المندائية أقدم ديانات التوحيد عالمها أبعد من السماء
الديانة المندائية كما يرى الباحث خزعل الماجدي دين توحيدي عرفاني جاء قبل الأديان التوحيدية المعروفة اليهودية والمسيحية والإسلام.
عواد علي
في كتابه الجديد “أصول الناصورائية المندائية في أريدو وسومر”، الصادر عن دار فضاءات بعمّان، يواصل الدكتور خزعل الماجدي بحثه وكشوفاته في أعرق الديانات التي عرفتها المنطقة العربية، ألا وهي الديانة المندائية.
يأتي كتاب خزعل الماجدي “أصول الناصورائية المندائية في أريدو وسومر”، امتدادا لكتابه السابق “جذور الديانة المندائية”، الصادر في بغداد عام 1997، لكنه يتخطى منطلقاته، ويتجاوزها إلى أفق أكثر سعة وغزارة.
ميثولوجيا التكوين
يبدأ الكتاب بفصل تعريفيّ بالجذور الناصورائية لهذه الديانة، وبتكوينها المندائي وباسمها الصابئيّ الذي عرفها به المسلمون، ثم يستعرض النظريات التي بحثت في أصلها بدءا من وجهة نظر المندائيين أنفسهم بتاريخهم، ومرورا بآراء الفقهاء والمؤرخين المسلمين، وصولا إلى النظريات الغربية في دوائر البحث العلمي الحديث، ثم يقدّم الماجدي وجهة نظره في تاريخ الديانة الممتد من أريدو حتى العصر الحديث.
أما الفصل الثاني فيعقد فيه مقارنة بين المعتقدات الناصورائية والسومرية من خلال عوالم الوجود واللاهوت في الديانتين (الماء، النور، الظلام)، ثم يناقش الأفكار الدينية الكبرى، التي تدور حول الله والآلهة والأنبياء والوحي والموت والعالم الآخر والمؤسسة الدينية، من أماكن عبادة ورجال دين.
في الفصل الثالث يقارن الماجدي بين الأساطير الناصورائية والسومرية من خلال البحث في ميثولوجيا التكوين، بصفة خاصة، والتي تشمل الثيوغونيا (خلق الآلهة والكائنات الإلهية) والكوزموغونيا (خلق الكون) والأنثروبوغونيا (خلق الإنسان)، والبحث المقارن في شخصيات آدم وحواء والأفعى، ثم بحث في عقائد الموت والآخرة (الإسكاتولوجيا).
الفصل الرابع حفل بمقارنات بين الطقوس الناصورائية المندائية والسومرية، حيث تناول فيه الماجدي طقوس العبادة التقليدية من صلاة وصوم ثم طقوس الأضاحي والتعميد والأعياد والاسم الديني.
يعقد الباحث مقارنة بين المعتقدات الناصورائية والسومرية من خلال عوالم الوجود واللاهوت في الديانتينوفي الفصل الخامس تناول التراث الديني المندائي في مقدمة وافية عن الغنوصية والمندائية، ثم تصنيف هذا التراث وفق مكونات الدين الرئيسية أولا، ومكونات أخرى قريبة، وركز على الكتاب المقدّس للمندائيين (كنزا ربّا)، وعرض محتوياته وتاريخ كتابته وعلاقته بالتراث الروحي لبلاد الرافدين.
ظهور الديانة
يؤكد الماجدي أن الديانة المندائية لم تكن وليدة العصر الهيلنستي، كما يقال دائما، بل هي ذات جذور أبعد من هذا العصر، فهي ترتبط بوشائج عميقة مع ديانة الأسرار السومرية، خصوصا بعد أن اختفت الديانة السومرية. لقد ظهرت بدايات هذه الديانة في أريدو ثم من بقايا الديانة السومرية وعناصرها المعروفة: الهواء والماء، النور والظلام، عالم ما بعد الموت، إلخ.. لكنها تعرضت لضغط الكثير من العقائد الدينية التي ظهرت في العراق القديم، مثل الديانة البابلية والآشورية وقبلهما الأكدية. ويرى أن إعادة صياغة شاملة لها تمت بعد سقوط بابل بوجود عناصر كلدانية وآرامية، وعلى أساس العرفانية النبونائيدية التي ظهرت منذ منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وكانت تسمى بـ”الناصورائية”.
ولأنّ هذه الصياغة تمت باللغة الآرامية وبإحدى لهجاتها التي هي “المندائية”، فقد أطلق على هذه الديانة المندائية، وربما كانت العقيدة الدينية هي السبب في إطلاق تسمية المندائية لأنّ كلمة “مندا، مندع″ باللغة الآرامية تعني “العارف”، ولذلك يكون المندائيون هم العارفون أي العرفانيون على وجه الدقة.
الديانة المندائية لم تكن وليدة العصر الهيلنستي
عالم النور
إن وجهة نظر الماجدي هذه ميزتها أنها اختلفت عن وجهات النظر المعروفة التي تجعل من الديانة المندائية فرقة غنوصية تدور في الفلك اليهودي أو المسيحي للعصر الهلنستي وامتداده الروماني (332 ق. م - 332 م)، وهو ما لا يصدقه المندائيون أنفسهم، لأنهم يعتقدون بأن ديانتهم هي “ديانة آدم”؟ وتقترب وجهة النظر هذه من وجهة نظرهم، رغم أنهم يؤمنون بالأمر دينيا.
أما اكتشاف الماجدي فقد جاء عبر وسائل البحث العلمي في الأديان وتاريخ الأديان، فالتاريخ الذي وضعه للديانة المندائية منذ أريدو حتى العصر الحديث يلملم ما تبعثر من تاريخ هذه الديانة العريقة في نسق منطقيّ، ويرمّم صورتها التي عبثت بها أهوال الزمان، وما تعرض له هؤلاء المنادون بديانة المحبة والسلام والنور والروح، والتي لم تسعَ يوما إلى شنّ حرب أو تأسيس دولة أو مال أو جاه، وكانت تدافع عن نفسها، دائما، بالصمت والتخفّي بسبب قسوة التعصب وعقلية التفتيش والتحرّي والشكوك في معتقداتها عند فقهاء ومتعصبي الأديان الأخرى المحيطين بها.
إن الديانة المندائية، كما يرى الماجدي، دين توحيدي عرفاني جاء قبل الأديان التوحيدية المعروفة: اليهودية والمسيحية والإسلام، واختلف عنها في كونه الدين الذي يعرف الله من خلال المعرفة التي تحتويها الروح أساسا، باعتبارها صادرة عن الخالق، وتتضمن المعرفة به، فهي ديانة تنظر إلى الوحي نظرة أخرى لكونه متضمّنا في الروح “نشمثا، مانا”، ويمكننا الوصول إلى معرفة الله ذاتيا عندما نعرف روحنا وأصلها القادم من الله ومن عالم النور، وهي نبع صاف من ينابيع الأغوار الروحية للبشرية وتطلّع مخلص لعبادة إله واحد لا يسكن السماء فحسب بل في عالم أبعد من السماء هو “عالم النور”، وكذلك أهلها الطيبون الصامتون على قهرهم وجروحهم، والرافعون راية النور والمعرفة في وجه من يتعرض لهم بالجهل والظلام والتكفير.
كتاب يضع تاريخ الديانة المندائية منذ أريدو حتى العصر الحديث، ويلملم ما تبعثر من تاريخ هذه الديانة العريقة كما أنها ديانة قديمة يصنفها علماء الأديان ديانة غنوصية (عرفانية) إلاّ أنهم يضعونها في الدائرة الروحية للعصر الهلنستي، ويهملون جذورها العريقة في وادي الرافدين باعتبار أن الغنوصية، بشكل عام، نشأت في حدود القرن الميلادي الأول وهو ما يخالف نشأة المندائية القديمة.
لكن ما يقف معترضا على القِدم البعيد للمندائية الممتدّ إلى أبعد نقطة في التاريخ، وما قبل التاريخ، هو عدم وجود نصوص ولقىً أثرية تؤيد ذلك القِدم، أما ما قام به من استنتاجات نظرية حاولت سدّ هذا النقص فإنه لم يكن كافيا، بطبيعة الحال، لكنه محاولة للتقصي والاستنتاج بمنهج علمي مقارن.
* عواد علي/ العرب [نُشر في 03/12/2014، العدد: 9757، ص(15)]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق