قصة قصيرة
التحقيق لم يكتمل بعد
" النصر...؛ هو الهزيمة التي لا يمكن سرقتها منا...."
عادل كامل
ـ " حتى بعد سنوات طويلة جدا ً التي أمضيتها في عملي، فانا استطيع الاعتراف، بثقة، انه ليس لدي ّ أدلة صريحة تتحدث عن وجود هذا الذي أطالب بالإفصاح عنه...، كالحديث عن جرثومة ما، غامضة، شبيهة بنظرية المؤامرة، أو بتلك الأسرار التي كلما تم تفكيها تزداد غوصا ً في الظلمات....، باستثناء هذا الذي لم يتغير، بعناد يماثل هذه المزاعم، ويحافظ على ديمومتها، حتى يمكنني القول: باستحالة قهرها...."
وأصغت اللجنة المكونة من ثلاثة محققين، للبروفسور، بعد أن طلبوا منه الالتزام أن لا تتجاوز إجاباته، حدود السؤال، وتلافي مناورات التمويه، بدافع إضاعة الوقت، أو كسبه، بل الانضباط بشروط الأمانة، ودقتها. كان البروفسور، وقد أدرك، منذ وجد أن الصمت، بحد ذاته، تهمة، بل جريمة ليست بحاجة إلى شهود، أو أدلة، أن عليه مراعاة ما كان تدرب عليه: مادامت مهنتك تخص التقدم، فعليك أن تراعي ذلك بوضوح وشرف تامين..!
اقترب المحقق الأول، وهو فأر متوسط الحجم، سمين، وفي منتصف العمر، وسأله:
ـ أنت قلت: لا توجد أدلة صريحة بوجود سر...، فهل تسمح لنا، قبل التقدم في التحقيق، أن تعّرف لنا السر...؟
انتفض، مرتبكا ً، واحمر محياه، مصغيا ً إلى نبضات قلبه وقد بلغت قمة رأسه، وتمتم، مع نفسه، بشرود:
ـ هو ذا الذي لا يمكن التستر عليه...، انه هذا الذي نعرفه جميعا ً!
ضحك الفأر الثاني، وهو نحيل، له رأس شبيهة برأس أفاعي الصحراء، حاد النظرات، وسأله:
ـ كأنك تريد القول: الجاذبية هي الجاذبية وليست هي القوانين التي يعمل بها الكون....؟
رفع رأسه الصغير، الخالي إلا من خصلات متناثرة من الشعر الأبيض، عن سطح المنضدة المستطيلة ذات الغطاء الرمادي، وقال:
ـ لا ضرورة لاستبدال الكلمات، اعني المصطلحات أو المفاهيم، مع إن ذلك يساعدنا في التقدم...، فأقول.
صمت برهة وتابع:
ـ بالتأكيد هناك القوانين السابقة على وجودنا...، وبضمنها القوانين التي سمحت لنا أن نبلغ هذه الحدود، أو نهايتها...، أي أن نفكر في ما هو أصبح موضوعا ً للتفكير، أو خارج نطاقه، ولكن هذا لا علاقة له بالسر....؟
تثاءب الفأر الثالث، وهو قصير، نحيل، له رأس دب، وأنياب تمساح، وسأله:
ـ كأنك تتنصل عن الزمن السابق على وجود الجاذبية؟
ـ لا. وأضاف:
ـ ضمن حدود عملي المهني، فانا مسؤول مسؤولية مباشرة عن هذا الذي يحدث....، وليس لماذا حدث...، وليس...كيف ستكون نهايته؟
ـ آ .
اقترب الأول منه، ولكزه:
ـ اسمع، أنت قلت: لا أسرار هناك....، وقلت: فالخلية الجينية المركبة تعمل وفق نظام يسمح لها أن تقاوم غيابها، وأنت تقصد اندثارها...، أليس هذا، بذاته، يخص عمل السر...؟
ـ لا!
أجاب بثقة، وعلق:
ـ أين السر...؟ فانا أقول: 1+1= 2...، فأين يكمن السر...، وهل ثمة سر...؟
اقترب الثاني منه:
ـ صحيح، الجاذبية لها أسبقية في الوجود، وليس لنا حق أن ننبش في ذلك، لأننا، لا نمتلك أدواتنا في النبش، ولكن دعنا ننظر إلى الأمر من زاوية أخرى...
ـ تفضل.
ـ لو كانت الحقيقة، اقصد حقيقة الحياة، خالية من الأسرار...، كيف حافظ السر على أن يبقى سرا ً، ويحافظ على ديمومته الفعالة طوال هذا الزمن...؟
ـ سر ماذا ...، سيدي؟
ـ سرنا؟
ـ آ ....، أعود إلى مثالي السابق، لكن، على النحو التالي: ما هي نتيجة جمع ما لا يحصى من الموارد، أو قل الثروات، أو المال تحديدا ً...، مع ما لا يحصى من كميات مماثلة....؟ أليست النتيجة إننا لا نعرف حاصل الجمع؟
ـ ممتاز!
نطق الأول:
ـ ها أنت تقربنا من السر....، ولا تبعدنا...، ولكن هل جمع الحقائق بلا عدد محدد يفضي إلى النتائج المطلوبة....؟
ـ ضمن شروط مهنتي، وحرفيتي، يا سادة، هو التزامي بالحقائق، ومنها: العدد....، فانا اشتغلت، مثلا ً، في تطوير خلية مركبة من خلايا مختلفة، فالعدد أس المعادلة...، كالخليط المنصهر الذي يستحدث خامة ليس لها وجود في السابق...، وهذا شبيه بمثال آخر معروف: إن جمع ناتج قوى عدد من البهائم...، خذ مثلا ً حاصل عمل الذباب، أو القمل، أو البعوض يختلف، تماما ً الاختلاف، عن حاصل عمل الأبقار، والأسماك، والنحل أو الدواجن...
ضحك المحقق الثالث:
ـ نقول لك غزال، فتقول لنا: غراب!
ـ لا ..، يا سيدي، لا أبدا ً...، لأن حاصل جمع قوى هذه الفصائل يتقاطع مع برنامجنا في الأصل...، فهناك كائنات لا تنتج شيئا ً، وهي المخلوقات المغتصبة، والمعرضة للافتراس...، وهناك الكائنات التي مهمتها تكمن في تبرعها بما تنتجه...!
ـ جميل!
أمر الفأر الأول، باستراحة، للتشاور، تاركا البروفسور، وهو ابن أوى عجوز، لا يقوى على الوقوف، للتفكير بما دار من جدل حول ما لم يتم الانتهاء منه، بغية التوصل إلى قرارات اقل التباسا ً، ومضيعة للزمن.
ما أسباب هذه الاستراحة، تساءل، وكأنها فرضت، ما دامت خاتمتها أقرت قبل الاستجواب:
ـ سأخبركم إذا ً إن وجود هذا ألجين لا يعدو أكثر من تلك القوة التي لا تدع الزمن يمضي بأكثر من وجود عوامل تسمح للضوء ـ اقصد ضوء مجموعتنا ـ أن يتسارع وفق برامج لا تتقاطع مع الأصل..!
تخيلهم سيستأنفون التلويح بتأجيل التحقيق، وتركه معلقا ً، مما لن يسمح له حتى يتنفس الهواء، ولا الذهاب باستراحة يمضيها عند ضفاف البركة. فالحجر بات شبيها ً بقرار الإزالة، أو الإقصاء. فأرغم فمه على اتخاذ تعبير يناسب من أفاق توا ً من كابوس:
ـ هذا السر...، بالأحرى ...، هذا ألجين، أو لنقل ...، هذه المؤامرة ذات الأبعاد المترامية ...، الكلية...، لا علاقة لها بالمتورطين، أو المؤيدين، أو المنفذين، أو المروجين، أو المراقبين...أو ....، بل ولا علاقة لها حتى بهؤلاء الذين اخترعوها:
ـ فالحياة تتحكم بها أدوات تحافظ على ما هي عليه...، إنها تكّون أسرارها كي تفندها، تعلنها للإخفاء، وتظهرها من اجل محوها! وهو ذا قانون الديمومة!
وتخيلهم يفرطون في الضحك، بل يفطسون، ليس لأنه روى طرفة، بل لأن الفاجعة لا تحتمل إلا أن تكون سابقة على وجودها العنيد. ثم تخيلهم يكفون عن الضحك، ليسمعهم يقولون له بصوت واحد:
ـ أتتندر على الكارثة، وتبتهج لوقوع النكبات؟
ـ وهل بمقدوري أن افعل ذلك...؟
استراحة...، لماذا تم فرضها علي ّ إذا ً...؟ وسأل نفسه: هل المطلوب الاعتراف بان دوري بلغ نهايته، وأنا أصبحت فائضا ً، وعلي ّ ـ بهدوء ـ الإدلاء بذلك؟
ـ لكنني لم أتفوه بعبارة صالحة للاستخدام...، كل ما اعترفت به إنهم تجاهلوه تماما ً، وشطبوا عليه، وكأنني لم أكرس حياتي ....، للعمل على إزاحة هذه الحواجز، وهدم الحدود الوهمية بين الأجنحة، وتحسين الخدمات في الزرائب والحظائر، وليس ترك الحديقة تغطس في المجهول.
ـ عدنا إلى الجرح...
ـ أي جرح؟
وسمعهم ينطقون بصوت واحد:
ـ لا ترفع صوتك أعلى ....، ولا تخفضه أكثر....، وامش كأنك لم تر شيئا ً، ولم تسمع بما حدث!
ـ وهل باستطاعة حيوان أن يصبح شيئا ً آخر...، هل بمقدوره أن يوازن بين العقل والغرائز، حيوان تم أسره وتدجينه وتهذيبه وأخيرا ً حجزه داخل حدود ترسمت بالدم، بعد أن كانت ترسم بالبول!
ـ لو سمحت..، أيها البروفسور، اختر كلماتك بأدب، كي نحافظ على عناصر التشويق، والتهذيب، فأنت ترى كم حرصنا على ما سيقال...، فلسان التاريخ ملعون، فلا تغادر الشفافية، وتحول جلستنا إلى مأتم!
ـ آ ...، نعم، التاريخ! الأعراف، الكرامة، وهل باستطاعتي مغادرة هذا الفضاء الرقيق...، الناعم؟
وسأل نفسه، هل علي ّالعثور على إجابات...، أم على إضافة أسئلة؟ تخيل حوارا ً يجري بينه وبينهم.
ـ فانا لم أغادر السياق.... ، وانتم لا تعملون إلا على إلصاق ذنب لم ارتكبه أبدا ً...، فانا لم اقل، طوال حياتي، إن الجاذبية كانت سببا ً بحصول الكوارث، أو النكبات، مع إنني لم أوجه الاتهام إلى الديناصورات، أو إلى منقرض من المنقرضات، بعدم تدخلها بالأمر!
بات الأمر أكثر وضوحا ً: هناك قوة ما تعمل على تدمير كل ما كان يسمح لهم بوضع أفضل.
وسأل البروفسور، ابن أوى، نفسه: أأبدو في وضع ملتبس، ميئوس منه...، وكأنني صغت نهايتي قبل إغلاق نوافذ هذه المغارة....، بل وقبل أن أرمى فيها؟
كانت الحفرة شبيهة بسرداب له فتحة صغيرة، مضاءة بومضات حشرات مكثت تحّوم في فضائها، حفرة استطاع أن يحدد موقعها، في الحديقة، فهي تقع تحت جناح الخنازير مباشرة ..، وتحت جناح الجاموس...، لأنه مكث يحاول استبعاد رائحة الروث، والبراز الرطب المشبع بالبول، فكان جسده يتعرض لرجات قاومها بصعوبة، متخيلا ً انه سيعثر على إجابات تتوازن مع أسئلتها. فانا لم تكن لدي ّ أدنى فكرة عن اللا زمن الذي ولدت فيه هذه المخلوقات.
اهتز جسده فجأة ثم شعر انه لا يقوى على التنفس: لا...، لا اعتقد إنهم نصبوا كمينا ً لي...، أو إنني قدت خطاي للوقوع فيه. فانا منذ سنوات بعيدة قلت: لا وجود لنظرية المؤامرة أبدا ً...، بهذا المعنى...، وقصدت....
ضحك: ها أنا أصبحت أتحدث مع نفسي، وهذا وحده يشير إلى خلل...، فانا اسمح لهم بالعثور على دليل ضدي: جن !
ـ ولكنني أخبرتكم إن كل واحد منا...، بل...، وكل خلية أحادية، منذ وجدت...، قائمة على القانون الذي لا يسمح لها بالذهاب ابعد من شروط وجودها.....، فهي خلية ماكرة! ماذا قلت؟
أغلق فمه، وحدق في الحشرات الضوئية، وفكر من غير كلمات: راصدة...ـ فهي تتبع الأثر قبل تحوله إلى أثير، والى عدم! فلديها قدرة التقاط ذبذبات نظام عمل الخلايا قبل أن تصدر أية إشارة...، آنذاك أكون ارتكبت جريمة لا أساس لها، ولا حتى خطرت ببالي. فالمكر هو دلالة حيوية وعنصر ما يخص بنية الديمومة...، أما ذلك الذي لا يسمح للمخلوقات إلا بالحفاظ على ما هي عليه...، بل والارتداد إلى ما قبل الماضي السابق...، والأسبق، والسحيق، في مواجهة تعديل للعلاقات....، فهو ...
ولم يتلفظ بكلمة، بل ابتسم وقال للحشرات: ضوء قمري مغذى بمجسات كونية!
لم يكن مسموح لها بالرد. عمليا ً ـ دار بخلده ـ انتزعت منها حناجرها، وأجهزة التواصل التلباثي، وأصبحت من غير فرمونات، لا صوتية ولا فوق صوتية، للانشغال بإنتاج الطاقة الضوئية، وتلافي متاهة الأخطاء بهذا الشأن. كما لم يغفل، دار بباله، انه كان واحدا ً من برنامج العمل، الذي قاد إلى مشروع العبور من الظلمات إلى العتمة القرمزية، ومن ثم إلى الأنوار الرمادية، الشفيفة. فقد لخص نظريته بالاختزال، وباستحداث تعديلات لتوظيف الأصوات بالعمل على إنتاج الطاقة، وتحويل الأخيرة إلى أثير مشع ذاتي الدوافع، ولكن وفق النظام الكلي لمجموع السكان، وللمكونات كافة. وتذكر ـ بشرود طيفي ـ إن احدهم سأله: ألا ترى إننا كلما تقدمنا في تفكيك الأسرار نكتشف إننا اكتشفنا ما لم يكن يخطر برؤوسنا أبدا ً...؟ بلى! قال بصوت واثق، بلا تردد، لأن الأسرار إن خمدت فإنها تفضي إلى غيابها، بل وكأنها هي والعدم سواء!
ـ يا للكارثة، يا للنكبة!
أجاب بخوف تام. وتابع يقول لنفسه مجددا ً: آن لي ـ كما قلت ذلك ما لا يحصى من المرات ـ أنا هو من يقوم بتشذيب هذا النسق من الانحراف.... ، فانا مسؤول، بالدرجة الأولى، عن النتائج: توجد ارض ..، وتوجد مخلوقات...، فان غاب العمل فلا معنى لهما بالضرورة. ماذا قلت؟
ـ مرة أخرى أصبحت أتلافى ما يحدث لي لا إراديا ً...، هذا الذي طالما لمحت نهايته قبل التفكير حتى ببذور نشأته ....، وقبل الشروع بإجراء أي تعديل ممكن، أو ضمن التصور، والافتراضات المحتملة..
أوقف عمل الخلايا الباثة لا إراديا ً: فانا سأنتقل إلى نظام آخر: وأغدو مثل صخرة تأخذ موقع حضورها في الاتساع الكوني...، ومثل حرف في كلمة يستحيل زحزحتها من الجملة في الصفحة المدوّنة داخل هذا الكتاب المركون في الظلمات...
إلا انه ـ وفي السياق نفسه ـ شعر انه حقق انتصارا ً: هزيمة لا يمكنهم سرقتها مني...، كما سرقت حياتي! إلا انه ـ ردد من غير صوت ـ لا يرغب أن يوكل نفسه للدفاع عنها! فانا لست مذنبا ً، وأضاف، مع إنني أكدت دائما ً باستحالة وجود كائنات بلا ذنوب!
ـ إن لم تكن مذنبا ً...، فلماذا لا تحصل على البراءة؟
عاد الثلاثة يتقدمهم رابع اكبر حجما ً، له رأس ثور، من غير مجسات، أو قرون، ودار من حوله. فتخيل انه استنشق رائحة البرية، واستعاد بعضا ً من صورها، الشمس تشرق من وراء الدغل....
وسمع الرابع يتمتم مع نفسه:
ـ ما الفائدة...، ما الفائدة حتى لو أدلى بما نريد...، أو بما يريد... أو..؟
اقترب الفار الأول من كبير المحققين، هامسا ً:
ـ هذه هي أوامر الزعيم، مع إنني أشاطرك الرأي...، سيدي.
حدق في عينيه:
ـ كان عليكم أن لا تأتوا به أصلا ً...!
ودك ارض الحفرة واقترب من البروفسور:
ـ أنت قلت أن الموت فرضية فائضة.....، فما فائدة وجود المحرقة إذا ً...؟
لم يجب، فسأله مرة ثانية:
ـ الم ْ تسمعني؟
ـ آسف ...، كنت أتصور انك تتحدث مع القادة الآخرين!
ـ ها أنا أتحدث، وما عليك إلا أن تسمع...، لأنها ربما تكون فرصتك الوحيدة...، أليس كذلك...؟
ـ آ...
حاول أن ينهض، لكنه لم يستطع، فاضطر للكلام بصوت أعلى كي يسمعه:
ـ أنا اعتقد أن هناك جرثومة...، ثمة خلية، جزء ما لا يرى فيها..، مسؤول عن تنفيذ العمل...، لا إراديا ً، بمعنى، سيدي: يعمل كأنه طليق وقد كبل تماما ً بتنفيذ الواجب..، آسف...، لم يكبل، لم يكبل، بل هو حر تماما ً بالتخطي، لأن الحرية هي الذهاب وراء القيود.
سأل كبير المحققين الجميع:
ـ عن أية خلية، عن أية جرثومة، يتحدث؟
قالوا بصوت واحد:
ـ ربما قصد أن يعثر على خيط للنجاة...، فهو يعرف إننا مخلوقات فوق ذكية!
ضحك كبير المحققين وسأل البروفسور:
ـ هل السنونو مخلوق أحمق؟
ـ كلا!
ـ والضبع، ثم ما هو رأيك بالغراب...، أول من علم القاتل أسلوب التستر على الجريمة؟
ـ نعم!
ـ مرة تقول كلا لتقول نعم، ومرة تقول نعم لتوحي لنا بـ: كلا...، فهل هناك مؤامرة...، اجب...، من غير نعم ومن غير ...لا؟
ـ هناك...، هناك، جرثومة تعمل لا إراديا ً بأعلى درجات الحرية...
ـ ماذا تعمل...؟
ـ إنها تعمل...، اقصد إنها تعمل ضد العمل، وتفكر ضد أي شكل من أشكال التفكير!
ـ جميل! كأنك اكتشفت لغز العدالة؟
ـ لا ..، يا سيدي، أصغ إلي ّ...، أرجوك، أنا لا أهذي، فانا الآن اعمل ضد العمل كي أنفذه وفق البرنامج...
اقترب المحقق الأول منه:
ـ هناك مؤامرة إذا ً...، وخارجية، أي هناك من يعمل فيها، فثمة أهداف لها، ووسائل ...، أليس كذلك؟
ـ كنت أبديت تحفظي ...، التام...، والآن تأكد لي أن العاصفة ليست هي المسؤولة عن هدم الحدائق، واقتلاع أشجارها، وتخريبها، وإزالتها، ومحوها... من الوجود!
تابع المحقق الثاني:
ـ ها أنت تدلنا على ... الممرات الخفية....، لطفا ً لا تتوقف عن الكلام؟
ـ أنا لا اقصد إن الحدائق هي المسؤولة عن عدم مقاومتها للخراب، بل قصدت إن ما سيأتي لن يترك أثرا ً دالا ً على ما حدث، وعلى ما مضى...، فحتى الرماد لا يعد دليلا ً...، وإلا من ذا يعرف ماذا تقول الفراغات، وما تكتمه، وماذا يقول ضوء هذه الحشرات...؟
هز الثالث رأسه:
ـ انه يجدف!
ـ أبدا ً...، من أكون...، سيدي، والكل اللا متناهي لا يراني حتى قشة! فمن ذا أنا كي ابلغ هذه الدرجة..، درجة مذنب، أو جاحد، أو مجدّف...؟
ـ اعرف ...، ولكن موقعك هذا يكفي لإدانتك؟
رفع رأسه قليلا ً وقال بصوت مرتبك:
ـ سيدي، أنا لم انطق بكلمة واحدة دفاعا ً عن نفسي، فلم أتحدث عن براءتي أبدا ً..! ولكنني مشغول بمساعدتكم لاستنطاق خلايا راسي النائمة، فربما أنا مازلت أغط في حلم عميق؟
ـ جميل.
أضاف كبير المحققين:
ـ ها أنت بدأت بتفكيك العقد...، وتنبش في الممحوات!
ـ ولكن هذا يتطلب استنطاق جميع الحلقات، ومنها التي اندثرت قبل أن يكون لها وجود يذكر.
ضحك المحقق الثالث وقال:
ـ ومنها التي لم تولد بعد؟
ـ صحيح، كيف عرفت؟
هز رأسه متابعا ً:
ـ فما دام المستقبل برمته هو جزء لصيق آليا ً بسلسلة هذا الذي بحكم المندثر الغائب الذي لا وجود له فان عمل هذه الجرثومة يبدو مبررا ً..، سيدي، وصريحا ً!
صرخ المحقق الأول:
ـ ها أنت تغطس في الوحل!
ـ تقصد في المستنقع الذي ولدت فيه، سيدي؟
ـ في الزريبة، أو في الجحر، أو في المجرى، أو في الحظيرة...، أو في أي جناح أو ركن من أركان حديقتنا الخالدة ...، فأنت اعترفت بالدليل القاطع...
ـ لا ...، أنا لم استخدم أية أداة للقطع!
ـ أصبحت تناور...؟
ـ سيدي.
وخاطب كبير المحققين:
ـ ما دام المستقبل يمتد إلى ما وراء حافاته، فهو شبيه بمقدماته ليس باستطاعة احد أن يحدد مقاصده ..، وهذا تحديدا ً هو بيت الفرس!
ـ ها أنت تستخدم أمثلة العدو...، ولغته...؟
أكد لهم انه لا يفعل ذلك إلا توخيا ً للدقة والموضوعية، فمربض الفرس لا وجود له بانتفاء وجود الشاهد!
ربت كبير المحققين على كتفه:
ـ اخبرنا، يا سعادة البروفسور، كم علينا أن ننتظرك، وصبرنا بدأ بالنفاد...؟
رفع صوته:
ـ فكوا قيودي.
أمرهم كبير المحققين بإزالة السلاسل، وباقي القيود:
ـ آ ...، الآن أتكلم كأن الكلمات كانت مدفونة في كهف! فانا بودي، سيدي الموقر، أن أسألك: ما الذي تم استخلاصه من هذا التحقيق...، سوى إنني أمسكت بظل هذا المخلوق العنيد الذي يحافظ على ديمومة الماضي وصار يشتغل بوصفه مستقبلا ً؟
ـ أنا لن اعترض..، وأرجوك، يا كبير علماؤنا... لا تتوقف عن التدفق!
ـ فانا إذا ً ليس لدي ّ ما اخسره...، مادام الذي اربحه هو جزء من أجزاء الحلقة...، الخلية، الجرثومة، وقد بلغت ذروتها!
ـ قلت لك، لطفا ً، تابع، ولا تتوقف...؟
ـ لست أنا هو الذي توقف، ولا فمي، ولا خلايا دماغي، بل العمل ذاته يتطلب مثل هذه الاستراحات؟
ووجه كلامه للجميع:
ـ تعرفون إنني لست مبشرا ً...، ولا صاحب نظرية، أو بدعة، أو واحدا ً من المجتهدين، الشاطحين، المفترين، من أصحاب بث الإشاعات، وقد سبق لي ولفتت نظركم إلى أن نظرية المؤامرة لها حضور الطيف، فهي مثل الشبح تولد وتزول وكأنها أحكمت قبضتها على لغز غيابها بالقوة ذاتها في حضورها الشفاف!
ـ آ ...، الطيف أم الشبح؟
أجاب بصوت حازم حاد النهايات:
ـ لا احد منهما! وآسف إن كانت الكلمات سبقتني في التعبير!
ضحك المحقق الأول:
ـ ها أنت تقع في المصيدة، فاللسان مراوغ!
ـ تقصد العقل الكامن في خلايا الدماغ؟
ـ قل الخلايا التي أمضيت حياتك تعمل بها، وتستهلكها حتى بلغت درجة عدم صلاحيتها للعمل...، ودعك من اللسان بوصفه أداة عمل؟
ـ لا...، آسف...، لا يمكن عزل الأداة عن الموجه، ولا عن الوسيط، فلا يمكن فهمهما إلا باستحالة استبدالهما بأداة أخرى. فاللسان لا يعمل طليقا ً!
قال المحقق الثالث:
ـ ها أنت تبرهن انك فقدت أي أمل بالحصول على البراءة؟
ـ سيدي، لا تصدر حكما ً قبل أن تدرك انه كان قد صدر منذ زمن بعيد...؟
ـ كأنك تقول المستقبل يعمل بمعزل عن ماضيه؟
ـ بل أقول: الماضي لم ينته بعد...
فانا أكاد اشعر ـ من غير أدلة وبتوفرها كاملة ـ دار بخلده، انه لم يضع نهاية إلا لأنه مازال ديناميا ً..
سأله المحقق الثاني فجأة:
ـ كأنك تجري محاكمة لنفسك بمعزل عنا؟ هل تعتقد إننا خردة أم أدوات للقمع؟
ـ لا.. أبدا ً...، فالأمر يماثل السر، الذي يذهب ابعد من انتفاء دوره...، فهو يشتغل بوصفه يتجدد عبر علاماته...!
ـ انك تغوص أكثر مما كنا نتوقع...، وأكثر حتى مما كنا نرغب!
ابتسم، للمرة الأولى، ووجد فمه يعمل من غير أوامر، إنما زمه، وشده، وأغلقه لبرهة، بقرار حازم، بانتظار الرد.
سأله المحقق الأول بشرود:
ـ كأنك تقول إننا أدوات تعمل بمعزل عن إرادتها العليا؟
ـ ليس تماما ً.
وسكت مرة ثانية، انأ لست من خرب هذه الحديقة، أنا لم اقتلع أشجارها، لم افسد هوائها، ومائها، وترابها، أنا لم اسرق كنوزها، وأبيعها، وأصبح ثريا ً من أثريائها، أنا هذا الذي ابحث عنه بعد أن كنت وجدته ...
ـ ماذا قلت؟
وجد فمه ينطق:
ـ لأن هذا ينسحب بالضرورة على باقي الأجزاء!
وأضاف بعينين مغمضتين:
ـ لو عدنا إلى البرية، إلى الغابات، فالأقوى وحده يفرض سيادته، لكن هذا لن يقلل أبدا ً من التصميم المحكم حتى لأضعف الصنوف، والأنواع: فالكل يمتلك نفوذه!
رد الأول:
ـ من غير قصد أم كي تبقى الهزيمة أبدية؟
ـ كلاهما، يا صاحب السيادة، يؤكد صواب الآخر، ويدعمه...، فلا هزيمة تامة، ولا انتصارات بإمكانها وضع خاتمة لها. فالبرمجة تسمح للمناورة بالديمومة حتى إنها لا تعلن إلا عن طيفها الذي يمتلك قدرات هذه الأشباح!
اقترب المحقق الثاني منه:
ـ دعنا في الغابة...
ـ أمرك!
ـ الكل يموت ليتفسخ منتجا ً مضادات موته وتفسخه أيضا َ، فالكل إذا ً لا يموت، ولكنه يناور دفاعا ً عن موته!
ـ ها أنت تضع براءتك على المحك؟
ـ ماذا تقصد...؟
ـ اقصد تحديدا ً انك تمتلك هذا ألجين، الجرثومة، السر الغامض الذي تحرص على ديمومته؟
ـ أرجوك، فلا يحق لك إثارة مثل هذا الشك، فانا لم أصرح أبدا ً بكلمة لا تدل على معناها...؟
وهز البروفسور رأسه:
ـ نعم، وأنا لم اقل أن الأسد آثم لأنه لم يصبح إلا أسدا ً، بالعدوان...، أنا قلت إنها برمجة تؤدي دورها لأنها واعية بما هو ابعد من هذا الوعي! فلا احد باستطاعته وضع حد للعدالة؟
ـ تقصد: لطيفها، يا كبير علماؤنا...؟
ـ لا! العدالة ذاتها وإلا ما معنى أن نستبدلها بطيف؟
اقترب المحقق الأول منه وصرخ:
ـ انك تستحق المحو!
فقال المحقق الثاني:
ـ هذا يكفي لإرساله إلى المحرقة، فهو يدعو إلى عدالة بين النمر والغزال...، بين الغراب والصقر...، بين الضفدعة وزعيمنا الخالد؟
صرخ البروفسور:
ـ متى زل لساني بهذه الموبقات...؟ ومتى روجت لها....؟
رد الثالث:
ـ أنت تحدثت كفاية عن وجود جرثومة لا تسمح للأسد إلا أن يكون أسدا ً، والأمر لا يختلف عن الخنزير، أو العصفور...؟
ـ مثلما قلت أن الأقوى يستمد قوته من الضعفاء!
ـ هذا يؤكد وجهة النظر القائلة بان الملكية ما هي إلا حصل جمع الاغتصابات؟
ـ اخبروني...، كيف يحدث هذا التراكم....؟ أنا أقول لكم: انه يحدث للبرهنة على انه سيزول...، والعدالة، هنا، وحدها تنصف الجميع!
ـ أين ذهبت...؟ لأن ما نطقت به يرسلك إلى ابعد من الحرق..، وابعد من تحولك إلى رماد! فلا أمل لك حتى برد الاعتبار!
ـ سيدي، عندما استولى الأعداء على مصائرنا، استثمروا قانون الأقوى وشذبوه...، فصاروا يتحدثون عن العدالة كحديثهم عن الفردوس ...، وهكذا نسجوا نظرية المؤامرة وكأنها سابقة في وجودها على وجودهم، ووجودنا.
ـ دعك من البشر الأشرار...، لأن لعبتهم تثير الغثيان، سمجة، خسيسة، فاسدة، محشوة بالجذام، والنذلات، ومكتظة بجرثومة عبادة المال، ومظاهر الفخامة، ودناءات داء العظمة...، لأنها قائمة على التمويهات، والخداع، وغسل العقول، ولا يمكن في نهاية المطاف إصلاحها...، فدعنا نتكلم في حدود حديقتنا، الغناء، المزدهرة، دائمة الاخضرار، حيث الغزال يتمتع بالحقوق ذاتها التي يتمتع بها الذئب، والبلبل يغرد متى شاء مثل رفيقنا الحمار ينهق على مدار الساعة...، وهذه ليست دعابة، أو دعاية، نفاق، أو ترضية، أو خذلان، كي لا أرسل إلى المحرقة، بل لأن القضية برمتها لا تقبل الدحض!
ـ ها أنت تؤكد بوجود هذا ألجين، الجرثومة المشفرة بالأسرار، التي لا تسمح للمستقبل إلا أن يقع في قاع ماضيه...؟
ـ فسر لي، لو سمحت، يا سعادة المحقق، ما الذي أبقانا نرفع شعار: تقدم خطوة وتراجع ثلاث خطوات، كي نختزل الزمن، أو نحرق مراحله...؟
، نحن نسألك...، وليس أنت من يسأل...؟
ـ أنا لم ادع إنني آت من كوكب آخر...، ولا خرجت من النهر، ولا ولدت من غير ولادة، ولم ادع إنني امتلك السر، كما لم أروج له...، بل أنا هو واحد من هؤلاء الذين سكنتهم هذه الآفات!
ـ تقول إنها آفات وليس مؤامرات، ونذلات، وانعدام حياء...؟
ـ لا ...، لا توجد مؤامرة، مادام الجميع يؤكدون إن العمل بها يساوي العمل ضدها! فمادمنا جميعا ً، بدءا ً بالنمر إلى الذبابة، ومن الكركدن إلى البرغوث، ومن التماسيح إلى البعوض، ومن الفيلة إلى الضفادع، ومن النسور إلى الحشرات الضوئية، ومن الديناصورات إلى المنقرضات المستقبلية....، ستموت، أي ستهلك، فما معنى لو حددنا موقع هذا الشبح العنيد الذي أبقانا، نتنعم، بالضوء الكامن في الظلمات، ونحيا كأننا نجونا من جحيم المحرقة، ومن رمادها، ومن كل عقاب محتمل بعد ذلك..؟
ابتسم كبير المحققين:
ـ لِم َ لا نخرج في نزهة...
ـ آ ...، عند ضفاف البركة، تحت ظلال أشجار الليمون، خلف زرائب الثيران، وحظائر المجترات ...، ما أمتعها!
ووجد البروفسور انه لم يعد لديه ما يتستر عليه، أو يخفيه، ليس لأن الغاطس بلا نهايات، بل لأن العلاقة بينهما عفي عليها الزمن، فعبور كل ثانية من ثواني الزمن ـ مهما كان موقعها في التسلسل ـ تنتج نسجا ً مغايرا ً للنساج، ثم إن المغزل لا يدور بالأصابع من غير الغزل...، فقال:
ـ ها أنا ابلغ الذروة الحرجة...، فلم يعد لدي ّما أبوح به. ليس لعدم وجود ما يقال، بل لأنني لو فعلت فسأكون كمن أصبت بالاضطراب...!
صمت لحظة وأردف:
ـ فكل ما يدور في رؤوس النمل، أو القمل، أو البرغوث، أو الصراصير، أو النعام، أو الكلاب، أو الغربان، أو النمور....الخ، مدوّن لدينا! بل لقد سبق أن استحدثنا آليات لا تتنبأ بما سيقع فحسب، بل تتحكم بما سيقع بنسبة تجاوزت ما كنا حتى نحلم به!
فسأله كبير المحققين:
ـ عند من ...؟
ـ الم ْ أكن أنا هو من اشتغل بقراءة خلايا حفظ ديمومة هذا الذي عمل على هزيمة مفهوم الاندثار....، وتفكيك بناءات الساكن بساكن متحرك فعّال كي ّ يحافظ على أنساقه المهددة بالاستبدال، والاستحداث...؟
ـ نعم، أعرف!
ـ وهذا يعني تماما ًأن هناك ذلك الجزء الصريح، بل والمباشر، الذي لا يدع المستقبل يتحرك بأسرع من زحف الماضي نحوه...؟ فالمستقبل، سيدي، كرثة!
ـ غريب....، أستاذ أعظم مثلك يهاجم الغد...، ويفند آمال هذه الكائنات التواقة للذي لم تره، ولم تسمع به، ولم تلمسه، وتتذوقه، وتستنشقه، وتحدسه، وتدشنه....، أستاذ أعظم يفند تطلعنا للذي لم يكتشف بعد...، ويقف مع من يضع العثرات...؟
ـ سيدي الكبير: أتقصد عمل ذبذبات الخلايا ...، أم محركاتها، بانتظار صدمات غير متوقعه مادامت النهايات بحكم المدوّنة قبل تخطيها مسافات العبور...؟
ـ وماذا سيحدث ...؟
صمت. آ ......، متمتا ً: لرائحة الشمس وهي تتجمد...، وسكت، لينطق بمرح: فانا ما أزال أصغي إلى صدى أقدام الغزلان تهرول في البرية....، وصدى أصوات البلابل تغرد رغم نعيب الغربان ووصوصة الدواجن وفحيح الأفاعي..!
قال كبير المحققين:
ـ لا يحدث شيئا ً البتة! لأن هذا اللاشيء المبجل وحده المسؤول عن هذه الجرثومة، هذا اللغز الكامن في أقاصي أدمغتنا العنيدة!
ـ أكاد اجن...، تارة تتحدث عن الفراغ الوسيط بين المقدمات ونهاياتها، وتارة تتحدث عن اللا نهايات وقد شملت مقدماتها، وتارة أخرى تتحدث عن أصداء أقدام الغزلان....؟
ـ أوووووه ...، تريث، أغلق فمك، امح هذا الذي لوث عقلك الجميل...، وصر كأنك لم تولد، كأنك لم تمت، ولن تموت...، صر...، مثلي: ذراع تمتد إلى ما قبل الفجر...، وذراع تذهب ابعد من الغروب...، وتجمد، فانا لا اعبد إلا هذا الذي لا يتزحزح!
ـ عدنا إلى الحفرة؟
ـ نحن...، سيدي، لم نغادرها!
ـ لا اقصد هذه الحفرة في هذه الحديقة...
ـ سيدي، طلبت منك ـ والآن اكرر طلبي ـ أن نعمل على إعادة بناء هذه الخلايا...، وتجاهل، أو إهمال، أو إغفال وجود ذلك الجزء اللعين ...، أو تركه يعمل ضد العمل، تركه ساكنا ً، وفيا ً للذي سيأتي بعد هذه الحقبة من الزمن.....، كالذي مكث أمينا ً على القفل، فلم يترك يدا ً إلا وحجب عنها المفتاح، فها أنا أدلي بشهادتي وقد أصبحت طليقا ً شفافا ًخارج المراقبة وقوانين الاضطراب وضرباتها القاصمة...، وكأنني أنا هو لغز البذرة وسرها...!
وسكت، وامتد صمته. فاقتربوا منه، تأملوه، لمسوه عن بعد، استنشقوه، وانشغلوا بمراقبه باثاته، ومديات الموجات اللا مرئية الصادرة عنه، والمجاورة له، ليخاطبه الأول:
ـ البذرة تفعل ذلك لا إراديا ًبالتناسق مع نظام قهر المتغيرات اللا متوقعة.
وأضاف الرابع بفزع:
ـ أخشى إننا لم نستكمل انتزاع ما تبقى من المخفيات، وانه تمكن من تشفيرها بتمويهها بخلايا قيد الاستحداث، والتكّون...؟
أجاب الأول:
ـ سيدي، ليس لديه، وليس لدينا، ما يمكن التستر عليه!
ـ ماذا قلت..؟
ـ سيدي، يبدو انك بحاجة إلى جلسة!
ـ آسف، آسف، آسف....، فهمت!
ـ دعك من الأسف...، ليس لأن الأخطاء تعدل مساراتها آليا ً، وليس لأن المسارات لا ترتكب الأخطاء، وليس لأن الصواب يذهب ابعد من متاهاته، وليس لأن المتاهات تعمل بعشوائية...، بل لأن ما كنا نبحث عنه شغلنا حتى لم نعد نفكر بالبحث عنه!
ـ آ ......، أنا لن افتح فمي! ولن ابحث في خلايا رأسي عن هذا ألجين الشارد العنيد، ولن ....
وسكت كبير المحققين. فقال المحقق الأول:
ـ كان البروفسور على حق، بل كثيرا ً ما نبهنا عن تمويهات ضفاف اليقين، واستبعاد الشبهات...!
هز المحقق الثاني رأسه:
ـ فهو، أيها السادة، نبهنا إلى أن الغفلة، لا تحدث، إلا عندما نعتقد إننا تجاهلنها لحظة بعد تسترها وسكنها وتواريها في المخفيات، وعبر مظاهرها الخداعة، فكاد الحق يندمج بظله، ويذهب الظل ممتزجا ً بالضلال، وكاد الوهم أن يتلبس أركان اليقين ونسيجه!
أجاب المحقق الثالث:
ـ طالما كان البروفسور يردد: لا تسرعوا..، لا تسرعوا، لا تسرعوا ... بمعنى: لا تسرعوا فالذروة قادمة حتى لو كان خط شروعها لم يبدأ بعد.
أفاق البروفسور، حدق في الوجوه، ثم تمتم بصوت ناعم:
ـ آمل إنكم، أيها السادة، لم تغفلوا تدوين ما مر علي ّ أثناء فترات الصمت، وعبر لحظات الفراغ، فثمة بالفعل هناك هذا الذي يصعب انتزاعه من مناطقه المجهولة الكامنة بعيدا ً ووراء كل حدود، وخارج مدى الحافات.
اقترب المحقق الثالث منه كثيرا ً وهمس في إذنه:
ـ لا تهذي! فلو دوّنا ما رأيته، وما مر بخلايا دماغك، وانتشر في جسدك، وما تحول إلى بلورات، وأطياف، ورذاذ أثير ....، لتحتم علينا الإسراع، أسرع فأسرع من كل ما نمتلك من قدرات، وقوى، ونوايا ....، لبلوغ الذروة، بله معانقتها!
هز البروفسور رأسه: اجل... أجل، إذا ً أنا لم اخف عليكم حتى الذي كنت اجهله، لأن القضاء على هذا ألجين، أي هذا الداء، يعني، يا سادتي الكرام، القضاء علينا!
29/9/2016
Az4445363@gmail.com
التحقيق لم يكتمل بعد
" النصر...؛ هو الهزيمة التي لا يمكن سرقتها منا...."
عادل كامل
ـ " حتى بعد سنوات طويلة جدا ً التي أمضيتها في عملي، فانا استطيع الاعتراف، بثقة، انه ليس لدي ّ أدلة صريحة تتحدث عن وجود هذا الذي أطالب بالإفصاح عنه...، كالحديث عن جرثومة ما، غامضة، شبيهة بنظرية المؤامرة، أو بتلك الأسرار التي كلما تم تفكيها تزداد غوصا ً في الظلمات....، باستثناء هذا الذي لم يتغير، بعناد يماثل هذه المزاعم، ويحافظ على ديمومتها، حتى يمكنني القول: باستحالة قهرها...."
وأصغت اللجنة المكونة من ثلاثة محققين، للبروفسور، بعد أن طلبوا منه الالتزام أن لا تتجاوز إجاباته، حدود السؤال، وتلافي مناورات التمويه، بدافع إضاعة الوقت، أو كسبه، بل الانضباط بشروط الأمانة، ودقتها. كان البروفسور، وقد أدرك، منذ وجد أن الصمت، بحد ذاته، تهمة، بل جريمة ليست بحاجة إلى شهود، أو أدلة، أن عليه مراعاة ما كان تدرب عليه: مادامت مهنتك تخص التقدم، فعليك أن تراعي ذلك بوضوح وشرف تامين..!
اقترب المحقق الأول، وهو فأر متوسط الحجم، سمين، وفي منتصف العمر، وسأله:
ـ أنت قلت: لا توجد أدلة صريحة بوجود سر...، فهل تسمح لنا، قبل التقدم في التحقيق، أن تعّرف لنا السر...؟
انتفض، مرتبكا ً، واحمر محياه، مصغيا ً إلى نبضات قلبه وقد بلغت قمة رأسه، وتمتم، مع نفسه، بشرود:
ـ هو ذا الذي لا يمكن التستر عليه...، انه هذا الذي نعرفه جميعا ً!
ضحك الفأر الثاني، وهو نحيل، له رأس شبيهة برأس أفاعي الصحراء، حاد النظرات، وسأله:
ـ كأنك تريد القول: الجاذبية هي الجاذبية وليست هي القوانين التي يعمل بها الكون....؟
رفع رأسه الصغير، الخالي إلا من خصلات متناثرة من الشعر الأبيض، عن سطح المنضدة المستطيلة ذات الغطاء الرمادي، وقال:
ـ لا ضرورة لاستبدال الكلمات، اعني المصطلحات أو المفاهيم، مع إن ذلك يساعدنا في التقدم...، فأقول.
صمت برهة وتابع:
ـ بالتأكيد هناك القوانين السابقة على وجودنا...، وبضمنها القوانين التي سمحت لنا أن نبلغ هذه الحدود، أو نهايتها...، أي أن نفكر في ما هو أصبح موضوعا ً للتفكير، أو خارج نطاقه، ولكن هذا لا علاقة له بالسر....؟
تثاءب الفأر الثالث، وهو قصير، نحيل، له رأس دب، وأنياب تمساح، وسأله:
ـ كأنك تتنصل عن الزمن السابق على وجود الجاذبية؟
ـ لا. وأضاف:
ـ ضمن حدود عملي المهني، فانا مسؤول مسؤولية مباشرة عن هذا الذي يحدث....، وليس لماذا حدث...، وليس...كيف ستكون نهايته؟
ـ آ .
اقترب الأول منه، ولكزه:
ـ اسمع، أنت قلت: لا أسرار هناك....، وقلت: فالخلية الجينية المركبة تعمل وفق نظام يسمح لها أن تقاوم غيابها، وأنت تقصد اندثارها...، أليس هذا، بذاته، يخص عمل السر...؟
ـ لا!
أجاب بثقة، وعلق:
ـ أين السر...؟ فانا أقول: 1+1= 2...، فأين يكمن السر...، وهل ثمة سر...؟
اقترب الثاني منه:
ـ صحيح، الجاذبية لها أسبقية في الوجود، وليس لنا حق أن ننبش في ذلك، لأننا، لا نمتلك أدواتنا في النبش، ولكن دعنا ننظر إلى الأمر من زاوية أخرى...
ـ تفضل.
ـ لو كانت الحقيقة، اقصد حقيقة الحياة، خالية من الأسرار...، كيف حافظ السر على أن يبقى سرا ً، ويحافظ على ديمومته الفعالة طوال هذا الزمن...؟
ـ سر ماذا ...، سيدي؟
ـ سرنا؟
ـ آ ....، أعود إلى مثالي السابق، لكن، على النحو التالي: ما هي نتيجة جمع ما لا يحصى من الموارد، أو قل الثروات، أو المال تحديدا ً...، مع ما لا يحصى من كميات مماثلة....؟ أليست النتيجة إننا لا نعرف حاصل الجمع؟
ـ ممتاز!
نطق الأول:
ـ ها أنت تقربنا من السر....، ولا تبعدنا...، ولكن هل جمع الحقائق بلا عدد محدد يفضي إلى النتائج المطلوبة....؟
ـ ضمن شروط مهنتي، وحرفيتي، يا سادة، هو التزامي بالحقائق، ومنها: العدد....، فانا اشتغلت، مثلا ً، في تطوير خلية مركبة من خلايا مختلفة، فالعدد أس المعادلة...، كالخليط المنصهر الذي يستحدث خامة ليس لها وجود في السابق...، وهذا شبيه بمثال آخر معروف: إن جمع ناتج قوى عدد من البهائم...، خذ مثلا ً حاصل عمل الذباب، أو القمل، أو البعوض يختلف، تماما ً الاختلاف، عن حاصل عمل الأبقار، والأسماك، والنحل أو الدواجن...
ضحك المحقق الثالث:
ـ نقول لك غزال، فتقول لنا: غراب!
ـ لا ..، يا سيدي، لا أبدا ً...، لأن حاصل جمع قوى هذه الفصائل يتقاطع مع برنامجنا في الأصل...، فهناك كائنات لا تنتج شيئا ً، وهي المخلوقات المغتصبة، والمعرضة للافتراس...، وهناك الكائنات التي مهمتها تكمن في تبرعها بما تنتجه...!
ـ جميل!
أمر الفأر الأول، باستراحة، للتشاور، تاركا البروفسور، وهو ابن أوى عجوز، لا يقوى على الوقوف، للتفكير بما دار من جدل حول ما لم يتم الانتهاء منه، بغية التوصل إلى قرارات اقل التباسا ً، ومضيعة للزمن.
ما أسباب هذه الاستراحة، تساءل، وكأنها فرضت، ما دامت خاتمتها أقرت قبل الاستجواب:
ـ سأخبركم إذا ً إن وجود هذا ألجين لا يعدو أكثر من تلك القوة التي لا تدع الزمن يمضي بأكثر من وجود عوامل تسمح للضوء ـ اقصد ضوء مجموعتنا ـ أن يتسارع وفق برامج لا تتقاطع مع الأصل..!
تخيلهم سيستأنفون التلويح بتأجيل التحقيق، وتركه معلقا ً، مما لن يسمح له حتى يتنفس الهواء، ولا الذهاب باستراحة يمضيها عند ضفاف البركة. فالحجر بات شبيها ً بقرار الإزالة، أو الإقصاء. فأرغم فمه على اتخاذ تعبير يناسب من أفاق توا ً من كابوس:
ـ هذا السر...، بالأحرى ...، هذا ألجين، أو لنقل ...، هذه المؤامرة ذات الأبعاد المترامية ...، الكلية...، لا علاقة لها بالمتورطين، أو المؤيدين، أو المنفذين، أو المروجين، أو المراقبين...أو ....، بل ولا علاقة لها حتى بهؤلاء الذين اخترعوها:
ـ فالحياة تتحكم بها أدوات تحافظ على ما هي عليه...، إنها تكّون أسرارها كي تفندها، تعلنها للإخفاء، وتظهرها من اجل محوها! وهو ذا قانون الديمومة!
وتخيلهم يفرطون في الضحك، بل يفطسون، ليس لأنه روى طرفة، بل لأن الفاجعة لا تحتمل إلا أن تكون سابقة على وجودها العنيد. ثم تخيلهم يكفون عن الضحك، ليسمعهم يقولون له بصوت واحد:
ـ أتتندر على الكارثة، وتبتهج لوقوع النكبات؟
ـ وهل بمقدوري أن افعل ذلك...؟
استراحة...، لماذا تم فرضها علي ّ إذا ً...؟ وسأل نفسه: هل المطلوب الاعتراف بان دوري بلغ نهايته، وأنا أصبحت فائضا ً، وعلي ّ ـ بهدوء ـ الإدلاء بذلك؟
ـ لكنني لم أتفوه بعبارة صالحة للاستخدام...، كل ما اعترفت به إنهم تجاهلوه تماما ً، وشطبوا عليه، وكأنني لم أكرس حياتي ....، للعمل على إزاحة هذه الحواجز، وهدم الحدود الوهمية بين الأجنحة، وتحسين الخدمات في الزرائب والحظائر، وليس ترك الحديقة تغطس في المجهول.
ـ عدنا إلى الجرح...
ـ أي جرح؟
وسمعهم ينطقون بصوت واحد:
ـ لا ترفع صوتك أعلى ....، ولا تخفضه أكثر....، وامش كأنك لم تر شيئا ً، ولم تسمع بما حدث!
ـ وهل باستطاعة حيوان أن يصبح شيئا ً آخر...، هل بمقدوره أن يوازن بين العقل والغرائز، حيوان تم أسره وتدجينه وتهذيبه وأخيرا ً حجزه داخل حدود ترسمت بالدم، بعد أن كانت ترسم بالبول!
ـ لو سمحت..، أيها البروفسور، اختر كلماتك بأدب، كي نحافظ على عناصر التشويق، والتهذيب، فأنت ترى كم حرصنا على ما سيقال...، فلسان التاريخ ملعون، فلا تغادر الشفافية، وتحول جلستنا إلى مأتم!
ـ آ ...، نعم، التاريخ! الأعراف، الكرامة، وهل باستطاعتي مغادرة هذا الفضاء الرقيق...، الناعم؟
وسأل نفسه، هل علي ّالعثور على إجابات...، أم على إضافة أسئلة؟ تخيل حوارا ً يجري بينه وبينهم.
ـ فانا لم أغادر السياق.... ، وانتم لا تعملون إلا على إلصاق ذنب لم ارتكبه أبدا ً...، فانا لم اقل، طوال حياتي، إن الجاذبية كانت سببا ً بحصول الكوارث، أو النكبات، مع إنني لم أوجه الاتهام إلى الديناصورات، أو إلى منقرض من المنقرضات، بعدم تدخلها بالأمر!
بات الأمر أكثر وضوحا ً: هناك قوة ما تعمل على تدمير كل ما كان يسمح لهم بوضع أفضل.
وسأل البروفسور، ابن أوى، نفسه: أأبدو في وضع ملتبس، ميئوس منه...، وكأنني صغت نهايتي قبل إغلاق نوافذ هذه المغارة....، بل وقبل أن أرمى فيها؟
كانت الحفرة شبيهة بسرداب له فتحة صغيرة، مضاءة بومضات حشرات مكثت تحّوم في فضائها، حفرة استطاع أن يحدد موقعها، في الحديقة، فهي تقع تحت جناح الخنازير مباشرة ..، وتحت جناح الجاموس...، لأنه مكث يحاول استبعاد رائحة الروث، والبراز الرطب المشبع بالبول، فكان جسده يتعرض لرجات قاومها بصعوبة، متخيلا ً انه سيعثر على إجابات تتوازن مع أسئلتها. فانا لم تكن لدي ّ أدنى فكرة عن اللا زمن الذي ولدت فيه هذه المخلوقات.
اهتز جسده فجأة ثم شعر انه لا يقوى على التنفس: لا...، لا اعتقد إنهم نصبوا كمينا ً لي...، أو إنني قدت خطاي للوقوع فيه. فانا منذ سنوات بعيدة قلت: لا وجود لنظرية المؤامرة أبدا ً...، بهذا المعنى...، وقصدت....
ضحك: ها أنا أصبحت أتحدث مع نفسي، وهذا وحده يشير إلى خلل...، فانا اسمح لهم بالعثور على دليل ضدي: جن !
ـ ولكنني أخبرتكم إن كل واحد منا...، بل...، وكل خلية أحادية، منذ وجدت...، قائمة على القانون الذي لا يسمح لها بالذهاب ابعد من شروط وجودها.....، فهي خلية ماكرة! ماذا قلت؟
أغلق فمه، وحدق في الحشرات الضوئية، وفكر من غير كلمات: راصدة...ـ فهي تتبع الأثر قبل تحوله إلى أثير، والى عدم! فلديها قدرة التقاط ذبذبات نظام عمل الخلايا قبل أن تصدر أية إشارة...، آنذاك أكون ارتكبت جريمة لا أساس لها، ولا حتى خطرت ببالي. فالمكر هو دلالة حيوية وعنصر ما يخص بنية الديمومة...، أما ذلك الذي لا يسمح للمخلوقات إلا بالحفاظ على ما هي عليه...، بل والارتداد إلى ما قبل الماضي السابق...، والأسبق، والسحيق، في مواجهة تعديل للعلاقات....، فهو ...
ولم يتلفظ بكلمة، بل ابتسم وقال للحشرات: ضوء قمري مغذى بمجسات كونية!
لم يكن مسموح لها بالرد. عمليا ً ـ دار بخلده ـ انتزعت منها حناجرها، وأجهزة التواصل التلباثي، وأصبحت من غير فرمونات، لا صوتية ولا فوق صوتية، للانشغال بإنتاج الطاقة الضوئية، وتلافي متاهة الأخطاء بهذا الشأن. كما لم يغفل، دار بباله، انه كان واحدا ً من برنامج العمل، الذي قاد إلى مشروع العبور من الظلمات إلى العتمة القرمزية، ومن ثم إلى الأنوار الرمادية، الشفيفة. فقد لخص نظريته بالاختزال، وباستحداث تعديلات لتوظيف الأصوات بالعمل على إنتاج الطاقة، وتحويل الأخيرة إلى أثير مشع ذاتي الدوافع، ولكن وفق النظام الكلي لمجموع السكان، وللمكونات كافة. وتذكر ـ بشرود طيفي ـ إن احدهم سأله: ألا ترى إننا كلما تقدمنا في تفكيك الأسرار نكتشف إننا اكتشفنا ما لم يكن يخطر برؤوسنا أبدا ً...؟ بلى! قال بصوت واثق، بلا تردد، لأن الأسرار إن خمدت فإنها تفضي إلى غيابها، بل وكأنها هي والعدم سواء!
ـ يا للكارثة، يا للنكبة!
أجاب بخوف تام. وتابع يقول لنفسه مجددا ً: آن لي ـ كما قلت ذلك ما لا يحصى من المرات ـ أنا هو من يقوم بتشذيب هذا النسق من الانحراف.... ، فانا مسؤول، بالدرجة الأولى، عن النتائج: توجد ارض ..، وتوجد مخلوقات...، فان غاب العمل فلا معنى لهما بالضرورة. ماذا قلت؟
ـ مرة أخرى أصبحت أتلافى ما يحدث لي لا إراديا ً...، هذا الذي طالما لمحت نهايته قبل التفكير حتى ببذور نشأته ....، وقبل الشروع بإجراء أي تعديل ممكن، أو ضمن التصور، والافتراضات المحتملة..
أوقف عمل الخلايا الباثة لا إراديا ً: فانا سأنتقل إلى نظام آخر: وأغدو مثل صخرة تأخذ موقع حضورها في الاتساع الكوني...، ومثل حرف في كلمة يستحيل زحزحتها من الجملة في الصفحة المدوّنة داخل هذا الكتاب المركون في الظلمات...
إلا انه ـ وفي السياق نفسه ـ شعر انه حقق انتصارا ً: هزيمة لا يمكنهم سرقتها مني...، كما سرقت حياتي! إلا انه ـ ردد من غير صوت ـ لا يرغب أن يوكل نفسه للدفاع عنها! فانا لست مذنبا ً، وأضاف، مع إنني أكدت دائما ً باستحالة وجود كائنات بلا ذنوب!
ـ إن لم تكن مذنبا ً...، فلماذا لا تحصل على البراءة؟
عاد الثلاثة يتقدمهم رابع اكبر حجما ً، له رأس ثور، من غير مجسات، أو قرون، ودار من حوله. فتخيل انه استنشق رائحة البرية، واستعاد بعضا ً من صورها، الشمس تشرق من وراء الدغل....
وسمع الرابع يتمتم مع نفسه:
ـ ما الفائدة...، ما الفائدة حتى لو أدلى بما نريد...، أو بما يريد... أو..؟
اقترب الفار الأول من كبير المحققين، هامسا ً:
ـ هذه هي أوامر الزعيم، مع إنني أشاطرك الرأي...، سيدي.
حدق في عينيه:
ـ كان عليكم أن لا تأتوا به أصلا ً...!
ودك ارض الحفرة واقترب من البروفسور:
ـ أنت قلت أن الموت فرضية فائضة.....، فما فائدة وجود المحرقة إذا ً...؟
لم يجب، فسأله مرة ثانية:
ـ الم ْ تسمعني؟
ـ آسف ...، كنت أتصور انك تتحدث مع القادة الآخرين!
ـ ها أنا أتحدث، وما عليك إلا أن تسمع...، لأنها ربما تكون فرصتك الوحيدة...، أليس كذلك...؟
ـ آ...
حاول أن ينهض، لكنه لم يستطع، فاضطر للكلام بصوت أعلى كي يسمعه:
ـ أنا اعتقد أن هناك جرثومة...، ثمة خلية، جزء ما لا يرى فيها..، مسؤول عن تنفيذ العمل...، لا إراديا ً، بمعنى، سيدي: يعمل كأنه طليق وقد كبل تماما ً بتنفيذ الواجب..، آسف...، لم يكبل، لم يكبل، بل هو حر تماما ً بالتخطي، لأن الحرية هي الذهاب وراء القيود.
سأل كبير المحققين الجميع:
ـ عن أية خلية، عن أية جرثومة، يتحدث؟
قالوا بصوت واحد:
ـ ربما قصد أن يعثر على خيط للنجاة...، فهو يعرف إننا مخلوقات فوق ذكية!
ضحك كبير المحققين وسأل البروفسور:
ـ هل السنونو مخلوق أحمق؟
ـ كلا!
ـ والضبع، ثم ما هو رأيك بالغراب...، أول من علم القاتل أسلوب التستر على الجريمة؟
ـ نعم!
ـ مرة تقول كلا لتقول نعم، ومرة تقول نعم لتوحي لنا بـ: كلا...، فهل هناك مؤامرة...، اجب...، من غير نعم ومن غير ...لا؟
ـ هناك...، هناك، جرثومة تعمل لا إراديا ً بأعلى درجات الحرية...
ـ ماذا تعمل...؟
ـ إنها تعمل...، اقصد إنها تعمل ضد العمل، وتفكر ضد أي شكل من أشكال التفكير!
ـ جميل! كأنك اكتشفت لغز العدالة؟
ـ لا ..، يا سيدي، أصغ إلي ّ...، أرجوك، أنا لا أهذي، فانا الآن اعمل ضد العمل كي أنفذه وفق البرنامج...
اقترب المحقق الأول منه:
ـ هناك مؤامرة إذا ً...، وخارجية، أي هناك من يعمل فيها، فثمة أهداف لها، ووسائل ...، أليس كذلك؟
ـ كنت أبديت تحفظي ...، التام...، والآن تأكد لي أن العاصفة ليست هي المسؤولة عن هدم الحدائق، واقتلاع أشجارها، وتخريبها، وإزالتها، ومحوها... من الوجود!
تابع المحقق الثاني:
ـ ها أنت تدلنا على ... الممرات الخفية....، لطفا ً لا تتوقف عن الكلام؟
ـ أنا لا اقصد إن الحدائق هي المسؤولة عن عدم مقاومتها للخراب، بل قصدت إن ما سيأتي لن يترك أثرا ً دالا ً على ما حدث، وعلى ما مضى...، فحتى الرماد لا يعد دليلا ً...، وإلا من ذا يعرف ماذا تقول الفراغات، وما تكتمه، وماذا يقول ضوء هذه الحشرات...؟
هز الثالث رأسه:
ـ انه يجدف!
ـ أبدا ً...، من أكون...، سيدي، والكل اللا متناهي لا يراني حتى قشة! فمن ذا أنا كي ابلغ هذه الدرجة..، درجة مذنب، أو جاحد، أو مجدّف...؟
ـ اعرف ...، ولكن موقعك هذا يكفي لإدانتك؟
رفع رأسه قليلا ً وقال بصوت مرتبك:
ـ سيدي، أنا لم انطق بكلمة واحدة دفاعا ً عن نفسي، فلم أتحدث عن براءتي أبدا ً..! ولكنني مشغول بمساعدتكم لاستنطاق خلايا راسي النائمة، فربما أنا مازلت أغط في حلم عميق؟
ـ جميل.
أضاف كبير المحققين:
ـ ها أنت بدأت بتفكيك العقد...، وتنبش في الممحوات!
ـ ولكن هذا يتطلب استنطاق جميع الحلقات، ومنها التي اندثرت قبل أن يكون لها وجود يذكر.
ضحك المحقق الثالث وقال:
ـ ومنها التي لم تولد بعد؟
ـ صحيح، كيف عرفت؟
هز رأسه متابعا ً:
ـ فما دام المستقبل برمته هو جزء لصيق آليا ً بسلسلة هذا الذي بحكم المندثر الغائب الذي لا وجود له فان عمل هذه الجرثومة يبدو مبررا ً..، سيدي، وصريحا ً!
صرخ المحقق الأول:
ـ ها أنت تغطس في الوحل!
ـ تقصد في المستنقع الذي ولدت فيه، سيدي؟
ـ في الزريبة، أو في الجحر، أو في المجرى، أو في الحظيرة...، أو في أي جناح أو ركن من أركان حديقتنا الخالدة ...، فأنت اعترفت بالدليل القاطع...
ـ لا ...، أنا لم استخدم أية أداة للقطع!
ـ أصبحت تناور...؟
ـ سيدي.
وخاطب كبير المحققين:
ـ ما دام المستقبل يمتد إلى ما وراء حافاته، فهو شبيه بمقدماته ليس باستطاعة احد أن يحدد مقاصده ..، وهذا تحديدا ً هو بيت الفرس!
ـ ها أنت تستخدم أمثلة العدو...، ولغته...؟
أكد لهم انه لا يفعل ذلك إلا توخيا ً للدقة والموضوعية، فمربض الفرس لا وجود له بانتفاء وجود الشاهد!
ربت كبير المحققين على كتفه:
ـ اخبرنا، يا سعادة البروفسور، كم علينا أن ننتظرك، وصبرنا بدأ بالنفاد...؟
رفع صوته:
ـ فكوا قيودي.
أمرهم كبير المحققين بإزالة السلاسل، وباقي القيود:
ـ آ ...، الآن أتكلم كأن الكلمات كانت مدفونة في كهف! فانا بودي، سيدي الموقر، أن أسألك: ما الذي تم استخلاصه من هذا التحقيق...، سوى إنني أمسكت بظل هذا المخلوق العنيد الذي يحافظ على ديمومة الماضي وصار يشتغل بوصفه مستقبلا ً؟
ـ أنا لن اعترض..، وأرجوك، يا كبير علماؤنا... لا تتوقف عن التدفق!
ـ فانا إذا ً ليس لدي ّ ما اخسره...، مادام الذي اربحه هو جزء من أجزاء الحلقة...، الخلية، الجرثومة، وقد بلغت ذروتها!
ـ قلت لك، لطفا ً، تابع، ولا تتوقف...؟
ـ لست أنا هو الذي توقف، ولا فمي، ولا خلايا دماغي، بل العمل ذاته يتطلب مثل هذه الاستراحات؟
ووجه كلامه للجميع:
ـ تعرفون إنني لست مبشرا ً...، ولا صاحب نظرية، أو بدعة، أو واحدا ً من المجتهدين، الشاطحين، المفترين، من أصحاب بث الإشاعات، وقد سبق لي ولفتت نظركم إلى أن نظرية المؤامرة لها حضور الطيف، فهي مثل الشبح تولد وتزول وكأنها أحكمت قبضتها على لغز غيابها بالقوة ذاتها في حضورها الشفاف!
ـ آ ...، الطيف أم الشبح؟
أجاب بصوت حازم حاد النهايات:
ـ لا احد منهما! وآسف إن كانت الكلمات سبقتني في التعبير!
ضحك المحقق الأول:
ـ ها أنت تقع في المصيدة، فاللسان مراوغ!
ـ تقصد العقل الكامن في خلايا الدماغ؟
ـ قل الخلايا التي أمضيت حياتك تعمل بها، وتستهلكها حتى بلغت درجة عدم صلاحيتها للعمل...، ودعك من اللسان بوصفه أداة عمل؟
ـ لا...، آسف...، لا يمكن عزل الأداة عن الموجه، ولا عن الوسيط، فلا يمكن فهمهما إلا باستحالة استبدالهما بأداة أخرى. فاللسان لا يعمل طليقا ً!
قال المحقق الثالث:
ـ ها أنت تبرهن انك فقدت أي أمل بالحصول على البراءة؟
ـ سيدي، لا تصدر حكما ً قبل أن تدرك انه كان قد صدر منذ زمن بعيد...؟
ـ كأنك تقول المستقبل يعمل بمعزل عن ماضيه؟
ـ بل أقول: الماضي لم ينته بعد...
فانا أكاد اشعر ـ من غير أدلة وبتوفرها كاملة ـ دار بخلده، انه لم يضع نهاية إلا لأنه مازال ديناميا ً..
سأله المحقق الثاني فجأة:
ـ كأنك تجري محاكمة لنفسك بمعزل عنا؟ هل تعتقد إننا خردة أم أدوات للقمع؟
ـ لا.. أبدا ً...، فالأمر يماثل السر، الذي يذهب ابعد من انتفاء دوره...، فهو يشتغل بوصفه يتجدد عبر علاماته...!
ـ انك تغوص أكثر مما كنا نتوقع...، وأكثر حتى مما كنا نرغب!
ابتسم، للمرة الأولى، ووجد فمه يعمل من غير أوامر، إنما زمه، وشده، وأغلقه لبرهة، بقرار حازم، بانتظار الرد.
سأله المحقق الأول بشرود:
ـ كأنك تقول إننا أدوات تعمل بمعزل عن إرادتها العليا؟
ـ ليس تماما ً.
وسكت مرة ثانية، انأ لست من خرب هذه الحديقة، أنا لم اقتلع أشجارها، لم افسد هوائها، ومائها، وترابها، أنا لم اسرق كنوزها، وأبيعها، وأصبح ثريا ً من أثريائها، أنا هذا الذي ابحث عنه بعد أن كنت وجدته ...
ـ ماذا قلت؟
وجد فمه ينطق:
ـ لأن هذا ينسحب بالضرورة على باقي الأجزاء!
وأضاف بعينين مغمضتين:
ـ لو عدنا إلى البرية، إلى الغابات، فالأقوى وحده يفرض سيادته، لكن هذا لن يقلل أبدا ً من التصميم المحكم حتى لأضعف الصنوف، والأنواع: فالكل يمتلك نفوذه!
رد الأول:
ـ من غير قصد أم كي تبقى الهزيمة أبدية؟
ـ كلاهما، يا صاحب السيادة، يؤكد صواب الآخر، ويدعمه...، فلا هزيمة تامة، ولا انتصارات بإمكانها وضع خاتمة لها. فالبرمجة تسمح للمناورة بالديمومة حتى إنها لا تعلن إلا عن طيفها الذي يمتلك قدرات هذه الأشباح!
اقترب المحقق الثاني منه:
ـ دعنا في الغابة...
ـ أمرك!
ـ الكل يموت ليتفسخ منتجا ً مضادات موته وتفسخه أيضا َ، فالكل إذا ً لا يموت، ولكنه يناور دفاعا ً عن موته!
ـ ها أنت تضع براءتك على المحك؟
ـ ماذا تقصد...؟
ـ اقصد تحديدا ً انك تمتلك هذا ألجين، الجرثومة، السر الغامض الذي تحرص على ديمومته؟
ـ أرجوك، فلا يحق لك إثارة مثل هذا الشك، فانا لم أصرح أبدا ً بكلمة لا تدل على معناها...؟
وهز البروفسور رأسه:
ـ نعم، وأنا لم اقل أن الأسد آثم لأنه لم يصبح إلا أسدا ً، بالعدوان...، أنا قلت إنها برمجة تؤدي دورها لأنها واعية بما هو ابعد من هذا الوعي! فلا احد باستطاعته وضع حد للعدالة؟
ـ تقصد: لطيفها، يا كبير علماؤنا...؟
ـ لا! العدالة ذاتها وإلا ما معنى أن نستبدلها بطيف؟
اقترب المحقق الأول منه وصرخ:
ـ انك تستحق المحو!
فقال المحقق الثاني:
ـ هذا يكفي لإرساله إلى المحرقة، فهو يدعو إلى عدالة بين النمر والغزال...، بين الغراب والصقر...، بين الضفدعة وزعيمنا الخالد؟
صرخ البروفسور:
ـ متى زل لساني بهذه الموبقات...؟ ومتى روجت لها....؟
رد الثالث:
ـ أنت تحدثت كفاية عن وجود جرثومة لا تسمح للأسد إلا أن يكون أسدا ً، والأمر لا يختلف عن الخنزير، أو العصفور...؟
ـ مثلما قلت أن الأقوى يستمد قوته من الضعفاء!
ـ هذا يؤكد وجهة النظر القائلة بان الملكية ما هي إلا حصل جمع الاغتصابات؟
ـ اخبروني...، كيف يحدث هذا التراكم....؟ أنا أقول لكم: انه يحدث للبرهنة على انه سيزول...، والعدالة، هنا، وحدها تنصف الجميع!
ـ أين ذهبت...؟ لأن ما نطقت به يرسلك إلى ابعد من الحرق..، وابعد من تحولك إلى رماد! فلا أمل لك حتى برد الاعتبار!
ـ سيدي، عندما استولى الأعداء على مصائرنا، استثمروا قانون الأقوى وشذبوه...، فصاروا يتحدثون عن العدالة كحديثهم عن الفردوس ...، وهكذا نسجوا نظرية المؤامرة وكأنها سابقة في وجودها على وجودهم، ووجودنا.
ـ دعك من البشر الأشرار...، لأن لعبتهم تثير الغثيان، سمجة، خسيسة، فاسدة، محشوة بالجذام، والنذلات، ومكتظة بجرثومة عبادة المال، ومظاهر الفخامة، ودناءات داء العظمة...، لأنها قائمة على التمويهات، والخداع، وغسل العقول، ولا يمكن في نهاية المطاف إصلاحها...، فدعنا نتكلم في حدود حديقتنا، الغناء، المزدهرة، دائمة الاخضرار، حيث الغزال يتمتع بالحقوق ذاتها التي يتمتع بها الذئب، والبلبل يغرد متى شاء مثل رفيقنا الحمار ينهق على مدار الساعة...، وهذه ليست دعابة، أو دعاية، نفاق، أو ترضية، أو خذلان، كي لا أرسل إلى المحرقة، بل لأن القضية برمتها لا تقبل الدحض!
ـ ها أنت تؤكد بوجود هذا ألجين، الجرثومة المشفرة بالأسرار، التي لا تسمح للمستقبل إلا أن يقع في قاع ماضيه...؟
ـ فسر لي، لو سمحت، يا سعادة المحقق، ما الذي أبقانا نرفع شعار: تقدم خطوة وتراجع ثلاث خطوات، كي نختزل الزمن، أو نحرق مراحله...؟
، نحن نسألك...، وليس أنت من يسأل...؟
ـ أنا لم ادع إنني آت من كوكب آخر...، ولا خرجت من النهر، ولا ولدت من غير ولادة، ولم ادع إنني امتلك السر، كما لم أروج له...، بل أنا هو واحد من هؤلاء الذين سكنتهم هذه الآفات!
ـ تقول إنها آفات وليس مؤامرات، ونذلات، وانعدام حياء...؟
ـ لا ...، لا توجد مؤامرة، مادام الجميع يؤكدون إن العمل بها يساوي العمل ضدها! فمادمنا جميعا ً، بدءا ً بالنمر إلى الذبابة، ومن الكركدن إلى البرغوث، ومن التماسيح إلى البعوض، ومن الفيلة إلى الضفادع، ومن النسور إلى الحشرات الضوئية، ومن الديناصورات إلى المنقرضات المستقبلية....، ستموت، أي ستهلك، فما معنى لو حددنا موقع هذا الشبح العنيد الذي أبقانا، نتنعم، بالضوء الكامن في الظلمات، ونحيا كأننا نجونا من جحيم المحرقة، ومن رمادها، ومن كل عقاب محتمل بعد ذلك..؟
ابتسم كبير المحققين:
ـ لِم َ لا نخرج في نزهة...
ـ آ ...، عند ضفاف البركة، تحت ظلال أشجار الليمون، خلف زرائب الثيران، وحظائر المجترات ...، ما أمتعها!
ووجد البروفسور انه لم يعد لديه ما يتستر عليه، أو يخفيه، ليس لأن الغاطس بلا نهايات، بل لأن العلاقة بينهما عفي عليها الزمن، فعبور كل ثانية من ثواني الزمن ـ مهما كان موقعها في التسلسل ـ تنتج نسجا ً مغايرا ً للنساج، ثم إن المغزل لا يدور بالأصابع من غير الغزل...، فقال:
ـ ها أنا ابلغ الذروة الحرجة...، فلم يعد لدي ّما أبوح به. ليس لعدم وجود ما يقال، بل لأنني لو فعلت فسأكون كمن أصبت بالاضطراب...!
صمت لحظة وأردف:
ـ فكل ما يدور في رؤوس النمل، أو القمل، أو البرغوث، أو الصراصير، أو النعام، أو الكلاب، أو الغربان، أو النمور....الخ، مدوّن لدينا! بل لقد سبق أن استحدثنا آليات لا تتنبأ بما سيقع فحسب، بل تتحكم بما سيقع بنسبة تجاوزت ما كنا حتى نحلم به!
فسأله كبير المحققين:
ـ عند من ...؟
ـ الم ْ أكن أنا هو من اشتغل بقراءة خلايا حفظ ديمومة هذا الذي عمل على هزيمة مفهوم الاندثار....، وتفكيك بناءات الساكن بساكن متحرك فعّال كي ّ يحافظ على أنساقه المهددة بالاستبدال، والاستحداث...؟
ـ نعم، أعرف!
ـ وهذا يعني تماما ًأن هناك ذلك الجزء الصريح، بل والمباشر، الذي لا يدع المستقبل يتحرك بأسرع من زحف الماضي نحوه...؟ فالمستقبل، سيدي، كرثة!
ـ غريب....، أستاذ أعظم مثلك يهاجم الغد...، ويفند آمال هذه الكائنات التواقة للذي لم تره، ولم تسمع به، ولم تلمسه، وتتذوقه، وتستنشقه، وتحدسه، وتدشنه....، أستاذ أعظم يفند تطلعنا للذي لم يكتشف بعد...، ويقف مع من يضع العثرات...؟
ـ سيدي الكبير: أتقصد عمل ذبذبات الخلايا ...، أم محركاتها، بانتظار صدمات غير متوقعه مادامت النهايات بحكم المدوّنة قبل تخطيها مسافات العبور...؟
ـ وماذا سيحدث ...؟
صمت. آ ......، متمتا ً: لرائحة الشمس وهي تتجمد...، وسكت، لينطق بمرح: فانا ما أزال أصغي إلى صدى أقدام الغزلان تهرول في البرية....، وصدى أصوات البلابل تغرد رغم نعيب الغربان ووصوصة الدواجن وفحيح الأفاعي..!
قال كبير المحققين:
ـ لا يحدث شيئا ً البتة! لأن هذا اللاشيء المبجل وحده المسؤول عن هذه الجرثومة، هذا اللغز الكامن في أقاصي أدمغتنا العنيدة!
ـ أكاد اجن...، تارة تتحدث عن الفراغ الوسيط بين المقدمات ونهاياتها، وتارة تتحدث عن اللا نهايات وقد شملت مقدماتها، وتارة أخرى تتحدث عن أصداء أقدام الغزلان....؟
ـ أوووووه ...، تريث، أغلق فمك، امح هذا الذي لوث عقلك الجميل...، وصر كأنك لم تولد، كأنك لم تمت، ولن تموت...، صر...، مثلي: ذراع تمتد إلى ما قبل الفجر...، وذراع تذهب ابعد من الغروب...، وتجمد، فانا لا اعبد إلا هذا الذي لا يتزحزح!
ـ عدنا إلى الحفرة؟
ـ نحن...، سيدي، لم نغادرها!
ـ لا اقصد هذه الحفرة في هذه الحديقة...
ـ سيدي، طلبت منك ـ والآن اكرر طلبي ـ أن نعمل على إعادة بناء هذه الخلايا...، وتجاهل، أو إهمال، أو إغفال وجود ذلك الجزء اللعين ...، أو تركه يعمل ضد العمل، تركه ساكنا ً، وفيا ً للذي سيأتي بعد هذه الحقبة من الزمن.....، كالذي مكث أمينا ً على القفل، فلم يترك يدا ً إلا وحجب عنها المفتاح، فها أنا أدلي بشهادتي وقد أصبحت طليقا ً شفافا ًخارج المراقبة وقوانين الاضطراب وضرباتها القاصمة...، وكأنني أنا هو لغز البذرة وسرها...!
وسكت، وامتد صمته. فاقتربوا منه، تأملوه، لمسوه عن بعد، استنشقوه، وانشغلوا بمراقبه باثاته، ومديات الموجات اللا مرئية الصادرة عنه، والمجاورة له، ليخاطبه الأول:
ـ البذرة تفعل ذلك لا إراديا ًبالتناسق مع نظام قهر المتغيرات اللا متوقعة.
وأضاف الرابع بفزع:
ـ أخشى إننا لم نستكمل انتزاع ما تبقى من المخفيات، وانه تمكن من تشفيرها بتمويهها بخلايا قيد الاستحداث، والتكّون...؟
أجاب الأول:
ـ سيدي، ليس لديه، وليس لدينا، ما يمكن التستر عليه!
ـ ماذا قلت..؟
ـ سيدي، يبدو انك بحاجة إلى جلسة!
ـ آسف، آسف، آسف....، فهمت!
ـ دعك من الأسف...، ليس لأن الأخطاء تعدل مساراتها آليا ً، وليس لأن المسارات لا ترتكب الأخطاء، وليس لأن الصواب يذهب ابعد من متاهاته، وليس لأن المتاهات تعمل بعشوائية...، بل لأن ما كنا نبحث عنه شغلنا حتى لم نعد نفكر بالبحث عنه!
ـ آ ......، أنا لن افتح فمي! ولن ابحث في خلايا رأسي عن هذا ألجين الشارد العنيد، ولن ....
وسكت كبير المحققين. فقال المحقق الأول:
ـ كان البروفسور على حق، بل كثيرا ً ما نبهنا عن تمويهات ضفاف اليقين، واستبعاد الشبهات...!
هز المحقق الثاني رأسه:
ـ فهو، أيها السادة، نبهنا إلى أن الغفلة، لا تحدث، إلا عندما نعتقد إننا تجاهلنها لحظة بعد تسترها وسكنها وتواريها في المخفيات، وعبر مظاهرها الخداعة، فكاد الحق يندمج بظله، ويذهب الظل ممتزجا ً بالضلال، وكاد الوهم أن يتلبس أركان اليقين ونسيجه!
أجاب المحقق الثالث:
ـ طالما كان البروفسور يردد: لا تسرعوا..، لا تسرعوا، لا تسرعوا ... بمعنى: لا تسرعوا فالذروة قادمة حتى لو كان خط شروعها لم يبدأ بعد.
أفاق البروفسور، حدق في الوجوه، ثم تمتم بصوت ناعم:
ـ آمل إنكم، أيها السادة، لم تغفلوا تدوين ما مر علي ّ أثناء فترات الصمت، وعبر لحظات الفراغ، فثمة بالفعل هناك هذا الذي يصعب انتزاعه من مناطقه المجهولة الكامنة بعيدا ً ووراء كل حدود، وخارج مدى الحافات.
اقترب المحقق الثالث منه كثيرا ً وهمس في إذنه:
ـ لا تهذي! فلو دوّنا ما رأيته، وما مر بخلايا دماغك، وانتشر في جسدك، وما تحول إلى بلورات، وأطياف، ورذاذ أثير ....، لتحتم علينا الإسراع، أسرع فأسرع من كل ما نمتلك من قدرات، وقوى، ونوايا ....، لبلوغ الذروة، بله معانقتها!
هز البروفسور رأسه: اجل... أجل، إذا ً أنا لم اخف عليكم حتى الذي كنت اجهله، لأن القضاء على هذا ألجين، أي هذا الداء، يعني، يا سادتي الكرام، القضاء علينا!
29/9/2016
Az4445363@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق