بغداد ومفهوم الكثافة المغيب والمصير المجهول!
د.إحسان فتحي*
لا يخفى على جميع المعماريين والمخططين الحضريين اهمية مفهوم "الكثافة" في عملية التخطيط والسيطرة النوعية على الطريقة التي تنمو بها المدينة وعلى البيئة العمرانية ككل. لكن المشكلة تنبع في الحقيقة من عدم وضوح تعريف "الكثافة الحضرية" فهناك "الكثافة السكانية" و "الكثافة السكنية" و"الكثافة العمرانية"، وعدد كبير اخر من الكثافات التي لا تعنيني في هذا المقال. انا هنا تعنيني الكثافة السكانية، واود ان اشير الى الغياب شبه الكامل الى اي نوع من السيطرة البلدية على تنظيم العمران في بغداد، فلقد انتشرت خلال العشر سنوات الاخيرة ظاهرة تقسيم قطع الاراضي السكنية السابقة، والتي كانت مفرزة اساسا على مساحات تراوحت من 600 الى 200 متر مربع، الى قطع صغيرة جدا بعضها لا يزيد على 50 متر مربع! وبدأنا نرى تجار العقار يشترون بيوت الاعظمية والمنصور والعطيفية والكرادة وفي اي مكان متاح اخر ليقسموا ال 600 متر الى 10 دور سكنية في تجاهل كامل وتحد صارخ للقوانين السارية، غير النافذة، والتي تحدد المساحة الصغرى المسموح بها ب 200 متر مربع.
فاذا اعتبرنا ان عدد سكان مدينة بغداد حاليا (2015) هو 8 ملايين نسمة وان مساحتها (ضمن الحدود البلدية) والتي اقدرها بحوالي 900 كم مربع، وبالمناسبة لم استطع الحصول على اي رقم رسمي لا لنفوس بغداد وذلك لغياب الاحصاء الرسمي منذ فترة طويلة، ولا للمساحة المعتمدة لبغداد المدينة وليس المحافظة، فان الكثافة السكانية تبلغ حوالى 8850 شخص لكل كم مربع. ان هذا الرقم هو عال في الحقيقة اذا ما قارناه بالمدن المشابهة الاخرى. استنبول مثلا يبلغ عدد سكانها حوالي 15 مليون نسمة وبمساحة 5460 كم مربع وبالتالي فان كثافتها السكانية تبلغ حوالي 2750 شخص في كم مربع. بينما القاهرة الكبرى فتقدر كثافتها ب 10 الاف شخص في كل كم مربع. بينما يسكن حوالي 14 مليون شخص في طوكيو على مساحة 2188 كم مربع لتبلغ الكثافة حوالي 6370 شخص لكل كم مربع، اي اقل من بغداد بكثير. طبعا المشكلة لا تكمن في الارقام لان الارقام لا تعني شيئا في الواقع، ذلك لان طوكيو (زرتها مرتين) تعتبر بحق اكثر مدينة متطورة بالعالم. اما مدينة بغداد فهي تعتبر مدينة منهارة او (فاشلة) بالمعنى التخطيطي والخدماتي.
وهذا يعني اذا ما استمر غض النظر، او السماح للكثافة العمرانية الجديدة، والتي كما اسلفت، فهي قد تزيد ب حوالي 6 اضعاف الكثافة المعتمدة السابقة، فان كثافة البناء ستصل الى درجات غير مسبوقة من التكتل والحشر السكاني مما سيؤدي بدوره الى مشاكل اجتماعية ونفسية مدمرة! والغريب جدا جدا في هذا الامر بدأت تظهر بيوت بواجهة تبلغ فقط متر ونصف على الشارع العام، او مترين، او ثلاثة امتار في الحالات المرفهة! (راجع الصور المرفقة). ان هذه الظاهرة غير المسبوقة في اي مدينة عربية ( عدا سكان القبور في القاهرة) تعني بكل بساطة ان امانة العاصمة، وبالتالي السلطة المركزية نفسها، قد فشلت في السيطرة على تنظيم ديناميكية العاصمة. ان بغداد تنمو بنسبة 2% او اكثر قليلا سنويا وهي نسبة عالية، وهي تعني بان عدد سكان بغداد سيصل الى حوالي 18 مليون في عام 2028! وعليكم ان تتخيلوا صورة المدينة اذا بقى هذا "الانفلات الحضري" على حالته ان لم يزد سوءا.
أنا اعتقد إن مدينة بغداد، هذه المدينة التاريخية العظيمة التي صمدت أكثر من 1250 سنة حتى الآن، تترنح حاليا من ضربات ساحقة تأتيها من جهات متعددة لا تكترث بوجودها أصلا. بغداد تصارع الموت بكل معنى الكلمة، فهي مهددة فعليا بالتفتت والتحول إلى كانتونات تحكمها ميليشات مسلحة، تماما كما نراه في بعض أفلام هوليود، حيث انعدام كامل للسلطة المركزية واضطرار سكان كل منطقة بأخذ زمام الأمور بيدهم. طبعا حالة بغداد هي انعكاس مباشر لحالة الدولة العراقية المهددة هي بوجودها، وإذا لم يستطع العراقيون بمراجعة انفسهم للتوصل الى حل دستوري وعقد اجتماعي مدني حضاري على أساس المساواة بالمواطنة وليس المحاصصة الطائفية التي فرضها المحتل الأمريكي واقتنع الكثير من المغفلين والجاهلين بها، فان مصيرهم مهدد بالزوال الحتمي والتاريخ لا يرحم ، ويوم لا ينفع الندم، إن سيبقى نادم!
*معماري ومخطط مدن عراقي
3 تموز، 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق