الأربعاء، 3 ديسمبر 2014

11 قصة قصيرة جدا ً-عادل كامل

  11 قصة قصيرة جدا ً




عادل كامل
[1] في المغارة
   ُسمح له بالدخول إلى المغارة، بعد سنوات طويلة من الانتظار، فسار متلمسا ً جدرانها بأصابع مرتجفة،  متوغلا ً بعيدا ً في العمق. كان الممر ضيقا ً، ضيقا ً جدا ً، ولا يتسع إلا لمرور شخص واحد، متوسط الحجم، وللذهاب فقط. فترك أصابعه تتلمس المنحنيات، وتساعده في التقدم ببطء شديد. أخيرا ً، وبعد ساعات، من الزحف، وصل إلى نهاية الممر: حفرة مضاءة بفتائل تتغذى على شحم الحوت، وشمع النحل، وزيت الأشجار...، لا احد هناك إلا رجل عجوز، كانوا يطلقون عليه بالأب الأعظم، كبير كهنة الغابة، وكاتم أسرار الحياة والموت. ما ان رآه حتى تردد، في التقدم، بل   كاد يتراجع، إنما أدرك انه كان فقد مثل هذا الحق، ومثل هذا القرار، الذي هو وحده اختاره وأصر عليه.
     تجمد برهة من الزمن ظنها امتدت العمر كله، عند عتبة الحفرة التي بلغ نهايتها بعد جهد كبير وشاق، قبل ان يزحف، نحو وسطها، الذي لم يتسع لأكثر من شخص واحد أيضا ً، ثم اقترب من الكاهن، الذي بدا له مثل تمثال نحت بعناية، وقد كف عن الحركة تماما ً. مد أصابعه وتركها تنبسط فوق صخرة وضعت أمام الكاهن الأعظم.
ـ ما الذي جاء بك .... إلى ّ، وما الذي تريد ان تعرفه، بعد ان عشت سنوات طويلة في الغابة ...؟
    للمرة الأولى في حياته وجد ان الكلمات لا معنى لها، كأنها اختراع فائض، وجدت للتمويه، ولأنه لم يجدها، فرح قليلا ً، ولكنه وجد انه ازداد توقا ً للاعتراف بأنه لا يمتلك إلا رغبة ان لا يقول شيئا ً ما أبدا ً. حتى كاد يقهقه لهذا الاستنتاج، لولا شعوره برهبة الظلام، وصمت الكاهن، وما ظهر له من نقوش ملغزة فوق الجدران. كان كل منهما قد قرأ ما دار بخلد الآخر. فنطق الكاهن:
ـ تستطيع ان تساعدني على الموت!
ـ ولكنني جئت أسألك لماذا ......، فانا لم آت كي أموت عندك!
قال الكاهن بصوت  رقيق:
ـ بعد ان أموت ...، ستعلم الناس الموت، من بعدي، كيف يموتون بهدوء!
     لا يعرف كيف تكّونت لديه رغبة بالكلام، وكيف عثر على الكلمات، فقال بصوت مرتجف، خفيض، رآه يتمايل مع ذبذبات خطوط زرقاء ممتزجة برائحة الدخان كانت تقترب منه:
ـ جئت أقول لك ....، إنني اغفر لك انك خلقت الإنسان، في هذه الغابة، وربما اغفر لك انك سترسلنا إلى الجحيم...!
     ليجد قوة ما تمنعه من متابعة النطق. عمليا ً بحث عن الكلمات، في رأسه، فلم يجدها.  ابتسم الكاهن، ولم ينطق بكلمة أيضا ً.  إلا ان الآخر لم يجد ان هناك ضرورة للشرح، أو الإيضاح، لقد اخبروه، منذ البدء، ان من يدخل المغارة لن يغادرها أبدا ً، فما فائدة البوح بوجود، غير الجحيم، كما قال الكاهن له، مساحات خضراء، وبلورية، وبيضاء، تمتد بعيدا ً خارج ظلمات المغارة.

[2] النار والنعيم
ـ الحرية التي تبحث عنها...، لا وجود لها، لأن كل من حصل عليها، فقدها، فما جدوى ان تبحث عنها ....؟
ـ اعترف لك...، يا سيدي، انك سمحت لنا بالحصول على ما ستأخذه، وما ستسترده منا، وأنا اغفر لك ذلك، بل واغفر لك انك ستعاقبنا، وتنكل بنا، وتمحونا من الوجود.....، اغفر لك انك بشرتنا بالجحيم، والنار، والعذاب الأبدي ...، اغفر لك ذلك كله....، ولكن اخبرني، يا سيدي، ما الذي فعلناه كي نستحق ، ونجازى بالنعيم، وبالحور، والغلمان، والعسل، ما الذي فعلناه كي تهبنا البساتين، والأنهار، والشموس، .....، فانا لا احتمل مثل هذا النعيم!

[3] ظلمات
     قال عالم الفيزياء الشاب لزميله عالم الفيزياء الكهل:
ـ   ها أنت ترى ان سرعة الضوء، هناك، في الأعماق، التي تسمى الكوزرات، تتراوح بين 8 إلى 12 مرة أسرع من ضوء شمسنا المعتمة!
ـ اعرف!
ـ ماذا تعرف ..؟
ـ ان ضوء شمسنا، هذا، مقارنة بسرعة الضوء هناك، محض جدار...، صلب، معتم، وحجاب ...، وإننا أمضينا حياتنا في الظلمات...!
ـ اخبرني، إذا ً....، ماذا كنا نعني بالنور، والأنوار، في كلماتنا، ولغاتنا....؟
أجاب عالم الفيزياء الكهل:
ـ أنا رأيت ما هو ابعد من تلك الكوزرات.....!
ابتسم العالم الشاب وخاطب نفسه بصوت مسموع:
ـ الآن أدركت سر عدم تشبثك بما كنا نبحث عنه!

[4] درس
     افتتح معلم الفلسفة درسه الصباحي بالحديث عن وباء الايبولا:
ـ  انه وباء سريع العدوى وفتاك لا يرحم وهو درس آخر علينا ان نتعلم منه ...
وصمت. كانت آذان التلاميذ شاردة بانتظار ان يتكلم. لم ينطق، وهو يحدق في الوجود التي قرأ فيها ملامح الفزع، والخوف. فقال فجأة:
ـ انه مثل الموت....
 وصمت مرة ثانية، لدقيقة، ثم تابع قائلا ً:
ـ انتهى الدرس!
   غادر التلاميذ الصف، إلا طالبة واحدة اقتربت منه، وسألته:
ـ أستاذ..
منعها من المتابعة:
ـ لا معنى للكلمات، فالموت وحده يؤدي واجبه على أكمل وجه، فهو الوحيد الذي   يعرف ماذا يعمل...!
ـ أستاذ..
ـ ونحن، يا عزيزتي، لم نتعلم إلا ان نتتبع خطاه!

[5] قيود
     في الزنزانة الانفرادية، المظلمة تماما ً، والباردة جدا ً، والخالية من الهواء، لم يجد المحكوم عليه بالموت من يتكلم معه، عدا السلسلة الحديدية التي كانت تمنعه من الحركة:
ـ حتى أنت ِ، أيتها القيود، لا تتمتعين بالحرية!

[6] مرآة
نظر العجوز في المرآة:
ـ آ ....، سبق ان رأيتك!
لم تجب الصورة، فقال:
ـ حقا ً ها أنا اعرف أنني لا أشبه نفسي...، إذا ً....، هو يشبهني!
    قرب رأسه من المرآة ولمس سطحها:
ـ من منا ً أخيرا ً يشبه الآخر....، أم علي ّ أن أقول: لا احد يشبه احد...، مادامت المسافة بيننا غير قابلة للقياس...؟ آ .....، كنت اعرف أنني أضعت حياتي بالبحث عنها، والآن آن لي ان ادعها تغيب.
  ابعد وجهه عن المرآة قليلا ً، تاركا ً أصابعه تتلمس محياه:
ـ آن لي ان أتعرف عليك يا أيها الغريب ...!

[7] رهان
     ظل يردد مع نفسه، في الطريق لتلبية دعوة تلقاها من سيدة يعرفها منذ زمان بعيد: ما النصر إلا هزيمة مؤجلة! مثلما كنت تقول: ما المستقبل إلا ماض ٍ مؤجل!
ـ شكرا ً لأنك لبيت دعوتي.
كلاهما عند حافة السبعين من العمر، قالت:
ـ  كان ذلك قبل نصف قرن تماما ً...
   فقال لها بصوت مرتبك:
ـ كنت اردد: لا خسائر ولا مكاسب...، في الحياة، لولا إنها برهنت أخيرا ً إنها هكذا: مرارات تعقبها أخرى!
ـ كأنك ولدت قسرا ً؟
ـ لا!
وأضاف:
ـ بل عشت كأن الحياة ضرورة لا بد منها!
ـ لم تتغير...؟
وسألته حالا ً:
ـ قلت كأنها، كأنها...
تنهد بعمق، مستعيدا ً رائحة العطر ذاته الذي طالما أسره، عطرها الشبيه برذاذ ناعم امتزجت فيه نسمات الفجر...
ـ العطر ذاته..
فقالت وهي تحدق في الفضاء:
ـ كأننا في السنة الأولى، لم نكبر، ولم يمض الزمن، ولم ....، لكن أرجوك اخبرني...
صمتت برهة، وسألته:
ـ لماذا لم تتشبث بي، لماذا تركتني اذهب ....؟
ـ أنا أيضا ً أسأل نفسي: لماذا لم تتشبثي بي، لماذا تركتني اذهب ....؟
ـ آ .......، كلانا إذا ً لم يتغير!
ـ ها أنا ليس لدي إلا ان أؤكد: ان الهزيمة هي آخر جواب على إننا كسبنا النصر! وكسبنا رهان هذا الوجود!

[8] مصير
ـ قتل نفسه، وقتلنا..
ـ من..؟
ـ سقراط!
ـ ماذا تقصد...؟
ـ اقصد بالضبط: قتل نفسه، ولم يترك لنا إلا ان نموت معه أيضا ً!
ـ كأنك تريد ان تقول: ان عمله يشبه أعمال هؤلاء الفتيان الذين يفجرون أجسادهم وسط حشد من الأبرياء!
ـ تماما ً، لأن سقراط إنسان بريء!
ـ رغم انه قتل نفسه وقتلنا معه!
ـ نحن قدناه إلى ارتكاب الجريمة!
ـ لم اعد أفهمك...؟
ـ لأن الفتيان الذين يفجرون أجسادهم الغضة في حشد من الناس الأبرياء، يقتلون أنفسهم، ويقتلوننا معهم، مثل سقراط، لم يجد سوى ان يلبي نداء الموت.
ـ مع ذلك قلت انه إنسان بريء...؟
ـ لو كنا نمتلك ذرة واحدة من البراءة، لعرفنا كم اقترفنا ونقترف من الآثام، والمعاصي، والجرائم....، حتى سمحنا لسقراط باختيار الموت، كما لم نترك لهؤلاء الفتية إلا اختيار هذا المصير!

[9] اعتراف
   استدعاني صديق لم أره منذ سنوات بعيدة، فقلت إنها مناسبة لمعرفة لماذا توارى عنا وعاش حياته وحيدا ً، حتى ظننا انه هاجر، أو فارق الحياة.  كان لا يشكو من المرض، وإنما ـ قال لي ـ : الإنسان لا يعيش إلى الأبد! ابتسمت، وقلت: اعرف، بانتظار معرفة أسباب دعوته لي. لكنه، بعد قليل، نهض، واخرج من خزانة الكتب، دفترا ً، وقال لي:
ـ بعد ان أموت...، يحق لك ان تطلع على ... ما دوّنت فيه.
فقلت حالا ً:
ـ وماذا لو سبقتك في الرحيل، يا صديقي...؟
ـ المشكلة لن يكون لها وجود!
ـ ثمة مشكلة في الأمر...؟
ـ نعم.
 وسألني:
ـ هل تتذكر عندما كنا نعمل معا ً...؟
ـ نعم.
ـ وهل تتذكر، أنت وأنا، عندما طلبونا لمقابلة الرجل الأول في الدولة، مع عدد من الزملاء...؟
ـ نعم، كأن اللقاء جرى قبل لحظات!
ـ عندما غادرنا القصر، هل التقينا، أنا وأنت، بعد ذلك ..؟
ـ لا.
ـ أنا عندما عدت إلى البيت، لم استطع مقاومة رغبة جامحة بالنحيب، والعويل، بل بالعواء!  أنا الذي كنت ارسم خططا ً لاغتيال الرجل الأول في الدولة!
ـ اعرف، فانا كنت شريكك في رسم الخطط!
ـ لا أقول لك بأنني صدمت، بل أقول لك: أفقت!
   وانتظرت ان يكمل، فقال بعد لحظات صمت:
ـ لقد أدركت بجلاء كم كان الرجل بحاجة إلى ...، إلى...، حنان، أو قل إلى: رعاية، بل إلى: عناية!
ـ عناية، الجلاد....، الطاغية، المستبد بحاجة إلى ...من يرعاه، ويحبه!
ـ لأنني أدركت كم كان وحيدا ً، تائها ً، شاردا ً، معدما ً، حتى انه عندما كان يخاطبنا كان كمن يستدعي آخر للكلام نيابة عنه!
ـ والخراب الذي أحدثه، يا صديقي، هل هو مجد، وعمران...؟
ـ كان هو الحلقة الواهنة في السلسلة!
   كدت اصرخ: أمن اجل هذا طلبتني..؟  لكنه قال:
ـ لا أريد الاعتراف بان في كل منا يقبع جلاد، بل أقول ان في كل منا هناك ضحية تأمل ان لا تتعثر خطاها  وتغدو وحيدة، تائهة، معزولة، وشاردة تحدق في الظلمات!
ثم أضاف:
ـ بعد ذلك اليوم...، كان علي ّ ان لا أصبح طريدة! وفي الوقت نفسه، ان لا أصبح صيادا ً!
   عندما أصبحت وحيدا ً، في الشارع، تعثرت، وكدت أقع، واسقط في حفرة، فقد شاهدت حشدا ً من الصبية يحدقون في ّ، وهم يتهامسون، ولأنني ثقيل السمع، قررت ألا افتح فمي بكلمة، وأنا أتوارى عن الأنظار، وأغيب.

[10] ظل
    رأيته يمشي وحيدا ً ببطء، ببطء ملفت للنظر، وهو يلملم ظلاله من خلفه، واضعا ً ما جمعه في كيس، ثم يتابع سيره، ببطء، ببطء شديد. فدار بخلدي: هذا ما كنت ابحث عنه...، فانا كنت أفتش عن أكثر الناس بخلا ً! كي أكون عثرت على ابخل إنسان فوق سطح الأرض، مع إنني لم اترك كتابا ً في البخل، والبخلاء لم اطلع عليه، فضلا ًعن إنني مازالت اقشعر إلى حكاية  تلك التي ما ان كانت ترى ضيوفا ً إلا وأطفأت النار، ولكن بالقليل من بولها، بإقساط، وليس دفعة واحدة!
  التفت الرجل نحوي وقال، والابتسامة لم تفارق شفتيه، هامسا ً:
ـ لا تكن سيء الظن بي، أيها العابر، إلى هذا الحد، فانا عندما رأيتكم تهدرون الضوء، قلت لنفسي: ليس لديك ما تفقده، فاجمع ظلك، ولا تدعه يضيع!

[11] عتمة
سألت الزوجة زوجها أستاذ الكيمياء:
ـ ماذا تفعل في هذا الصباح الجميل...؟
ـ يا زوجتي العزيزة، ألا تشاهدين أنني استخراج  العتمة من أشعة الشمس..!
ـ وهل في الضوء ظلمات؟
ـ مثلما في أجسادنا شوائب، وربما في عقولنا اضطراب....!
فقالت بعد صمت وجيز:
ـ أي انك تبحث عن الضوء الخالص؟
   حدق في عينيها، وقال بحزن عميق:
ـ مثلما كنت منشغلا ً...، منذ سنوات بعيدة، بلغز هذا الذي مكثت تنبثق منه الومضات، تجديني لم افقد الأمل....!
11/11/2014


ليست هناك تعليقات: