الاثنين، 17 أكتوبر 2016

كي لا يموت الحلم-عادل الصفار

قصة
كي لا يموت الحلم
عادل الصفار
 انساب عبر النافذة تيار ريح قوي جعل الطائر  يتأرجح فزعاً مرفرفاً بجناحيه داخل قفصه المتدلي بقطعة حبل معقود في طرفها في سقف الغرفة، عبثاً يحاول الاستغاثة بمن لا يسمعه ولا يبالي بحاله.
تململ الولد في فراشه مخنوقاً بعبرات البكاء، الحزن الثقيل الجاثم على قلبه يجعله يلتقط انفاسه بصعوبة بالغة.. انسابت الى مسامعه اصوات الباعة المتجولين، ومن خلال ما يصدر عن الأولاد من عبارات مفعمة بالمرح والضحكات البريئة وهم يتجهون الى مدارسهم عرف انه في صباح يوم جديد لكنه لا يستطيع ان يبصره من خلال اجفانه الملتصقة بمادة الرمد الشديد… يجهش بالبكاء كعادته كل صباح، فيساعده انهمار الدموع على فتح عينيه….. يوم جديد ولكن لمن….؟!! للطيور الحرة لكي تمر على اغصان الاشجار، وتنطلق محلقة كما تشاء…. أما الصباح والمساء المتعاقبان لا يعنيان شيئاً لطائر بين القضبان حيث تولد احلامه وتكبر وتشيخ وتموت في وعاء الأمل المتصدع…. ذكريات مريرة تتجسم صورها في ذاكرته وهو يمرر اصابع يده الخشنة المتيبسة على لحيته التي غزاها المشيب… في صباح كثيراً ما كان يتمنى ان يحتضن كتبه ودفاتره وهو يمضي لتحقيق حلمه مرتدياً زي الطلبة…. لكن حدود قفصه لم تتعد تراب الأرض والمسحاة، والزرع والسماد والمنجل، والدشداشة والحزام الجلدي العريض… وفي شبابه شهق الحلم وتفجر دموعاً غزيرة، ومن يحطم قضبان القفص ويطلقه ليسابق الريح إلى صدرية بيضاء يرتديها ويضع حول عنقه سماعة فحص المرضى، ومن حوله ينادونه: يا دكتور
لكنه بالرغم من كل هذا لمس ضوء الأمل في كلمة: بابا..
وصار الأمل يكبر كلما تأمل ولده يحيى وهو ينمو أمامه وبين يديه.. حتى أصبحت دموعه تنهمر كلما شاهده حاملاً حقيبة كتبه، سائراً بين أصدقائه.. وحين يتأمله وهو يراجع دروسه أو يكتب واجباته يشعر كأنه يحلق عالياً في فضاء بلا حدود.. يرفرف مسرعاً عبر أزمنة خالية موحشة محاولاً اللحاق بطيور قطعت مراحلها منذ أمد بعيد.. هناك بصيص أمل يدفعه نحو تحقيق حلم حكم عليه بالسجن المؤبد لرغبة أبيه في أن يكون فلاحاً مثله، لكي لا يفرط بالأرض التي يعتبرها مجد الأجداد المتوارث… منذ الأزل والقفص يتأرجح بتيارات ريح يجهل الطائر مصدرها ومعرفة ماهيتها.. جيل بعد آخر، كلما مات طائر خلف وراءه طيور وطيور.. يا له من قفص يجسم صور الجاهلية بكل معانيها وآلامها، حين كان يولد الأطفال عبيداً وأحراراً.. وقد يتحرر العبد مقابل ثمن، ولكن كيف يتحرر الذين استعبدهم جلهم؟!! وجعلهم يخضعون إليه مقتنعين بسيادته ووجوب طاعته.
*****

عبارة من فم ولده يحي انسابت إلى مسامعه جعلت اليوم بالنسبة إليه مميزاً عن كل أيام حياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة تعبر لأول مرة عن سعادة لم يعيدها من قبل.. عبارة تختلف عن كل العبارات التي تفرحه كثيراً وتثلج قلبه كونها تتناول موضوع الدراسة والكتب ولقاءاته بزملائه وما يدور بينهم من حديث حول المحاضرات ومواعيد الامتحانات.. وقعت في نفسه كسدود ماء فتحت بواباتها على أرض لا عهد لها بالماء أبداً:
 -
قريباً سأرتدي زي الجامعة.. الأمر الذي جعل دموعه تنهمر غزيرة من عينيه وهو يتجه نحو لده يحيى متلعثماً بكلماته مصطدماً بالأشياء لا يكاد يبصر طريقه من خلال غشاوة الدموع:
 -
ولدي يحيى، حقاً ما تقول..؟! وهل سأراك تحمل مع كتبك صدرية بيضاء وأنت تدخل عالم الطب..؟!! دهش يحيى كثيراً لرغبة أبيه ولهجته الغريبة في إصراره على تحقيقها على الرغم من أنه يعرف جيداً السبب وراء ذلك.. اقترب منه مقبلا رأسه، وضمه إلى صدره برهة وهو يقول:
 -
كثيراً ما تردد على مسامعي هذه العبارة يا أبي، أعرف أن حلمك قد حكم عليه بالموت.. ولكن هل من المعقول ان نقتل حلم لنحيي آخر..؟! وقد لا يعيش على الرغم من الظروف المتوفرة له لعدم وجود الرغبة والإرادة.. بقلب مرتعش منكسر قال الأب:
 -
هل تقصد يا ولدي..
 -
أبي الحبيب... عذراً لمقاطعتك..
قالها يحيى بلطف شديد متداركاً الأمر وموضحاً لأبيه:
 -
أنا ابن هذه الأرض، ما أن أبصرت الدنيا حتى وجدت نفسي بين أحضانها، فأفعمت نفسي بعطرها وألوانها حتى أصبحت شريان حياتي الذي يربطني بهذه الدنيا.. لذا يا أبي صار حلمي أن أكون مهندساً زراعياً.. هل ترضى لحلمي أن يموت بين قضبان القفص الذي قتل حلمك..؟!!
لحظات من الصمت المطبق.. شهقات تتصاعد ودموع تنهمر بغزارة حتى تمخضت عن تداعي قضبان القفص وتناثر أجزائه.. فاندفع طائراً محلقاً في فضاء الحقل.. وعلى الأشجار أنشد مع الطيور:
 -
لكي لا يموت الحلم، لا بد أن تتحطم الأقفاص..



ليست هناك تعليقات: