طريقتي ليست بالأصيلة ، فكل ما أفعله ، وكما قلت ، هو اللصق أو الترقيع. النتيجة هنا باهرة أحيانا. لأكثر من خمسة عقود كتبت نصوصا ( مؤدبة ) لا تنحرف كثيرا عن السكك المعهودة ( تذكرت هنا ما قاله الأسقف اليوناني القديم غريغور بالاماس : " يمكن لكل كلمة أن لا تتوقع الا هزيمتها ". كان محقا ، فنسبة بالغة الكبر من الأدب تستحق الإدانة ! ). أجد أن هذا العصب المخيف حقا فتح أبوابا كانت مسدودة ، للطيش الكتابي واللهو غير الحكيم ، كما يبدو ، بالكلمات. قبل قليل قرأت قصة صديقي القديم عن السنة الأخيرة التي قضيناها في بغداد. صخب داخل فقاعة ضخمة من الخواء ، ولا أعرف كيف جاءتنا تلك الكرات كي نتقاذفها ونرمي بعضها في مختف السلال ، من سياسية الى شبقية. بدل النظارات الطبية مسك صديقي عدسة مكبّرة وجال بها في وجوه وأجسام ودواخل الأصدقاء. وهكذا تبين أن الجميع كانوا مساكينا يريدون إطفاء عطشهم بالتوجه الى هذا السراب وذاك. الطبيب منعني من الأقتراب من الكحول القوي و( قنينة بيرة واحدة تكفي ). لكن كل مريض يخالف ولو مرة واحدة نصائح الطبيب. أتذكر جيدا كيف كانت حالي بعد شرب جنوني لقنينة جن. كان شربا سماويا خاصة حين عصرت في القدح واحدة ناضجة من ال( نومي بصره ). شاهدت غرفتي والعالم من خلال مواشير أخرى : الهيئات تضاعفت وحصل هبوط مفاجيء من السقف لآلات الكمان والمزامير وحتى أن بيانو صغيرا هبط معها. خيّل اليّ أنها جميعا تريدني أن أقودها. لم أتردد وحققت الرغبة.عزفت بضع قطع موسيقية لا أملّ من الاستماع اليها وحتى أن واحدة عزفت مرتين. البهجة أنتهت بسرعة ، فها أني فقدت الوعي وأرغمت على الاستلقاء في الفراش خمسة أيام. بمعزل عن كل شيء كنت سعيدا في أثناء العزف ، ومثل هذه السعادة جاءت تعويضا ثمينا لعدد كبير من الأيام الكئيبة والجهمة. ولزمن طويل بقيت أفكر بما سيجيء به المستقبل : هل سأخرج من القبر وأتوجه لشراء قنينة جن ، وهل ستهبط الآلات الموسيقية مرة أخرى ، وهل سيتبدل العالم كي يأخذ ببعض اللامعقوليات الحلوة. خمسة أيام في الفراش شبيهة بعزلة قاسية في زنزانة انفرادية. لكن مسرة كبيرة ملأتني. فها أني السيّدالمطلق في هذه الأيام . سأذهب بل سأطير الى أينما أشاء. في تشرين الثاني وكانون الأول من العام الماضي أنشغلت بالقراءة عن الأجرام المكتشفة خلال ذلك العام. مشكوك بوجود الحياة في بعضها. البقية ميتة أي أنها سعيدة ، فالحياة ، وفق بعضهم ، هي أولى نكبات الله. لا أعرف كيف ستكون حالي اذا بقيت بلا حياة وأرض وهذه السماء. لكن لأطلق فنطازيتي من قفصها وأتصورأني بلا جسم يحتاج الى الأوكسجين وبمثل هذا النهم : تنفس في كل ثوان. سأتنفس مرة واحدة في اليوم ( في اليونان القديمة يتوقفون عن التنفس طويلا الى ان يحل الموت . كانت هناك مثل هذه الطريقة الأنيقة في الانتحار)، وآكل مرة واحدة في الأسبوع. حينها سأزور أحد تلك الأجرام الميتة. في الواقع ليست هي ميتة كما فهمت بل تنعدم الحياة فيها لاغير.لم يتكلمواعن مناظرها الطبيعية الا أني لا أكترث لهذه المسألة ولأني لا أميل الى هذه المناظر التي كان الفنانون والشعراء يقعون في فخاخها. ها أني في اليوم الثالث من الاستلقاء في السرير. منذ اليوم الثاني أخذت أرتب أموري في الفراش. قرأت لساعات ، واستمعت من الانترنت لموسيقى بالغة الغرابة في سعيها الى ابتكار هارموني آخر. كتبت نصا شعريا عن ( رحلاتي ) الأخيرة. أرسلته الى موقع ( أدب فن ). اكتشفت أن الحياة لن تتخلى عني بسهولة أي لن تسمح لي بجولة ولو سريعة في تلك الأجرام الميتة. من ناحية لها الحق ، فأنا خرجت من رحمها وربّتني كل هذه العقود ، أذن ،كيف بمكنتني أن أعوفها وكأنها كانت غريبة عليّ ؟ من ناحية أخرى أشعر برهبة حين أعي بأني الآن في سجني الأرضي. تراودني بإلحاح مزعج فكرة أخذ استراحة من الحياة وتلك السوداوية الخمولية باللجوء الى التنويم hibernation ، وليستمر بضعة عقود أو أطول من زمن أهل الكهف. أفكار أخرى بل صارت هناك مجموعة كبيرة من أفكار هذا الصنف مصدرها ما فعله النسّاك في الصحراء والأديرة المعزولة. أعجبتني كثيرا فكرة القديس الروسي سيرافيم الساروفْي الذي كف عن الكلام طوال خمسة عشر عاما في زنزانة انفرادية وحتى انه لم يتكلم مع أسقفه. كان على يقين تام من أن الصمت يقرّب الانسان من الله ويجعله على الأرض شبيها بالملائكة. كانت مشكلتي ولاتزال في أني ثرثار قليلا ، وقد ( أحتمل ) الصمت بضعة أيام لكني أخشى من الانفجارالذي يعقبه ، وقد حصل مرة أني أقمت حوارا افتراضيا مع غراب كان واقفا على سور البيت. ساعدته في الأجابة على أسئلتي الى درجة أن الأمر أصبح شبيها بمقابلة تلفزيونية ! في القريب ، أي بعد ساعات - عشر ونيف ، سأدخل اليوم الرابع - الفراشي ، أي سيبقى أمامي يوم واحد فقط. هكذا خمّن الطبيب ذو الشوارب الكثيفة والصوت الناعم. لا أعرف لم تسرب اليّ نوع غريب من الغبطة. هو ذات الشعور حين نشفى من أحد الأمراض ونعود الى الحالة الطبيعية متناسين أن مرضا آخر قد يداهمنا لكنه ينسينا بشاعات العالم . مثلا كان الهنود يضعون الموتى من الفرس المؤمنين بالزرادشتية في أبراج خاصة كي تنهشها العقبان. فعلوا ذلك كي لا تدنس الجثث الأرض. في كل يوم أشم رائحة خطر ولادة برابرة جدد ، ويعمّق هذا الشرخ في الوعي ذاك النشيد الهوراسي : أكره المدنّس والمبتذل في الناس...
ها قد مرّ اليوم الخامس. أنا الآن في صبيحة السادس. صار واجبي الأول أن أعالج هذا العصب وحتى لو استمر العلاج باقي العمر. الا أن هذا لا يمنع من حدوث تلك المعجزة : أن أستقر في جرم ميت. فوفق ما علّمونا : كل شيء بيد الله ، والمعجزات بشكل خاص.
استير بارك – نيسان / أبريل 2015
ثلاث لحظات
عدنان المبارك
- يريد الإنسان أن يكون قديسا وشيطانا. في كل مرة أغلق عيني أرى نفسي في هيئة موفقة جدا ، أراها كما لو أنه من غير الممكن أن أكون بهذه الهيئة أبدا... ولأنه ليس دائما حين تغلق العينان يولد الهمّ الأكثر حقيقية ، ومعه ألم القلب والعالم .
جوزيف كونراد
بضع لحظات في الطريق إلى خارج الغرفة. العصب اللعين سيطر على الساق اليمنى. اللحظة الأولى انفجار للألم . لم أعرف من قبل مثل هذا العنف والاختراق الفظ للجسم. لحظة ؟ كانت دهرا طويلا. بدا لي أن الزمن اختفى فيه وجمد خارج الغرفة. المكان أيضا. في التالية اكتشفت أني لا أزال في الغرفة. متر ونصف أمامي كي أخرج. التالية كانت حريقا تنفث ناره مضخات أكبر من هذه الغرفة التي قفزت حينها الى الرأس صورتها كمكان ألتهمته النيران. بعدها لم أكن واقفا بل مطروحا على سجادتي. تذكرت ألوانها الوسط بين الصارخة والهادئة. ليس الطبيب وحده شخّص الحالة : فقدان المغنيز والبوتاس. انسحبت الأبالسة من الجسم في اللحظات التالية. هكذا خمنت : ليست لحظات بل خداع للحواس بقي لدقائق طويلة. على السجادة انفتح صندوق الذاكرة ذو القفل الصديء. لا شيء سوى هياكل عظمية لذكريات من مختلف السنين. وجدت أني لست بحاجة اليها ، فليس هذا هو المسلك الصحيح كي أكسب نتفا مما يسمى بالسعادة. تسرب خوف مبهم من أني سأفقد كل شيء. وحتى ما كتبته في صباح هذا اليوم الأسود عن عالم خال من الإنسان. عن مخلوقات شفاّفة ملأت الأرض. خصالها أكثر من رائعة : مفقودة الحواس ، بطيئة الحركة ، لا تعمل ، لا تشرب ، لا تأكل ، لا تفعل شيئا سوى البحلقة في السماء. لاوعيي أفرز رغباتي : أن لا أكون إنسانا وأبحلق في سماء فارغة تماما بل أني فقدت الجسم وجاءني بدله كيان آخر– لا مادي يتحرك بسهولة بين الأجرام. فالسرعة بمقاييسها المعهودة كانت من تركات الماضي. ولم لا اذا رحت الى مكان آخر في هذا الكون يرمي في حاوية ما للنسيان بكل هذه ( المصطلحات ) من زمكان وضوء وسرعة بل مادة وأثير؟ حتى السعادة صارت في اللحظة الثالثة ، أو ما بعدها بسبب اختفاء الزمن ، مجرد كلمة جوفاء رميتها غير نادم في حاوية أخرى / قبر من كان على الأرض. حالة غريبة تماما – لا ألم ، لامعاناة ، لاهموم نفسية ، لاعقل مضحكا يريد أن ينازل الوجود في الاثنين – المعنى واللامعنى. برقت في رأسي حينها فكرة مقلقة : سيعود كل شيء إلى حالته ( الطبيعية ) ، سأكون سجينا بلا سجّان معروف الهوية. أمي العجوز كانت تتأوه خارج الغرفة بل كانت تبكي. تذكرت أنها بكت أحيانا حين وجدتني مصرا على عدم الالتفات الى كل ما حولنا. لم تملك الجرأة الكافية كي ترى كيف أني ( ابتعدت ) عن هذا العالم. المسكينة لم تفقد الأمل في ( عودتي ). من جانبي سأحاول دحر الألم أولا. سألتهم المغنيز والبوتاس بوجبات أكبر من المقرر. بحثت محموما عن كل ما يتعلق بتأريخ الألم وفسيولوجيته - هو في منتهى الغرابة رغم أنه يرافقنا ، بشتى الدرجات والأنواع ، منذ الصرخة الأولى. عثرت على الكثير. لابد من منخل كبير كي أنخل وأفرز. كنت أعرف الكثير عنه لكن الآن أنا جاهل كبير. هل سيكرر هذا العصب الهجوم ؟ سأغلق صندوق الذكريات من جديد ، وأشطب على كل المعرفة عن الألم. صارت الكتابة عندي نزقا بل أشعر بحرية مطلقة في التصرف. قبل ساعتين حاولت أن ألحق ما كتبته عن الألم وغيره بهذا النص. لا أعتقد أنه سيكون صدمة لقرائي - هذا اذا كنت أملك هؤلاء - رغم أني سأحاول اخضاع النصين الى (الترهيم ). في الحقيقة لم أتردد كثيرا ، فكل ( خطيئة ) كتابية مباحة اليوم. سأكتب بأسلوب الترقيع لكن مع مراعاة هارموني الأشكال والألوان. قلت ( قبل ساعتين ). ربما قبل عشر ، ربما قبل خمس. لا أعرف فقد أخذت أعامل الزمن جواربا عتيقة مثقبة. ولست أنا الباديء هنا ، فطويلة هي قائمة الكتاب الذين أغرموا كثيرا بقلب الزمن على البطانة. طريقتي ليست بالأصيلة ، فكل ما أفعله ، وكما قلت ، هو اللصق أو الترقيع. النتيجة هنا باهرة أحيانا. لأكثر من خمسة عقود كتبت نصوصا ( مؤدبة ) لا تنحرف كثيرا عن السكك المعهودة ( تذكرت هنا ما قاله الأسقف اليوناني القديم غريغور بالاماس : " يمكن لكل كلمة أن لا تتوقع الا هزيمتها ". كان محقا ، فنسبة بالغة الكبر من الأدب تستحق الإدانة ! ). أجد أن هذا العصب المخيف حقا فتح أبوابا كانت مسدودة ، للطيش الكتابي واللهو غير الحكيم ، كما يبدو ، بالكلمات. قبل قليل قرأت قصة صديقي القديم عن السنة الأخيرة التي قضيناها في بغداد. صخب داخل فقاعة ضخمة من الخواء ، ولا أعرف كيف جاءتنا تلك الكرات كي نتقاذفها ونرمي بعضها في مختف السلال ، من سياسية الى شبقية. بدل النظارات الطبية مسك صديقي عدسة مكبّرة وجال بها في وجوه وأجسام ودواخل الأصدقاء. وهكذا تبين أن الجميع كانوا مساكينا يريدون إطفاء عطشهم بالتوجه الى هذا السراب وذاك. الطبيب منعني من الأقتراب من الكحول القوي و( قنينة بيرة واحدة تكفي ). لكن كل مريض يخالف ولو مرة واحدة نصائح الطبيب. أتذكر جيدا كيف كانت حالي بعد شرب جنوني لقنينة جن. كان شربا سماويا خاصة حين عصرت في القدح واحدة ناضجة من ال( نومي بصره ). شاهدت غرفتي والعالم من خلال مواشير أخرى : الهيئات تضاعفت وحصل هبوط مفاجيء من السقف لآلات الكمان والمزامير وحتى أن بيانو صغيرا هبط معها. خيّل اليّ أنها جميعا تريدني أن أقودها. لم أتردد وحققت الرغبة.عزفت بضع قطع موسيقية لا أملّ من الاستماع اليها وحتى أن واحدة عزفت مرتين. البهجة أنتهت بسرعة ، فها أني فقدت الوعي وأرغمت على الاستلقاء في الفراش خمسة أيام. بمعزل عن كل شيء كنت سعيدا في أثناء العزف ، ومثل هذه السعادة جاءت تعويضا ثمينا لعدد كبير من الأيام الكئيبة والجهمة. ولزمن طويل بقيت أفكر بما سيجيء به المستقبل : هل سأخرج من القبر وأتوجه لشراء قنينة جن ، وهل ستهبط الآلات الموسيقية مرة أخرى ، وهل سيتبدل العالم كي يأخذ ببعض اللامعقوليات الحلوة. خمسة أيام في الفراش شبيهة بعزلة قاسية في زنزانة انفرادية. لكن مسرة كبيرة ملأتني. فها أني السيّدالمطلق في هذه الأيام . سأذهب بل سأطير الى أينما أشاء. في تشرين الثاني وكانون الأول من العام الماضي أنشغلت بالقراءة عن الأجرام المكتشفة خلال ذلك العام. مشكوك بوجود الحياة في بعضها. البقية ميتة أي أنها سعيدة ، فالحياة ، وفق بعضهم ، هي أولى نكبات الله. لا أعرف كيف ستكون حالي اذا بقيت بلا حياة وأرض وهذه السماء. لكن لأطلق فنطازيتي من قفصها وأتصورأني بلا جسم يحتاج الى الأوكسجين وبمثل هذا النهم : تنفس في كل ثوان. سأتنفس مرة واحدة في اليوم ( في اليونان القديمة يتوقفون عن التنفس طويلا الى ان يحل الموت . كانت هناك مثل هذه الطريقة الأنيقة في الانتحار)، وآكل مرة واحدة في الأسبوع. حينها سأزور أحد تلك الأجرام الميتة. في الواقع ليست هي ميتة كما فهمت بل تنعدم الحياة فيها لاغير.لم يتكلمواعن مناظرها الطبيعية الا أني لا أكترث لهذه المسألة ولأني لا أميل الى هذه المناظر التي كان الفنانون والشعراء يقعون في فخاخها. ها أني في اليوم الثالث من الاستلقاء في السرير. منذ اليوم الثاني أخذت أرتب أموري في الفراش. قرأت لساعات ، واستمعت من الانترنت لموسيقى بالغة الغرابة في سعيها الى ابتكار هارموني آخر. كتبت نصا شعريا عن ( رحلاتي ) الأخيرة. أرسلته الى موقع ( أدب فن ). اكتشفت أن الحياة لن تتخلى عني بسهولة أي لن تسمح لي بجولة ولو سريعة في تلك الأجرام الميتة. من ناحية لها الحق ، فأنا خرجت من رحمها وربّتني كل هذه العقود ، أذن ،كيف بمكنتني أن أعوفها وكأنها كانت غريبة عليّ ؟ من ناحية أخرى أشعر برهبة حين أعي بأني الآن في سجني الأرضي. تراودني بإلحاح مزعج فكرة أخذ استراحة من الحياة وتلك السوداوية الخمولية باللجوء الى التنويم hibernation ، وليستمر بضعة عقود أو أطول من زمن أهل الكهف. أفكار أخرى بل صارت هناك مجموعة كبيرة من أفكار هذا الصنف مصدرها ما فعله النسّاك في الصحراء والأديرة المعزولة. أعجبتني كثيرا فكرة القديس الروسي سيرافيم الساروفْي الذي كف عن الكلام طوال خمسة عشر عاما في زنزانة انفرادية وحتى انه لم يتكلم مع أسقفه. كان على يقين تام من أن الصمت يقرّب الانسان من الله ويجعله على الأرض شبيها بالملائكة. كانت مشكلتي ولاتزال في أني ثرثار قليلا ، وقد ( أحتمل ) الصمت بضعة أيام لكني أخشى من الانفجارالذي يعقبه ، وقد حصل مرة أني أقمت حوارا افتراضيا مع غراب كان واقفا على سور البيت. ساعدته في الأجابة على أسئلتي الى درجة أن الأمر أصبح شبيها بمقابلة تلفزيونية ! في القريب ، أي بعد ساعات - عشر ونيف ، سأدخل اليوم الرابع - الفراشي ، أي سيبقى أمامي يوم واحد فقط. هكذا خمّن الطبيب ذو الشوارب الكثيفة والصوت الناعم. لا أعرف لم تسرب اليّ نوع غريب من الغبطة. هو ذات الشعور حين نشفى من أحد الأمراض ونعود الى الحالة الطبيعية متناسين أن مرضا آخر قد يداهمنا لكنه ينسينا بشاعات العالم . مثلا كان الهنود يضعون الموتى من الفرس المؤمنين بالزرادشتية في أبراج خاصة كي تنهشها العقبان. فعلوا ذلك كي لا تدنس الجثث الأرض. في كل يوم أشم رائحة خطر ولادة برابرة جدد ، ويعمّق هذا الشرخ في الوعي ذاك النشيد الهوراسي : أكره المدنّس والمبتذل في الناس...
ها قد مرّ اليوم الخامس. أنا الآن في صبيحة السادس. صار واجبي الأول أن أعالج هذا العصب وحتى لو استمر العلاج باقي العمر. الا أن هذا لا يمنع من حدوث تلك المعجزة : أن أستقر في جرم ميت. فوفق ما علّمونا : كل شيء بيد الله ، والمعجزات بشكل خاص.
استير بارك – نيسان / أبريل 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق