الجمعة، 31 يوليو 2015

سامح كعوش: بين الشعر والجنس علاقة المحفز على أجمل ما يمكن للشعر أن يقوله -محمد الحمامصي

سامح كعوش: بين الشعر والجنس علاقة المحفز على أجمل ما يمكن للشعر أن يقوله


محمد الحمامصي

شاعر في "هذا الليل سيطوي جناحاتي"، "غريب دم"، "سنجاب في المدينة"، "سريران وكفى"، و"أكحّلكِ بنجمة"، وناقد في "سؤال المفردة والدلالة"، "رؤى وردة المعنى"، "تحولات الرمل"، "مفتاح الريبة"، و"جماليات الأنا الشاعرة"، وروائي في روايته اليتيمة "غواية الماء"، إنه الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني سامح كعوش الذي تتجلى في تجربته خصوصية القلق الإنساني وتوهجه في تجلياته العربية خاصة، وتتشكل صورها من مخيلة خصبة تلتحم فيها الروح بالجسد ويعترك فيها الحضور مع الغياب وتتسق فيها اللغة مع الرؤية، هكذا تتقدم التجربة من عمل لآخر في سياق من الخصوصية والنسيج الشعري المتميز، الأمر الذي انعكس حتى على كتابته الروائية وقراءاته النقدية.. وفي هذا الحوار معه نتعرف على جوانب هذه التجربة وتجلياتها.
** بداية نود إلقاء الضوء على المرتكزات الأولى التي تشكلت في ضوئها ملامحك كشاعر؟
** أنا من المؤمنين جداً بأن الشاعر يولد شاعراً، وينشأ شاعراً، ويموت شاعراً، فلا هو صالحٌ للحياة ولا صالحٌ للتجارة ولا للأعمال ولا للعلوم حتى، لأن الفطرة التي يولد عليها تؤهله لهذا الحدث الجلل الذي سيحيا عمره باحثاً فيه وعن تحققه في مرآته، ومنذ صغري كنت أهذي بما يشبه الشعر، وكتبت القصائد المسجّعة في حصار بيروت وأنشدتها على أثير إذاعة لبنان العربي من داخل المدينة المحاصرة، وكانت أمي تشجعني دائماً، وتسمع قصائدي وتثني عليّ كثيراً، وكان أبي رحمه الله يسميني "الديك الفصيح" ولم أكن أبلغ من العمر الثانية عشرة بعد.
ولا شكّ في أن للبيئة المحيطة الأثر الكبير أيضاً، فقد كنا نحن فلسطينيي لبنان تحديداً، نعيش أزمة الهوية وفورة الشعور الوطني والقومي في أعلى مستويات تجليها، وكان مطلوباً من كل من امتلك موهبة الكتابة أن يدلي بدلوه في هذه التظاهرة اللغوية الجماهيرية بغض النظر عن مدى تحقيقها لطموحاته في الاشتهار ومدى اقتناعه هو نفسه بجدواها أو رضاه عنها بشكل عام.
** قدمت حتى الآن ستة أعمال شعرية آخرها "أكحّلكِ بنجمة"، هل يمكن تقسيمها إلى مراحل وكيف ترى لطبيعة كل مرحلة؟
** أعتقد أن المراحل في التجربة أمرٌ لا بد للشاعر من أن يعيه وينساق إليه طوعاً، تبعاً للسن وعمر التجربة والأدوات المتوفرة، وبالنسبة إلي فقد عشت المرحلة الأولى من عمر تجربتي الشعرية ملتزماً القيم الفكرية والإنسانية الكبرى في حب الوطن والانتماء الوطني والقومي، وكانت ثمرة تلك المرحلة مجموعتاي الشعريتان "هذا الليل سيطوي جراحاتي" 1991، و"غريب دم" 1993، ولكن بعد هاتين المجموعتين انشغلت أكثر بهم الصراع القرية المدينة، وتجربتي في مدينة بيروت، والبحث عن ملامح الإنسانية الغائبة في غابة الإسمنت ووجوه الأقنعة المستعارة، وتجلى ذلك في مجموعتي "سنجاب في المدينة" العام 1998، وبعد ذلك انشغلت أكثر بتجربة الاغتراب والسفر، وجبلتني هذه التجربة حتى عشت غربتي بكل معانيها، وأمانيها، وكان إصدار مجموعتي "سريران وكفى"، أما مجموعة "أكحّلكِ بنجمة" فكانت قمة اختمار تجربة العاشق في الشاعر، وانسكاب الشغف في شكل اللغة، واحتراق الذات بجمر ما يلبها من رغبات ولذات ممنوعة.
** تحتفي تجربتك بالجنس المفعم بتجليات الذات والعالم.. كيف ترى للعلاقة بين الشعر والجنس في القصيدة؟ وهل ثمة رؤية خاصة تنطلق منها في تجربتك؟
** اسمح لي أن أقول وبأعلى صوت، "التاريخ العربي كله جنس، والحاكم العربي كان بارعاً في الجنس أكثر من براعته في المعارك والبطولات الكاذبة، ولهذا جمع في قصره الواحد آلاف المحظيات والجواري والنساء، لكن التاريخ الرسمي لم يشر إلى هذا إلا قليلاً.
الجنس الذي يعنيه كل الناس هو علة هذا الوجود وأداة تناسل وتواصل للبشرية، و ليس من المعيب التطرق إليه في الشعر بل وفي التعليم والحياة نفسها بكل جوانبها المجتمعية والفكرية، بل من المعيب حقاً أن ننحط بفهمنا إياه عن فهم الأولين الذين تركوا لنا نفائس التراث المكتوب في الحديث النبوي والمباحث القرآنية، والشعر الجميل، وبعض الكتب المتخصصة كتاج العروس ومتعة النفوس، وظهر الربيع، وغيرها الكثير، أما الجنس الذي أعنيه أنا فهو هذا ومضافاً إليه لذة العاشق، وخوف العارف، وحكمة المتصوف، وروحية المنتشي بما لا يتحقق، لأنها لعبة الشاعر وإبداع مخيلته الدافئة.
نعم، أعمل على كشف الإرث العربي في هذا الجانب لأنه الأكثر صدقاً والتصاقاً بالحياة نفسها، وكشاعر أحتفي بالشغف واللحظة الواقفة في الزمن، حين يلتقي عاشقان بكل ما أوتيا من رغبة، وبكل ما كتبت لهما الحياة من انسكاب أنا الواحد في الآخر، عاشقان ولا يكفّان عن طلب المزيد، هذه هي العلاقة بين الشعر والجنس وهما واقعان في الحياة طبعاً، علاقة المحفز على أجمل ما يمكن للشعر أن يقوله، وأجمل ما يمكن للشاعر أن يقع فيه من الغوايات الملهمة بقصيدة دافئة، لا تتقن الرقص ولا تموسق مشاعرها تبعاً لمستفعلن فاعلن.
** تتنازع لغتك الشعرية لغة أقرب للغة الحياة المعاشة ولغة تنتمي إلى الشعرية العربية التراثية.. هل لنا أن نتعرف على العلاقة التي تربطك باللغة؟
** اللغة بالنسبة للشاعر هي مرجل المشاعر وأداة التعذيب ووسيلة التعبير، ولولا ما فيها من جماليات فائقة القدرة، وسحرية، وجاذبة وفنية، لما استطاع الشاعر أن يقول شيئاً، وبهذا فهو يستنجد بها، بل ويتأثر بها، فأنا مع النظرية التي تعتبر أن اللغة هي المحفزة للشاعر أحياناً وهي التي تعطيه العصا السحرية التي يكتب بها ويكش بها على غنمه، ويرشد بها الغواة الذين يقودهم في وادي التيه.
تربطني باللغة علاقة ولاء واحترام بل وتقديس، فاللغة العربية لغة معجمية علّمت اللغات الأخرى الاشتقاق واتسعت لكل تعبير تبعاً للمتغير في المكان والزمان، واحتفظت بحداثتها المتجددة، وهذا ما أثبته في كل كلمة أخطها وكل سطر أكتبه، واللغة العربية مقتدرة بين أخواتها، لغة الضاد الفريدة والوحيدة، اللغة الممتلئة كأنثى ذات أرداف أعزّها الله والعرب قديماً، فكتبها الشعراء وغنوها، وضحك الشاعر في الحرب حين مر طيفها ولمع بارق ثغرها على حد سيفه.
** تجمع ما بين الشعر والنقد الأدبي، متى بدأ الجمع وكيف هو تأثير الناقد على الشاعر؟
** هنا أيضاً أستطيع أن أؤكد أنني ضد النطرية القائلة بموت الشاعر في الناقد، فالنقد الذي أمارسه يختلف عن النقد الذي نعرفه وعرفناه طويلاً، فأنا أعتنق مذهب النقد الجمالي الذي لا يحرر مخالفات ضد الشعراء، ولا يكتب بيانات الشجب والتنديد والاستنكار، بل ينساق في عذوبة وفرح مع جماليات النص مهما كانت متواضعة، فيكفيه هنا شرف محاورة النص، ومحاولة النقد.
أنا أكتب النقد كشاعر، ورغم أنني امتلكت مفاتيح العملية النقدية وأدواتها في سنوات دراستي الجامعية، ورغم أنني تتلمذت على يدي كبار النقاد، وأولهم الدكتور سامي سويدان في المذهب البنيوي والتفكيكي، والدكتور نبيل أيوب في المبحث الجمالي في الشعر، والذي قرأت كتابه في الجمالية وعشت أسلوبه حتى غلب عليّ، وصيّرني شاعراً يقرأ في جماليات الشعر ويوازي النص بالنص، والمفردة الجميلة بمثلها، ويرد تحية الشعر بأحسن منها، بعيداً عن تعقيدات المذاهب النقدية الأخرى والتي ثبت عجزها عن مجاراة جمال الشعر ووحيه الآتي تواً من وادي عبقر، وإن معتمداً أجوات نقدية منتقاة بعناية من مختلف المذاهب النقدية التاريخانية والنفسية والبنيوية والتفكيكية وغيرها.
** تعاملت نقديا مع التجربة الشعرية الإماراتية هل لنا أن نتعرف على رؤيتك للخارطة الشعرية الإماراتية وكيف ترى لإنجازات شعرائها؟
** بعد اطلاعي على المنجز الإبداعي الأدبي الإماراتي، انحزت لهذا الكم والنوع المتألق من الكتابة في مختلف صنوف الأدب من شعر وقصة ومسرح ورواية، وصرت مؤمناً بحقيقة أن هذا المنجز، شأنه في ذلك شأن المنجز الإبداعي في الأطراف، في الخليج عموماً والسودان والمغرب العربي، بعيداً عن قطبي مصر وبلاد الشام، هذا المنجز يعاني من التجاهل، واللامبالاة في أحسن الأحوال، وهذا ما يجعله غائباً عن خارطة الأدب العربي، رغم محاولات جادة كثيرة من قبل المؤسسات الحكومية لاحتضانه، إلا أنها لا تكفي ولا تستطيع أن تفرضه على المتلقي العربي، هذا المتلقي الذي تهمه البساطة في الوسيلة، وأنا أعوّل كثيراً على دوري ودور كثيرين مشغولين بهذا المنجز لنتمكن من القيام بقليل الواجب في التعريف به عربياً.
نعم، هناك شعراء كبار في المشهد الشعري العربي من الإمارات، هناك سلطان العويس، ومانع سعيد العتيبة، وحبيب الصايغ، وأحمد العسم وظبية خميس وعبد الله السبب، وخلود المعلا والهنوف محمد وكثيرون لا يتسع المجال لذكرهم، وهؤلاء تركوا ويحفرون بصماتهم في الشعر الحداثي العربي ولا يقلون أهمية عن أي من الشعراء العرب من المراكز الثقافية العربية الكبرى.
** يرى البعض أن هناك تدهورا في حالة النقد العربي التطبيقي المتعامل مع الشعر خاصة، وأن ما يعانيه الشعر من تراجع مرده إلى ذلك ، كيف تقيم الأمر؟
** نعم هناك تدهور في الحالة العربية بعامة لا في النقد التطبيقي فقط، وهذه الحالة تنعكس على مناحي الأدب وشجون الأدباء والنقاد، فكيف لنا أن نحلم بنقد جاد ومسؤول إذا كان الحكم في بلادنا غير مسؤول، وغير جاد حتى في ممارسته لحكم عيته، ودليلنا إلى ذلك ما يحدث اليوم من قتل يومي على امتداد الخارطة العربية.
أما الشق الثاني من السؤال فلا أوافقك الرأي فيه، فالشعر ينمو في الأزمات، والشعر معضلة وقلق والشعراء أبرع من يتقنون التعامل معه، فالشعر يتأجج في الأزمات، ويتألق في المعاناة، ولا يحتاج للنقد إلا في مقاربته لجماليات هذا الشعر، فأنا ضد الدور التأديبي للنقد والذي يقوّم الشعراء بالعصا، ويفعل فيهم فعل الصيرفي في النقود كما اعتدنا تعريف النقد قديماً، عيب أن نستمر بهذا الهراء بعد الف عام ونصف من التجريب في النقد، متكئين فيه على الفلسفة والفكر والجغرافيا والتاريخ فندرس بيئة الشعر وحالة الشاعر ونسقط على النص كل غبائنا، علينا أن نترك للشعر مساحة الحياة، وكما حدث في العالم كله، على الشعر العربي أن يكتب النص الموازي له ولا ضرورة لأن يكون نقداً مدرسياً وأكاديمياً.
** تحتل قصيدة النثر المشهد الشعر العربي الآن على الرغم من أن الاعتراف الرسمي بها يلقى مقاومة، هل تتابع مشهد قصيدة النثر وكيف ترى لحضوره في مقابل قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية؟
قصيدة النثر هي الشكل الأخير للشعر وهي تجلّي اللغة في أجمل نموذج، خارجةً من عباءة التاريخ الأصفر، وشعوذات المفكرين والمتحدثين وجهابذة الأدب والإيقاع، ولهذا فهي تواجه بالممانعة الرسمية من السلطات القائمة على قيم التقليد الثلاث: الدين والسلطة والجنس، هي نبوءة الخراب الجميل، نبوءة الحياة القادمة لا المعاصرة فحسب، ومفتاح الريبة في البحث عن التحقق الجديد لإنسانية ما بعد الحروب العالمية والكونية والمجازر بحق الإنسانية التي يرتكبها أناس اعتادوا النمطية في كل شيء، في الشعر العامودي والتفعيلة التي أنتجها نتيجة عملية تجميل جراحية فاشلة، النمطية في الوزن الخليلي والإيقاع العروضي وقفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل، نمطية الولاء والانتماء وعسكرة المجتمع، والحزب الواحد والفكر الواحد والفرد الواحد، وقصيدة النثر هي كل ذلك لأنها قرّبت الشعر من الحياة، وكل شكل لاحق سيستحضرها في التجربة لتكونها، أما العودة إلى الموسيقى فستنحصر حتماً لتصير من اختصاص مؤلفي وشعراء الأغاني السريعة كوجبة "ماكدونالد".


ليست هناك تعليقات: