الجمعة، 31 يوليو 2015

قصة قصيرة روايتي ذات العالمين- عدنان المبارك

قصة قصيرة


روايتي ذات العالمين


عدنان المبارك

- إذا أردنا أن يكون الواقع محتملا ، علينا جميعا أن نبقي فينا بضع حالات جنون صغيرة. مارسيل بروست


1/2

كل ما سأقوله هو الحقيقة بعينها ، وأقصد روايتي التي سأجهد في نقلها بكل أمانة. أحداثها نسجت في منطقتين : الأولى هي أحلام من قبل أسابيع. بدت كأنها حلقات من مسلسل ليس غريبا عليّ تماما ، فقد إمتزجت فيه وقائع وتصورات من حياتي مع أخرى أجهل مصدرها ، وبقي بعض أبطال أحداثها غير معروف ، كما أني لست موقنا من أن جميعهم كانوا بشرا. ربما كائنات عاقلة أخرى. أما المنطقة الثانية فكانت وقائع من حياتي الرمادية خُلِطت معها بعض الأصوات الداخلية وتصوراتي عن الآخرين والعالم ، وهذه كلها ترافقني ، ومن دون مبالغة ، ليل نهار.
في بدايته كان الحلم الأول عاديا وكأنه من حياتي اليومية التي لاتعرف ، إجمالا ، الإثارة ولا الإنعطافات الخطرة : كل شيء شبيه بمجرى جدول صغير لايسمع حتى خرير مائه. فأنا معوق جسميا حين تعرضت في عام 1994 لحادث في سيارتي القديمة. لم أكن مخمورا بل كان ذاك الشرود المعهود للذهن والذي قادني ، بالقوة ، الى عمود ضخم من الباطون المسلح. جاءني شلل اليد والساق اليمنتين. تدربت طويلا على الكتابة والعمل باليد اليسرى ، كما تخليت عن ممارسة الجنس ورياضة العدو وبعض الهوايات التي كانت قد إستمرت عقودا ، كالنجارة والعزف على القانون الذي ورثته عن جدي - أب أمي. إلا أني لم أجد صعوبة كبيرة في مواصلة الهوايات الأخرى مثل زرع الخضراوات والورود في حديقتي الصغيرة وتربية زوجين من الحمام في قفص صنعته بنفسي قبل العوق ، كما هناك قن صغير للدجاج ، وقد يزعج الجيران صياح ديكه عند الفجر ، لكن لم تصلني لغاية الآن ، أي شكاية منهم. فالضجة الصباحية التي تعملها طيور السماء هي أعلى بكثير من صياح ديكي. أكيد أن حدب السلطات المحلية عليّ هو الأكبر ، ولو كانت أمي لاتزال حيّة لما صدّقت ، ولقالت : ( صدك هاي الحكومة يا وليدي ، عون مو فرعون ). كما أن لعوقي فوائدا ملموسة. فها أني صرت أملك وقتا أكبر للقراءة والتأمل وكتابة ما أشاء. إنها نعمة كبيرة حين يصبح جزء من العالم الخارجي عونا لك وليس كابوسا كما بقية الأجزاء. بدأ الحلم الأول بمشهد إيروتيكي إنتهى بسرعة حتى أني لا أتذكر من كانت شريكتي فيه. تحادثت أيضا مع كائن مجهول لا أعرف أكان إنسانا أم صوتا داخليا فيّ خرج الى المكان وتجسّد بهيئة مخلوق كل ما عرفته عنه أنه شبيه بالإنسان في تماثله : نصفه الأيمن شبيه بالأيسر. أنا أميل إلى الاعتقاد بأنه كان صوتا داخليا ، فما نطق به لا يبتعد كثيرا عن حكمي على أمور كثيرة بينها الإنسان والرب والمجتمع. واضح أن هذه أمور كبيرة ولم تسمح ثلاثة أحلام بإيفائها حقها. الكائن- الصوت فاقني في الهزء والسخرية والنظرة الصاحية الى ما حواليّ. وهذا أعجبني كثيرا. وفي هذا الحلم كان صوته ، أصوات كلماته ، عميقا يكشف عن
مزيج من الأسف والشكوى. وكما الحال في الحلم يضيع الزمن في منعطفاته. لا أعرف المدة التي إستغرقتها حواراتنا. لكني أتذكر جيدا أننا سرنا وكأننا في نزهة طويلة ، عبر وديان ومحاطين من كل الجهات بجبال خرافية العلو. في لحظة معينة سمعته يقول : الجبال. أظنني ولدت بين هؤلاء العمالقة. ومن هنا شعوري بالضآلة. غريب أن الإنسان المولود في هذا المكان لا يشعر أبدا بالضآلة. ربما لأنه يشعر بالحماية تماما وكما شعور الطفل المدلل. نعم ، واضحٌ أنه صوت داخلي. فما قاله مطابق تماما لما كتبته مرة عن الجبال. أخبرني بأنه سبق له أن كان مرات في هذه الوديان. وفي كل مرة يجيئه الإحساس بأن كل واقع هو عبث ، وكما تقولون هو سخف وشيء خال من المعنى. ففي كل حضور ، هنا ، أجد أن واقعا آخر بالإنتظار ، واقعا حرباويا يتلون مع الإثنين – الماضي والحاضر. ثلاثة أرباع الإنسان فارغ يريد أن يضع الرتوش على ماضيه بل التمرد عليه مما يعني التمرد على ملياردات من السنين ، وعلى الخلية الأولى ( إكتشفت أن هذا قول لمفكر معاصر ، وبهذا الصورة إزداد يقيني من أن الكائن قاطن في لاوعيي ) . بعدها إختفى فجأة ودخلت أنا دوامة ً ناطحت الزمكان : أحداث تتعاقب بكل منطق ثم يطرأ العبث والفوضى الطائشة عليها ، وعليّ أيضا. وهذا ما أتذكره من الحلم الأول الذي لم يكن أسود كله بل كانت هناك ألوان أخرى رغم سطوعها الضعيف : وجه تتراجع ملامحه أمام عينين كبيرتين فارغتين مثل فمه. شحوب وجه ميت تخطى ، من زمان ، السبعين. ترتفع فجأة يداه كي تغطيا نصف الوجه. لم يبق هناك غير أنف صقري وتينك العينين. بدتا كأنهما تتضرعان الى السماء رغم أني لم أر أية سماء. كانتا تنظران بيأس وتوسل مطلقين الى أعلى. إنخفضتا. بان الوجه بكامله من جديد. يصلني صوته مثل موجة تصعد وتهبط ببطء تماما كموجة نفط تدفق من ناقلة تعرضت لكارثة توجهت على الفور الى أحد السواحل. كبرت المسافة بين الوجه وما فوقه. ظهر قرص لشمس بشعة مثقبة كالمنخل ، وحشية ٍ تلقي بألوان قاسية على ذلك السائل الأسودالكثيف الذي تحوّل الى أشداق تمساحية تريد أن تبتلع الساحل. أناعلى مبعدة آمنة. يغوص الوجه في هذه الستارة الأفقية السوداء المتماوجة ويظهر من جديد. الفم يتكور وينبسط. لا أسمع ، بوضوح ، الأصوات الخارجة من هناك. أحزر فقط اللاصوت الذي يطلقه الفم : “ كنت أعرف هذا في عمر العشرين. خمسون سنة ضائعة في مثل هذا الإنتظار “. جاءتني رغبة في التحاور كي أخفف عنه وقع الحقيقة ، حقيقته. باغتني خجل من أني في وضع أحسن بكثير. غاص من جديد ثم ظهر هذه المرة من الرأس الى الركبتين. ظل مصدوما ، ذاهلا رغم قوله بأنه عرف الأمر عندما كان في عمرالعشرين. إنقلب ذهول وجهه الى إعتراف صامت بواقعه. فتح فمه ونطق. مرة أخرى لم تصلني كلماته واضحة لكنه إنتبه هذه المرة وكرر ما قاله ببطء وبصوت عال : ( العزاء هو في الحقيقتين : أني موجود وغير موجود تماما وكما هي الحال مع كل شيء ). جاء دوري كي أكون ضحية للصدمة والذهول حين إكتشفت بأني أعرف الوجه من قبل. ليس تماما. هو يذكرني بوجه آخر. وجه كاتب إيطالي لا يعرف بالضبط لم إنتحر. وبهذه الصورة بُتِر حلمي الأول . كان الحلم الثاني لقاء قصيرا مع صاحب الوجه نفسه. حلم متقطع من بدايته الى النهاية بل بدا مثل مرآة جاءها حجر كبير وصارت شظايا صعب عليّ جمعها . كانت هناك شظايا كبيرة لكنها من أماكن متفرقة. وهذا ما أتذكره من ذلك الحوار:
هو - الأوبئة كثيرة . لكن الأخرى التي لا تهاجم الجسم هي الأخطر. بعضها إكتشفها الإنسان منذ أن إمتلك العقل. ربما قبلها. الشك ، اللايقين ، الريبة وغيرها من منغصات الروح. السعي هنا هو الوصول الى اليقين التام. مائة بالمائة ، أليس كذلك ؟ بهذه الصورة أضاع هو الإثنين – ضيّعَ المشيتين!
أنا - ( تذكرت المثل الرائج في بيتنا القديم خاصة : “ لا حظت برجيلها ولا خذت سيّد علي “ و لم أتردد في أن أذكره كدعم للمثل عن تضييع المشيتين ) نعم ، لا حظت برجيلها … !
هو – بالضبط ! لكن هناك مطبا خطرا آخر ، وربما لم تنتبه إليه ، أو أنك لم تقرأ ماقيل في موضوعه أيضا ، أقصد أن هناك من يعتاد على الريبة أو اللايقين الى درجة شعوره بفخر من نوع خاص : إذن أنا أعلو بلايقيني ولا أنقاد ، مثل بقية الخراف ، الى اليقين. لا ، أبدا ، فأنت لاتعتبر نفسك أذكى من الاخرين، بل أقل سذاجة منهم. من ناحية أخرى فكلما يشعر واحدنا بتفاهته ، بالحد الأدنى من قيمته ، يكن إحتقارا أكبر للآخرين ، بل يحصل الأسوأ : كفوا عن أن يكونوا موجودين بالنسبة له...
أما في ( الشظية ) الثانية فكانت هناك ضحكات متبادلة إثرتعليق أطلقه الكائن على الإنسان : ( هناك من هذا الجنس البشري من لايريد أن يكون إنسانا. إنه يحلم بشكل آخر من التدهور ) . أتذكرُ أني ضحكتُ عاليا ، أعلى من ضحكته التي اعقبت تعليقي : ( لكن هناك من يشتهي أن يكون من أكلة لحوم البشر ، وليس لأن إلتهام أحدهم يأتي بالمتعة ، بل بالأحرى تقيؤه ).
وهذا كل ما أتذكره من حلم ( الشظايا ).

أماالحلم الثالث فكان شديد الغموض ، بل لم يبق منه سوى نتف بالغة الصغر: هذا المخلوق يملك الكثير من عاداتنا السيئة : يدخن بنهم ، يحك جلده كمن أصابه الجرب ، يمسك بيده قنينة شراب كحولي يكرع منها. يتجشأ بصوت عال. يطلق ريحا بكل لامبالاة ووقاحة. لا أعرف ما قاله إلا أنه كان بالغ الحكمة. أظنه تعمد في خلق مثل هذا التعارض السمج بين الجسم والعقل. لكن نكاية بمن ؟ بي ؟ بالإنسان عامة ؟ بالرب ؟ وفي الأخير طلب مني نقودا كي يرتاد دار بغاء يعترف الجميع بها ولايعترفون كما قال. ألح في طلبه الى درجة أنه أراد رشوتي بإطلاق حكم أخرى. أتذكر منها القليل : آخذا بعين الإعتبار ضعف ساعدي لما إستطعت أن أكون جلادا. / الثقافة مشروطة بالضعف الجسمي لدى الإنسان. / لا أقدر على تصور الله الذي يعفو ويعاقب كائنا خلقه هو بنفسه، ويفكروفق مقاساتنا أيضا. بإختصار : إنه الله الذي ليس إلا إنعكاسا لأحوال الضعف البشري. /كل ما كان الجسم أضعف يحكمنا أقوى. / قوة صغار الناس تكمن في عددهم. / أسوأ خطايانا إزاء أخوتنا ليست الكراهية بل اللامبالاة ، ولأنها غير بشرية . / القوة التي لا يرافقها الشعور بالمسؤولية هي الخطرة بأفظع الصور...
وفي الأخير أعطيته النقود. إختفى على الفور من هذا الحلم. خيّل إلي بأني كنت أسمع قهقهات أطلقها. ربما غناء ، ربما لحنا أو جزء منه ، كنت قد سمعته في أماكن تعود الى ماضيي في تلك المدينة التي لم ينسها الإثنان- الرحمن والشيطان...
أنتقل الآن الى المنطقة الثانية في روايتي. منطقة غريبة. لاتعرف الإعتدال وخلق توازن مقبول بين الخارج والداخل حيث يخيل إلي بأن لاوجود للأول في معظم الأحوال بل هيمنة الثاني الفظة. وهنا لا أفتقد مختلف أنواع الحجج والبراهين والمبررات ، فهذا العالم الخارجي هو أحد الذئبين المتعاركين فيّ. الثاني هوعالمي. لا أعرف أيّ منهما أطعمه كي يواصلا العراك ، كي ينتصر أحدهما في الأخير. لا أعرف هل صحيح هو القول بأن العالم سيصبح أفضل إذا إستثنى الإنسان مبدأ العين بالعين. أميل الى الإعتقاد بأن العالم لامبال ، ولامبالاته تنعكس فيّ. فعلاقتي بالأشياء ، وياللغرابة ، قائمة كلها على اللامبالاة. لا ، ليس تماما ، وإلا لغرقت في الأوساخ وإنداحت دوائر جنوني أوسع فأوسع. ليس جنوني الخاص بل جنون العالم والذي أفرزه فيّ. هذا واضح ، وإلا من أين الجنون الذي يصبح أكثر فأكثر شبيها بتسونامي الطبيعة. الطبيعة ، العالم ، الجنون ، أهي كل صادرات الله المعفية من الرسوم الجمركية ! لا أتفق مع زميل يمارس ، مثلي ، الكتابة في أوقات الفراغ فقط ، حين منح صك البراءة للعالم ، وإتهم الإنسان ، وبالضبط غير المؤهلين منا ، على ما حصل ويحصل، وما سيحصل أيضا. منطق غريب حقا. فلا أظن أن العالم كان أفضل قبل مجيئنا. لا أحد يقنعني بأن العالم في تبّدل ، فالأمر كله لا يعدو أن يكون ظهور حلقات جديدة من مسلسل الجنون الذي خُلق مع النطفة الأولى ). الساذج وحده يملك الوهم بأنه يرى العالم في كل مرة ، كما لو كانت هي الأولى. نعم ، الأسرار تحاصرنا ، ونحن نتظاهر بأننا نعرف هذا وذاك بل نفهم كل شيء ولأن شماعة الله هي عند الطلب. أكيد أن صمتا عظيما سيطبق على العالم لو تحادث الناس عما يفهمونه فقط. الناس. المحادثات. الفهم.
كلها أمور كمالية لست بحاجة إليها. فكم من مرة إكتشفتُ / خلقتُ / إخترعتُ ، وأنا في عزلة نموذجية ، كل هذه الإكسسوارات التي أستطيع ، ببساطة ، أن ألقيها من نافذتي. قاموسي يحوي كلمات أخرى. الوحدة ، سراب السكينة ، الدوران مع الأنا والتمخطر بمعداتها أمام أنصار العالم والعقل الذي نفخوه فوق طاقته. كلا ، أنا أفضل بل أنا منجذب كقطعة حديد صوب مغناطيس الفراغ ، صوب الوحدة ، صوب ظلام يمحو الهيئة الخارجية للعالم. أقول أيضا إنني أتوق دائما الى الغناء في الظلام ، فالضوء يقطع أوتاري الصوتية. ولاخجل من هذا ، فالكثير من أشقائنا اللبائن يعيش في الظلام. وحتى قبل عوقي كان العالم قد كف عن أن يثير إهتمامي. صحيح أني أردت ، لكن قبل سنين ، أن أعرف كيف الوصول الى نهاية العالم. فضول طفولي. الأطفال مقتنعون تماما بأن هناك نهاية للعالم. وهو شيء رباني ، ملائكي ، جميل جدا أن تكون طفلا ينظم الفوضى أو يبعثرها كما يشاء ، تماما كما في كتب توفه يانسون: ( مومين الصغير تصور نفسه شجرة زان. إنحنى الى النصف وأخذ يتحرك عبر أكوام من الأوراق الميتة ثم نهض ناشرا حوله ضبابا. في الأخير تنهد ونظر بحنين الى النافذة. شعر بأنه المخلوق الأكثر وحدة في العالم ). هكذا كتبت في ( بابا ومومين الصغير والبحر). لقد عرفتْ جيدا أن كل وحدة تعني رفضا للعالم وأيّ كانت المتع التي يوفرها. كل المومينات لاتعرف بأن الفوضى هي النظام الذي دُمِّرعند خلقِ العالم ِ. كثيرون يتفقون مع ستيفن كنغ بأن العالم هو مكان صعب حقا. صعوبته في لاإكتراثه لك ولي رغم أنه لا يكن لنا الكراهية ولا الحب. لا حاجة الى القول بأن أمورا فظيعة تحدث فيه. أمورا لا نعرف كيف تفسَّر.
يوستين غوردير وقع في أردأ سوء فهم : ( لسنا نحن من يجيء الى العالم بل العالم يأتي إلينا. أن تولد لايعني الأمر أكثر من أنك قد وُهبت العالم كله ). كيف يا أخي ؟ وما هي هذه الهدية ؟ لو كان الأمر متعلقا بهدية من نوع آخر كأن يأتي هذا العالم الينا ونحن بلا جسد ووعي وعقل ، لفهمته على الفور. أو لنأخذ تلك الرسالة التي وجهها إليّ قاريء لا أعرف شيئا عنه سوى : ( جمال ج. ). قد أتفق معه. فهناك هوس ليس بالصغير في قصصي وغيرها يتعلق بهذا الحفر المستمر في النفس وتحجيم العلاقة مع كل ماهو خارجها. هناك مثل هذه النتف لجمال ج . : ( أنت من دون جذور... أنت تحتقرنا جميعا من خلال إحتقارك للزمان والتأريخ والخالق الأكبر … أنت لا تخرج من ثقبك المظلم ولا أعرف هل تجهل أن هناك شمسا أم أنك تخشى أن تعميك ... أنت … أنت … إلخ). سيدي جمال ج . كل ما تقوله صحيح عدا أمر واحد وهو أني لا أكن الإحتقار لك والباقين بل أكاد أنفجر بسبب هذا القدرالذي يطاق من الرثاء لنفسي وللجميع. ليس ذنب أحد ، عدا الفيزياء ، حين يحصد تسونامي معيّن مثل هذا العدد المفزع من البشر. أرجوك ، لاتصدقْ أن هذه النكبات ، بل كل النكبات هي من فعل الله. ولنكن منصفين ، ونبعد عنه شماعة ذنوبنا وجرائمنا وحماقاتنا ( في الحقيقة كتبت ردا طويلا ، وقد فوجئت بأنهم نشروه كاملا ، فهذا عمل تطلب شجاعة هي نادرة في زمننا الغاطس في اللاحلول أوأنصاف الحلول أو ربعها أو جزءا منها لايرى بالعين المجردة ، وصفقات البيع والشراء وغير ذلك من الممصالح التي أزاح محرابها محراب الله )... في ردّك كشفت عن أنك تملك فكرة ملموسة ، لكنها أُجهضت مبكرا، عن الوحدة التي ، وكما كتبتَ ، تعود بالإنسان القهقرى الى ما قبل كل أجناسه بدء بالإنسان المنتصب القامة وإنتهاء بالعاقل... يا أخي أنت تخطيء كثيرا، وكما يبدو أنت تحب القراءة لكن تلك التي قالت عنها فتاة جميلة ( عرفت هذا من صورتها التي أرفقتها بنص عاطفي جدا ، رومانسي جدا لكني وجدت أيضا بين السطور إيروتيكية لم تستطع الجميلة أن تكتم رائحتها ) بأنها تمنحها متعة كبيرة ومن نوع خاص. المسكينة فرجينيا وولف كتبت في ( أورلاندو ) : (… إلتذَّ بشعورأنه لوحده دائما ، ودائما ، ودائما ). أتراجع هنا ، لكن قليلا ، بالقول إن وحدة الإنسان ذات بعد ميتافيزيقي مطلق ولاعلاقة لها بكينونته البيولوجية ولا الإجتماعية. في ( المسيرة الكبرى ) لستيفن كنغ نقرأ : ( ... القضية الأساسية هي التفكير ، تأملها غاراتي Garraty . التفكير ، التفكير والوحدة ، وليس بالمهم مع من تقضي الوقت ، ففي النهاية أنت وحيد ). كذلك إستشهدتُ في رسالتي الى جمال ج. ، بإعتراف صغير ، لكنه ديناميتي أيضا ، جهرَ آينشتاين به : ( أنا جوّال وحيد حقا ولم أنتم ، ومن كل قلبي ، الى بلدي وبيتي وأصدقائي بل وحتى الى عائلتي الأقرب. وهكذا لم أفقد أبدا البون والحاجة الى العزلة ). رغم كل الجهد الذي بذلته لم أخدع النفس بأني أقنعت جمال ج. ولو قليلا ...

أعود الى كتابة هذا النص. توقفت عنها لأكثر من ثلاثة أاسابيع. داهمتني أثناءها أمراض غريبة لم يفلح طبيبي ذو الصوت المخملي والحركات السريعة ، في تشخيصها جميعا. كانت هناك إنفلونزا عادية لكنها قصفت ، بلا رحمة ، الجزء السليم من الجسم . ظهرت لطخ حمر على الساق
المشلولة سرعان ما تحولت الى دمامل صغيرة ثم إختفت بعد أربعة أيام. صفير حاد ودائم في الرأس والأذن اليسرى خاصة. التشخيص : عطب قديم في هذه الأذن زائد عواقب الضعف العام وفقدان حوالي 10 كغم من وزني. نصحني أيضا بأن أكف عن التمارين الصباحية والتعويض عنها بالجلوس على كرسي مريح في الحديقة ( لكن ليس طويلا ، فالشمس في حالتك يكون ضررها أكبر من نفعها ). اثناء الجلوس على الكرسي صرت أقرأ الصحيفة المحلية يوميا. ما أثار إنتباهي أن فيها أخبارامرهبة عن منطقتنا التي تحولت فجأة الى سدوم وعامورة بل أفظع بكثير :عدا اللواط والزنا ومضاجعة الأم والأخت كانت هناك جرائم القتل والسرقة وحرق البيوت والمتاجر ( بالأحرى متجرين لاغيرهما ). ما أثار إستغرابي أن مثل هذه الأخبار لم تظهر في نشرات التلفزيون والميديات الأخرى. وما زاد من فزعي أن هذه الأخبار ذات صدقية. فالشوارع المذكورة فيها هي شوارعنا ، كما خمنّتُ أن بعض أبطال هذه الأخبار أعرفه بحكم الجوار ( في الصحيفة ذكرت الأحرف الأولى من الأسماء فقط ). رغم ذلك بقي عندي كثير من الشكوك ، فكل شيء عندنا هاديء ، كالعادة ، إذن كيف حدث كل هذا ولم أنتبه إليه ؟... كانت قراءة تلك الأخبار تجربة بالغة القسوة حتى أني فكرت بأن محررها لجأ ، وكما هي العادة في الميديات ، الى الإثارة الرخيصة. في كل الأحوال قمتُ بحفظ هذه الصحيفة في حاسوبي كي أعود إليها عند الحاجة. إلا أن المصادفة جمعتني بجاري اللطيف ( أ . ي ). سألني عن أحوالي الصحية ، وكان قد لاحظ زيارات الطبيب ، ثم أبدى إستياءه مما نشر في تلك الصحيفة : - عزيزي هير نعمان . لكل شيء حدوده ، وحتى لو كان الأمر يخص إختلاق ساينس فيكشن أو حكاية للأطفال. لكن أن يأتيك كويتب ويتسلى بدور البصاص ثم يكتب عنك ما يشاء ، فهذا غير مقبول أبدا … لا خلقيا ولا قانونيا ، أليس كذلك ؟ بالطبع لا إعتراض لدي على الكتابة الفيكشنية ، لكن لماذا زج أناس أحياء بها مثل ذكر مختصر أسمائهم وأسماء شوارعهم ، في مثل هذه السرحات السردية ؟ ماذا يا عزيزي ، يبدو أنك جاهل بما حدث ؟ أنت معذور بالطبع ، شأن كل مريض. أها ، أنت قرأت الصحيفة ! لكن يا عزيزي لم تكن تلك أخبارا بل الجزء الأول من رواية هذا الكويتب. هير روبرت ، وآمل أنك تعرفه ، فهو يسكن في شارعنا أيضا ، وعد ببحث القضية وهل هناك فرصة لرفع دعوى ضد هذا الكويتب الذي إرتكب جرم التشهير. وإذا أردتَ أن تعرف رأيي بكل هذا ، فأنا أجده جنونا ، وإذا إستمر بهذه الصورة فسوف يختفي الواقع الذي شُيّد ،عندنا ، بكل صبر وطويلا. أرجو أن تفتح صندوق بريدك ، فالساعي أخطا مرة أخرى : ألقى رسائلك في صندوقي. بإعتقادي أن الوقت قد حان كي يحال الرجل على التقاعد ...


ليست هناك تعليقات: