الخميس، 4 ديسمبر 2014

رمز المفكّر الملتزم والمرجع الأخلاقي في أفريقيا المضطربة رحيل النيجيري تشينوا أتشيبي، أبو الأدب الأفريقي الحديث- يوسف يلدا


رمز المفكّر الملتزم والمرجع الأخلاقي في أفريقيا المضطربة
رحيل النيجيري تشينوا أتشيبي، أبو الأدب الأفريقي الحديث



 يوسف يلدا

  كان مؤلّف رواية "الأشياء تتداعى" يعدّ من أوائل الكتّاب الذين عملوا من أجل نشر أدب قارة أفريقيا الحديث عالمياً. وسلّطت أعماله المبكرة الضوء على الإضطرابات الإجتماعية الناجمة عن الإستعمار في القارة السوداء. توفي الروائي والشاعر تشينوا أتشيبي، الذي يعدُّ من أكثر الأدباء تأثيراً في أفريقيا، يوم الجمعة عن عمر ناهز 82 عاماً.
 ولد  الكاتب الراحل والذي قالت عنه نادين غورديمر، الفائزة بجائزة نوبل للأدب أنه "أبو الأدب الأفريقي الحديث"، عام 1930 في إوجيدي، جنوب نيجيريا. وعندما كان أتشيبي يدرس التأريخ واللاهوت في جامعة إيبادان في بلده الخاضع حينذاك للإستعمار البريطاني، تخلّى عن إسمه ألبيرت ليستعيد إسمه التقليدي.
في ذلك الوقت، وفي ذات المؤسسة المرموقة، إنبثق جيل من الكتاب المبدعين، وتحولوا إلى روّاد الأدب الأفريقي المكتوب باللغة الإنكليزية: جون بيبر – كلارك، كول أوموتوسو، وول سونيكا، الحاصل على جائزة نوبل. وتبرز أيضاً أسماء أخرى أمثال آموس توتوآلا، وسيبريان إيكونسي، ضمن القائمة الطويلة التي تضمُّ الكتّاب الذين سجّلوا حضوراً أدبياً متميّزاً على مدى نصف قرن من الزمن في الأدب الأفريقي الحديث، من خلال إنشاء مدرسة أدبية لا يزال تأثيرهاً جليّاً على أعمال عدد من الكتاب، مثل بن أوكري، أو الكاتب الراسخ في الذاكرة كين سارو – ويوا، الذي شُنق في عام 1955 على يد الدكتاتور الجنرال ساني آباجا. ومن أبرز سمات نتاجات أؤلئك الكتّاب إستخدام اللغة الإنكليزية المفروضة من قبل الإستعمار لأهدافٍ خاصة بها، ليس بسبب من الكمالية الأكاديمية، بل لنقل القيم: عدم الرفض بالكتابة ب "لغة العدو"، والإستعانة بها من أجل التواصل وإضفاء طابع عالمي على مشاعرهم، وأشواقهم، وإحباطاتهم الأفريقية. وكذلك، عدم الإزدراء من تأسيس أدبٍ باللغة الإنكليزية البسيطة المتداولة بين عامة الناس، ولغة الضواحي وعمال موانئ لاغوس أو بورت – هاركورت. أن الرهان على هذه النقطة، بالإضافة إلى عظمتها، تسمح بإثارة الجدل المصطنع ربما، والذي كانوا يخططون له منذ أمدٍ طويل في الأدب الأفريقي: دور ما يسمى ب "اللغة المستوردة" في بناء الثقافات ما بعد الإستعمار، وعدم الجدوى المزعومة للأدب في المجتمعات ذات النسبة العالية من الأميين.
أن هذا القلق الذي كان يراود أتشيبي في خصوص التأكيد على الهوية، لم يكن مجرد قلق من الناحية الجمالية أو الإسلوبية. وقد تمثّل ذلك في روايته الأولى " الأشياء تتداعى"، المنشورة في عام 1958، على شكل ما يسمى ب"صراع الثقافات". حيث يثير المؤلف قضية مدى تأثير إختراق الحضارة الأوروبية على الأفارقة، وعواقب نشر العنف والفوضى الأخلاقية، ذات المعايير والتقاليد المختلفة،على مجتمعٍ ما.
وقد يعود إنتشار هذه الرواية التي ترجمت إلى أكثر من 50 لغة، وبيع منها نحو 10 مليون نسخة، إلى إقتراح أتشيبي الذي جاء بين ثناياها. وفي ذلك الوقت، كان من السهل جداً أن  يقع المرء ضحية إغراء نزعة الإنتقام، ورفض لما وراء الحدود، وضراوة القمع الإستعماري الذي كان يشهد نهايته. إذ لم يكن بحاجة إلى ميريدين أو مؤيدين له. مع ذلك، أن ما جاء خلف سطور رواية "الأشياء تتداعى"، كان أكثر عقلانية وإنسانية، بالنظر لكون الحقائق التأريخية جاءت كما هي، ولا يمكن تغييرها أو التلاعب بها، والرد ليس في الإستسلام، ولا في الرثاء الدائم للأشياء، وليس أيضاً في الإنتقام، بل في البحث عن الصيغ التي يمكن من خلالها إستعادة التنفس. وتوصّل أتشيبي منذ نصف قرنٍ من الزمان، إلى ما يبدو للآخرين اليوم  أنه إكتشاف حديث، ونقصد بذلك ضرورة الحوار بين الثقافات، والتفاعل الدائم، وتفوّق بعض الحضارات على الأخرى.
وكثيراً ما يحدث أن يلقي عمل إستثنائي بظلاله على بقية نتاجات المؤلف. وقد إشتهر الروائي والشاعر والناقد الأدبي تشينوا أتشيبي عبر روايته "الأشياء تتداعى"، رغم أنه أصدر أكثر من 20 كتاباً، من بين أبرزها "سهم الرب" 1964، و"رجل من الشعب" 1966، و"فيتات في حرب" 1971، و"عيد الميلاد في بيافرا وقصائد أخرى" 1973.
وفي جميع مؤلفاته، نرى أتشيبي وقد أصابه القلق جرّاء المشاكل التي تحيق بإفريقيا، ويشهد على ما يمر به بلده، تاركاً أثراً عميقاً خلال مسيرة حياته. كان دائماً، ذلك الإنسان الرصين، الذي لا يلفت إليه الأنظار. ولم يوظّف أتشيبي معرفته الواسعة ولا قيمه، أبداً، في خدمة التعسّف. وعلى الرغم من الإغراءات العديدة والتهديدات التي كان يتلقاها، رفض التعاون مع الديكتاتوريات التي عانت منها نيجيريا منذ إعلان إستقلالها. ورفض أيضاً الأوسمة والإمتيازات التي كانت تعرض عليه ليظلّ وفياً لذاته. لذلك، يعدُّ أتشيبي رمزاً للدور المفروض أن يؤديه المفكر في بلداننا المضطربة، والمرجع الأخلاقي الذي علينا العودة إليه كلما خانتنا ضمائرنا. وقد إنعكست هذه الصورة في روايته المعنونة "كثبان السافانا" 1987، صورة تمثّل فشل المفكرين والسياسيين الأفارقة.
 والنشاط السياسي الوحيد الذي مارسه أتشيبي تجلّى في مشاركته في الجهاز الثقافي الخاص لجمهورية بافاريا السابقة، أثناء الحرب الأهلية في نيجيريا (1967 – 1970)، تلك التجربة التي رواها في كتابه الأخير "كان هناك بلد: تأريخ بيافرا الشخصي (2012).
وفي رأي نادين غورديمير، الحاصلة على جائزة نوبل للآداب، أن تشينوا أتشيبي الذي لم يمت في بلده، بل في الولايات المتحدة، حيث كان يقيم منذ العام 1990، بعد أن وقع له حادث مروري إضطره لأن يستعين بكرسي متحرك، يعتبر أبو الأدب الأفريقي الحديث، وهو فعلاً يستحق بكل جدارة أن يطلق عليه هذا اللقب.
         




ليست هناك تعليقات: