الأربعاء، 10 ديسمبر 2014

" أدب السجون " في العراق-جاسم المطير


" أدب السجون " في العراق
جاسم المطير
هل هناك تعريف واضح معتمد لتعبير  اسمه " أدب السجون " .. هل يمكن ربط هذا النوع من الأدب بتاريخ الأفكار السياسية أو بتاريخ الحكومات القمعية أو بتاريخ القطيعة التي يحدثها جدار السجن ، بين الأديب والناس ، بين عالم مظلم محدود وبين عالم مضيء غير محدود ،  هل أن وجود الأديب داخل
السجن يؤشر،  بمعنى من المعاني ، مرحلة الوحدة أو مرحلة الاعتكاف في حياته ، هل أن وجود أديب ما وراء قضبان السجون يشير إلى علامة واضحة عن الصراع الإنساني الدائم حول  حرية التعبير وحول حق انتماء الأديب إلى جماعات تريد تغيير المجتمع ...؟
 من وجهة نظر الحكام  يمكن تقديم السؤال التالي : هل أن محاولة سجن الأديب قادرة على وضعه بمعزل عن العالم ...؟
 بإمكاني القول فوراً أن وضع أدباء وراء قضبان السجون لا يحقق للظالمين النظر إلى العالم إلاّ بمرآة واحدة لا يرون فيها غير وجوههم ...
 رغم أن تعبير " أدب السجون " مؤلم نوعا ما ، خاصة بالنسبة لأدباء  سبق أن دخلوا إلى غياهب السجون وتعذبوا فيها ،  لكن في سبيل الحصول على إجابة دقيقة على  كل هذه الأسئلة ينبغي الاعتماد على خلاصة آراء عامة لسجناء ، أو لأدباء سجناء ، أو لمتابعين متخصصين بأدب السجناء ،  لكي يمكن إيجاد علاقة من نوع ما بين لغة أدب السجون ولغة التيارات السياسية المتعددة الاتجاهات التي سادت  في الحركة الوطنية العراقية .
أولا ً لا بد لي من القول ،  بصراحة تامة ، أن أدب السجون في العراق  لم يفرض نفسه ، حتى الآن ، على الساحة الأدبية ،  ولا ضمن الدراسات الأدبية ، التي صدر الكثير منها خلال نصف قرن من الزمان  ، داخل العراق وخارجه ، من دون أن يكون لأدب السجون حصة مناسبة أو معقولة عن تجمع ونشاط أدباء عراقيين  تناوبوا على دخول السجون السياسية في العراق منذ أكثر من 60 عاما .
في الوقت الحاضر نجد عددا غير قليل من أدباء كانوا سجناء ، في مراحل مختلفة من حياتهم في الماضي القريب والبعيد  ، بينما هم الآن على رأس قيادة الاتحاد العام للكتاب والأدباء العراقيين من أمثال الشاعر الفريد سمعان والكاتب فاضل ثامر والروائي حميد المختار وغيرهم . إلا أننا لم نجد  اهتماما حقيقيا ، أو كما ينبغي ،  من هذا الاتحاد  بمعرفة الحياة المشتركة لمجموعة كبيرة من أدباء سجناء في العراق سبق أن تعلقوا بقلب النشاط الأدبي ،  لأول مرة من داخل زنزانات السجون ، كما هو حال الكاتب الروائي جمعة اللامي المقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة ، أو من الذين
 كان لنتاجهم الأدبي ميزة خاصة  في قلب التنظيم الجماعي لسجناء نقرة السلمان كالشاعر المقيم في سوريا مظفر النواب ، الذي صارت أشعار قصائده ، داخل السجن وخارجه ،  ضرورة سياسية يتغنى بها كثير من أدباء مجايلين ،  خارج السجون . كما أنني شخصيا حققتُ تحولا  في سجن نقرة السلمان من مرحلة الكتابة الصحفية إلى مرحلة الكتابة الأدبية . كذلك كانت هناك الكثير من الكتابات والنشاطات الثقافية والأدبية داخل التيار الأدبي في سجن نقرة السلمان ،  مثلا ً،  تداوله وأنجزه كل من السجناء صلاح الخزرجي ، سعدي السماوي ، سعدي الحديثي ،  محمد ملا عبد الكريم ،  المحامي نصيف الحجاج ، الشاعر فائز الزبيدي ، الكاتب  فاضل الروضان ، الصحفي عبد القادر البستاني  ، الكاتب كمال عمر نظمي ، المترجم بديع عمر نظمي ، الكاتب عبد الوهاب القيسي ، الشاعر الشعبي هاشم صاحب  ، الشاعر دينار السامرائي  ، المهندس عبد الرزاق زبير ، وعبد الستار زبير ، زهير الدجيلي ، عزيز سباهي ، مصطفى عبود  ، حامد أيوب ، محمد الجزائري ، غضبان السعد ، سليم الفخري ، كاظم مكي ،  وعصام غيدان ، صاحب الحميري ، صادق جعفر الفلاحي نصيف ، المحامي كاظم علي جواد ،  هاشم الطعان ، وسميع داود ، معين النهر ، جميل منير ، اسعد العاقولي ،  سلمان العقيدي وغيرهم كثيرون ممن كانوا يساهمون في جعل مجتمع السجن حيويا وإنسانيا بجهودهم الأدبية والثقافية المرموقة مما يستوجب الإسراع في تدوين مؤثراتهم على أدب السجون في العراق  قبل أن نفقد آثارهم أو حياتهم  مع مرور الزمن . هنا أقدم مثلا واحدا عن ضياع آثار الماضي ، ففي عام 2004 كلفتُ احد الأصدقاء بالذهاب إلى نقرة السلمان لتصوير بعض جوانب السجن من داخله وخاصة السجن القديم ،  لإدخال الصور ضمن كتابي نقرة السلمان ، لكنه حين ذهب وجد السجن منزوع الأبواب والشبابيك وكان الكثير من طابوقه وأحجاره مسروقة . لم يعد لهذا السجن شكله السابق مما حرمني من الاستفادة من 60 صورة لم تكن بنظري حين اطلعتُ عليها غير مجرد أنقاض . كما ان ذلك يعني عدم إمكانية استجابة السلطات العراقية المسئولة  لبعض المقترحات القائلة بتحويل نقرة السلمان إلى متحف يكشف لزواره أساسا من أسس الدولة العراقية الظالمة منذ تأسيسها وحتى يوم سقوط الدكتاتورية عام 2003 .
كان السجن السياسي مرفأ حقيقيا شكــّـل أساسا لصيغة وبنية سياسية وفكرية لمجموعة كبيرة من الأدباء السجناء في العراق  . منهم من أنجز كتبا أو ديوان شعر أو كتب قصة أو خاطرة سياسية وغيرها . غير أن  تلك المنجزات  ما اقترنت  بأي شكل مناسب من أعمال التوثيق والتدقيق ، ولم يتمكن ، حتى الآن ،  أي متابع ، سجينا كان أو غير سجين ،  أن يأخذ معنى الإنتاج الأدبي في السجون على محمل الإحصاء الجاد ، كما لم يتابع احد من النقاد والباحثين قضية تطور أدب السجون ، ومراحله ، وما هي العلامات التي ميزته ، ومدى تأثر الأديب السجين بحاجات ومعطيات المجتمع السجني ،  وابرز علامات لغته ، أي أن من الصعب جدا تقييم أي مرحلة من المراحل السياسية السابقة ، مثل مرحلة النظام الملكي ومرحلة نظام عبد الكريم قاسم ومراحل الانقلابات العسكرية اللاحقة وصولا إلى نيسان عام 2003 وهي المراحل التي كان فيها الأديب العراقي يعيش أبشع علاقة بين الأديب والدولة ، بين الأديب والمجتمع ، حيث كانت الصيغة الأساسية في العلاقة هي واحدة من أربع حالات :
(1)            إما أن يكون الأديب مرتبطا بشكل من أشكال التبعية بسلطة الدولة .
(2)            أو أن يكون الأديب قاطعا صلته بالمجتمع كله بفرض عزلة تامة على نفسه عن طريق الصمت التام بالشئون العامة وبالأحداث السياسية وبالحقوق السياسية وبالقوانين المختلفة المفروضة على المجتمع .
(3)            أو أن يكون الأديب مهاجرا إلى خارج الوطن .
(4)            أو أن يكون الأديب موصوفا بكونه سجينا سياسيا في حالة إصراره على القول والكتابة حول الأوضاع القمعية  المحيطة بالمواطنين .
التوصيف الرابع للأديب اوجد اشتقاقات كثيرة حول " أدب السجون " .  منها المذكرات إذ كتبها عدد غير قليل ممن دخلوا السجون رغم أنهم لم ينشروا شيئا جادا ، حتى الآن .  أنا شخصيا كنت قد كتبت صفحات كثيرة تحت عنوان " نقرة السلمان "  تكشف عن ذكريات الحياة المادية والمعنوية لسجناء ذلك السجن الصحراوي البغيض  خلال الفترة 1963 – 1967 وما زال هذا الكتاب الجاهز للطبع بانتظار دار نشر عراقية تنظم طبعه وتوزيعه .
كذلك كتبتْ في السجون بعض أشكال القصائد لشعراء معروفين مثل محمد صالح بحر العلوم ( أين حقي ) ومظفر النواب (البراءة ) وهما من نماذج قصائد تتشكل فيها روح التحدي في العلاقة مع الدولة الغاصبة ، وغير ذلك من فنون أدب  السجون المتنوع القادر على تقييم فترات السلطات المتنوعة التي حكمت العراق .
هناك ثغرة كبيرة متجسدة في تقصير البحث الأدبي عن دراسة أدب السجون وعلاقته بالتيارات والتنظيمات اليسارية،  مما يتوجب على المنظمات الأدبية والثقافية ،  وفي مقدمتها الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين ومؤسسة المدى ومؤسسة الذاكرة العراقية واللجان الثقافية في الأحزاب الوطنية والأقسام الثقافية في الصحف والمجلات ،  الالتفات عمليا إلى ملف الذاكرة العراقية المتعلقة بأدب السجون السياسية وفي تقديري أن هناك حاجات ماسة وسريعة تفرض نفسها على المعنيين بالثقافة العراقية  لتحقيق الإجراءات السريعة التالية :
-         أولا : المبادرة إلى عقد ندوات حول أدب السجون ومتابعة وجوده ونشاطه في  مختلف المراحل السياسية. يمكن للاتحاد عقدها في بغداد بينما فروعه في المحافظات تعقد ندوات مماثلة .
-         ثانيا  : تسجيل ( شهادات الصورة والصوت ) عبر أفلام وثائقية للأدباء الذين كانوا داخل السجون ، والتعاون بهذا الصدد مع جميع المنظمات العراقية المماثلة الموجودة خارج العراق خاصة  المعنية  بالذاكرة العراقية .
-         ثالثا : إعلان أن السجن السياسي هو فعل من أفعال المقاومة الإنسانية ضد الظلم مما يعني أن أدب السجون هو أدب إنساني  مقاوم .
-         رابعا : دعوة وزارة الثقافة عبر اتحاد الأدباء إلى تأسيس متحف خاص لأدبيات السجون السياسية وتصنيفها وحفظها .
-         خامسا : إشراك جميع التيارات السياسية من شيوعية وديمقراطية ودينية في تسجيل تجارب أدبائها في السجون من كتاب وشعراء وفنانين .
-         سادسا : البحث عن دور النساء في تدوين أدب السجون ومتابعة نصوص سافرة جميل حافظ وابتسام نعيم وزكية خليفة وهيفاء زنكنة وغيرهن . ومحاولة كتابة الكثير من الحكايات التي جمعت بين السجينات السياسيات في مختلف السجون وفي مختلف العهود .
أشير ، هنا ، أن المهمة الأولى في تدوين أدب السجون يجب أن تقتصر على كيفية تحويل الجهود وفق النقاط الست الأنفة الذكر كي تجعل " أدب السجون " مصدرا من أهم مصادر المعرفة السياسية يمكن لجوء الباحثين إليها عند دراسة التحولات العديدة التي مر بها المجتمع العراقي والأدب العراقي  .  ومن الضروري الاستفادة من فكرة الدكتور محمود أمين العالم - الناقد المصري المعروف – الذي يرى  أن أدب السجون له ميزات محددة يندر وجودها في فنون أدبية أخرى ، كما يرى أن ( رواية  السجن
(  مثلا ً مهما ً من الأمثلة التي تندرج أساساً في إطار الرواية الدرامية حيث أن المعتقل ذاته  هو حدث خاص  في حالة الفعل والحركة " انه الحياة في ذروة احتدام الصراع بين الحدود القصوى لمكوناتها في مكان ضيق : الضحية في مجابهة الجلاد "   .
كذلك من الضروري الانتباه أن مثل هذه المؤلفات في أدب السجون تحتاج إلى كشف عناصرها الإبداعية الشديدة الخصوصية ،  المتميزة عن غيرها من التجارب الإبداعية العراقية ،  إذ كما هو معروف لكل الناس ،  أن السجون السياسية ،  في كل زمان ومكان ، هي  تجسيد لظلمة ٍ  مخيمة ٍ على روح الناس السجناء وعلى أهاليهم خارج السجن ، وعلى أبناء الشعب أيضا ،  وهي أداة الجريمة القاتلة لروح الإبداع التي يختزنها السجين الأديب أو السجين الكاتب أو السجين الفنان أو السجين الصحفي . أن فنون هؤلاء في الكتابة إنما تعبر عن سلسلة كاملة من كفاح الفرد السجين لتكسير قيوده  .
في السجون السياسية  ينتحر الحرف والقلم ، في العادة ،  قبل انتحار الإنسان اليائس . السجين الأديب  يمر كل يوم في دهاليز السجون متطلعا بعيون خائفة إلى عيون زملائه المنطفئة والى أجسادهم المريضة الواهنة . غير أن تجارب الكثير من السجناء الأدباء في نقرة السلمان وسجن بعقوبة والحلة والرمادي وبغداد والكوت وغيرها ، كانت تتجاوز غرائبية الحياة السجنية لتضيء في أعين السجناء الآخرين أمل الحرية وأمل القوة وأمل المستقبل  فكانوا يرون النور في أفكار ما يكتبه الأدباء وهم من نخبة السجناء السياسيين ليتداوله باقي السجناء السياسيين وهم نخبة المجتمع . هنا  يتفرد أدب السجون بأنه أدب النخب عن النخب  والى النخب . انه نوع من أدب يشكل رابطة قوية تعاقدية بين الكاتب والقارئ ،  بين الشاعر والمستمع ، ليصبح السجن مكانا لصنع الإرادة والإبداع في مجتمع صغير  كان الظالم يبغي إلى تحويل السجن إلى مقبرة للسجناء وأفكارهم .  
بهذا الصدد  تحل الصفة الفردية للكاتب داخل السجن وتتحول إلى صفة جماعية يمكن أن تعبر عن إرادة السجناء كلهم أو تعبر عن ذكرياتهم كلهم  ، كما هو واضح في بعض الأمثلة من تجارب بعض الأدباء غير السجناء من تجربة الكاتب فاضل العزاوي في انجاز رواية عراقية مهمة " القلعة الخامسة " ومن احمد الباقري وروايته التسجيلية المأخوذة من ذكريات سجين سياسي  ومن عبد الرحمن منيف في روايته " شرق المتوسط " ، وحيدر حيدر السوري في روايته " وليمة لأعشاب البحر " وغيرهم من الكتاب في المغرب العربي من أمثال الطاهر بن جلون .
ما تقدم يحمل بعض الخطوط والأفكار أضعها تحت أنظار المعنيين بالأدب العراقي بكل فروعه وأركانه ومنجزاته بما في ذلك أركان السجون السياسية ، كما أضعها تحت أنظار من كان ضمن حركتها ومن عايش ظلامها  للتبصر في ضرورة توثيق أدب السجون واستخراج عناصره اللصيقة بالأوضاع السياسية العراقية .

بصرة لاهاي في 19 – 5 – 2009



ليست هناك تعليقات: