الأربعاء، 8 يوليو 2015

قصة قصيرة في الطريق إلى المنصة- عادل كامل


قصة قصيرة


في الطريق إلى المنصة





القصيدة التي تأكل نفسها

[ إنهم لا يجيئون، لا في القصائد أو كلمات السفر
إنهم لا يجيئون، لا في القصائد أو كلمات
إنهم لا يجيئون، لا في القصائد أو
إنهم لا يجيئون، لا في القصائد
إنهم لا يجيئون، لا في
إنهم لا يجيئون، لا
إنهم لا يجيئون
إنهم لا
إنهم
             فاضل العزاوي

1966




عادل كامل



  ـ أمش، امش، لا تكترث...، فان لم تستطع كتابة القصيدة...، فالقصيدة هي التي ستكتبك!
    وأضاف الثور، يخاطب الحمار:
ـ فانا لم تستعص علي ّ المحنة...، ما دامت الأخيرة لن تدوم أكثر من زمن زوالها!
     فقال الحمار، وقد أربكه منطق الثور، وثقته بنفسه،  بأنه لم يعتد نسج، ولا غزل، ولا صياغة مشاعره، حتى الغامضة منها، أو التي يجهل بواعثها الملغزة، ويفضحها أمام الآخرين، بل غالبا ً ما نهق، لا سباب لا تحصى، عدا الإفصاح عن ذلك.
ـ لكنك تعرف إن الامتناع عن المشاركة، في هذا المهرجان، بمثابة إساءة فهم...، ونقطة رمادية في الجبين...، وأنت تعرف، انه لم يعد لدينا ما ندافع عنه، ولا ما نخسره، عدا هذا العلف، وهذا الهواء، وهذه الزريبة.
     وأسرع الثور قليلا ً، بعد أن سمع ملاحظات الحمار، الأخيرة، فتمتم مع نفسه، بصوت خفيض: يبدو انه لم يعد مرحا ً، أو ربما فقد سلاسته بمعالجة هذه القضايا؟
    توقف الحمار عن المشي، فجأة، وقال بصوت لا يخلو من الغضب:
ـ لا! فانا لم امض حياتي في غفلة، ولم افقد مرحي أبدا ً!
ـ ماذا قلت...؟
ـ لأنك قلت بأنني لم اعد مرحا ُ...، فكيف استنتجت، ومن ذا سمح لك باتهامي، واختراع هذا التصوّر...؟
ـ أنا ـ صدقني ـ قصدت شيئا ً آخر....
ـ إذا ً ...، هل خولتك لاستنطاقي...؟ فانا لم أرك مبتهجا ً أبدا ً! مع إننا، في هذه الحديقة الخالدة، لا نواجه مشكلات حقيقية كالتي واجهتنا في الماضي..
     هز الثور رأسه، وهو يشاهد زرافة تقترب منهما، فقال للحمار:
ـ لا بد إنها نسجت أطول قصيدة، بالأحرى: القصيدة الطولية...، وليس الشاقولية أو ذات الأضلاع المقعرة؟
ـ صحيح...، كما يقال؛ لم تعد الجودة تقاس بالحجم، ولا بالضخامة، ولا بالفطنة أو حتى  بالرهافة، بل بطول العنق، وحدة الصوت، وقوة اللكمات...؟
ـ آ ...، هذا يعني أن أعظم القصائد ستكتبها الأفاعي، ولا تكتبها البلابل، مع إن الأخيرة لا تجيد سوى التغريد..، والديناصور ستكون في الطليعة، على خلاف النحل، أو الحمام  ؟
    لم ينتبه له،  فقد انشغل الحمار باستقبال الزرافة بفم عريض:
ـ حقا ً إنها لمناسبة طريفة، ونادرة...
همست:
ـ اسكت، يا حماري الجميل، فالمستشارة ستكون حاضرة، مع سعادة المدير...، لان المهرجان سيقام تحت شعار: المجد للحدائق!
    آ ...، حقا ً إنها مناسبة استثنائية، دار بخلده، أم أنها كباقي المناسبات، لا تذهب ابعد من الثناء، والشتائم، ووظائف الشعر التي مضى زمنها؟
ـ لا.
    اعترضت الزرافة، وخاطبت الثور:
ـ إنها خاصة بأبدية حديقتنا، مجدها الذي تنشد  له العصور.
ـ فلسفة؟
ـ  أية فلسفة، سيدي؛ إنها خاصة بيوم الحديقة الخالد، فأنت تعرف: من لا جذور له لا تتفتح براعمه تحت الشمس!
ـ فهمت، نعم، فهمت!
    وسأل الحمار الزرافة:
ـ هل افهم ـ من هذا ـ  انك ستزقزقين...، كالعصافير ؟
ـ كيف حزرت..؟
ـ وإن كانت قصائد الشتائم، رائعة في بعث الكراهية، والغضب، إلا أن لقصائد الثناء، والإطراء، والمديح، الباب الذي لا يمكن غلقه،بل ولا يمكن هدمه....!
ـ تماما ً...، فانا استلهمت الفاتحة من أقفاص الطيور، وتحديدا ً...، من تلك المخلوقات الناعمة، الحريرية، التي لها نغمات رذاذ الفجر، فهي لا تكف عن الاحتفال...، حتى انك تكتفي بما تنشد، ولا تسأل نفسك: ماذا تقول، ولمن توجه أناشيدها!
    ضحك الحمار، وقال للثور:
ـ لا توجد مشكلة...، إذا ً.
ـ أنا أخبرتك بذلك، منذ البدء، شرط أن تنظف دماغك من النهيق!
ـ سأفعل، سيدي، سأفعل...، ولكن ماذا عن رائحة السكين، حتى لو كانت خالية من الدم؟
     ارتج جسد الزرافة، فأسرعت وقالت:
ـ أنا ذاهبة، عذرا ً...، فالقصيدة بحاجة إلى مراجعة، فانتم تعرفون إن الثابت الوحيد في الثبات هو تتبع اللا ثابت فيها!
    صمت الحمار، فقال له الثور:
ـ نذل!
ـ أنا، أأنا نذل؟
ـ لا، أنا هو النذل...، أنا هو من أرعبها وجعلها تفر، مذعورة....، تلحقها لعنة الحافات العمياء!
ـ ماذا فعلت..؟
ـ تركتها تتخيل حتفها!
ـ لا، يا أحمق، أنا قصدت السيف الكامن في السكين، السيف الأصل، الذي وجد مع الفأس، أقدم هدايا الإله للبهائم..، الأصل،  لأن الكلمة جاءت بعد ذلك، رغم أنها خلعته، أو قل: أجادت المناورة، فهي تقمصت دور: الحمل والولادة!
ـ آ ...، حسنا ً، دعنا نأخذ قسطا ً من الراحة، تحت هذه الشجرة ذات الألوان المتناغمة مع السماء، أمام هذا المستنقع البهيج، وهو يزهو بكائناته الجميلة...، ونراجع قصائدنا!
ـ كما تشاء...، خاصة انك لم تحسن التعبير عن أحزاني، وما في ّ من ويلات! فأنا، يا صديقي، لم أفرط في عاطفتي، وأنت تعرف التاريخ!
ـ نعم، أنا خير من يعرف التاريخ، ولكن تاريخ من...، تاريخكم، أم تاريخ النمل، أم تاريخ الثيران...؟
ـ لا ...، المقصود هو التاريخ الحقيقي للتاريخ...، أي الذي لا نجد فيه صفحة من صفحاته إلا وموهت، وزيفت، وكتبت بالمقلوب...، كالحدود بيننا لا نحددها إلا بالبول! وليس بالدم!  فلا احد وضع إصبعه فوق الجرح!
   انفجر الحمار ضاحكا ً حتى كاد يسقط أرضا ً:
ـ تقصد الجرح الذي يتستر على الإصبع؟
ـ  لا استبعد هذا الحكم...، لولا إن المشكلة، في نهاية المطاف، لا وجود لها في الأصل!
    صفن الحمار قليلا ً، وراح يتأمل غيمة رمادية تحّوم فوق سطح المستنقع:
ـ أنا سأكتب قصيدة لا علاقة لها بوظائف الشعر...، سأكتب القصيدة الخالصة، وليس التي تنمو، كما ينمو الجنين، ولا التي تموت كما يموت البعير!
ـ وما علاقة البعير بالشعر...؟
ـ قل إذا ً الديناصور...، الم يكن مصوتا ً، فربما نسج أبهى الصفحات ودوّن أندر الأسفار....!
ـ آ ...، يبدو إن الغيمة الرمادية ألهمتك هذا المفتاح؟
ـ لا ، ليس غيمة البعوض الرمادية تماما ً...، ولا من ثوراته الدائمة، ولا من حروبه الأبدية...، ولكن إغفال الصراع شبيه بمن لا يرى شيئا ً؟
ـ إذا ً هل هذا هو مفهومك للقصيدة الخالصة...؟
ـ أنا أتحدث عن محركات القصيدة، وليس عنها، لأنها من غير محركات مثلها مثل الذي يموت قبل الولادة.
ـ آ ...، ها أنا خطرت ببالي فكرة كتابة قصيدة لن يكتبها احد.
ـ جيد، مثل الذي يولد ولن يموت؟
ـ ما هذا اللغو... لا تخلط! لأن المسافة بينهما كالمسافة بين هذا المستنقع والمجرات الواقعة ابعد من حافات هذا الكون!
    ولم يدع الآخر يرد، متابعا ً بصوت أعلى:
ـ فالثيران جميعا ًتخور، ولكن هل هذا هو تحديدا ً الصوت الاستثنائي للشاعر...؟
ـ بالضبط...، فانا، كحمار، سأستغني عن النهيق العام، بوصفة صوتا ً جمعيا ً، شبيه بصوت النمل، أو النحل، أو الأسماك، أو باقي الزواحف والكواسر والبرمائيات....، بحثا ً عن الأصل، أي ـ تحديدا ًـ الذي لا وجود له، أو الذي لا يمكن الإمساك، لأن هذا الدرب هو وحده جدير ببعث الهمم!
ـ الأصل المستحدث...، أم استحداث الأصل...، أم لديك الدرب الثالث...؟
ـ تعرف، سيدي الثور، كلاهما يعملان كالخبرة المستقاة من الدرب...! فالطريق بلا مسافر مثل المسافر بلا طريق...! فان لن لم ْ تجد الدرب ستسقط..، وإن وجدته فليس عليك إلا أن تجد الآخر...، فانا لا استحدث الأصل، ولا ادع الأصل يستحدث ذاته!
ـ آ ..، كأنك امسك بالخيط...؟
ـ أي خيط...؟ وأنت ترى البعوض قد حجب عنا السماء، ومنع عنا رؤية الشمس، وسد علينا الأفق؟
ـ ها، أنا سأكتب القصيدة التي لا تمتد، ولا ترتد، ولا تتوقف في الصفر! وسأدعوها بالقصيدة الخالية من الشعر! أي التي ستمسك بهذا الذي لا وجود له، وهو الوجود   الجدير بالبحث!
قال الثور:
ـ خطرت ببالي فكرة؟
ـ ما هي...؟
ـ ها أنت تسمع نقيق الضفادع، وهن يصّغين لنا، وهذا هو كبيرهم..، أنثى كان أم ذكرا ً، لا فارق، دعنا نرى ماذا كتب...؟
   تقدم الثور خطوات من ضفة المستنقع، وسأل كبير الضفادع:
ـ  بالتأكيد أنت احد المدعوين للمشاركة في هذا العيد...، عيد حديقتنا البهي؟
   هز رأسه، وقال:
ـ نقيق.. ببق..ففاقيققق...، بمعنى: ها أنا أقول نعم من غير تردد أو اعتراض! وخلاف هذا الكلام فيعني: لن أقول إلا لا  ، وأنا في طريقي إلى المنصة، سيدي!
ـ جميل!
صاح الحمار.  فسأل الثور كبير الضفادع:
ـ من أين لك هذه السلاسة...؛ تقول نعم مسبوقة بالدحض، وتقول لا مؤيدة بالاستجابة...، وتقولهما بالمعنى الذي يذهب ابعد منهما...؟ إلا ترى إنها بلاغة استثنائية ازدهرت مؤخرا ً في حديقتنا الباذخة...؟
ـ هذه ـ سيدي ـ مرونة القصيدة  من غير أصوات، فالمعنى خاص بالذبذبات، فما دمنا نشترك في إثم واحد...،وواجب واحد، وفي كفاح عنيد واحد ..، وفي مصير واحد يستحيل إزاحته....، فان الانحراف يغدو ضرورة تتجاوز هذه الأحادية ...؟
، وما علاقة البعوض بالأمر...؟
ـ هو عمل اليد بين المغزل والغزل، كعلاقة الجاذبية في نفيها وتوكيدها للكتل!
ـ والشاعر، أين موقعه...؟
ـ لا وجود له، سيدي، لأن اختفاء الشاعر يكمل ديمومة هذا الذي يزول...!
  فسأل الحمار الثور:
ـ كأنه سرق مدوّنتي، هذا الشبيه بالصرصار...
     اعترض كبير الضفادع:
ـ سيدي الحمار، ما شأنك والشعر...؟
ـ وأنت...، يا ابن المستنقعات، ولا أقول المستعمرات، ما علاقتك بالحفر في الظلمات؟
ـ آ ...، هكذا عدنا إلى النظام العتيق...، أما أن أشتمك كي امجد هزائمك...، وأما أن أطريك كي أتجنب نصرك..، وأما السلامة....؟
   اقترب غراب ابيض ووقف فوق صخرة قريبة بمحاذاة ضفاف المستنقع، تبعه غراب ازرق، وثالث من غير لون. فقال الأول:
ـ القصيدة يا سادة يا كرام...، لا يكتبها كاتبها، ولا ـ هي ـ التي تنسج نسيجها، القصيدة، يا سادة يا كرام، لا تعبر عن معنى، ولا عن المعنى، ولا المعنى يعبر عنها...، القصيدة، يا سادة يا كرام، تكمل ماضيها من غير عثرات!
ـ عدنا إلى الحفرة..!
   فقال الغراب الأزرق:
ـ أنا لا اعرف من منا تخلى عن الآخر...، فانا هو الجسر لمرور المحنة وليس للامساك بها. فانا ليس لدي ّ الذي مازال نائيا ً، أو مجهولا ً، أو لغزا ً!
سأل الثور الغراب الثالث:
ـ يا عديم اللون، ما لديك...ظ
ـ أنا كلما نبذت الشعر سكنته! وكلما أمسكت به محوته! لأنني كلما سبرت أغوار المعنى ضاع الصوت، وكلما أمسكت بالصوت تبعثر المعنى، فالأمر يتدحرج وفق قانون الشفافية المستحدث بكمال الأصل!
   هز الحمار رأسه، وخاطب الجميع:
ـ كان لدينا زميل من القرود يعمل معنا في جناح الدعية، كان يقرض الشعر أو الشعر يقرضه، لا أتذكر...، ولكنه كان يسف سفه، ويشتركان بإخراج السفسفة بوصفها شعرا ً...، هذا القرد هرب من حديقتنا، فذهب إلى دنيا أخرى لا تغلق الأفواه...، فماذا فعل هذا ألشاذي، لقد راح يشتمنا، ويحرض أجهزتنا السرية وفرق الموت وحرسنا الأمين على قتلنا، تحريضا ً شعريا ً، لأنه استلهم فعل السكين عوضا ً عن رمزية الكلمة!
ـ غريب!
   وسأل الغراب الأبيض الحمار:
ـ هل هذا شاعر أم ابن كركدن!
ـ لا أرجوك، لا تستخدم الكلمات النابية، ونحن ليس لدينا ما نخفيه، فعلمنا مراقب ...، ثم لماذا تشتم مخلوقا ً لم يخلق فائضا ً عن الضرورة..، فهل سمعت بحرية من غير قيد، وهل ثمة قيد من غير مدى ابعد منه...؟
ـ آسف...، واعتذر للكركدن، وإن كان غائبا ً عنا، وأقول: هذا ابن ....، الزنا!
ـ كم أنت صفيق..، وهل رأيت ابن زنا يدعوا إلى سفك الدماء...؟
فقال الثور لتنجب الجدل:
ـ ما دمنا نحتفل بذكرى تأسيس حديقة المجد، فلماذا نؤذي الشعر بذكر الوساخات، وعذرا ً لزملائنا القردة الذين لا يقرضون الشعر....!
ـ أحسنت ...، فالسيد المدير، زعيمنا الخالد، سيختار نخبة من ابرز شعرائنا للمشاركة في مهرجان الكون للحدائق والمحميات والمستنقعات.
    اقترب الحمار من الثور:
ـ عدنا إلى المستنقع!
ـ أغلق فمك! فالذبذبات تفضح ما يدور حتى في أصلد المعادن!
ـ آ ....، أذا ً فأنت أمسكت بمفتاح القصيدة؟
   فسأله:
ـ بماذا أمسكت؟
ـ بالمعادن، أو ربما بالصخور، وليس بالمفتاح؟
ـ آ ...، يا ثوري الغالي، إنها علاقة سرية لا تعمل إلا عبر التمويهات، والمظاهر...، وهذا هو سر خلود شعراء هذه الحديقة...، يعلنون ما يخفون، ويخفون ما يبدو معلنا ً، ولكن المشكلة، يا سيدي الموقر، إنهم لا يمتلكون قدرات على الإخفاء، ولا على المحو!
ـ هذا هو مضمون قصيدتك العصماء؟
ـ لا...، تعرف إن أعظم القصائد هي التي تتخلى عن وظائفها التقليدية...، فالشعر الذي لم يكتب لن يكتب إلى الأبد إلا بعد أن نكون جميعا ً قد سبرنا تلك المدارج العصية...، ومادام العالم اليوم منشغلا ً بالثورات والثورات الارتدادية وبما يستقصي مكنونات بذرة الخلق الأولى وما قبلها فان المناسبة ستسمح بظهور اللا متوقع تماما ً...
    اقترب فيل تائه يتمايل لا يقدر أن يمنع نفسه من هستريا الضحك، اقترب كثيرا ً منهم، وأغلق فمه، تاركا ً خرطومه يلامس تراب الأرض، فسأل الثور:
ـ كنا نود مشاركتكم بهجتكم أيها الفيل المرح؟
   رد الفيل وقد انخرط في بكاء حاد:
ـ ألا تشاهدون...؟
     حدقوا جميعا ً في عينيه، وقالوا بصوت واحد:
ـ لا ...، لا نشاهد شيئا ً يذكر عدا غيمة البعوض مازالت تحوّم فوق الماء.
ـ واآسفاه عندما تعمى الأبصار، وتكل البصيرة...!
ـ قل ماذا تريدنا أن نراه، ولا تشغلنا بغير خفايا الشعر، وأسرار القصيدة.
ـ يا سادتي إنني احمل، فوق كاهلي، أثقل قصيدة كتبت منذ بدء الخليقة، وحتى يومنا هذا!
ـ أنت إذا ً تتعذب، وتشقى، بسبب وزن القصيدة؟
ـ كثيرا ً.
ـ لابد انك ستلد اكبر قصيدة...، سترشحك لنيل درع الزعيم للإبداع؟
     ترك خرطومه يتمايل، مثل ورقة توشك على السقوط، يسارا ويمينا ً، وقال بصوت مشوب بذرات بلورية:
ـ مازالت القصيدة تجثم فوق كاهلي، أيها الشعراء!
   فقال الثور:
ـ آسف...، بحضورك يغيب الشعر كي يولد! وبوجودك يبلغ  الشعر ذروته كي يدشن عصره الجديد!
ـ عن أية ولادة تتحدثون...، يا سادتي، أرجوكم...، أنا جئت أطلب المساعدة منكم؟
    اقترب الحمار منه، وسأله بصوت ناعم خاليا ً من النهيق:
ـ أية مساعدة تطلبها منا ...؟
    وأضاف الثور يخاطبه من غير خوار:
ـ لن نتخلى عنك أيها العزيز..
   فقال الفيل وقد راح يتمرغ في الوحل، عند ضفة المستنقع:
ـ  النملة الجاثمة فوق رأسي مازالت تدندن!
ـ  آوووو.....
  وأضاف الثور يخاطب الحمار:
ـ الم ْ أخبرك...، منذ التقينا، في مطلع هذا النهار السعيد، إن لم تكتب القصيدة بنفسك، فإنها هي بذاتها ستكتبك؟
ـ أرجوك ...، قسما ً بالفيل، سأستدعي القصاب! فانا أشم رائحة السكين، حتى لو كانت خالية من الدم!
ـ لا تفعل...، يا صاحب ارق الأصوات، وأعذبها، لا تفعل مع شريكك في هذه الحديقة.
    نهض الفيل، وعدل وقفته، وترك خرطومه يتمايل، وقال:
ـ الآن ...، الآن ...، أوقفت النملة جهاز الإرسال!
ـ أين هي، يا سعادة الفيل؟
ـ في رأسي!
ـ غريب.
    وأضاف الحمار يخاطب الغراب الأبيض:
ـ هل سمعت...، فقد قال ما كنت تتحدث عنه؟
ـ أنا قلت: القصيدة هي التي تشغل حيزا ً تستحدث فراغاته لتواصل عملها ابعد مدى في الأبصار، وفي الاستبصار. وسعادة الفيل هو من استحدث هذا المجال للسيدة النملة التي مكثت جاثمة داخل خلاياه!
ـ بالضبط.
متابعا ً أضاف الفيل من غير عويل:
ـ فمنذ سنوات بعيدة...
 اعترض الغراب الأزرق:
ـ نعرف، نعرف...، إن هناك نملة أغوتك...، ونعرف ما حصل بعد ذلك....، بعد أن رحت ضحية عشقك الحرام لها!
ـ أحسنت، ففي الإيجاز تكون البلاغة تحررت من ضرورات التأويل، وفبركات الدارسين، ولغط النقاد!
   طار الغراب الثالث، متمتما ً بنعيب متذبذب:
ـ أخشى أن أقع ضحية هذا اللغط...، الغامض، فأتلوث بلون الشعر؟
   رد الفيل:
ـ من هذا المتكلم...؟
ـ ما شأنك به؟
ـ كيف ...، وقد جذبني لونه؟
ـ ها، ها، ها.
     وسقط الحمار أرضا ً من شدة القهقهة، حتى كاد يفقد آداب الجلسة وأصولها:
ـ ها...، فهو الوحيد الذي كان يخفي لونه علينا!
ـ اعرف...، سيدي، مثل هذه النملة التي جعلتني امضي حياتي انسج لها القصائد...، وهي الآن تطلب مني أن اكتب آخر قصيدة لها!
صاحت النملة:
ـ كيف أخبركم انه باح بما أخفاه علي ّ...، الآن، وقال: إني أنا من أغوته، ولم يقل انه هو من فعل ذلك...، فانا طالما قلت له: ابحث عن البذور المتناثرة بين حبيبات الرمال وذرات الأثير....، تلك التي لا يراها احد شارد مشغول وأعمى...، ففيها تتكوّن أكثر المسافات اتساعا ً...
    وسكتت النملة، جاذبة انتباه الجميع لصوتها، وحركاتها الرقيقة، لتبدد الصمت:
ـ أما حديثكم عن القرد الذي اتهم سيدنا الحمار بالعمل متلصصا ً أو جاسوسا ً لدى أمراء حديقتا وسادتها، على زملائه الشعراء، فاذهب وأسأله: عند من كنت تعمل، قبل أن تفر، متخفيا ً بثوب صرصار، وعند من تعمل الآن...، وإلا لكان حضر معنا وشاركنا ابتهاجنا بهذا اليوم الخالد؟
   ولولول الحمار بصوت مخنوق:
ـ ما أدراك انه سيصبح رئيس الجلسة، والمشرف عليها! مادامت قصيدته سبقته في الحضور إلينا؟
   صاح الثور:
ـ آن لي أن أعود إلى قاع المغطس، فردوسي!
  فقال الفيل يخاطب النملة:
ـ كان علي ّ أن أتعلم منك هذا السر؟
ـ أي سر يا حبيبي؟
ـ سر البذرة التي تخلت عن موتها وقد وجدت مأواها في قلوبنا، بعد أن وجدت سكنها في أقاصي الرؤوس؟
ـ يا أولاد....
   وصاح الثور متابعا ً:
ـ  إلى المنصة، إلى المنصة...، لأن كل من يتأخر سيعرض مصير حديقتنا للدمار والأفول والزوال!
Az4445363@gmail.com

9/5/2015



ليست هناك تعليقات: