بحث هذه المدونة الإلكترونية

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 18 أكتوبر 2016

السيرك- قصة قصيرة- عادل كامل

قصة قصيرة

السيرك


عادل كامل
     مع انه لم يذهب إلى السيرك، ولم يشهد فعالية من فعالياته، ليس لأن أحزانه سدت عليه منافذ الرغبة، بل لأنه وجد أن ما تبقى من أيام حياته يتوقف على تلافي استذكار بداياتها، إلا أن ما كان يسمعه من شهود عيان، ثقاة، سمح له بالذهاب ابعد من الألعاب البهلوانية، وزج أكثر الفصائل تعنتا ً في ممارستها، والتوله بها، في الرقص، والاختبارات السحرية، ومعرفة خفاياها التي وجدت قبولا ً حتى من المعادين للمرح، والفكاهة، للقبول بها، كأمر غير قابل للاستبدال، والدحض.
     بيد انه لم يكن تصوّر حياته مضت بعيدا ً عنه، عنه هو تحديدا ً، أو عن أي مفهوم آخر للعب على الحبال، وتبني مبدأ إن لم ْ تكن ماكرا ً، فلا موقع لك في اللعبة، مما جعله يفكر بتقديم طلب الانتساب، والانضمام، إلى السيرك، ليس لأنه أجرى أحاديث عابرة، وأخرى جادة، مع شركاء له في الجناح، ومع شركاء آخرين في باقي الحظائر، والزرائب، والأقفاص، مستنتجا ً أن القبول بالعزلة، ليس قدرا ً، بل هزيمة. ومع انه لم يعلن رأيه أو ينحاز إلى البطولات، إلا انه رغب ألا يحّمل ضميره ما لا يحتمل، فهو أعلن قبل سنوات بعيدة استحالة التقدم حتى خطوة واحدة….، لأن التقدم هو الآخر ليس قدرا ً، فلا يصح أن تتحول أوامر الموتى وأعرافهم إلى ثوابت، ونواهي، فالشمس لا تشرق من ممر واحد، ولا تغيب في الممر ذاته، بل هي في كل جزء من أجزاء الزمن غير التي كانت عليه قبل ذلك.
   ابتسم من غير ابتهاج، قبل أن يفكر بالانضمام، فقد ارتبك بالرد على سؤال لو سئل: لماذا تأخرت…؟ قال انه سيعثر على رد، كالقول بأنه لا معنى لإغفال ما حدث، أو انه يمتلك مهارات يود أن تكون نافعة، أو كي لا تذهب سدى.  ثم خطر بباله أن لا يجوز للتماسيح، أو للفيلة، أو حتى للسلاحف، القفز خمسة أمتار في الهواء، في الوقت الذي كان فيه معلما ً للوثب العالي، وأستاذا ً ماهرا ً في التدلي من غير حبال، والدوران في الفراغات عبر ممرات افتراضية…، لم يدع فمه يفضحه قبل أن يتقدم خطوة لطلب استمارة الاختبار، لأنه عرف، من الموظفين، أن عليه أن يتحلى بالوقار، والتجلد، رغم ما كان يتم تناقله عما يجري بعد الانضمام إلى الفريق، وامتهان أندر الأعمال وأكثرها صعوبة، من نوادر غريبة…، كالعلاقات الغامضة بين نوع وآخر له تاريخ طويل في العداء، والكراهية، لأن عمل الفريق يتطلب محو الغرائز، ومبدأ الإرادة العمياء،  والذهاب ابعد من شعارات السيرك المتداولة.
   فسأله الموظف: أخيرا قررت…؟
   صدم للهجته فقد شعر إنها استفزازية، فقال الموظف حالا ً:
ـ لا..، أبدا ً، أنا لا استفزك…، لماذا افعل ذلك…، وأنا محض موظف في إدارة المؤسسة…، وأنت تعرف كم بذلت من جهد كي احصل عليها!
    هز الذئب المسن رأسه، ورد:
ـ آسف…، فانا لم اعتد مثل هذه اللقاءات..
ـ آووووه…،  هذا مؤذ…، العزلة، هل قرأت كتاب زعيمنا بصدد مضار التوحد، وأثره في نظامنا الجمعي.
وأردف الموظف في الحال:
ـ  فالعزلة تدفعك للبحث عن الذي لا وجود له، لتجد انك ما أن تمسكه، حتى تكون كمن امسك بالهواء!
   أكد له الذئب انه لم يتأخر في خوض التجربة، وإنما للضرورة أحكام، كما يقال، وللأسباب أسباب…، ثم من قال …
   لم يدعه  يكمل:
ـ  أنا ابحث.
ـ سعادة الذئب…، أنت في  عالم مكشوف، معرى، حتى الريح تجري بنظام! بل حتى عدد نبضات قلبك مدوّنة، ويجري التحكم بها عن بعد!
ـ وهل هناك صرصار أو برغوث لا يعرف ذلك؟
ضحك الموظف، وهو أرنب له أصول برية، وسأله:
ـ لِم َ تستخدم أمثلة عفي عليها الزمن...؟
ـ ماذا تقصد..؟
ـ أمثلتك تذكرنا بأزمنة الطغاة..، والاستبداد...؟
ـ آسف ...، فانا عملت على تطهيرها من خلايا دماغي...، فلا اعتقد أن لها وجود...، ربما توهمت ذلك! المهم، ماذا افعل الآن؟
    قال الأرنب بصوت خفيض:
ـ انتظر...، سأطلب لك استمارة، تطلع عليها..
ورفع رأسه وحدق في عيني الذئب الذابلتين:
ـ وتدوّن إجاباتك بدقة، ووضوح، بحدود المطلوب!
      ها أنت في القفص! دار بخلد الذئب، وكل هذا من اجل أن تصبح مهرجا ً؟
ـ تفضل ....، هذه هي الاستمارة، انظر، كم هي أنيقة، وجذابة!
ـ هذا كتاب، سفر، مجلد... ، وليس استمارة...، يا سيدي؟
   هز الأرنب رأسه:
ـ سيادتك تعلم انك تنوي الانتساب إلى اكبر المؤسسات شفافية، وحرفية، وبراعة...، وهذا ـ بحد ذاته ـ يتطلب الحصانة، والحذر، والدقة، والمصداقية، والانتباه، والمتابعة...، فأنت  تعلم ما حل بنا جراء الأساليب البالية، القديمة؟
    منع رأسه من التذكر. وكم ود لو شغل جرثومة الذئب، كي يبتلعه دفعة واحدة، من غير ضرورة إلى تقطيعه: لا......، ورد على سؤال دار بباله: كأنني لم اخضع للتشذيب،  والتهذيب، والترويض، والتدجين، وقال مازحا ً:
ـ  المشكلة إن الأرانب مازالت لا تقدر أن تستحدث إلا نوعها!
ـ آ ...، يبدو انك عدت للبحث عن الذي لا وجود له...؟
 فقال بمرح:
ـ وهل باستطاعتي أن أصبح سمكة من غير دحض الشرعية...؟
ـ آ .....، اعد لي الاستمارة! فمن المستحيل إجراء المقابلة، وأنت لم تتطهر من ماضيك!
    أبتسم الذئب:
ـ أخبرتك إني امزح...، فخلط الأزمنة شبيه بخلط الأفكار، مع أن الأخيرة تفضي إلى الصهر، ثم إن التركيب سنة من السنن...، فلماذا تبدو وكأنك لا تمتلك المرونة، والدهاء، وإرادة العبور...؟
ـ ماذا قلت؟
     لوّح له الذئب بإشارة انه يمتلك توصية استثنائية صادرة عن مكتب المستشارة تحديدا ً، وانه، لولاها، لم يكن ليجرأ اجتياز ممر من الممرات، وعبور المستنقع، والزرائب، وتجنب عثرات الدرب المار بالجحور، والحظائر، والحفر، والمغارات...، كي يصل إلى مقر المؤسسة العامة للمباهج والأعياد...، بعد أن خاض سلسلة من الإجراءات .... ، فقال:
ـ فانا تركت الماضي حيث هو ...، وأنت تعرف انه لا يمكن للماضي إلا أن يكون ماضيا ً، كالغائب لا يحضر إلا بقوة غيابه مادام حضوره يذهب ابعد من الغياب...، وانه لا معنى للنبش في مثل هذه الدفاتر، والتقارير، والسجلات...، ولكن من الضروري التصدي لمن يعمل على جعل الماضي قدوة، ونبراسا ً، وهدى!
ـ أحسنت...، الآن طمأنتني، فقد كدت أصاب بالغثيان!
ـ ماذا قلت؟
ـ لا ...، كلمة غالبا ً ما تخطر ببال الأفاقين، والمرائين، وأنا لم استخدمتها بمعناها الأبعد...، ثم إنني استخدمتها كي تستبعدها تماما ً وأنت تتطلع لمصير يليق بك!
ـ آ ...، لم تخبرني بالحذر من الكلمات...، وما تعنيه وما تخفيه، أنت أخبرتني بضرورة  تدوين المعومات الخاصة بالاختبار.
ـ أخبرتك! آ ...، يبدو انك تعاني من ضعف في الذاكرة، أو من هشاشتها، في الأقل...، أو انك تعاني من مرض الغفلة، أو من لعنات الشرود؟
ـ لا...، لا أعاني من وهن الذاكرة، ولا من النسيان، ولا من الشرود، ولا من الغفلة، ولا ....رغم تقدمي في السن، فانا امتلك قدرة التلاعب بالفراغات...، وملأها بفراغات لا تنضب، لأن الجاذبية ليست قدرا ً!
ـ أووووه...، كأنك تذكرني بالسيد الفيل، وهو يحلق بأجنحة افتراضية، ثم لا يذهب ابعد منها! كي ينال وسام المجد للحدائق، أو بالقرد الأعرج الذي باع كنوز حديقتنا ليكرم بدره الشرف من الدرجة الأولى ـ زواحف! وبتلك القطة التي لم تترك أحدا ً لم تمارس معه البغاء القانوني كي تحصل على أعلى درجات الانجاز في المهارات ما بعد الكلامية!
ـ بالمناسبة...، جدي كان شارك في حرب الفيل! ولكنه لم يحصل إلا على درع النمل!
ـ اسكت! هنا، يمنع منعا ً باتا ً الحديث عن الحروب، والحديث عن الأمجاد المستحدثة، والأعمال التاريخية الوهمية.
ـ اعرف..، ولكن ـ دعنا من الماضي ـ ما هو تصوّرك للحروب القادمة، بعد انبثاق عصر الجينات ذات الذكاء الآلي...، وبعد زوال حدائقنا الغناء...؟
   قرب الأرنب رأسه من رأس الذئب وسأله:
ـ أأنت جاسوس؟   
ـ لا....، أنا حيوان جاء لينتسب إلى فرقة الرقص في السيرك العام..
ـ إذا ً...، لا تدع خلايا دماغك تعمل عشوائيا ً، مع أن الأخيرة لها فوائد لكن مضارها مفجعة.
ـ كأنك قصدت الخمر، وليس الزنا؟
ـ أرجوك، لا تذكرنا بأمثلة الفاسدين، ومرتكبي الكبائر، الأنذال، قساة القلوب، وعديمي الرحمة...، فنحن مخلوقات وديعة، تأكل لتعيش، وتعيش لتأكل...، فلم يعد في قاموسنا مفاهيم كالشقاء، والغدر، والخيانة...، فوجودنا وعدمه لا يخضع لافتراضاتنا الخادعة، بل لتنفيذ كل ما لا نستطيع قهره.
ـ جميل، يا كبير موظفي الاستعلامات، والآن ماذا افعل...؟
    رد الأرنب بهدوء:
ـ انتظر، ليس عليك إلا أن تنتظر.
وأضاف بعد لحظة صمت:
ـ انظر... هناك..
ـ أين؟
ـ إلى هؤلاء المتقدمين للاختبار...، فهم يمثلون المواهب الواعدة...، اذهب واجلس معهم، ريثما أناديك!
ـ لكن عددهم يتجاوز نصف عدد سكان حديقتنا؟
ـ الم ْ أخبرك إن الانتساب إلى المراكز العليا، الحساسة، أيسر بكثير من الانضمام إلى حلبات السيرك؟
    حتى وأنت تختار وظيفة كهذه، عليك أن لا تتشبث بعقلك، ودار بخلده، لكن هذا وحده يسفه المسعى، ويبلد الذهن، فكيف أوازن بينهما؟
     اقترب من الأرنب، ولفت نظره بأنه سينسحب، ويذهب مباشرة إلى مكتب السيدة المستشارة، والى المستشارة ذاتها ويخبرها بالأمر، وبما حدث. ارتج جسد الأرنب، مما دعاه للحديث بلهجة ناعمة، لا تخلو من تقديم الاعتذار، واخبره بأنه لن ينتظر طويلا ً. واستمع إلى الأرنب هامسا ً في أذنه بصوت خفيض:
ـ فانا كنت صادقا ً معك لو....
ـ لو ماذا...؟
ـ لو تعدني باستعدادك لتجاوز عثرات التاريخ!
ـ آ ...، التاريخ، عن أي تاريخ تتكلمين، أيتها الضفدعة...، وأنا جئت للتطهر منه، بل وأغادره من غير رجعه!
ـ جميل...، لأننا، لا نعمل إلا على كتابة التاريخ بتاريخ مغاير تماما ً...، فالأمر، على كل، لا يحدث بيسر...، ولكن انتسابك لنا سيمهد لك حرق المراحل، والعبور إلى ما وراء الاحتمالات المعلنة...
ابتسم الذئب برزانة:
ـ لن ادع قردا ًيثب إلا وأنا قدوة له...، ولن ادع ضبعا ً يجري إلا وانأ اجري أسرع منه...،لأنني..
   وطلب منها أن تصغي له من غير كلمات:
ـ لأنني تدربت على استبدال الحبال بالمجسات، واستبدلت خيوط الشمس بالمجال الذي يتحرك فيه الزمن!
   فلم تجب الضفدعة. فقد شعرت انه لا يبالغ، بل يتمتع بروح الفكاهة الاستثنائية، مع خيال مشوق ...، فتركته يتكلم، حتى أحس بأنها كانت منشغلة بعملها. وعندما طلبت منه أن ينتظر استجاب لها.
     فكر مع نفسه: ليس باستطاعتي اتخاذ القرار الذي قد اندم على فوات أوان تعديله، وأضاف، فانا لو تراجعت، مع أن الاختيارات، رغم تنوعها، لا تعد أكثر من مناورة؟ مع ذلك ـ ضرب الأرض ـ  واعترف انه ربما يكون ارتكب أسوء قرار....، ولكن ليس أسوء من الحياة ذاتها. من يعرف ...؟
     نادت الضفدعة على دب متوسط الحجم، وطلبت منه الاستعداد للدخول:
ـ لحظة...، من فضلك.
  وخرج كنغر حديث الولادة، تتبعه فقمة، وطائر البطريق، من غرفة المقابلات. فضحك الذئب، ودار بباله سؤال: أصبحنا حديقة كوكبية! ولم يقل: أممية. فلم تعد الأخيرة متداولة. فطلبت الضفدعة منه أن لا يتذمر، أن لا يعبس، وان يعدل من تقاطيع محياه، ويجعلها منبسطة، خالية من القسوة، وأضافت:
ـ لقد دققت في طلبك بعد أن لاحظت إن لديك إجابات لا تخلو من جسارة!
لم يدعها تكمل:
ـ جسارة ؟
ـ لأنك ـ مثلا ً ـ دوّنت، بلا حذر، معلومات استثنائية...
ـ أبدا ً...، أنا كنت أواكب العصر! خاصة، في المجال الحقيقي للتقدم، فنحن لم نرتد، لأننا في الأصل لم نتقدم!  
     سمعها تردد: اهدأ ...، ليس هذا وقت الاستعراض!
ـ اعرف...
وأضاف يخاطب الدب:
ـ آ ...، لو كنت بعمرك.
   ذعر الدب، ولم يفتح فمه. فتابع الذئب يقول:
ـ مع إن مصائر اللاعبين لا تقل سوءا ً عن ...
اعترضت الضفدعة:
ـ أرجوك ...، لا تبعث فيه الخيبة، فهو يحمل توصية من السيد كبير القرود.
   تمتم الدب:
ـ اجل....، فهو أستاذي، الأعرج، في الرقص البهلواني.
   قرب الذئب رأسه من الأرنب، وسألها فجأة:
ـ لِم َ أنت ِ خارج السيرك ...؟
   فقالت من غير تردد:
ـ ومن يدير أعمالكم؟
   اختفى الدب، والفقمة، وطائر البطريق...، وخرج ثور اسود اللون صغير كان يتمتم مع نفسه بمرح: أيها العجل....، تدرب..، تدرب..، تدرب...
فقال له الذئب:
ـ لن تهزم أبدا ً!
  ضحكت الأرنب:
ـ أرجوك ...، حافظ على لياقتك في التوازن!
ـ لم افهم؟
ـ قل كلمة واخف تسع!
ـ آوه...، عدنا إلى الدكتاتورية!
  فهمست بصوت رقيق:
ـ لولا هذا المبدأ لتعرضنا جميعا ً للهلاك!
وهمست، بعد برهة:
ـ استعد.
    شعر كأنه استنشق رائحة طريدة: آ ....، كأنها تومض في قاع الرأس! ذلك لأنه لمح حملا ً سمينا ً يضع فوق رأسه قناع أسد: غريب...:
ـ للمرة الأخيرة أنبهك...، لا تتحرش! وكن حذرا ً ...
ـ سيدتي الضفدعة، آ ...، لو عاد الزمن قليلا ً إلى الوراء...
    غضبت:
ـ مع انك تمتلك تزكية السيدة المستشارة، إلا إنني استطيع إثارة زوبعة!
ـ آسف...، لم افهم قصدك.
ـ سأتساءل: كيف حصلت عليها؟
فقال بمرح:
ـ إنها تباع...، أأشتري لك ِ واحدة؟
    فدار بخلدها، ربما للتمويه، من يعلم؟ قال الذئب:
ـ عندما طلبوا مني قيادة جناح الضباع...، اعتذرت...، وبعدها، منحت نفسي إجازة.
ـ حسنا ً فعلت، فالمناصب لا تدوم لأحد!
ـ اجل، فالكثير منها يدوس على أصحابها، وتنتهي المصائر إلى حاويات النفايات، لكن لا احد يتعض!
    وضحك فجأة. فقالت الأرنب:
ـ أنا لم ارو لك طرفة...، ما الذي أضحكك، وأنت منشغل بالمزابل، وحاويات القمامة؟
ـ آ ....، سمعت حفيدي الصغير يقول للآخر: الرب لن يرسلك إلى المحرقة، بل إلى سلة المهملات!
ـ رب رقيق!
ـ ما المضحك؟
ـ لغته المهذبة...، فالولد لم يستخدم لغة النار والحجارة، بل استبدلها بلغة الحرير، متأثرا ً بعصر الإفراط بالشفافية!
   خرج الدب، ووقف يحدق في عيني الذئب:
ـ كما قالت السيدة السكرتيرة، ذات الجمال الأخاذ، لا تبح بأكثر من واحد من ألف...، فالشياطين تعمل على زّل لسانك، وغوايتك، فاحذر الزلل، والشطحات.
ـ هل أوقعوك؟
ـ لا ...، أنا أوقعتهم! فاللجنة ظنت إنها سترسلنا إلى السماء! وقد أخبرتهم: الحديقة التي لا تزدهر فيها العاب الهواء لا مستقبل لها.
ـ لم افهم؟
ـ بعد أن تخرج من الاستجواب...، إن لم تكن ماكرا ً، فعليك أن لا تغفل نكبات الدهر!
ـ آ ....، عدنا إلى ما قبل زمن الطوفان، والحريات الناعمة...؟
ـ يا ذئب...، لا تخف أنيابك! حتى لو للمباهاة!
ـ اعرف هذا...، لكن ما الذي حصل؟
ـ تخّيل...، احدهم سألني: لو كنت تتدلى من أعلى ولمحك الزعيم ...، فماذا تفعل؟
ـ  وماذا فعلت أنت..؟
ـ  كن أنت بمكاني...، فما هو جوابك؟
ـ هل تمتحنني...؟
ـ يا سعادة الذئب...، أفضل انسحابك...، بدل أن تطرد، أو ترسل إلى ....؟
ـ هل طردوك؟
ـ لا ...، أنا طردت نفسي...، فقد اخبروني بأنني أصبحت فائضا ً! وإنني استطيع الذهاب إلى أية حديقة أخرى في هذا العالم.
ـ وأين ستذهب؟
ـ دعني أصدق إنني خرجت ...، دعني استرجع أنفاسي...، قبل أن اختنق، وبعد ذلك، أفكر!
ـ لا تكترث...، سنلتقي، في يوم من الأيام!
ـ تفضل بالدخول، فهذه هي فرصتك الأخيرة؟
    لماذا الأخيرة؟ تدارك، إنها على حق، فانا لم انشغل باقتناص الفرص، مع إنها هي التي كانت تجرجرني إليها، بل هي التي كانت تغويني. فقلت لنفسي:فانا لم أكن احلم إلا بلعب الأدوار الحقيقية ، فهل سأتذوق آخر المرارات لأنني لم أصبح لاعبا ً في هذا السيرك؟ ودار بخلده، عبر لحظات امتدت حتى ظنها تجمدت، وتخلى عنها الزمن، فلا توجد قوة جاذبة، ولا أخرى تكيل لها الضربات. متابعا ً، انه وجد في المغارة بالإحساس ذاته، بانعدام المؤثرات، والدوار، وفقدان الجاذبية، كأنه في زنزانة، معترضا ً، بدافع دحض أحادية التفكير، إن الزنزانة التي مهدت له استئناس المغارة، منحته لذات اللا عمل الأبدية! فانا لم أوافق بالعودة إلى عملي والتمتع بامتيازات الخبرة، والمهارات، خشية الأقاويل. كما لم اسمح للقبول بقيادة جناح الثيران، أو مغارة الأفاعي، أو حتى مستنقع التماسيح.
     ولأنه وجد مشاعره منفصلة عنه تماما ً، فقد أحس إن هناك فجوة لا نهائية الأبعاد تعمل على محوه، ولا تسمح له بالمراقبة، والاعتراض. فكاد يتراجع، معتذرا ً ـ أو من غير ذلك ـ للعودة إلى مغارته: حيث السكينة لا تدعه يتصدع برؤية ما يعرض عبر شاشات الحديقة. فالعالم يدوس على ماضيه...، ولا يرتد،! وردد: ما شأني بذلك؟ فانا قررت، من غير دوافع تذكر، إشباع أقدم رغبات لدي ّ: استبدال الصمت باللعب، والوقار بالهزل، والعلم بالسحر، فانا لست أول ولا آخر من يفعل ذلك. جدي الذي صوّر لنا انه سيحرر البرية من الأوغاد، لم يمت كما تموت الذئاب، أو مثل بنات أوى، بل مات مثل أسد، معلقا ً بحبل!
لكزه احدهم بخفة:
ـ أستاذ...!
   أفاق. أتراني احلم، أم تراني أتوهم الحلم، أم احلم إنني أتوهم، أم هذا يحدث لي بعد....الموت؟ ابتسم ورفع رأسه:
ـ نعم.
ـ اللجنة بانتظارك.
     وأخيرا ً لذّ له أن يستعيد أول مقابلة له جرت قبل عقود، في الصحراء، عندما وجد نفسه منخرطا ً في مكافحة الجرذان، والموتى، والأشباح الضالة. لم يسأله احد عن ماضيه، ولا عن مهاراته، بل عن أحلامه! فأجاب بهدوء: وهل يحق لي أن احلم ما لم اعمل على بناء دولة الحلم؟
ـ أستاذ .....، هل تشكو من شيء...؟
ـ لا، لا، عدا أن القلب يكاد يغادر...
    ودفع جسده كي يمشي خلفه. لأن أصابعي راحت تداعب الهواء، كأنها تمسك بالحبال الوهمية، وجسدي يصعد إلى الأعلى، حتى تناثر ...، كأن لغما ً أو عبوة أو حزاما ً انفجر في ّ. فأغلق فمه، ولم يدع صوته يغادر حنجرته، وجلس في نهاية المستطيل، بانتظار بدء المقابلة.  امتد الصمت، وهو يراقب الوجوه الواحد بعد الأخر، وقد عرفها، تذكرها، لأنه طالما شاهدها وحاول محوها من ذاكرته، وها هي شاخصة أمامه، مثل شواهد، فأغلق فمه بإحكام خشية إن يعمل صوته خارج إرادته.
     وسمع رئيس اللجنة يسأله:
ـ نعرف انك واجهت صعوبات التحول....، فالصدمات لا تعمل إلا بالصدمات...، والعشوائية لن تصبح نظاما ً إلا بعد أن تبلغ ذروتها، وتشيخ!
ـ عذرا ً...، ماذا قلت؟
ـ كنت أتحدث عن مضار عزلتك، فالمعلومات تؤكد انك كنت تعيد قراءة ما كان يحدث ...
ـ آ ....، وما علاقة هذا بالاختبار...
    رد رئيس اللجنة:
ـ نحن نتحدث عن السلامة...، عن النوايا، أولا ً؟
ـ ممتاز!
     ودار بخلده انه لم يأت للعمل في التجارة، والصيد، ولا في مكافحة آفاق الخساسة، والنهب، والمتاجرة بالغزلان، والثيران، والبرغوث، ولم يأت للانخراط في واجبات استثنائية، بل يبحث عن عمل لا يدعه يفطس وحيدا ً في المغارة.
   فسأله الآخر، بعد أن عرفه، فقد كان يعمل بمعيته، قبل عقود:
ـ ما هي أخبار جدك؟
   فكر: ما شأن جدي ... بعملي في السيرك. فقال:
ـ لا هو يود أن يتذكرنا، ولا نحن نرغب أن نعرف شيئا ً عنه!
ـ لامناص انه مازال يتمتع بالامتيازات؟
ـ انتم تعرفون ذلك...، فبعد أن حصل الذي حصل، لم يبق لي إلا أن امضي شيخوختي أراقب ما يحدث في المغارة!
    ضحك رئيس اللجنة:
ـ وماذا يحدث داخل جدرانها..؟
ـ هذا الذي لا يمكن أن يحدث في أي مكان خارجها..
ـ لم ْ تجب؟
ـ  بل كانت إجابتي أكثر من تامة.
ـ غريب!
ـ سيادة الرئيس: لا أرى في المغارة إلا الصمت، ولا أصغي فيها إلا إلى الظلمات....،  فاعرف إن ما يحدث في الحديقة، قد حدث ويحدث من غير ملل، استنساخا ً ...، وتكرارا ً...، وهذا هو  المسلي حد إن ما يحدث لا يجد من يمنعه، وما لا يحدث لا احد يحثه على الحدوث...، فانا مسرور لأنني لا  اشعر بالآسف إن خسرت مسراتي أو أمسكت بها، فلم اعد منشغلا ً بالبحث عن طريدة، ولا بالدفاع عن حدود مغارتي، ولا حتى بما ينتظرني .... بعد الموت!
     نقر الثاني بأصابعه المدببة نقرات حادة فوق المائدة الخشبية:
ـ    آن لك أن تحدثنا عن أحلامك؟
    ضحك الذئب بطلاقة:
ـ  هذا السؤال هو ذاته الذي لا اعرف الإجابة عليه... ولكنني، في الاختبار الأول، قلت: أنا لن احلم ما لم أر أحلامنا تذهب ابعد منا.
تساءل العضو الربع:
ـ هذا يعني أنك مازلت تحلم؟
ـ ليس بمعنى الحلم...، قل: ظله؟
   فسأله رئيس اللجنة:
ـ وما علاقة هذا الظل بالانتساب إلى السيرك؟
ـ آ ....، هذه هي المعضلة!
ـ هناك معضلة إذا ً...؟
ـ في السنوات التي أمضيتها وحيدا ً داخل حفرتي...، استعدت كل ما جرى لي في ظلمات الرحم! ثم ذهبت ابعد من ذلك، وسألت نفسي: كيف حصل أن تجمعّت كي أتكّون؟
ـ آ...
   تأوه الخامس:
ـ هذا يعني انك تفكر...؟
     لم يجد دافعا ً أو رغبة، سببا ً أو ضرورة ملحة لشتم الماضي، أو حتى نبشه. نعم. كنت اقترحت إنشاء مركزا ً صغيرا ً، وليس مديرية أو مؤسسة، مركزا ً مهمته التدريب على تشغيل خلايا الرأس؛ التفكير. ماذا ...؟ أتعتقد إن هناك موجبات لمثل هذا المقترح الغامض: التدريب على تشغيل خلايا الرأس؟ فقال إن الأمر لا يتعلق بالميتافيزيقا، ولا بالقدر، ولا بالحتميات، ولا بالتعرض للطريق الواحد في مواجهة التعددية، والتنوع، بل لأن العمل، من غير تدّبر، شبيه بمن يعيش في علبة، حتى لو كانت في السماء. ولم يستوعب المسؤول كلماته، بل وضع تحتها خطا ً احمر وألف علامة استفهام، فقال له: أستاذ...، إن المقترح لا يتقاطع مع الأعراف، ولا مع الثابت الأبدي، لا مع العاطلين عن التفكير، والمعطلين، ولا مع العاطلين والمعطلين عن العمل، بل إنه، في الأخير، لن يقف حجر عثرة أمام المحو، وزوال كل ما أنجز بالكد، والجهد، والشقاء. ماذا تقصد...؟ أجاب الذئب المهووس بالأحلام، والأفكار، بهدوء: أن نقدر ونحترم هذا الموجود داخل الجمجمة، فهناك مليارات من الخلايا، وحدها تمهد لفهم أفضل للتقدم نحو حياة لا تركل، وتصبح فائضة. فتسلم، في ذلك اليوم، أول عقوبة ولكن ليس لأنه اقترح إنشاء مديرية للتدريب على التفكير، واحترام خلايا الرأس، بل لأنه تطاول على المسؤول، ووصفه بالمتحجر! فسحب مقترحه، ونقعه في الماء...! لأنه لم يدر ماذا كان سيحصل لو اقترح إنشاء أجنحة مهمتها الانشغال بالمصائر، والمستقبل...، أو ببناء وحدات مهمتها مواجهة فاقدي العقول، والضمير...، وبعدها، شبع من الإنذارات، ولفت النظر، والعقوبات، فما كان عليه إلا أن التجأ إلى مصح الحديقة، متواريا ً عن الأنظار. وعندما أعاد قراءة الوجوه، لم يعرف لماذا اغفلوا انه عومل كحيوان مصاب بجنون البرغوث، وبقسوة من ارتكب معصية، أو اجتاز الخط الأسود! بعدها انسحب ولم يعد لديه سوى التستر داخل جدران حفرة أعلن إنها وحدها هبة الأعالي له، لأنها شبيهة بالحتميات، والقدر، وانه بالفعل لا معنى له أن يذهب ابعد من حدود فتحة حفرته، أو ابعد من نوافذها الصغيرة المقفلة. وتساءل: أتراهم لا يمتلكون معلومات دقيقة عن ذلك...؟ ودار بباله، إنهم لا يجهلون انه لم يسرق، ولم يغش، ولم يزور، ولم يرتكب شطحات سوى التعلق بخلايا أحلام الرأس، والطيران بعيدا ً عن جدران الحفر، والمغارات، والقاعات المقفلة. ولكنه لم يجتز تلك الحدود، فلم يهاجر، ابعد من أسوار الحديقة، وأسلاكها، وجدرانها، مكتفيا ً بجلد نفسه درجة أمنت له التخلي عن رأسه، غير مكترث إن مصيره تجمد، وراح يرتد، فلا معنى للبرامج المغايرة، ولا مغزى للتقدم، والاستمتاع بالشمس...، فلماذا التفكير، ولماذا العمل، ولماذا المستقبل؟  وكاد يفتح فمه ويعترف للجنة بأنه بالفعل ارتب ذنبا ً عندما لم يتخل عن ما تبقى من الخلايا...، وانه لا يستحق إلا أن يرفض طلبه، كي يرجع إلى حفرته، آمنا ً، بوصفها تحدت ببسالة وبعناد جبروت الزمن، وشدة الأعاصير، وقوة الطوفانات، وحافظت على كيانه راسخا ً في مواجهة التحول، فأي انجذاب غامض هذا الذي دعاه لإنشاء مشغل صغير مهمته إعادة القراءة....، وأية قراءة...؟!   
ـ لا...، لا أبدا ً...،  لا في هذه اللحظات، ولا في السنوات المنصرمة....، فالتفكير قضية مختلفة تماما ً.
    سأله رئيس اللجنة بتعجب:
ـ إذا ً فطلبك للانتساب إلى السيرك يؤكد حرصك على الإجابة؟
ـ بل، على العكس، التخلي عنها تماما ً، فهل تتاح للبهلوان فرصة أن يسأل نفسه: ماذا يفعل؟
    تململ الرابع وسأله:
ـ إذا ً لم تعد تفكر تفكر؟
ـ عندما كدت افقد الأمل بالعثور على جواب شاف ...، أدركت إنني غير مسؤول عن البرنامج الذي بموجبه تكّونت....، لأن والدي لم يكن ذئبا ً!
ـ نعرف ...، كان أميرا ً للذئاب وسلالته ترجع إلى أصول لا غبار عليها!
ـ وأمي لم تكن تنتسب إلى هذا الفصيل ... الأغبر.
ـ نعم، كانت ذات أصول أنقى، وذات جمال ملعون...، وقصتها بحملي لم تنس بعد!
   ضحك الذئب بفم مغلق:
ـ أيها السادة الكبار...، مادمتم تعرفون حتى زمن اللحظة التي تكّونت فيها...، فما الفائدة من النبش في هذه السجلات...؟
ـ هذا هو السؤال الذي شغلنا...
ـ ما هذا السؤال، لطفا ً؟
ـ إذا كنا لا نمتلك أنملة لا في تغيير المسار....، ولا في تعديل الاتجاه...، فهل هذا الذي لا يتغير يعد ثابتا ً؟
ـ سؤال لا يدعو إلى التفكير، بل إلى محوه.
ـ أحسنت.
وأضاف رئيس اللجنة برزانة:
ـ فأنت تجد انك تمتلك مهارات ما فوق عادية، وأخرى مكتسبة، وثالثة تتجدد تلقائيا ً، ورابعة تدحض أي نكوص....، لهذا فكرت أن لا تدعها تذهب ....، كأنها اكتسبت صفتها المتحفية، ودخلت عالم المتحجرات! أم لديك ملاحظة مغايرة بهذا الصدد...؟
ـ السيرك، يا كبار خبراء الشفافية، ما أدراكم ما السيرك: انه لا يعلن عن سره. ككل دينامية تتستر على عملها العنيد!
ـ نرغب أن تفسر لنا إجابتك؟
ـ  لو كانت لدي ّ إجابة غيرها، لما كنت تخليت عن السيرك الذي أرغمت العمل فيه؟
ـ أرغمت؟
ـ لا معنى للتأويل أو الشرح، ولا معنى لإضاعة الوقت بالتفسيرات...، أو الجدل، أو التصورات، أو بوجهات النظر...، أنا أخبرتكم إنني فكرت طويلا ً في هذا كله....، فانا لم أرغم ولم أكن عفويا ً...، أو حرا ً...، ولكن الانتساب إلى السيرك  لا يتقاطع مع حيوان عجز عن الذهاب ابعد من الحدود التي كنا نحرص أن نرسمها بالبول...، أليس كذلك؟
ـ ها أنت ترجعنا إلى عصر ما قبل الحدائق، والى عصر جمع القوت...؟
     لم يصمت، بل وجد الهواء يتدفق من فمه بكلمات واضحة لم يقدر على حجزها:
ـ انتم أساتذة أكفاء، وهذا يكفي، فلا يحق لتلميذ مثلي العثور على مبررات للإشادة بمكانتكم.
   فسأله الربع مستفسرا ً:
ـ لفت نظرنا بحديثك عن الحدود...؟
ـ سيدي، الأمر يتعلق بقضية لا تريد أن تحسم، فهي تعمل لا إراديا ً لاستكمال إرادتها في الذهاب ابعد منا جميعا ً. فإذا كانت حدودنا ترسم بالبول فان الحدود اليوم ترسم بالأسلاك، والقضبان، والأقفاص، والدم!
ـ آ...!
بشرود سأله رئيس اللجنة:
ـ هل تريد القول انك لا إراديا ً جئت تكفر عن ماضيك...؟
ـ سيدي، عن أي ماض ٍ تتحدث...، بعد أن أصبح مندثرا ً بماضيه...، ثم إن الزمن لا يرتد، ولا يتراجع، ولا يتجمد...، ثم انه لا يمر عبر ممرات معلنة ومباشرة...!
ـ هذا صحيح...، ولكنك جئت بتوصية خاصة،  ونحن نقدر ذلك...، فالعمل في السيرك شبيه بالعمل في شركة إعلانات، بل وعابرة للقارات، شركة أفلام، أو مخدرات، أو عقار، أو أسلحة، أو إدارة حدائق...!
ـ آ .....، كأنك تلمح إلى عدم صلاحيتي للعمل في هذا السيرك...؟ فانا مسن، وعقلي عتيق، والكآبة لم تعد تسمح لي بالمرونة، واني افتقد إلى العمل بروح الحرير، وشفافية المصالحة؟
ـ أنا لا المح...، بل أسألك مباشرة...
   وصمت. ثم نقر فوق الطاولة:
ـ في الحرب الأخيرة...، مع من كنت...، في الأقل، على مستوى الضمير، والمشاعر...؟
ـ مع لا احد....،  فبعد تجربة شاقة أمضيتها في مراقبة عثرات الدروب، هل تعتقد بوجود قوة ما قادرة على إغوائي...؟
ـ مع لا احد...؟
ـ سأعيد صياغة جوابي: إذا لم أكن مع هذا الذي ليس لأحد ...، فمع من أكون؟
ـ دعنا في السيرك"
ـ وأنا لم أغادره.
ـ هل أنت مع ضميرك...، مع انك لم تحصل إلا على حفرة بحدود جسد ذئب عجوز...؟
ـ أنا لم أتخل عنها، حفرتي! إنها الفردوس! ولكنها لم تكن هدفي الأول....
ـ لكنك لم تكن معنا..؟
ـ سيدي، أنا لم أغادر حدود السيرك؟
ـ تقصد أسلاك الحديقة وأسوارها؟
ـ لا مجال للتأويل...، فانا تعلمت أن أتعكز على نفسي!
   ابتسم الأول:
ـ لكنك جئت بتوصية تقول: مازال يمتلك روح المرح الشفاف! فما المقصود ...، وأنت قلت: أتعكز على روحي؟
    لم يصدم، فقال ساخرا ً:
ـ اذهب واسأل السيدة المستشارة؟
ـ آ...
وأضاف رئيس اللجنة بحذر:
ـ كان باستطاعتها أن تصدر امرأ ً بقبولك...، وليس باختبارك؟
ـ وأين تذهب شفافيتنا، وأين تذهب ديمقراطيتنا..؟
    ساد الصمت. فنهض الذئب وعدل من قامته، ثم جلس، وقال:
ـ اجل، فانا في الأصل أرغمت أن أكون مع لا احد...، وأرغمت أن لا انحاز إلى احد...، وها أنا أخبركم بالحصيلة...، فان لم ترسم الحدود بالدم، والموت، فان عصر البول يكون قد ولى، وصار من الماضي! ومن المستحيل التحدث عن إمكانية رسم الحدود بالضمير؟ لأن العدالة ما أن تتحقق حتى ينتفي الوجود برمته...؟
ـ كأنك تتحدث عن أمر ما غير رغبتك بالعمل معنا في السيرك، والفكاهات، ونوادر الأعمال البهلوانية، وكأنك تتحدث بالذهاب ابعد من اللهو، واللعب ...؟
ـ لا...، السيرك، يا سادة، شبيه بأي عمل آخر، فانا عندما أمضيت سنوات غير قليلة أراقب ما يجري في  هذه الحديقة...، أدركت إن امتناعي من العمل، ليس عملا ً مع لا احد...، بل تماما ً هو بمثابة خطوة متقدمة في النتيجة. وهنا أنا تقدمت بنفسي للاختبار...، لكن لا احد سألني عن مهاراتي...، فهل أجيد القفز...، أو الدوران من غير ضرورة لوجود المحور....، هل لدي مهارات افتراضية....، وهل اقدر أم أقدم مشاهد خالية من إثارة الشغب، والتأويل، والشكوك...؟
ـ ذئب يفكر..، إن لم اقل: الذئب يفكر؟
   دار بخلد الثاني. فقال رئيس اللجنة يخاطب الجميع:
ـ لم يكن معنا، ولم يكن معهم...، مع انه لم يكسب شيئا ً إلا انه أجاد مهارة التلاعب بالكلماتّ.
   نهض الذئب وتمتم:
ـ سبق لي وان قلت: إذا كان الصمت يتضمن قانون توازنه مع ذروة العويل، والصراخ...، فان العمل في السيرك خطوة نحو الاندماج...، ومادمتم  تدركون إن البعوض والبرغوث وباقي الحشرات لن تسهم أكثر أو اقل من أي مخلوق آخر في استحداث توازنات خلاقة...، فانا، عمليا ً، أرغمت أن أكون مع نفسي، مع نفسي تماما ً، حتى إنني أضعتها بلا أسف، لأنني في الواقع كنت ضدها، ومن غير أسف أيضا ً! وهكذا تكون الحرية كلمة قد أخذت موقعها في سلة المهملات! فالتاريخ والقدر والحتميات والحريات كلها علامات متقاربة، ومتضادة، لتشتغل بعناية مشفرة عبر تسلسلها في الذهاب ابعد من وجودها معنا....!
    انفجر الثاني بالضحك، تبعه الثالث، لكن الأول قال بوقار:
ـ  أرغمت أن تكون معهم...، مثلما أنت حر للعمل معنا؟
ـ سيدي، في الحرب...، كما في الموت، وكما في الحب، هناك مسافة وهمية مهمتها ترك الجميع في علاقة!  فانا في الأصل أرغمت أن اختار هذا الذي لم اختره...، مثلما أنا حر تماما ً في استحالة اختيار موقف مغاير آخر....، غير السيرك؟
ـ وهل بإمكانك أن تخبرنا: هل حصل استثناء...، ونحن نقدر تماما ً كيف تعمل هذه الإرادة عملها...؟
  أجاب رئيس اللجنة يخاطب الجميع:
ـ عندما كان الزعيم يقول لنا: إذا كنا نستطيع أن نكسب الشيطان للعمل معنا، فلا يعني هذا إننا نغيض الملائكة! ولكن لا تدعوا الشيطان يتصوّر إننا نعمل على إفساد اللعبة ...؟
   صفقوا. فقال الذئب وقد شعر إن عزلته قد تبخرت، بل وشعر انه يعرف ما لا يحصى من الموضوعات عدا معرفته لنفسه:
ـ علي ّـ أيها الحكماء ـ أن أغادر...، فلا اعتقد أن هناك مدى ابعد استطيع التقدم فيه!
  فسأله رئيس اللجنة:
ـ أما السيرك وأما المغارة؟
ـ بالضبط!
    عندما غادر، انحنى الأرنب له، قائلا ً:
ـ لا استطيع إلا أن أقدم لك آخر التهاني وأحرها، سيدي!
   حدق الذئب في عينيه شزرا ً:
ـ كيف حزرت..؟
ـ لأنك خرجت سالما ً، سيدي!
ـ اقترب..
ـ نعم، نعم سيدي!
ـ لقد كانت مهمتي واضحة لدرجة إنني كنت أتصوّر فشلي فيها...، وهذه هي الحصيلة: لن تمتد اليد لانتشال من في المغارة...، لكن يد المغارة، عندما تذهب ابعد من مداها، فكأنها أكملت عملها من غير جهد.
     أتراه فهم الدرس، دار بباله، وهو يتلاشى، أم لا....؟
12/10/2016
Az4445363@gmail.com


ليست هناك تعليقات: