لا تحولات في ( الوضاء )
عدنان المبارك
- التغيّر عملية يغزو المستقبل عبرها حياتنا. ألفين توفلر ALVIN TOFFLER في كتابه ( صدمة المستقبل )
بقينا طويلا لا نعرف هل هي تجربة ناجحة أم لا . فهذا الرجل لا يزال يتصرف كانسان مسالم بعيد عن الاعتداء على الآخرين. شطر من العلماء يرى أن التفاعلات الداخلية تستغرق بعض الوقت. المهم أنه كانت هناك إجراءات احترازية لضمان سلامة الآخرين ، فهذا التركيب الجديد بالغ الخطورة ،و سأحاول أن أوضح المسألة بلغتي غير المتخصصة بالطبع :
هكذا مضى حوالي العام ولا شيء جديدا مما دفع المتشككين الى الاعتراف بصحة موقف ( لننتظر لكن ليس طويلا ). جريدتنا الألكترونية كانت تأخذ بالموقف الوسط : لا مع المتفائلين ولا مع المتشائمين مما يعني الأخذ بالموقف الموضوعي. برأيي ، وليس رأيي وحده بالطبع ، هي تجربة غريبة رغم أن الجميع مقتنع بريادتها وبالغ أهميتها. التجربة ، وكانت قد جرت ببالغ السرية ، تخص ما يسمى بالتأشيب الجيني أو إعادة التركيب الجيني أو التوليف الجيني Genetic recombination . ولكي أفهم أكثر جمعت الكثير من المصادر. باختصار كانت العملية استنبات ميول في الانسان مأخوذة من الصنف الوحشي . ها أن بعض نتائج تلك العملية أخذت بالظهور. هم أعطوا ذلك الرجل اسما مستعارا ( الوضّاء ). من المفاجآت أن ( الوضاء ) لم تستيقظ فيه غرائز جديدة – نمرية وأسدية وابن أوية وأفعوانية فقط بل وصلت النتائج الى عالم خارج بيولوجي كالأخلاق مثلا. صار( الوضاء ) بالغ الدهاء ، بالغ الذكاء ، ذا حس متطور فوق العادة بكل ما له صلة بالواقع العام الذي تعامل معه عجينة بين أصابعه يفعل بها ما يشاء. معلوم أننا جميعا ، وحتى القديسين ، يملكون الميول الوحشية المذكورة ومعها اللامبالاة بالقيم الأخلاقية. فيما يخصني أنا لا أميل كثيرا الى الكتابة عن مثل هذه القضايا ، لكنه العمل مع رئيس للتحرير كهذا : فرض لاعقلاني في أحوال عدة لارادته وكلمته ، فهو بستشيط غضبا اذا لم تقبل فورا.
زرت المختبر في أثناء تواجد الوضّاء ( تظاهرت بأن الأمر حدث صدفة ). كان محقا من قال بأنه ينبغي أنتظار النتائج، فالتفاعلات داخل هذا الرجل ليست بالسريعة ، الا أن هناك جديدا ، ففحوصات الوعي والذاكرة والنفاذ الى بعض مناطق اللاوعي تؤكد بأن الوضاء يمربحالة جديدة ، ومن هنا اقتضت مراقبته طوال الوقت. أجاب أحدهم على سؤالي : ماهو هذا الجديد ؟ الوضّاء شطب في وعيه ، بل في جيناته ، على كل المدوّنات الاخلاقية.
مفهوم أني أعرف الكثير عنه ، فرئيسي المتطرف في الانضباط والدقة الى حد اللامعقول ، طلب مني جمع كل ما يتوفر عن هذا الرجل. اذن كان موظفا متواضعا في الدائرة التي تتفرغ للتأثيرات الصوتية على البيئة ( كما تعرفون كان رئيس الجمهورية السابق قد صادق على بضعة قوانين صارمة بهذا الخصوص ). وعرف بوداعته وانعدام أيّ ميل لديه الى الاعتراض بل حتى التعبير عن رأيه وعدم فرضه على الآخرين.
كان عليّ بحكم عملي ( تفلية ) تأريخنا الأحدث أي منذ دخولنا الألفية الثالثة ومجيء العقود الثلاثة الأولى خاصة بالكثير من المفاجآت المثيرة. ومن يقرأ هذه القصة ولا يتذكر جيدا ما حصل في العقد الثالث عليّ الكلام عن ( الانقلاب ) الذي حدث عندنا نتيجة تفاهم من طراز معيّن بين القوى الكبرى في العالم أي الاتحاد الأوربي ( كما معلوم انضمت روسيا اليه قبل ست سنوات ) والولايات المتحدة والصين ( حذفت كلمة " الشعبية " من اسمها بعد انضمام تايوان ومنغوليا اليها بعد مفاوضات طويلة ومساومات. كما لابد من القول ان الصين لاتزال تتمتع بامتيازات على رأسها حرية التوظيف في أفريقيا خاصة ) ، ولمن لا يتابع أخبار العالم بانتظام جرى أكبر انقلابين في شرقنا الأوسط : الزوال التدريجي لنظام المرشد في ايران والغلق النهائي لملفها النووي ، وانحسار التأثير الوهابي في السعودية وصيرورتها نموذجا ليبراليا احتذت به معظم دول المنطقة ( وقد لا يعرف الجميع بأن تلك الأماكن المقدسة في السعودية انفصلت عن الدولة وتمت هنا محاكاة النموذج الفاتيكاني). أعود الى قضية الوضّاء : كان قد حكم عليه بالسجن المؤبد ، فعقوبة الإعدام ملغاة من قبل أكثر من عشرين سنة ، ولهذا السبب اختارته تلك الدائرة العلمية كأرنب مختبري خصص لتلك التجربة. وقد يتبادر الى ذهن أحدكم : ما الذي فعله مثل هذا الانسان الوديع كي يلقى مثل هذه العقوبة القاسية ؟ في الحقيقة يكون ما فعله يستحق عقوبة أشد ، فهو قد ذبح زوجته وأمها مع سبق الإصرار أي أنه خطط للجريمة ولم تأت عفوا. تظاهر بالطبع أن القتل حدث بعد أن اشتاط غيظا نتيجة ( كل الاهانات والاضطهادات التي لحقت بي على يد هاتين المرأتين ). تفاصيل الجريمة مفزعة حقا. نحر الاثنتين بسكين مطبخ طويلة ثم قلع عيني الحماة وحزّ لسانها ثم انتقل الى الزوجة كي ( أزيد بالسكين وجهها القبيح قبحا ). عند قراءتي ما حصل في المحاكمة انتبهت الى أن الوضّاء كان يتكلم حينها بكل وداعة. باعتقادي أن هذا الشيء قرر آنذاك اختياره لتلك التجربة.
كان هناك فريق من العلماء قد سخر من التجربة بل أعلن بأن الغرض الحقيقي منها بقي مجهولا ولا يستبعد أن يكون اثارة من أجل الاثارة . صار عندي أكثر من مائتي صفحة. الا أن رئيسي لم يسمح بنشرها منتظرا النتيجة النهائية للتجربة. ثمة صوت فيّ يقول بوضوح : رئيسك محق. ستجيء النتيجة قريبا بل وفي هذا الشهر ، أكيد أنها كلفت كثيرا لكن كان من الصحيح القيام بها. ففي الانسان بقي كثير من الدهاليز التي لم يسلط عليها الضوء بعد. فيما يتعلق بريبورتاجي بهذا الخصوص لابد من القول بكل صراحة ان كل مكتشفاتنا العلمية والأخلاقية ( الثانية هي بأكثر من النصف مداهنة ومرائية بل ذليلة تحت هيمنة هذه الأديان ، وهي قد روّضت ، عبر قرون ، إرادة الانسان ) لا تبدل الكثير في طينة هذا المخلوق. وقد يأتي اصلاح جذري لجوهر الانسان كأن يكون مسالما كالغزال أو قلبيا كالدلفين الخ.
صحت التوقعات ، فها أن النتيجة لم تأت بالجديد ، وكل ما أعلن عنه كان خطة لتجارب أخرى. رئيسي لم يمانع اذا قمت باستعراض سريع لمسيرة الانسان التي توميء بصورة بينّة الى أنه قاتل وضحية. وغالبما يحدث أنه الأول والثانية في الوقت ذاته. ها أني في هذه الأيام ، وبسبب هذا الريبورتاج الذي لا حاجة اليه اطلاقا ، ضحية ، وفي أحسن الأحوال أنتظرعملا جديدا من رئيسي...
في الختام لدي ملاحظات صغيرة ( وافق الرئيس على ادراج معظمها في ريبورتاجي ) عما حدث ويحدث فينا وفي حضارتنا التي خلت اليوم من الحروب بعد ترويض وتنويرعدد ليس بالقليل من الشعوب التي كانت حواضنا للارهاب والشقاءات على الصعيدين المحلي والعالمي :
في عام 1970 صدر كتاب توفلر ( صدمة المستقبل ) أي مرّت أكثر من سبعة عقود ، لكن ما يدعو الى الاستغراب أن الكثير من فرضياته لم تكن مجرد فنتازيا ، فهو يشّخص حقيقة أنه ( حصل الكثير جدا من التغيرات في فترة قصيرة من الوقت ) ، وقد اتيحت لي فرصة مشاهدة ذلك الفلم التسجيلي المكرس للكتاب والذي أخرج بعدعامين من صدوره ، وكان المعلّق أورسون ويلز. فلم مثير حقا. لا أعرف ، هكذا تلقيته ، علما بأنه يتحدث عن وقائع تأريخية وليس تنبوءات. مثلا تكلم طويلا عن ظاهرة ( الفيض الإعلامي information overload ) التي قلبت الأحوال النفسية والذهنية رأسا على عقب. وفيما يخصنا نحن هذا البلد الذي خضع لأكثر من عملية تعقيم وتطهير وغسل دماغ للتخلص من كل ادران التأريخ وليس المعاصر فقط ، التقيت بعدد ممن قرأ الكتاب حينها ، وكان انطباعهم الأول أن الكلام في الكتاب لا يخص العراق بالذات بل تلك البلدان التي كانت قد تخلصت من زمان من كل أدران التأريخ. واضح أنها لم تكن معجزة بل عملا مثابرا خطوة بعد خطوة لحصر الدين في قفص حديدي محكم وتنقية العادات والتقاليد من كل ما تراكم فيها من نفايات. ولم أحتج الى مخيلة خصبة كي أتصور نفسي عائشا قبل أكثر من نصف قرن ، فحينها لحدث شيء آخر وليس صدمة المستقبل بل صدمة الماضي الذي كان يتنفس ويعربد بلا حدود وقيود.
اعجبتني ( شذرات ) من كتاب ألفين توفلير ( صدمة المستقبل ) يشخّص فيها بصورة باهرة ما نحن عليه الآن وما كنّاه ( أي عام 1970 حين صدر الكتاب ) :
- كانت هناك ظنون بأن الاقتصاد الجديد قد انتهى في لندن في عام 1830 وانتهت الثورة الصناعية ، لأن بضعة مصانع للنسيج أقفلت في مانتشيستر.
- اعلن أحد الخبراء حينها أن حيوية بالغة الكبر بعد محاولات بناء عربة بلا حصان لاتعني سوى محدوديات في التفكير...
- في عام 1865 طمأن كاتب من احدى الصحف قراءه : ( نعرف من مصادر موثوق بها أنه أمر غير ممكن كي يستطيع أحدهم أن ينقل أخبارا عبر الأسلاك. عدا ذلك وحتى لو كان ممكنا لما وجد هذا الشيء استخداما عمليا له ). بعدها بعشر سنوات لا أكثر صمّم بيل في مختبره الهاتف الأول .
- الأميّون في المستقبل ليسوا هم الناس الذين لا يعرفون القراءة بل هؤلاء الذين لا يقدرون على التعلم .
- التغيّر ليس بالضروري للحياة فهو الحياة نفسها.
- لايمكن للانسان العيش في مجتمع خارج على السيطرة. فالتكنوقراطيون يعانون من قصر النظر.هم يفكرون ، آليّا ، بالمنافع الفورية وما بعدها. انهم أبناء جيل جديد غير ناضجين.
لدي ملاحظأت أكثر الا أن رئيس التحرير لم يسمح ، وكما قلت ، بنشرها كلها. طيّب ، ملاحظتي الأخيرة : لست وحدي من يحلم بحياة أخرى بعيدة عن مثل هذه الهيمنة الألكترونية المرعبة ، التسطيح الاستهلاكي وأردأ أنواع الهيدونية - هذا الثالوث الذي أحتل كل معابد الانسان .أظن أن المكابرين وحدهم ومن على عينيه غشاوة ينكرون هذه الصيغة الجديدة للجهنم التي أخترعها ذلك الرب غير العاقل تماما...
أستر بارك – تموز / يوليو 2015
- التغيّر عملية يغزو المستقبل عبرها حياتنا. ألفين توفلر ALVIN TOFFLER في كتابه ( صدمة المستقبل )
بقينا طويلا لا نعرف هل هي تجربة ناجحة أم لا . فهذا الرجل لا يزال يتصرف كانسان مسالم بعيد عن الاعتداء على الآخرين. شطر من العلماء يرى أن التفاعلات الداخلية تستغرق بعض الوقت. المهم أنه كانت هناك إجراءات احترازية لضمان سلامة الآخرين ، فهذا التركيب الجديد بالغ الخطورة ،و سأحاول أن أوضح المسألة بلغتي غير المتخصصة بالطبع :
هكذا مضى حوالي العام ولا شيء جديدا مما دفع المتشككين الى الاعتراف بصحة موقف ( لننتظر لكن ليس طويلا ). جريدتنا الألكترونية كانت تأخذ بالموقف الوسط : لا مع المتفائلين ولا مع المتشائمين مما يعني الأخذ بالموقف الموضوعي. برأيي ، وليس رأيي وحده بالطبع ، هي تجربة غريبة رغم أن الجميع مقتنع بريادتها وبالغ أهميتها. التجربة ، وكانت قد جرت ببالغ السرية ، تخص ما يسمى بالتأشيب الجيني أو إعادة التركيب الجيني أو التوليف الجيني Genetic recombination . ولكي أفهم أكثر جمعت الكثير من المصادر. باختصار كانت العملية استنبات ميول في الانسان مأخوذة من الصنف الوحشي . ها أن بعض نتائج تلك العملية أخذت بالظهور. هم أعطوا ذلك الرجل اسما مستعارا ( الوضّاء ). من المفاجآت أن ( الوضاء ) لم تستيقظ فيه غرائز جديدة – نمرية وأسدية وابن أوية وأفعوانية فقط بل وصلت النتائج الى عالم خارج بيولوجي كالأخلاق مثلا. صار( الوضاء ) بالغ الدهاء ، بالغ الذكاء ، ذا حس متطور فوق العادة بكل ما له صلة بالواقع العام الذي تعامل معه عجينة بين أصابعه يفعل بها ما يشاء. معلوم أننا جميعا ، وحتى القديسين ، يملكون الميول الوحشية المذكورة ومعها اللامبالاة بالقيم الأخلاقية. فيما يخصني أنا لا أميل كثيرا الى الكتابة عن مثل هذه القضايا ، لكنه العمل مع رئيس للتحرير كهذا : فرض لاعقلاني في أحوال عدة لارادته وكلمته ، فهو بستشيط غضبا اذا لم تقبل فورا.
زرت المختبر في أثناء تواجد الوضّاء ( تظاهرت بأن الأمر حدث صدفة ). كان محقا من قال بأنه ينبغي أنتظار النتائج، فالتفاعلات داخل هذا الرجل ليست بالسريعة ، الا أن هناك جديدا ، ففحوصات الوعي والذاكرة والنفاذ الى بعض مناطق اللاوعي تؤكد بأن الوضاء يمربحالة جديدة ، ومن هنا اقتضت مراقبته طوال الوقت. أجاب أحدهم على سؤالي : ماهو هذا الجديد ؟ الوضّاء شطب في وعيه ، بل في جيناته ، على كل المدوّنات الاخلاقية.
مفهوم أني أعرف الكثير عنه ، فرئيسي المتطرف في الانضباط والدقة الى حد اللامعقول ، طلب مني جمع كل ما يتوفر عن هذا الرجل. اذن كان موظفا متواضعا في الدائرة التي تتفرغ للتأثيرات الصوتية على البيئة ( كما تعرفون كان رئيس الجمهورية السابق قد صادق على بضعة قوانين صارمة بهذا الخصوص ). وعرف بوداعته وانعدام أيّ ميل لديه الى الاعتراض بل حتى التعبير عن رأيه وعدم فرضه على الآخرين.
كان عليّ بحكم عملي ( تفلية ) تأريخنا الأحدث أي منذ دخولنا الألفية الثالثة ومجيء العقود الثلاثة الأولى خاصة بالكثير من المفاجآت المثيرة. ومن يقرأ هذه القصة ولا يتذكر جيدا ما حصل في العقد الثالث عليّ الكلام عن ( الانقلاب ) الذي حدث عندنا نتيجة تفاهم من طراز معيّن بين القوى الكبرى في العالم أي الاتحاد الأوربي ( كما معلوم انضمت روسيا اليه قبل ست سنوات ) والولايات المتحدة والصين ( حذفت كلمة " الشعبية " من اسمها بعد انضمام تايوان ومنغوليا اليها بعد مفاوضات طويلة ومساومات. كما لابد من القول ان الصين لاتزال تتمتع بامتيازات على رأسها حرية التوظيف في أفريقيا خاصة ) ، ولمن لا يتابع أخبار العالم بانتظام جرى أكبر انقلابين في شرقنا الأوسط : الزوال التدريجي لنظام المرشد في ايران والغلق النهائي لملفها النووي ، وانحسار التأثير الوهابي في السعودية وصيرورتها نموذجا ليبراليا احتذت به معظم دول المنطقة ( وقد لا يعرف الجميع بأن تلك الأماكن المقدسة في السعودية انفصلت عن الدولة وتمت هنا محاكاة النموذج الفاتيكاني). أعود الى قضية الوضّاء : كان قد حكم عليه بالسجن المؤبد ، فعقوبة الإعدام ملغاة من قبل أكثر من عشرين سنة ، ولهذا السبب اختارته تلك الدائرة العلمية كأرنب مختبري خصص لتلك التجربة. وقد يتبادر الى ذهن أحدكم : ما الذي فعله مثل هذا الانسان الوديع كي يلقى مثل هذه العقوبة القاسية ؟ في الحقيقة يكون ما فعله يستحق عقوبة أشد ، فهو قد ذبح زوجته وأمها مع سبق الإصرار أي أنه خطط للجريمة ولم تأت عفوا. تظاهر بالطبع أن القتل حدث بعد أن اشتاط غيظا نتيجة ( كل الاهانات والاضطهادات التي لحقت بي على يد هاتين المرأتين ). تفاصيل الجريمة مفزعة حقا. نحر الاثنتين بسكين مطبخ طويلة ثم قلع عيني الحماة وحزّ لسانها ثم انتقل الى الزوجة كي ( أزيد بالسكين وجهها القبيح قبحا ). عند قراءتي ما حصل في المحاكمة انتبهت الى أن الوضّاء كان يتكلم حينها بكل وداعة. باعتقادي أن هذا الشيء قرر آنذاك اختياره لتلك التجربة.
كان هناك فريق من العلماء قد سخر من التجربة بل أعلن بأن الغرض الحقيقي منها بقي مجهولا ولا يستبعد أن يكون اثارة من أجل الاثارة . صار عندي أكثر من مائتي صفحة. الا أن رئيسي لم يسمح بنشرها منتظرا النتيجة النهائية للتجربة. ثمة صوت فيّ يقول بوضوح : رئيسك محق. ستجيء النتيجة قريبا بل وفي هذا الشهر ، أكيد أنها كلفت كثيرا لكن كان من الصحيح القيام بها. ففي الانسان بقي كثير من الدهاليز التي لم يسلط عليها الضوء بعد. فيما يتعلق بريبورتاجي بهذا الخصوص لابد من القول بكل صراحة ان كل مكتشفاتنا العلمية والأخلاقية ( الثانية هي بأكثر من النصف مداهنة ومرائية بل ذليلة تحت هيمنة هذه الأديان ، وهي قد روّضت ، عبر قرون ، إرادة الانسان ) لا تبدل الكثير في طينة هذا المخلوق. وقد يأتي اصلاح جذري لجوهر الانسان كأن يكون مسالما كالغزال أو قلبيا كالدلفين الخ.
صحت التوقعات ، فها أن النتيجة لم تأت بالجديد ، وكل ما أعلن عنه كان خطة لتجارب أخرى. رئيسي لم يمانع اذا قمت باستعراض سريع لمسيرة الانسان التي توميء بصورة بينّة الى أنه قاتل وضحية. وغالبما يحدث أنه الأول والثانية في الوقت ذاته. ها أني في هذه الأيام ، وبسبب هذا الريبورتاج الذي لا حاجة اليه اطلاقا ، ضحية ، وفي أحسن الأحوال أنتظرعملا جديدا من رئيسي...
في الختام لدي ملاحظات صغيرة ( وافق الرئيس على ادراج معظمها في ريبورتاجي ) عما حدث ويحدث فينا وفي حضارتنا التي خلت اليوم من الحروب بعد ترويض وتنويرعدد ليس بالقليل من الشعوب التي كانت حواضنا للارهاب والشقاءات على الصعيدين المحلي والعالمي :
في عام 1970 صدر كتاب توفلر ( صدمة المستقبل ) أي مرّت أكثر من سبعة عقود ، لكن ما يدعو الى الاستغراب أن الكثير من فرضياته لم تكن مجرد فنتازيا ، فهو يشّخص حقيقة أنه ( حصل الكثير جدا من التغيرات في فترة قصيرة من الوقت ) ، وقد اتيحت لي فرصة مشاهدة ذلك الفلم التسجيلي المكرس للكتاب والذي أخرج بعدعامين من صدوره ، وكان المعلّق أورسون ويلز. فلم مثير حقا. لا أعرف ، هكذا تلقيته ، علما بأنه يتحدث عن وقائع تأريخية وليس تنبوءات. مثلا تكلم طويلا عن ظاهرة ( الفيض الإعلامي information overload ) التي قلبت الأحوال النفسية والذهنية رأسا على عقب. وفيما يخصنا نحن هذا البلد الذي خضع لأكثر من عملية تعقيم وتطهير وغسل دماغ للتخلص من كل ادران التأريخ وليس المعاصر فقط ، التقيت بعدد ممن قرأ الكتاب حينها ، وكان انطباعهم الأول أن الكلام في الكتاب لا يخص العراق بالذات بل تلك البلدان التي كانت قد تخلصت من زمان من كل أدران التأريخ. واضح أنها لم تكن معجزة بل عملا مثابرا خطوة بعد خطوة لحصر الدين في قفص حديدي محكم وتنقية العادات والتقاليد من كل ما تراكم فيها من نفايات. ولم أحتج الى مخيلة خصبة كي أتصور نفسي عائشا قبل أكثر من نصف قرن ، فحينها لحدث شيء آخر وليس صدمة المستقبل بل صدمة الماضي الذي كان يتنفس ويعربد بلا حدود وقيود.
اعجبتني ( شذرات ) من كتاب ألفين توفلير ( صدمة المستقبل ) يشخّص فيها بصورة باهرة ما نحن عليه الآن وما كنّاه ( أي عام 1970 حين صدر الكتاب ) :
- كانت هناك ظنون بأن الاقتصاد الجديد قد انتهى في لندن في عام 1830 وانتهت الثورة الصناعية ، لأن بضعة مصانع للنسيج أقفلت في مانتشيستر.
- اعلن أحد الخبراء حينها أن حيوية بالغة الكبر بعد محاولات بناء عربة بلا حصان لاتعني سوى محدوديات في التفكير...
- في عام 1865 طمأن كاتب من احدى الصحف قراءه : ( نعرف من مصادر موثوق بها أنه أمر غير ممكن كي يستطيع أحدهم أن ينقل أخبارا عبر الأسلاك. عدا ذلك وحتى لو كان ممكنا لما وجد هذا الشيء استخداما عمليا له ). بعدها بعشر سنوات لا أكثر صمّم بيل في مختبره الهاتف الأول .
- الأميّون في المستقبل ليسوا هم الناس الذين لا يعرفون القراءة بل هؤلاء الذين لا يقدرون على التعلم .
- التغيّر ليس بالضروري للحياة فهو الحياة نفسها.
- لايمكن للانسان العيش في مجتمع خارج على السيطرة. فالتكنوقراطيون يعانون من قصر النظر.هم يفكرون ، آليّا ، بالمنافع الفورية وما بعدها. انهم أبناء جيل جديد غير ناضجين.
لدي ملاحظأت أكثر الا أن رئيس التحرير لم يسمح ، وكما قلت ، بنشرها كلها. طيّب ، ملاحظتي الأخيرة : لست وحدي من يحلم بحياة أخرى بعيدة عن مثل هذه الهيمنة الألكترونية المرعبة ، التسطيح الاستهلاكي وأردأ أنواع الهيدونية - هذا الثالوث الذي أحتل كل معابد الانسان .أظن أن المكابرين وحدهم ومن على عينيه غشاوة ينكرون هذه الصيغة الجديدة للجهنم التي أخترعها ذلك الرب غير العاقل تماما...
أستر بارك – تموز / يوليو 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق