قصة قصيرة
بعد خروجنا من ( دجلة )
عدنان المبارك
ثمة تنافر في طبائعنا. فنحن لا نعرف الحياة سوية من دون أن
يجرح أحدنا الآخر. وليم غولدنغ
أنا الآن نزيل فندق ( دجلة ) للمرة الأولى. فالفندق الآخر المسمى ( دار السلام ) غادرته قبل ستة أيام. كان بالقرب من الأماكن التي أتردد عليها لقضاء أشغال رسمية في العاصمة. كان ضجيج الحافلات لايطاق في الصيف خاصة. أما الفندق الحالي فيقع في شارع جانبي وبعيد قليلا عن مزعجات مركز المدينة. يبدو الفندق وكأنه بيت كبير ذو طابقين. أجرته معتدلة ، وصاحبه يحرص على النظافة والهدوء. وكان قد دلّني عليه صديق قديم ألتقيته ، مصادفة ، في الشارع الرئيسي ، وها أنه يزورني كل ثاني مساء. صاحب الفندق وعدني قبل يومين بمصباح للمنضدة كي أستطيع القراءة والكتابة بصورة مريحة.
لا أعرف لم هذا الصداع الذي لا يخلو من الحدّة ويهاجمني حين أكون في العاصمة. قرأت قليلا ونقلت الكرسي الى النافذة كي أبحلق ، لغاية العشاء ، في الشارع والبيوت المقابلة. الشارع بدا مهجورا من المارة والحافلات. كثير من هذه البيوت مضاء. الستائر مسدلة على معظمها. أنتبهت الى نافذة كبيرة عارية من الستائر. أثاث الغرفة متواضع رغم كثرته. وراء طاولة جلس رجلان يقابل أحدهما الآخر. بدا لي أنهما أبكمان ، فحركات أيديهما لا تتوقف. كان المكان مضاء بصورة سيئة ولذلك لست موقنا من أنهما أبكمان. فكثرة الحركات لا تعني البكم عندنا. في كل الأحوال بدا الأمر وكأنهما في عراك دائم. أحد الرجلين بدين قصيرالقامة وعلى العكس من الآخر الذي كان نحيلا وطويلا. يشترك الاثنان في طريقة التصرف العصبي. البدين ينهض ويذرع المكان ذهابا وايابا ، وحين يعود الى كرسيه يتوقف عند كرسي النحيل ويرفع يديه وينزلهما كاشارة الى أقصى حالة من الغيظ. النحيل لايفعل هذا الشيء بل يكتفي بالوقوف وسبابته فوق رأس البدين ويحرّك يده الى أعلى أكثر من مرة. واضح أن غيظه هو أشد من غيظ الآخر. بعد كل نوبة من هذا النوع يجلس البدين ساكنا منكس الرأس .النحيل يبقى بدون حراك أيضا. لكنه ينظر ، وهكذا يخيّل اليّ ، الى الجدار وراء البدين . بدت الحال وكأنها جولات ملاكمة تتخللها فترات استراحة قصيرة .
ها أن الأثنين يستأنفان الشجار. وحصل هذا أربع مرات أثناء جلوسي أمام النافذة. البدين يلبس ( دشداشة ) ذات لون قهوائي فاتح ، أما النحيل فيرتدي بذلة من طراز قديم. في الغرفة فراشان جلس البدين على أحدهما الآن. ربما الفراش الآخر ليس للنحيل ، اي أنه قد يغادر المكان في الأخير. كانت فكرة مضحكة أن أقوم بالتأكد من أن الفراش ليس للنحيل خاصة أن شعوري الداخلي أوحى لي بما قلته عن هذا الفراش...
سمعت طرقا خفيفا على باب غرفتي. اللعنة ! تذكرت أني على موعد مع هذا الصديق. اسمه فؤاد ، وكنا قد اتفقنا على أن نتناول العشاء في مطعم على ساحل النهر امتدحه كثيرا. انها الساعة الثامنة ، ولايهم اذا تأخر العشاء ، فيوم غد هو الجمعة. وافق فؤاد على اقتراحي بشرب القهوة قبل خروجنا. انشغلت باعداد القهوة لبضع دقائق ، وأثناءها أخبرته بما حدث لغاية الآن بين البدين والنحيل. فؤاد ، وهو مخرج تلفزيوني ، أعجبه أني أصبحت ( بصّاصا لكن ليس مع سبق الاصرار ) ، وأخذ يتكلم عن فلم هتشكوك ( النافذة الخلفية ). ذكرّني بأننا كنا قد شاهدناه سوية قبل سنين. سألني اذا كانت لدي رغبة في مواصلة النظر في ما يحدث بين ذينك الاثنين أم يمكننا مغادرة الفندق. أظن أن فؤاد توّجه لا شعوريا صوب النافذة. التحقت به. لاشيء عدا أن البدين يرتدي الآن بذلة قديمة. أخبرت فؤاد بأنه أبدل لباسه مما قد يعني أن الاثنين سيتركان المكان.
كان فؤاد قد شرب قهوته ووافق على اقتراحي بالخروج وتعقب البدين والنحيل كي نعرف (جلية الأمر ). حين صرنا في الشارع لمحت الاثنين يسيران ببطء على الرصيف المقابل. كان الشارع سيء الانارة ، وهو شيء جيد اذا أردنا مواصلة التنصت. في الأخير صارت المسافة بيننا بضعة أمتار. أخذنا نسمع بوضوح كاف كلام البدين. كان صوته ثاقبا ويبطيء في كلامه. اكتشفنا أنه أب النحيل الذي هو الآن أكثر هدوء حين يستمع الى أبيه الذي لم يتوقف عن الكلام طوال السير على الرصيف شبه المظلم. عرفنا أيضا أن الأب يمارس التجارة. أما النحيل فهو ( منذ أكثر من عشر سنوات لا يزال كاتبا غير معروف ولولا ما ورثه من أمه ا لقضى الجوع عليه ). نبهه النحيل الى أنه يكرر مثل هذه المواضيع في كل لقاء ومن الأفضل أن يترك الكلام عن الأم التي لم تقصر معه أيضا. فلولاها لبقي من دون تجارة ومرتادا دائميا لمقهى ( أبو خزعل ). لاحظنا أن الأب سكت لبضع ثوان ثم انفجربعدها بكلام قريب من الهذيان ( شنو ؟! ومن من أسمع ... مثل هذا الكلام الواكع ! هيج صارت الأمور! ولد ما يعرف قدر نفسه و...و ...و ...يتعدى على أبوه . هيج صارت أحوال هالدنيا الكسيفة ! ... ) . جرّالنحيل ، بعنف ، كم سترة الأب وهدد ه بأنه سيتركه وحيدا في الشارع اذا استمر ب( العياط ). كان النحيل يصارع حنقا طاغيا حاول أن يكتمه بالنطق عبر صرير الأسنان. هدأ الأب فجأة وحتى أنه زاد من سرعة خطواته الا أنه تباطأ من جديد حين أدرك بأنه قد ترك وراءه الابن. حين استوى سيرهما أخذ الأبن يتكلم بصوت خافت أراده أن يكون بالغ الهدوء عن أن الأب لا يفهم مشاكله ، وعلى العكس منه ، فهو يفهم مشاكل الأب : تجارة سلّمها للص يسرقه يوميا ، ضغط الدم المرتفع ، الوحدة في مثل هذه الشقة الصغيرة التي ينعتها الأب ب( قن الدجاج ) ، الغيظ المتنامي في كل يوم ، من الابن الذي لا يريد السكن معه ، الخرف المبكر الذي أصاب أخته ( أم حفظي ) شبه الوحيدة بعد أن فقدت اثنين من أبنائها في الحرب الأخيرة ، وثالثا كان أحمق والتحق بميليشيا اختصاصها السرقات الكبيرة والاغتيالات ثم قتلته ميليشيا مناوئة ، مراجعات لطبيب الأسنان بسبب تسوّس الأسنان والالتهابات الدائمة للثة. اضاف النحيل الى تعداده لمشاكل الأب أخرى بينها أن للأب خيارين فقط : اما أن يسكنا معا واما الوحدة ، رغم أن هناك مخرجا آخر تكلم النحيل عنه باقتضاب بالغ ، لكني وفؤاد فهمنا أن المقصود رفض الأب زيجة جديدة سعى بعض الأقرباء الى عقدها. كان الأب يستمع بهدوء. أظن أن فؤاد فكر مثلي : هدوء الأب دافعه الخشية من أن يدير الابن ظهره له ويقطع الصلة. كف النحيل عن الكلام ، ولبضع دقائق ساد الصمت مما أرغمنا على الابتعاد عن الاثنين ببضعة أمتار كي لا ينتبها الى أننا وراءهما.
أخذنا نقترب من الشارع الرئيسي وضجيجه. بعد الصمت أخذ الأب يتكلم بالهدوء نفسه ، وقال بأنه صحيح تماما جهله بمشاكل الابن رغم أنه سعى دائما الى أن تكون رعايته لابنه أحسن فأحسن.
تبين لنا أن الاثنين ذاهبان الى ( أم حفظي ). اشترى النحيل برتقالا وعنقود عنب ثم واصلا السير باتجاه الجسر القديم. بدا فؤاد وكأن حمى فضوله قد ارتفعت كثيرا ، فقد اقترح ّ أن نواصل السير وراء الأب والابن ، فالنهاية قد تكون على الطريقة اليونانية القديمة كأن يقتل الابن الأب ثم يقوم بفقأ عينيه. وافقت على مضض ، و لأن معظم النهايات في هذه المدينة لا تزال أكبر من كل نهاية يونانية.
الضجيج الشرس حال دون تنصتنا لكامل حوارالاثنين ، لكن حين بدأنا السير على الجسرابتعدنا عنه. أردت أن أقول لفؤاد بأن المتعب في هذه الدراما الصغيرة أن الاثنين يسيران ببطء شديد ، ولا أنا معتاد عليه ولا أنت. وعندما اقتربنا من منتصف الجسر توقف الأب عن السير واتكأ على الحاجز. النحيف قال بما معناه أنه كان من الأفضل الذهاب الى الخالة بتاكسي، ف( الضغط العالي لايساعدك على المشي ). توقفنا نحن أيضا متظاهرين بالنظر في دجلة. واصل النحيل الكلام :
- أبويه . بقى أكثر من نص المسافة . ارتاح شوية وبعدين نشوف تاكسي.
وصلنا صوت الأب ، اللاهث قليلا :
- ابني ، لويش تبذير الفلوس على التاكسيات. ما بقى لبيت ( أم حفظي ) غير شمرة عصا.
هذه المرة وصلنا صوت الابن ، المتهدج بصورة واضحة :
- التوفير مو هنا لكن بغير مكان. ضغطك عالي وأنت ما تدير بال لهذا الموضوع من وكت الغدا. أربع لو خمس مرات تعاركت وياي.
سكت الأب قليلا ثم قال :
- اي صحيح العركة جانت عركتي ، وحضرتك جنت ملاك !
انتبهنا الى النحيل وقد نزل من الرصيف وهو يلوّح باثنتي يديه الى سيارة قادمة من جهة مركز المدينة ثم توقفت عند الرصيف أمام الاثنين. قاد النحيل الأب الى داخل السيارة التي ابتعدت عنا بسرعة ، وعجلاتها تطلق الأزيز المعروف.
كانت خيبة فؤاد هي الأكبر. وحين توجهنا الى المطعم حيث العشاء ، لم يترك فؤاد موضوع الأب والابن. قال بحماس :
- نعمان ! تراجيديا بصلبها ، ومن دون الحاجة الى قتل الأب وفقأ العينين...
لا أعرف كيف وجد صديقي في تعقبنا للاثنين مشروع تراجيديا مسرحية ، وبالنسبة له تلفزيونية. في الأخير نفض يده ببطء بما معناه أنه لن يتكلم أطول عن مغامرتنا في هذا المساء. أردت أن أذكره بكلمة لمارك توين : كل واحد هو قمر ويملك جانبه المظلم الذي لا يريه لأيّ أحد.
أما العشاء فكان لذيذا حقا ، ولزادت الجعة من لذته لكن اليوم هيهات في هذه المدينة التي تتظاهر بالتوبة مثل بغي صارت مهنتها كاسدة.
أنا الآن نزيل فندق ( دجلة ) للمرة الأولى. فالفندق الآخر المسمى ( دار السلام ) غادرته قبل ستة أيام. كان بالقرب من الأماكن التي أتردد عليها لقضاء أشغال رسمية في العاصمة. كان ضجيج الحافلات لايطاق في الصيف خاصة. أما الفندق الحالي فيقع في شارع جانبي وبعيد قليلا عن مزعجات مركز المدينة. يبدو الفندق وكأنه بيت كبير ذو طابقين. أجرته معتدلة ، وصاحبه يحرص على النظافة والهدوء. وكان قد دلّني عليه صديق قديم ألتقيته ، مصادفة ، في الشارع الرئيسي ، وها أنه يزورني كل ثاني مساء. صاحب الفندق وعدني قبل يومين بمصباح للمنضدة كي أستطيع القراءة والكتابة بصورة مريحة.
لا أعرف لم هذا الصداع الذي لا يخلو من الحدّة ويهاجمني حين أكون في العاصمة. قرأت قليلا ونقلت الكرسي الى النافذة كي أبحلق ، لغاية العشاء ، في الشارع والبيوت المقابلة. الشارع بدا مهجورا من المارة والحافلات. كثير من هذه البيوت مضاء. الستائر مسدلة على معظمها. أنتبهت الى نافذة كبيرة عارية من الستائر. أثاث الغرفة متواضع رغم كثرته. وراء طاولة جلس رجلان يقابل أحدهما الآخر. بدا لي أنهما أبكمان ، فحركات أيديهما لا تتوقف. كان المكان مضاء بصورة سيئة ولذلك لست موقنا من أنهما أبكمان. فكثرة الحركات لا تعني البكم عندنا. في كل الأحوال بدا الأمر وكأنهما في عراك دائم. أحد الرجلين بدين قصيرالقامة وعلى العكس من الآخر الذي كان نحيلا وطويلا. يشترك الاثنان في طريقة التصرف العصبي. البدين ينهض ويذرع المكان ذهابا وايابا ، وحين يعود الى كرسيه يتوقف عند كرسي النحيل ويرفع يديه وينزلهما كاشارة الى أقصى حالة من الغيظ. النحيل لايفعل هذا الشيء بل يكتفي بالوقوف وسبابته فوق رأس البدين ويحرّك يده الى أعلى أكثر من مرة. واضح أن غيظه هو أشد من غيظ الآخر. بعد كل نوبة من هذا النوع يجلس البدين ساكنا منكس الرأس .النحيل يبقى بدون حراك أيضا. لكنه ينظر ، وهكذا يخيّل اليّ ، الى الجدار وراء البدين . بدت الحال وكأنها جولات ملاكمة تتخللها فترات استراحة قصيرة .
ها أن الأثنين يستأنفان الشجار. وحصل هذا أربع مرات أثناء جلوسي أمام النافذة. البدين يلبس ( دشداشة ) ذات لون قهوائي فاتح ، أما النحيل فيرتدي بذلة من طراز قديم. في الغرفة فراشان جلس البدين على أحدهما الآن. ربما الفراش الآخر ليس للنحيل ، اي أنه قد يغادر المكان في الأخير. كانت فكرة مضحكة أن أقوم بالتأكد من أن الفراش ليس للنحيل خاصة أن شعوري الداخلي أوحى لي بما قلته عن هذا الفراش...
سمعت طرقا خفيفا على باب غرفتي. اللعنة ! تذكرت أني على موعد مع هذا الصديق. اسمه فؤاد ، وكنا قد اتفقنا على أن نتناول العشاء في مطعم على ساحل النهر امتدحه كثيرا. انها الساعة الثامنة ، ولايهم اذا تأخر العشاء ، فيوم غد هو الجمعة. وافق فؤاد على اقتراحي بشرب القهوة قبل خروجنا. انشغلت باعداد القهوة لبضع دقائق ، وأثناءها أخبرته بما حدث لغاية الآن بين البدين والنحيل. فؤاد ، وهو مخرج تلفزيوني ، أعجبه أني أصبحت ( بصّاصا لكن ليس مع سبق الاصرار ) ، وأخذ يتكلم عن فلم هتشكوك ( النافذة الخلفية ). ذكرّني بأننا كنا قد شاهدناه سوية قبل سنين. سألني اذا كانت لدي رغبة في مواصلة النظر في ما يحدث بين ذينك الاثنين أم يمكننا مغادرة الفندق. أظن أن فؤاد توّجه لا شعوريا صوب النافذة. التحقت به. لاشيء عدا أن البدين يرتدي الآن بذلة قديمة. أخبرت فؤاد بأنه أبدل لباسه مما قد يعني أن الاثنين سيتركان المكان.
كان فؤاد قد شرب قهوته ووافق على اقتراحي بالخروج وتعقب البدين والنحيل كي نعرف (جلية الأمر ). حين صرنا في الشارع لمحت الاثنين يسيران ببطء على الرصيف المقابل. كان الشارع سيء الانارة ، وهو شيء جيد اذا أردنا مواصلة التنصت. في الأخير صارت المسافة بيننا بضعة أمتار. أخذنا نسمع بوضوح كاف كلام البدين. كان صوته ثاقبا ويبطيء في كلامه. اكتشفنا أنه أب النحيل الذي هو الآن أكثر هدوء حين يستمع الى أبيه الذي لم يتوقف عن الكلام طوال السير على الرصيف شبه المظلم. عرفنا أيضا أن الأب يمارس التجارة. أما النحيل فهو ( منذ أكثر من عشر سنوات لا يزال كاتبا غير معروف ولولا ما ورثه من أمه ا لقضى الجوع عليه ). نبهه النحيل الى أنه يكرر مثل هذه المواضيع في كل لقاء ومن الأفضل أن يترك الكلام عن الأم التي لم تقصر معه أيضا. فلولاها لبقي من دون تجارة ومرتادا دائميا لمقهى ( أبو خزعل ). لاحظنا أن الأب سكت لبضع ثوان ثم انفجربعدها بكلام قريب من الهذيان ( شنو ؟! ومن من أسمع ... مثل هذا الكلام الواكع ! هيج صارت الأمور! ولد ما يعرف قدر نفسه و...و ...و ...يتعدى على أبوه . هيج صارت أحوال هالدنيا الكسيفة ! ... ) . جرّالنحيل ، بعنف ، كم سترة الأب وهدد ه بأنه سيتركه وحيدا في الشارع اذا استمر ب( العياط ). كان النحيل يصارع حنقا طاغيا حاول أن يكتمه بالنطق عبر صرير الأسنان. هدأ الأب فجأة وحتى أنه زاد من سرعة خطواته الا أنه تباطأ من جديد حين أدرك بأنه قد ترك وراءه الابن. حين استوى سيرهما أخذ الأبن يتكلم بصوت خافت أراده أن يكون بالغ الهدوء عن أن الأب لا يفهم مشاكله ، وعلى العكس منه ، فهو يفهم مشاكل الأب : تجارة سلّمها للص يسرقه يوميا ، ضغط الدم المرتفع ، الوحدة في مثل هذه الشقة الصغيرة التي ينعتها الأب ب( قن الدجاج ) ، الغيظ المتنامي في كل يوم ، من الابن الذي لا يريد السكن معه ، الخرف المبكر الذي أصاب أخته ( أم حفظي ) شبه الوحيدة بعد أن فقدت اثنين من أبنائها في الحرب الأخيرة ، وثالثا كان أحمق والتحق بميليشيا اختصاصها السرقات الكبيرة والاغتيالات ثم قتلته ميليشيا مناوئة ، مراجعات لطبيب الأسنان بسبب تسوّس الأسنان والالتهابات الدائمة للثة. اضاف النحيل الى تعداده لمشاكل الأب أخرى بينها أن للأب خيارين فقط : اما أن يسكنا معا واما الوحدة ، رغم أن هناك مخرجا آخر تكلم النحيل عنه باقتضاب بالغ ، لكني وفؤاد فهمنا أن المقصود رفض الأب زيجة جديدة سعى بعض الأقرباء الى عقدها. كان الأب يستمع بهدوء. أظن أن فؤاد فكر مثلي : هدوء الأب دافعه الخشية من أن يدير الابن ظهره له ويقطع الصلة. كف النحيل عن الكلام ، ولبضع دقائق ساد الصمت مما أرغمنا على الابتعاد عن الاثنين ببضعة أمتار كي لا ينتبها الى أننا وراءهما.
أخذنا نقترب من الشارع الرئيسي وضجيجه. بعد الصمت أخذ الأب يتكلم بالهدوء نفسه ، وقال بأنه صحيح تماما جهله بمشاكل الابن رغم أنه سعى دائما الى أن تكون رعايته لابنه أحسن فأحسن.
تبين لنا أن الاثنين ذاهبان الى ( أم حفظي ). اشترى النحيل برتقالا وعنقود عنب ثم واصلا السير باتجاه الجسر القديم. بدا فؤاد وكأن حمى فضوله قد ارتفعت كثيرا ، فقد اقترح ّ أن نواصل السير وراء الأب والابن ، فالنهاية قد تكون على الطريقة اليونانية القديمة كأن يقتل الابن الأب ثم يقوم بفقأ عينيه. وافقت على مضض ، و لأن معظم النهايات في هذه المدينة لا تزال أكبر من كل نهاية يونانية.
الضجيج الشرس حال دون تنصتنا لكامل حوارالاثنين ، لكن حين بدأنا السير على الجسرابتعدنا عنه. أردت أن أقول لفؤاد بأن المتعب في هذه الدراما الصغيرة أن الاثنين يسيران ببطء شديد ، ولا أنا معتاد عليه ولا أنت. وعندما اقتربنا من منتصف الجسر توقف الأب عن السير واتكأ على الحاجز. النحيف قال بما معناه أنه كان من الأفضل الذهاب الى الخالة بتاكسي، ف( الضغط العالي لايساعدك على المشي ). توقفنا نحن أيضا متظاهرين بالنظر في دجلة. واصل النحيل الكلام :
- أبويه . بقى أكثر من نص المسافة . ارتاح شوية وبعدين نشوف تاكسي.
وصلنا صوت الأب ، اللاهث قليلا :
- ابني ، لويش تبذير الفلوس على التاكسيات. ما بقى لبيت ( أم حفظي ) غير شمرة عصا.
هذه المرة وصلنا صوت الابن ، المتهدج بصورة واضحة :
- التوفير مو هنا لكن بغير مكان. ضغطك عالي وأنت ما تدير بال لهذا الموضوع من وكت الغدا. أربع لو خمس مرات تعاركت وياي.
سكت الأب قليلا ثم قال :
- اي صحيح العركة جانت عركتي ، وحضرتك جنت ملاك !
انتبهنا الى النحيل وقد نزل من الرصيف وهو يلوّح باثنتي يديه الى سيارة قادمة من جهة مركز المدينة ثم توقفت عند الرصيف أمام الاثنين. قاد النحيل الأب الى داخل السيارة التي ابتعدت عنا بسرعة ، وعجلاتها تطلق الأزيز المعروف.
كانت خيبة فؤاد هي الأكبر. وحين توجهنا الى المطعم حيث العشاء ، لم يترك فؤاد موضوع الأب والابن. قال بحماس :
- نعمان ! تراجيديا بصلبها ، ومن دون الحاجة الى قتل الأب وفقأ العينين...
لا أعرف كيف وجد صديقي في تعقبنا للاثنين مشروع تراجيديا مسرحية ، وبالنسبة له تلفزيونية. في الأخير نفض يده ببطء بما معناه أنه لن يتكلم أطول عن مغامرتنا في هذا المساء. أردت أن أذكره بكلمة لمارك توين : كل واحد هو قمر ويملك جانبه المظلم الذي لا يريه لأيّ أحد.
أما العشاء فكان لذيذا حقا ، ولزادت الجعة من لذته لكن اليوم هيهات في هذه المدينة التي تتظاهر بالتوبة مثل بغي صارت مهنتها كاسدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق