الثلاثاء، 28 يوليو 2015

قصة قصيرة-تتمات-عادل كامل




 قصة قصيرة

تتمات

عادل كامل


    ظن انه يتكلم بفم مغلق، كلا، وظن انه يصّوت، كلا ...، دار بباله، لأن الأصوات لا وجود لها، ولا اثر للكلمات، إنما وجد ما يشبه الرنين، الوشوشة، وما يماثل لغطا ً مبهما ً امتزجت فيه الأصداء بالصمت، من غير ذبذبات، أو علامات محددة، تدوي داخل رأسه بطريقة تخيلها لا تنتظر التأويل، أو تستدعي التفسير، أو الشرح...
ـ لا ترفع رأسك عاليا ً كي لا ترى ما يحدث فوق الأرض، ولا تخفضه كثيرا ً كي لا ترى ما يحدث في السماء...
   وسأل نفسه: كيف أكون وحيدا ً وأنا مازالت تلاحقني الأصداء...، منذ نشأت، وهي تعيدني إلى أصولها؛ فأصير صوتا ً في الفراغات، وفجوة في الفضاءات؟
ـ لا تسرع كي تتعثر وأنت وحيد في الدرب...، ولا تتعثر كي لا تجد من ينتشلك عند السقوط...؟
    ود لو ابتسم، أو وجد وسيلة للامتناع عن مخاطبة ذاته، ومحاورتها، فقد كاد يفك لغز الانشطار، ولغز تعددية الذوات، وتقاطعاتها، لو لم يردم الفجوات بينه وبين ماضيه الذي غدا ممتدا ً، وبين الامتداد الذي رآه في مداه وقد ارتد إلى لحظة الشروع: الصفر!
ـ لا تغلو بطلب النزاهة وأنت لا تقدر على قهر القيود...، ولا تتشدد على الظالمين وكأن العدل آت ٍ لا ريب من قدومه ... إنها... دورة.. تدور ... ولست فيها  أكثر من تتمة... تتمة.. التتمات!
   عندما رفع رأسه، لبرهة، وألقى نظره إلى الحديقة، وشاهد نهايات الأشجار، تغطي الأجنحة، لذ ّ له أن يتمتع بزرقة السماء، خالية من الغيوم ـ قال خالية من الشوائب ـ  وإنها ـ بلا إرادة متابعا أضاف ـ حفزته لاستنشاق عطر الورود، ممتزجا ً بما كان يحمله الهواء من الزرائب، والجداول، والحظائر...، من عفن،  سمح له بتصوّر ما شيد، منذ قرون، من أنفاق وسراديب وجحور وممرات ومجاري تحت الحديقة.....، ظلمات مستترة ومخبأة وليس لها نهايات، وان ما كان يراه، ليس إلا صورة افتراضية، شبيهة بالسراب أو الوهم، وما رسم من جنات، للحديقة المترامية الأطراف. وراح يتخّيل الحد الفاصل....بينهما؛ كالجدار الذي شغل بصره، وهو يتلقى الضربات، واللكمات،  وكالحد الفاصل بين فضاء لا حدود له وبين قاع ٍ يمتد بعيدا ً من غير نهايات، يجعل ما يجري ـ في الأعلى ـ مغايرا ً لكل ما كان سمعه، وقراءه، وعرفه عما كان يجري في الظلمات. كان المثال المتداول إن ما من احد عاد منه، وسمح له حتى بالعودة الرمزية للحديث عن الغائبين...، وإلا كيف تحول اندثارهم إلى إقامة أكثر حضور  من حتمية الغياب، ملاحقة له، ذاق بسببها شتى المرارات، لكنه سرعان ما تدرب على التحايل، بعلم يستند إلى الثوابت، والتجريب، مثل القول إن الواحد هو الواحد، ولا حاجة إلى الصفر، أو الثاني...، وتلك قضية كادت تؤدي بحياته، لو لم يعلن توبته، واعترافه بان العدد هو تراكم الواحد وان للصفر مكانة شبيهة بدور العامل المساعد الذي يماثل ناقل المرض الذي لا يصاب بالعدوى، فلا ينتظر العقاب.
ـ امش...!
   ذلك لأن أجزاء الثانية، دار بخلده أيضا ً، لا تتوقف عند عدد....، فالواسع يليه الأوسع،  والصغير لا يستقيم من غير الأصغر... فالا متناهي مزدوج طالما يمتلك النسق نفسه...
  فلم يتحرك، لم يمش، كأن نهايات ما بعد الأكبر التقت بنهايات ما قبل الأصغر، وقد تهدم الفاصل ما بينهما، إن لم يكن ـ هو تحديدا ً ـ وهما ً، واحد أشكال الوجود الافتراضي. لكنه تسمر كي يشعر أن الجزء اللامحدود من الثانية، لا يقبل الانتساب إلى أية جهة من الجهات: جزء تام وخالص!
ـ أمش...
   وبصوت أعلى سمع الأمر. ولم يمش، لم يتحرك، متخيلا ً ـ من غير تشوش أو اضطراب ـ انه امسك بالجزء الذي لا يمكن عزله عن الأبدية ـ إنما ـ ما معنى الأزل؟  فعاد  وأكد انه لم يسمح للجزء إلا ليكتمل ويغدو خالصا ً...، فلم يعد يستطيع رؤية زرقة السماء خالية من الشوائب، بعد أن لمح جانبا ً من السور يرتفع أعلى من نهايات الأشجار، فخطرت بباله مليارات مليارات مليارات المغازل وقد غزلت منسوجات سردية وشفاهية سمعها وعاشها ومحاها ثم عاد ودوّنها وأغفلها ومحا محوها، وهي تمر ـ تعبر ـ عبر زمن مازالت مقدماته تمتد أعمق من فاتحته، ونهاية تذهب ابعد أي قدرة له لوضع خاتمة لها...

[2]


    لم يعد بحاجة ليتخّيل الممرات وهي تفضي إلى أخرى، فقد خرج من سرداب ودخل في آخر، متجها نحو جحر تلاه آخر حتى أحس بركلة تركت جسده النحيل يتكوم في نهاية حفرة استنشق رائحة كادت تفقده قواه على المراقبة ...،  ولا يعرف كم مكث فيها، فالظلام شديد درجة انه لم يعد يكترث اهو في زاغور أم في شق أم في جب...، إلا أن شدة العتمة أضاءت له ما كان رآه قبل النزول إلى العالم السفلي: سلاسل أقفاص وزرائب وأجنحة ومكعبات وصالات مستطيلة حديدية تمتد من جناح إلى آخر عبر فواصل ومنافذ تشرف عليها لجان خاصة...، فخّمن بشك لا يدحض إنها كانت الوجه الأول للحديقة...الصورة، وانه غدا جزءا ً من ممتلكات الوجه الثاني لها...
ـ أنهض...
   أحس انه لم يعد يقوى على الإفلات من قوة الجذب لولا انه ترك للأمل أن لا يسبقه بالرحيل، فتعكز بجدار الممر المتصلب، الخشن، مستدلا ً برائحة ما فراح يتتبعها حتى وجد انه يتوقف عند صخرة كبيرة تلمسها بقدميه، منتظرا ً أوامر لا ينوي الاعتراض عليها. فهل كنت بلغت القاع ....لولا ...؟ دار بباله، ثم ترك الظلام يمتزج بمشاعر خالية من المودة، إنما اخمد فيها غضبه، ولوعته المستديمة....، متوقعا ً ما سيحدث له.
ـ والآن ...؟
    استعاد وعيه اثر سماعه من يطلب منه الإصغاء..
ـ لا خيار إلا بحسم الأمر...
    ود لو قال: مادامت القضية باطلة في أصلها، فما الجدوى من مناقشتها.... ؟ ولكنه لم يرد. فعاد الآخر إلى الكلام:
ـ إنها ليست باطلة ـ كما خطر ببالك ـ وإلا هل الإله يصنع ما لا جدوى منه...، لتسفه أنت مثلا ً ...؟
انه يدخلني إلى الجحيم...، حتى قبل أن يعرف إذا ما سأعلن التوبة..؟ ودار بخلده، انه ـ بالفعل ـ كما في الحياة الأولى، فليس عليك إلا أن تختار الذي لا يتقاطع مع حدد لك...
فقال الآخر:
ـ لو كانت باطلة فان هذا كله عناء لا طائل منه...
   كان يود لو اعترف باستحالة العثور على رد يسلم من الدحض، عبر سلسلة تمتد كي لا تترك، في نهاية المطاف، أثرا ً لها ....، لكنه لم يجد ما ينطق به.
ـ هل أضعت فمك أم تاهت عليك الكلمات...، أيها الأرنب الوديع...؟
ـ ....
ـ أم كنت ترغب أن تبّلغ المدير بأمر تنجو منه ...؟
   وظن إن الصمت لا يفضحه، فاستبدله بحكمة قديمة تقول إذا كنت لا تقدر على دحر عدوك فتعلم كيف تتجنبه..
ـ يا للسخرية.... حولتنا إلى أعداء! ونحن لا نرغب إلا بتقديم العون لك...!
   كاد يصرخ ويخبره انه طالما فكر بالهرب من الحديقة والخلاص من ضواريها، لولا  فزعه من المجهول...، فمكث فيها بانتظار معجزة...، ولم تحدث، فواصل هو ومن معه بإنجاب المزيد من الأرانب...، حتى كان الخوف واحدا ً من أكثر عواملها مقاومة للحد منها...، فكلما بالغوا بالقسوة حد الجور فقد كانت أعدادها تتضاعف بمعادلة رياضية...، لتزداد شراسة الأعداء، وشراهته ...، فكانوا يفرطون في التناسل، لتلافي النقص، والفزع من الانقراض، فكان العدو يزهو ...، وتزدهر عنجهيته، بحثا ً عن الطرائد...، فيما الأخيرة تجد ألف ألف وسيلة بالإنجاب، لتلافي الانقراض...، فما العمل...؟
ـ يبدو انك عنيد مثل أسلافك...، فلا أنت عملت معنا، بحكمتك، وكسبت الكثير، ولا أنت هربت فنجوت...، ولا أنت وجدت سبيلا ً لمقاومتنا محولا ً انتصاراتنا إلى هزأة، وسخف....؟
   هز رأسه، فوجده أثقل من أن يرفعه، فقد شعر إن الظلمات كلها تكومت داخله، فإذا كان ـ قبل النزول إلى الأسفل ـ قد تبعثرت عليه المنافذ، وتداخلت، مختلطة، ومنصهرة بالتمويهات والمواعظ والفزع، فكيف سينجو، بعد أن جرد منها تماما ً؟ لكن فمه ضاع منه، وكأن ما أراد أن ينطق به لا وجود له، وانه ـ كما في السابق ـ  انشغل بشغل شبيه بالماء يصير ثلجا ً ثم ماء ً ثم بخارا ً  ثم مطرا ً ثم ثلجا ً ثم ماء ً ثم بخارا ً ثم ....
     ترك رأسه يدور بمعزل عن لحظة لا مبالاة عصفت به، فقد تخيل قفا العملة، كوجهها، كل منهما يكمل عمل الآخر...، وانه إذا كان نجا وسلم في الأولى فهل باستطاعته سبر أغوار الظلمات...، بعد أن امتدت اللحظة حتى لم يعد يميز بين الصورة وقفاها...؟ فالذي خسره في الأولى لن يقلب المعادلة في الثانية....، تذكر انه كثيرا ً ما احتمى بالقليل بدل الاستزادة...، فما فائدة أن تحصل على ما ليس لك.. بل كرر مرات ومرات انه لم يعد واعظا ً، ولا معلما ً، ولا مرشدا ً...، ولا دليلا ً.....، فممرات الشمس لا تفضي إلا إلى باب الموت، وباب الموت ما أن تنغلق فلا يدور فيها المفتاح، وإن دار، فلا يخرج منها إلا من لم يدخلها!
ـ تلعب... من اجل التمويه... والغواية ..؟
جمّع قواه:
ـ  لو قصدت اللعب لكنت تتبع ظلي الآن....، وليس أن تحتجزني...، لترسلني إلى جهنم...؟
ـ اعرف ... أيها الزعيم، لأنك عملت على ذلك، وجرجرت القطعان خلفك، لأنك كنت عثرت على جرثومة الهدم...، فانصاعت لك الدواب، والطير، وما بينهما....!
ـ أنا لم افعل إلا ما كان المدير يفعله ...!
ـ لقد خرجت على طاعته...
ـ وهو خرج على طاعتنا ..؟
ـ من انتم.... ؟
ـ نحن الحثالات ...، البهائم... النمل...
ـ فلم فعلت ذلك...، وأنت ترى النهاية دانية من غير ريب..؟
ـ ولكن لِم َ المدير ارتكب فعلا ً كان الأولى به أن يدعه للرعاع!
   ساد الصمت ممتزجا ً بكثافة الظلام داخل حجرة مغلقة خالية من الأصوات، لكنه سمع ضجة، سرعان ما تلاشت، فعاد الصمت.
    فكر انه لم يكن ارتكب إلا ما لابد من ارتكابه، ولم يفق إلا وقد ذهب ابعد من منها: اللعبة التي كلما عمل على تجنبها وجد انه يذهب عميقا ً في متاهاتها.
   وأحس بحرارة جسد يقترب منه:
ـ آن لك أن تقول كلمة...، أما ترتفع إلى الأعالي...، وأما تنحدر معها إلى أسفل سافلين....؟
ـ وهل هناك حضيض أسفل من هذا الحضيض...؟
     ولم يقاوم ضحكة امتزجت بكلماته:
ـ فانا لم أتشبث بالأولى...، ولا حول لي ولا قوة برفض الثانية، فأية كلمة باستطاعتها أن تخدعني، وأنا أمضيت حياتي في العثرات...، فأية كلمة بإمكانها أن تكون عقارا ً لداء، هو، في الأصل، سابق على حامليه...، كالإثم لو لم يكن وجوده سابقا ً علينا فما الفائدة من تجنبه...؟ ها، ستقول انه الامتحان... أتمتحن من حددت له النهاية قبل فاتحتها، أم هذا كله هذيان عقل شارد...؟
ـ ها أنت عدت تجدف...؟
ـ أنا ...
   وسكت، متابعا ً التنفس بصعوبة، لندرة الهواء:
ـ من أكون ... أنا... داخل مكان لا حدود له... أتعرف معنى اللا مكان....، كي تلهو بي، وتتلذذ، بلعبة علينا أن نلعبها، حتى لو كان وجودنا غائبا ً...، فمن أنا كي يكون لفعلي معنى....، إلا معنى اللهو، الأشد فكاهة من التنكيل والعقاب...؟
ـ في الأقل...، ستعاقب، لأن كلماتك لا تليق بمقام سيدنا ..
ـ المدير...؟
ـ ...


[3]



  مد أصابعه فلم يجد أثرا ً لأحد: ثمة جدران فقدت ملمسها، دائرية، تتسع وتضيق لتتسع، سمحت له بتخيّل انه داخل حفرة:
ـ ويطلب مني ...، للنجاة بجلدي: أن استبدل ما رأيته بما لم أره!
   سمع ذبذبات صوت يخاطبه:
ـ آن لك أن لا ترتكب حماقة تؤدي بك إلى ..
وأضاف الآخر:
ـ  فانا لا اقدر أن أوجز مسافة اللانهائي بخطوة الشروع، آنذاك أكون كمن أختزل البحر بقطرة ماء...، ولا أريد أن أوجز الأصوات بحوار أنت ـ قبلي ـ تعرف لا جدواه...، فأقول لك: أد واجبك وامض!
ـ ...
ـ لا تتعجل....، فانا أمهلتك...
ـ ها...، كما نسجتم، بهدوء، الحكاية كاملة..؛ ثور أعمى يدور ويدور للحصول على أمل النجاة...فان توقف أرسل إلى المسلخ، وإن لم يتوقف مات وهو يدور...
ـ أي ثور...، وأية دورة...، وأنا اعمل لصالحك...؟
ـ كأنني لم أبصر في الوحل الأعمى، بعد مضي هذه السنين، لتبشرني بالضوء...، فالحكاية، أيها الحارس، لا علاقة لها بك أو بي. فدعهم يختتمون الحفلة، معي، كي تبحث عن آخر لعله يهن، ويتراخى، ويستسلم لكم...
وأضاف:
ـ فانا اوهن من أن أكون واهنا ً، ليس لأن الداء لم يبق بي عضوا ً سليما ً، بل لأنني أنا هو الداء نفسه!
ـ لا تتعجل....، قلت لك لا تتعجل...، لأن كل من يفقد الأمل كأنه هدم الحديقة بأركانها!
ـ فهمت.
   وردد مع نفسه: علي ّ أن اخبره بما لم اخبر نفسي. ورفع صوته:
ـ أنا سأختار جهنم، ولا اختار إلا أبديتها!،  بدل أن اختار الحديقة بنعيمها، وترفها، وبذخها. فالعذاب هناك، في أعلى عليين أو في أسفل السافلين، يجعل موتي مساويا ً لحياتي. واعلم ـ أيها الحارس ـ أنا لا أعاقب نفسي، لذّة من اجل العقاب، أو للتسوية، أو للتشفي، أو للراحة التي يحصل عليها الآثم، كما لم اسع لتطهيرها، بل هذه خلاصة حكاية تساوي بين الأضداد، لتذهب ابعد منهما. وأنا اعرف انك لا تعرف، ولا تريد أن تعرف، أو لأنك لا تستطيع أن تعرف، فك ملغزات هذا الوضوح...، ما دام الصفر هو الرحم الذي تكونت فيه الأعداد! فقس على ذلك، فدعني امشي نحو مصيري بدل أن تتلذذ وأنت تراني أدور، وأدور...! فانا أيضا ً أراك تدور، وتدور!
ـ لا معصية، ولا خطيئة بلغها احد كمعصيتك، وخطيئتك، أيها العجوز ...؟
ـ تقصد: لا مؤمن بلغ إيمانه  هذه الدرجة، أم تقصد إنني ذهبت ابعد من الإيمان..؟
ـ ها أنت تقلب الموازين...، فتستبدل النعيم بالعذاب، والليل بالنهار، والمرض بالعافية، والجنة بالنار ...؟
ـ أنا لم افعل ذلك...، ببساطة قلت لك: أنا بإرادتي ـ إن كانت تامة أو مازالت في طريقها إلى الاكتمال ـ اخترت الذي صورته كقفاها! فلا أقنعة ولا لعب ولا مكر ولا خساسة ولا غدر ولا نذالة ولا عهر ولا خداع ولا تمويه!
ـ قسما ً بالآلهة العليا كلها أنا لم أر من يذهب بإرادته ليطرق باب العالم السفلي ويقول: افتحوا.... فانا أتشهى العذاب أكثر بكثير من الراغبين بالنعيم والمسرات؟
ـ نعم!
ـ لم أر من يختار الجحيم...، بهذا التلذذ وبهذا الشوق حد الهوس ...
وسكت، ثم سأله بفزع:
ـ من أنت...؟ ربما أنت هو ...هو ...؟
ـ لا!
ـ ما أدراني... فقد تكون هو أنت الشيطان نفسه...؟
ـ لا...، لا تخلط، ولا تدع عقلك يضطرب، فلو كنت الشيطان لكنت أنا من يقودك في هذا العالم!
ـ آ ...، أيها الإله العظيم...، أصبحت اجهل من يقود من... فانا لا امتلك الا صلاحيات محدودة، في هذا التحقيق ...
ـ تقصد في هذه اللعبة؟
، هل تسمي التحقيق لعبة...؟
ـ أيها...، فإذا كنت السابق فانا اللاحق...، والعكس صحيح، وإذا كنت الصورة فانا قفاها...، والعكس صحيح، فانا لا أظنك لعبت...، وموهت، بل أنت اخترت أن توهمنا....، وأنا اخترت أن أوهم نفسي!
ـ آ ...، ها أنت تتلمس باب الرحمة؟
ـ دعنا منها، ومن أية رحمة! دعنا من الشفقة، ودعنا من الغفران، دعنا من النار والشيطان والجحيم...، فانا اعرف لماذا أنا هنا...، بل ولماذا تأمل أن استبدل أقوالي ـ مع إنكم حصلتم على كل المستور والمخبأ ـ بدل أن تسلمني إلى أول كلب....، أو تترك الضفادع تنهش ما تبقى من جسدي...، في هذا المستنقع.
ـ لماذا...؟
ـ حتى لو أجبت بحدود السؤال، فلا احد باستطاعته عزل ما سيولد من الأسئلة...، ليس لأن الدورة تذهب ابعد منك ومني، بل لأنها  تعمل بما لا يمكن معرفته، وفك ملغزاته...، لأن هذا المحدود ـ بيني وبيني ـ شبيه بما آمنت به، وشبيه بما عملت على تفنيده.
ـ ولكن ـ اخبرني ـ كيف جرجرت الجماعات، خلفك...، كيف صدقوا انك ستهدم عرشنا، وتقوض أركان حديقتنا الخالدة...؟
ـ تقصد ...، كيف ولماذا وقعت في كمين الغواية...، وكيف نذرت حياتي للنمل، والبعوض، والبرغوث، والضفادع، والقمل ...؟
ـ أكمل...
ـ لا فوارق تذكر بيننا..، فالقطعان كانت مذلة، جائعة، منخورة، رثة، عقيم، وجودها يساوي عدمه...، أي ـ بإيجاز ـ ممحوة، فسمعت من يهمش في روحي: دعها تعمل بقدرها! قدر استبدال القدر بقدر..، والدرب بدرب، والوهم بوهم! دعها تستعيد ما تم اغتصابه منها...، فتقدمت، وهتفت: اتبعوني....، وقبل أن أكمل كلامي رأيت الجماعات تتبعها جماعات....!
ـ قدتها إلى الجحيم..، فثكلت الأمهات، ورملت الزوجات، أرسلت الفتيان إلى الموت والباقي إلى المصحات، شردت العوائل، وخربت الديار، هجرت ونفيت، ثم ....، بعد غيابهم، رحت تتبع أثرهم!
ـ الم أخبرك بما حل بها، قبل التيه وبعده، حتى إنها راحت تلتهم الحجر والتراب والسراب لعلها تجد ما يسد رمقها... فالبهائم إن جاعت لا تترك قفصا ً إلا وحطمته، ولا تترك نفقا ً إلا وهدمته، وهكذا لم يعد يعنيها إن كان الجنة هي قاع الجحيم، أم كان الجحيم هو قاع الجنة.... وهذا ليس خلطا ً للأوراق، والتصورات، وليس هذيانا ً يهذي به مشرد، هرم، فقد أوهامه، بل لأن الجحيم ليس إلا بابا من أبواب النعيم!

[4]


ـ سأخبرك بما قرأت، فوق ألواح الطين...، حكاية صارت بعمر الزمن...، لا إجابات فيها، ولا أسئلة، حكاية قلت لي أن مقدماتها باطلة، فماذا ستكون عليه نهاياتها؟ وأنا رأيت الدنيا كما رآها كاتب تلك الحكاية...
ـ ....
ـ فالإله كان مجتمعا ً لتدارس شؤون الدنيا ....، عندما لمح الشيطان حاضرا ً في مجلسه! وأنت لا تسأل كيف دخل، ومن سمح له بالدخول؟ فسأله الإله: ماذا تفعل في مجلسنا؟  ـ وكأن مجلس الإله متاحا ً لمن هب ودب ـ  فقال له: جئت أراهنك! فاستغرب الاله ـ كما في النص المدوّن فوق الالواح ـ وسأله: وعلى م َ يراهنني..؟ قال: على عبدك ايوب...؟ فقال الإله: هو عبدي المخلص! فقال له: سأغويه، لترى انك راهنت على من سيجدف بك؟ أجاب الإله: لا تقدر... فقال له: أمهلني!
ـ ...
ـ فراح الإله ينزل بأيوب شتى المصائب، والنكبات، فاخذ منه ماشيته، واهلك زرعه، ومزق عشيرته، وأمات أهله ....، ثم أوقعه في العلل... فما جدف أيوب، ولا ارتكب معصية!
ـ كان الإله على حق؟
ـ ها...، لكن أيوب قال للإله: من منا لا يعرف ماذا يعمل...؟ من منا الأكثر إصابة بالمرض...؟
ـ الإله لا يمرض!
ـ أنا أتحدث عما ورد في النص الذي دوّن قبل عصرنا بسبعة آلاف عام!
ـ ...
ـ  لكن لا المغزل كف الدوران، ولا الأصابع كفت عن الغزل، ولا العزل نفد ...!
ـ ماذا تقصد...؟
ـ اقصد إنها حكاية بحدود معناها!
ـ أرجوك...، الآن أنا أتضرع إليك...
ـ وماذا لو أخبرتك...
ـ سأقول انك اخترت بابا ً... حتى لو كان ضيقا ً، بدل الجحيم!
ـ لن أغوى أكثر من مرة....، مع أن وجودي ـ هنا ـ يفند ذلك. فأنت قلت الحقيقة كاملة وهي لن تذهب ابعد من النهاية التي أعدت لي، ولك ....، على السواء! لأنك لن تجد بريئا ً من غير طاغية، فكل منهما يخترع الآخر اختراعا ً، وإن غاب احدهما، فلا معنى لوجود الآخر! أما نظرية توزيع الظلم بعدالة، فإنها تماثل توزيع العدل بالقسوة والجور! وأنت سمعت ما قاله احدهم بضرورة وجود دكتاتور ديمقراطي!



[5]

ـ فهل يصح أن يحاور الإله من سينزل بهم شتى صنوف العذاب، الإله الذي خلق الشيطان، وخلقهم، كي ينتظر نهاية الامتحان ـ الذي صاغه هو نفسه، والذي هو من صنعه...، وليس من صنع اله آخر...؟ هل يصح أن تردد مليارات مليارات مليارات الحناجر إن الإله واحد واحد واحد...، وما أراد إثباته انه بلا شريك، وهو بلا شريك... وهو واحد...، ثم، كيف تصدق وهمك وكأنه حقيقة، وأنا مازالت اذهب بعيدا ً ـ وابعد من كل بعيد ـ في تفحص ما احسبه حقيقة كي لا أؤذي طيرا ً، ولا أن اقطع ورقة شجر، أو اسحق نملة تائهة، أو ارفع صوتي...، فهل العدل أن ترى الظلم ولا تفتح فمك بكلمة...؟ أنا ـ وأنا اجهل من أغواني ـ فتحت فمي، فرأيت الأفواه تزمجر.....، وها أنا بين يديك...من أجلك وليس من اجل نفسي! فإذا كنت ترى الجماعات تلد الأخرى الشبيه بالبعوض والبرغوث والصراصير محكومة بقدرها، لعلها تحصل على ما خسرته....، فانا ارغب أن أراك تهلك من غير أن تربح وهمك! وأنا اهلك من غير أن أرى الحقيقة ـ كالتي رأيتها ـ وجعلت طاغية، وجعلت مني ضحية..؟ لأنني حتى لو لم أنقذتك، من وهمك، فلا احد ينقذني من الحقيقة التي لم احسبها أكثر من مفازة.....، عثرة، علي ّ اجتيازها، إنما هل كانت هناك حقيقة...، وهل كانت أوهامنا قد صاغت أدوارنا، وأفعالنا، وأيدينا مثل عقولنا مكبلة بالخمول والتراخي ... والأوهام؟ أكان هذا الحلم حقيقة....، كالسراب، بينما الفراغ يمتد ولن يضيق إلا باتساع لا محدود...؟ فهل أنت اخترت دورك، بدل أن تختار الدور الذي وجدت مصيري مكبلا ً به...؟ هل أنا حقا ً سأختار الدور نفسه لو لم اسمع عويل الضحايا...، واختار دورك، غير مكترث لرؤية الفقر الظالم ينخر في أشلاء المليارات المليارات المليارات....؟ أكنت سأعمل لكسب ما ليس لي...، ولن استرد ما اغتصب مني...، لو كنت استبدلت الشقاء بالرخاء، والشحة بالوفرة، والمرض بالعافية، والسجن بالحرية....؟ أكنت سأستبدل هذه المدينة المدفونة تحت المدن...، بجناح يطل على المستنقع، وأنا..... استنشق عفنه المتدفق من السواحل.... الأولى..، قبل أن يصنع الوهم اصلب الحقائق، وقبل أن يتحول اصلبها إلى غبار...والى فراغات...، أم إن الحقائق ـ مثل إلهك الوثني ـ لا يستقيم إلا بمثل  هذه الغوايات، وبمثل هذه التمويهات، وفي مثل هذه الحديقة...؟



[6]


ـ والآن: لا أنا امتلك قدرة على غوايتك، كي تستبدل الجنة بالجحيم، والنعيم بالشقاء، والصحة بالسقم، والأمان بالفزع…، ولا أنت تمتلك سبيلا ً إلى قهري…، فمن منا كانت خطته على صواب….، مادامت الحقيقة حبلت بالوهم، ومادام الوهم هو الذي حبل بها…، وذلك لأن المسافة بينهما لا تفصح إلا عن المسافة ذاتها بين اللا موجود وقد غدا وجودا ً، وكالوجود الذي غدا عدما ً…
ـ أصبحت تتحدث مثلي! أيها الجلاد…، فلا تجادل، لأن مهمتك أن لا تتعثر…، وما عليك إلا أن تنفذ ما أمرت به….، وما علي ّ…، إلا أن ازداد صلابة في الحفاظ على ما أنا عليه….
ـ انك لم تبق لي حتى أن أتضرع إليك….، كي تحّل محلي، وكي نتبادل الأدوار، من اجل أن أؤدي دورك…؟
ـ لِم َ تفعل ذلك…، فانا لم اعمل على قهرك، كما فعلت أنت…، لم اسع لاجتثاثك، وإيذاؤك، أو إنزال البلاء بك، أو قهرك…، كما فعلت معي…، لم اعمل على حرمانك أو التشهير بك..، كما فعلت معي…، لم اعمل كي أراك تتدلى…، وتتعفن، وتذهب مع الريح!
ـ ما الذي كنت تريده إذا ً…؟
ـ كنت اعمل على قهر كل ما كنت أريد...
ـ من اجل من...؟
ـ هنا، وهنا تكمن المعضلة، يا عزيزي! فهل كنت اعمل هذا من اجل نفسي كي احصل على ما لا يجعلني اغطس، وامضي عمري في الظلمات، وانتقل من حفرة إلى أخرى، أم أن اقهر هذا الذي لا يقهر...؟ فإذا كان الإله يمتلك قصدا ً ما دفنه فينا، فأي لغز هذا الذي لا نمتلك إلا أن ننفذه، حتى لو كان عصيا ً، مع أن العصيان بحد ذاته طاعة! فأنت تستطيع أن تراه يتربع فوق، في قمة الهرم، فيما ترى، في الأسفل، وتحت، في المناطق المعتمة، وعلى امتداد القاعدة، هذه المخلوقات تكد، وتشقى، ولن تعرف شيئا ً مما دار بخلد الإله، أو ما دار في الأعلى!
ـ ...
ـ ولأن الأعلى سيبقى خارج نطاق من هم في الأسفل، فان أحدا ً لن يقدر على تفنيد القانون، ولا العمل وفق بنوده، من ناحية، كما أن مخلوقات القاع، والمستنقعات، والزرائب، لا تمتلك أن تذهب ابعد من حدودها، فان آثامها ستبقى بيضاء، وإن شأت لا لون لها، من ناحية ثانية!
ـ .....
ـ ولأنني طالما تخيلت المساواة ذاتها ـ الشبيهة بالرحمة والغفران ـ تماثل القسوة، فإنها في نهاية المطاق تذهب ابعد من حدودها دائما ً....!
ـ آووو ...ه، أين ذهبت...، حتى أظنك نذرت حياتها من اجلنا...؟
ـ لا من أجلكم، ولا من اجلنا...، ولا من اجل نفسي...!
ـ ....
ـ فالإله لم يخترع الشر...، ولا الأشرار اتخذوا من الإله ذريعة...، ذلك لأن الحكاية في أصلها، مثلها مثل الذي تراه يحدق في الذي هو خارج نطاق قدراته على الرؤية، فتراه لا يقول شيئا ً إلا كي يقول أشياء كلها تبقى تكمل بعضها البعض الآخر ولكن لا الأعلى رأى شيئا ً، ولا الأسفل كف عن التحديق! حكاية تعيد نسج نفسها بكل ما يتم استحداثه من أدوات...، ومعارف...، فالمستحدث يزيح العتيق، كالبراعم لا تترك ورقة إلا وأسقطتها، كي تحبل بالذي سيزيحها، هي أيضا ً... أما الحديث عن السيد المدير....، مديرنا، مدير حديقتنا، الذي أوكل لك مهمة إعادتي إلى الحظيرة، والى زمرته، فلا يمتلك إلا أن يمضي في تلافي العثرات...، لأن فشله ليس نجاحا ً لمن سيمحوه، بل حقيقة مرارتها  لا تقل علقما ً عن لذائد شهد النعيم...، فان لم تنفذ الأمر الذي أوكل إليك ...، فانك سترافقني بإرادتك للبحث عن أمل بالعثور على مكان لا حقائق فيه شبيهة بالأوهام، ولا أوهاما ً فيه تبدو كالحقائق!
ـ آه ...، هذا هو الجحيم، بل اشد منه عذابا ً، وهولا ً...، أيها المعلم...؟ فان لم تذهب إليه بنفسك، أتاك، فان لم ترحب به، فانه لن يكترث...، لا بك، ولا بي...، لأنه لم ـ ولن ـ يبوح بالذي كان علينا أن لا نتركه، بإرادتنا أو من غيرها، مادام المؤجل يكمل بعضه بعضا ً، مثل تتمات بانتظارها تتمات!                            Az4445363@gmail.com

27/7/2015

ليست هناك تعليقات: