سيجارة سارتر
•
نذير الماجد
تلح المذاهب الوجودية على إحالة العالم برمته إلى مغامرة، أو مواجهة دائمة مع استعصاء شرس لأشياء منفلتة، السعادة والنصر استحقاق مستحيل، من هنا كان القلق مقولة تؤثث الوجود في الفلسفات الوجودية، إن القلق بما هو ثيمة مركزية في كل نص وجودي، ينعكس على فعل القراءة ذاته فتبدو عملية عسيرة كما لو أنها انغماس في لزوجة لا متناهية وغموض متأصل، يبدو المتلقي من خلالها جسورا في أي محاولة للتأويل والفهم، فمعاشرة النص الوجودي هي بحد ذاتها مغامرة، لا تقل عن التهورات الناجمة عن تحقيق الوجود.
هكذا بدا لي "الكينونة والعدم" هذا العمل المضني الذي كتبه جان بول سارتر، فما إن أنهيته حتى تنفست الصعداء وشعرت كما لو أني أحرزت فتحا عسكريا، أجهدني العمل لعوامل لا تقتصر على الأسلوب بل تشمل المضمون ذاته، فالنص الذي قارب الألف صفحة من الحجم الكبير معبأ بمضامين تتطلب مخيلة مرهفة، يبدو النص ميتا إن لم ينفخ باندفاعات الخيال المتأجج، الخيال هو الروح والنص هو الجسد، أما الصورة الفنية فدلالة لا تكتمل إلا في ذهن المتلقي الذي يفترض فيه إعدادا ثقافيا مسبقا، اللغة كما في كل نص فلسفي لا تخل من جفاف وفخامة وتقعر، وسارتر لم تسعفه أدبيته في التخفيف من العبء الفلسفي إلا قليلا، تلتحم اللغة بالفلسفة ذاتها في كل عمل وجودي، فإذا كانت اللغة مع هايدغر المنبع الذي نهل منه صاحبنا سارتر هي بيت الوجود، فهي ذاتها عبقرية لسانية أو فلسفة لا تدرك إلا في سياق اللغة، وسارتر يمنح ذاته حرية في الاسترسال التلقائي لكل ما يعن له، فهو يكتب كما يفكر، واللغة لديه، كما هي الفلسفة، تحقيق متواصل، الذات تتخارج واللغة تتداخل، هناك تحقيق وقفز إلى الخارج وهنا كشف واستبطان جواني، لا يمكن فصل الوجودية عن اللغة، فالرحلة للفوز بالوجود طريق شاق ووعر، والطريق هنا كما هو عند هايدغر وكيركيغارد ليس سوى حشد أو جيش من الكلمات.
مع النص الوجودي تنتفي القواعد المسبقة، كل القواعد تتشكل في معايشة اللغة ذاتها، هل نجد أنفسنا مع نص سوريالي يستخدم تقنية الكتابة الآلية؟ سارتر هاجم السوريالية في كتابه الشهير "ما الأدب" لكن الأداة السوريالية هنا ماثلة في النص وقد صار منجزا، فالعمل الذي يتكون من فقرات منهكة للمتلقي بسبب طولها الذي يصل أحيانا إلى ثلاث أو أربع صفحات لا يخل من فيوضات الذات الغارقة في اكتشاف "النقطة السوريالية". الكتابة الوجودية انعكاس لفيض ذاتي، لكنها تميز ذاتها بشروط الموقف، فهنا الخطاب نسقي لأن الفلسفة شمولية.
إذا كان تحقيق الوجود موقف فإن اللغة التزام، وعلى ذلك راح سارتر يعيد تأسيس الأدب الملتزم كمفهوم ناجز في كل فكر يساري، الأدب عند سارتر انعكاس لوعي ممزق، بل هو ذاته وعي منشطر، لا ننس أنه مارس اشتغاله الفلسفي في أحيان كثيرة على أرض أدبية: الغثيان، الجدار، الأبواب المغلقة، طرق الحرية، إنها أعمال تختلط فيها الفلسفة بالأدب، ومع الوعي الممزق أو المنشطر على ذاته يتحطم الجنس الأدبي في تدشين مبكر لفتوحات ما بعد الحداثة. صار النص، كما الوجود، سابق على الهوية، والهوية في تدشين مستمر أو مستحيل، الهوية تضيق على النص لأن الوجود يسبق الهوية، وهي الفكرة الأساسية في كل فلسفة وجودية.
يؤكد باشلار بأن الحقيقة بنت النقاش والتناقض، والجدل يحيلها إلى غناء. ثمة حاجة إلى مخيلة مرهفة ليس فقط كأداة أدبية ولكن أيضا لتأويل كل نص يسعى لبسط مستحيل للحقيقة، والحقيقة جدل لأن الذات تخارج، إنها دخول أبدي في مجهول، أو إمساك بوجود دخاني. وعند سارتر يتخذ الوجود شكل مشروع، إنه حرية، والحرية ثقب في الوجود، إنه العدم الذي يحيط بالعالم وينخره من الداخل، العدم هو الدائرة والمركز، إنه قلب الكينونة، وهذا العدم منتج إنساني لأن" الإنسان أساس عدمه الخاص" كما يقول مفكرنا، ففي مسعانا للحرية نلاحق العدم، إننا بذلك نمارس التعديم، أو الإحراق لكل المشاعر الناجمة عن الغثيان. لكن الإنسان يبدع إنسانيته، وكل سلوك إنساني يتخذ شكل تدمير لحاضر يموت لأنه يتلاشى أو يتبخر كدخان سيجارة.
ماذا يعني الغوص في تدخين سيجارة؟ إنه رمز لامتصاص، فالتدخين ليس مجرد احتراق لورق، بل هو أيضا تدمير متسامي، إنه لحظة الروح، أو الشيء حين يصبح شفافية خالصة، أو إلتصاق بوجود عنيد ومشاكس ومنفلت دائما، إنه مثال لتحقيق ديمومة مستحيلة، كل لذة زائلة تنفي ذاتها، والسعادة المرجوة هي في إلتذاذ دائم، لكن الديمومة رغبة استيهامية، الديمومة ليست أكثر من تعويض طفلي لنقص جاثم على الوجود، إنه العدم الذي يتخلل كل الوجود، لهذا كانت السيجارة مع سارتر تصوير فانتازي/ واقعي لهذا الهروب السرمدي، الإمساك بالسيجارة ونفث دخانها معاينة لذيذة لاحتراق العالم، تحوله إلى رماد، إذ يطغى حضور الذات فتتحول الأشياء إلى جمرة ملتهبة تسعر شعلة الروح: تتوقد وتنتشي وتصبح قنديلا، أو شعلة من نار، التدخين موقف وجودي والأنا هنا متصوفة أقرب إلى الملكوت، ولكن سارتر يحيل الإثبات والنفي معا إلى تألق وجودي.
وإذا كان سيوران يستعيد هذه المعاني الدخانية ليؤكد على أن التدخين نشوة روحية، نشوة توازي الخاصية الأدبية للتطهير الصوفي، فإن سارتر لم يكن وجوديا كما ينبغي حين امتنع عن التدخين، هكذا يبدو للوهلة الأولى، لكنه لا يستحضر السيجارة إلا كمثال توضيحي لوعي قصدي، الوعي الذي يخلق موضوعه، ومع أن سارتر يستعرض المثال في فقرة موجزة، إلا أنه يعترف بحجم المعاناة التي تكبدها وهو يحاول قمع الرغبة في التدخين، الرغبة هنا عائق أنطولوجي، ولأن الوجودية جهد معرفي يمنح الواقع الإنساني كل إمكانياته، فإن تحطيم اللذة الفانية محك وامتحان.
إن الرغبة، بوصفها نزوع إنساني للمطلق، تحمل اللذة ونقيضها، فهي مرتكز لكل قرار إنساني يسعى لكسر الاقتران السيكولوجي بين الذات والسيجارة التي هي عند سارتر رمز لتملك تدميري للعالم، التبغ هو العالم، والامتناع عن التدخين رمز لاستعادة القرار، والوجودية ليست سوى نص مفتوح لكل إمكان إنساني، الوجودية فلسفة اختيار مسئول، أي رفض الهروب أو رفض الرفض وهي استحواذ على العالم، إنها نقيض التدخين، وتأكيد لحرية الإنسان حتى ضد نفسه.
•
نذير الماجد
تلح المذاهب الوجودية على إحالة العالم برمته إلى مغامرة، أو مواجهة دائمة مع استعصاء شرس لأشياء منفلتة، السعادة والنصر استحقاق مستحيل، من هنا كان القلق مقولة تؤثث الوجود في الفلسفات الوجودية، إن القلق بما هو ثيمة مركزية في كل نص وجودي، ينعكس على فعل القراءة ذاته فتبدو عملية عسيرة كما لو أنها انغماس في لزوجة لا متناهية وغموض متأصل، يبدو المتلقي من خلالها جسورا في أي محاولة للتأويل والفهم، فمعاشرة النص الوجودي هي بحد ذاتها مغامرة، لا تقل عن التهورات الناجمة عن تحقيق الوجود.
هكذا بدا لي "الكينونة والعدم" هذا العمل المضني الذي كتبه جان بول سارتر، فما إن أنهيته حتى تنفست الصعداء وشعرت كما لو أني أحرزت فتحا عسكريا، أجهدني العمل لعوامل لا تقتصر على الأسلوب بل تشمل المضمون ذاته، فالنص الذي قارب الألف صفحة من الحجم الكبير معبأ بمضامين تتطلب مخيلة مرهفة، يبدو النص ميتا إن لم ينفخ باندفاعات الخيال المتأجج، الخيال هو الروح والنص هو الجسد، أما الصورة الفنية فدلالة لا تكتمل إلا في ذهن المتلقي الذي يفترض فيه إعدادا ثقافيا مسبقا، اللغة كما في كل نص فلسفي لا تخل من جفاف وفخامة وتقعر، وسارتر لم تسعفه أدبيته في التخفيف من العبء الفلسفي إلا قليلا، تلتحم اللغة بالفلسفة ذاتها في كل عمل وجودي، فإذا كانت اللغة مع هايدغر المنبع الذي نهل منه صاحبنا سارتر هي بيت الوجود، فهي ذاتها عبقرية لسانية أو فلسفة لا تدرك إلا في سياق اللغة، وسارتر يمنح ذاته حرية في الاسترسال التلقائي لكل ما يعن له، فهو يكتب كما يفكر، واللغة لديه، كما هي الفلسفة، تحقيق متواصل، الذات تتخارج واللغة تتداخل، هناك تحقيق وقفز إلى الخارج وهنا كشف واستبطان جواني، لا يمكن فصل الوجودية عن اللغة، فالرحلة للفوز بالوجود طريق شاق ووعر، والطريق هنا كما هو عند هايدغر وكيركيغارد ليس سوى حشد أو جيش من الكلمات.
مع النص الوجودي تنتفي القواعد المسبقة، كل القواعد تتشكل في معايشة اللغة ذاتها، هل نجد أنفسنا مع نص سوريالي يستخدم تقنية الكتابة الآلية؟ سارتر هاجم السوريالية في كتابه الشهير "ما الأدب" لكن الأداة السوريالية هنا ماثلة في النص وقد صار منجزا، فالعمل الذي يتكون من فقرات منهكة للمتلقي بسبب طولها الذي يصل أحيانا إلى ثلاث أو أربع صفحات لا يخل من فيوضات الذات الغارقة في اكتشاف "النقطة السوريالية". الكتابة الوجودية انعكاس لفيض ذاتي، لكنها تميز ذاتها بشروط الموقف، فهنا الخطاب نسقي لأن الفلسفة شمولية.
إذا كان تحقيق الوجود موقف فإن اللغة التزام، وعلى ذلك راح سارتر يعيد تأسيس الأدب الملتزم كمفهوم ناجز في كل فكر يساري، الأدب عند سارتر انعكاس لوعي ممزق، بل هو ذاته وعي منشطر، لا ننس أنه مارس اشتغاله الفلسفي في أحيان كثيرة على أرض أدبية: الغثيان، الجدار، الأبواب المغلقة، طرق الحرية، إنها أعمال تختلط فيها الفلسفة بالأدب، ومع الوعي الممزق أو المنشطر على ذاته يتحطم الجنس الأدبي في تدشين مبكر لفتوحات ما بعد الحداثة. صار النص، كما الوجود، سابق على الهوية، والهوية في تدشين مستمر أو مستحيل، الهوية تضيق على النص لأن الوجود يسبق الهوية، وهي الفكرة الأساسية في كل فلسفة وجودية.
يؤكد باشلار بأن الحقيقة بنت النقاش والتناقض، والجدل يحيلها إلى غناء. ثمة حاجة إلى مخيلة مرهفة ليس فقط كأداة أدبية ولكن أيضا لتأويل كل نص يسعى لبسط مستحيل للحقيقة، والحقيقة جدل لأن الذات تخارج، إنها دخول أبدي في مجهول، أو إمساك بوجود دخاني. وعند سارتر يتخذ الوجود شكل مشروع، إنه حرية، والحرية ثقب في الوجود، إنه العدم الذي يحيط بالعالم وينخره من الداخل، العدم هو الدائرة والمركز، إنه قلب الكينونة، وهذا العدم منتج إنساني لأن" الإنسان أساس عدمه الخاص" كما يقول مفكرنا، ففي مسعانا للحرية نلاحق العدم، إننا بذلك نمارس التعديم، أو الإحراق لكل المشاعر الناجمة عن الغثيان. لكن الإنسان يبدع إنسانيته، وكل سلوك إنساني يتخذ شكل تدمير لحاضر يموت لأنه يتلاشى أو يتبخر كدخان سيجارة.
ماذا يعني الغوص في تدخين سيجارة؟ إنه رمز لامتصاص، فالتدخين ليس مجرد احتراق لورق، بل هو أيضا تدمير متسامي، إنه لحظة الروح، أو الشيء حين يصبح شفافية خالصة، أو إلتصاق بوجود عنيد ومشاكس ومنفلت دائما، إنه مثال لتحقيق ديمومة مستحيلة، كل لذة زائلة تنفي ذاتها، والسعادة المرجوة هي في إلتذاذ دائم، لكن الديمومة رغبة استيهامية، الديمومة ليست أكثر من تعويض طفلي لنقص جاثم على الوجود، إنه العدم الذي يتخلل كل الوجود، لهذا كانت السيجارة مع سارتر تصوير فانتازي/ واقعي لهذا الهروب السرمدي، الإمساك بالسيجارة ونفث دخانها معاينة لذيذة لاحتراق العالم، تحوله إلى رماد، إذ يطغى حضور الذات فتتحول الأشياء إلى جمرة ملتهبة تسعر شعلة الروح: تتوقد وتنتشي وتصبح قنديلا، أو شعلة من نار، التدخين موقف وجودي والأنا هنا متصوفة أقرب إلى الملكوت، ولكن سارتر يحيل الإثبات والنفي معا إلى تألق وجودي.
وإذا كان سيوران يستعيد هذه المعاني الدخانية ليؤكد على أن التدخين نشوة روحية، نشوة توازي الخاصية الأدبية للتطهير الصوفي، فإن سارتر لم يكن وجوديا كما ينبغي حين امتنع عن التدخين، هكذا يبدو للوهلة الأولى، لكنه لا يستحضر السيجارة إلا كمثال توضيحي لوعي قصدي، الوعي الذي يخلق موضوعه، ومع أن سارتر يستعرض المثال في فقرة موجزة، إلا أنه يعترف بحجم المعاناة التي تكبدها وهو يحاول قمع الرغبة في التدخين، الرغبة هنا عائق أنطولوجي، ولأن الوجودية جهد معرفي يمنح الواقع الإنساني كل إمكانياته، فإن تحطيم اللذة الفانية محك وامتحان.
إن الرغبة، بوصفها نزوع إنساني للمطلق، تحمل اللذة ونقيضها، فهي مرتكز لكل قرار إنساني يسعى لكسر الاقتران السيكولوجي بين الذات والسيجارة التي هي عند سارتر رمز لتملك تدميري للعالم، التبغ هو العالم، والامتناع عن التدخين رمز لاستعادة القرار، والوجودية ليست سوى نص مفتوح لكل إمكان إنساني، الوجودية فلسفة اختيار مسئول، أي رفض الهروب أو رفض الرفض وهي استحواذ على العالم، إنها نقيض التدخين، وتأكيد لحرية الإنسان حتى ضد نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق