أختام *
الختم الثالث
عادل كامل
[20] المحركات ـ ورد الفعل
لست بصدد إثارة سؤال: كيف تكّونت الرهافة، وكيف اقترنت بما سندعوه بالعد الجمالي، وما إذا كانت جميع الفنون ـ قبل بدائية، مرورا ً بإنسان المغارات، وصولا ً إلى النزعات المضادة للفن ـ تتطلب قدرا ً من التنسيق، الخاص ببنية العمل، وما يمثله من معان، وجسور مع الخارج، بل بصدد: هل ثمة مقاربات لمفهوم شامل لهذه المنجزات، غير التهذيب، والتقانة، والشفافية، يشترك في تحديد ماهية الفن، وعلاماته، ومشفراته، كوجود واكب الحياة البشرية منذ ظهور المجموعات المصغرة حتى تحول عالمنا إلى قرية قائمة على شبكة من العلاقات، الاتصالات، والمصير شبه المشترك!
ما المشترك ان لم يكن فيه قوى مازالت تجدد اقتران الفنون بالدوافع، وبنا يسمى: الحضارة. فأي (القوى) بإمكانها ان تكون موازية لقوى مضادة لها، والمتلقي المعاصر تتوفر لديه ما لا يحصى منها من: وثائق، وأرقام، وصور مباشرة تجعله يدرك انه يعيش في عالم لا احد يتوقع نهايته خلال عقود...؟!
فالإنسانيون الكلاسيكيون، من فلاسفة وحكماء وعلماء وخبراء ..الخ يؤكدون مسارا ً تصاعديا ً للقوانين ذاتها التي نشأت فيها ـ وعليها ـ وتمثلتها قوى الصراع.
ولست بصدد كيف استطاع الإنسان ان يحافظ على حياته خلال المليون عام الأخيرة، ولا كيف صنع وسائله في الحماية، والتكيف، والتقدم المعرفي، بل أنا أسير حالة قسرية لأفكار جهنمية لن تترك لي استراحة ان أرى أملا ً ما يعيد لي توازني في وجود يصعب رؤيته إلا عدما ً! قد يكون الجواب الوحيد شبيه بجواب: الأشياء/ النبات/ الحيوان، بعدم الاكتراث، المتضمن تعديلات دفاعية لمواجهة التلوث، والاحتضار المتواصل، والسلبية بصفتها دفاعا ً أخيرا ً لتجاوز أزمات فاتحة الألفية الثالثة. ذلك لأن إمكانية السيطرة على الخط المتصاعد لتراكم أدوات الاشتباك، والصراع، مازالت تغذي قانون الصياد ـ الطريدة.
والمصورات الوثائقية توضح بجلاء كيف بدأت الحروب باشتباكات الوسائل الطبيعية: الأسنان، والمخالب، والأصابع، من ثم بالعصي والحجارة، مرورا ً بالمعادن والبارود، تمهيدا ً ـ بعد أسلحة الدمار الشامل ـ لأنظمة ذاتية عالية البرمجة، وربما بالغة الرهافة!
والواقع البشري، عمليا ً، مكث يتقدم من غير تعديلات تذكر. فعندما كانت هناك مجاميع بشرية متناثرة بحسب توفر موارد الغذاء، وصولا ً إلى عالم تحكمه الشركات العملاقة، مكث قانون الصياد يبدع أقنعته في الحفاظ على التراتبية، علما ً ان الخسائر البشرية، من الحرب بالمخالب إلى الحرب بأسلحة المحو، الأكثر فتكا ً، لا تجد مبررات لها وكأن شيئا ً لم يحدث!
بيرتراند راسل كتب في مطلع ستينيات القرن الماضي:
ـ" انه لمن الغريب والمثير لأقصى درجات الأسى أن نلاحظ كيف إن سباق التسلح يدمر الحس الأخلاقي. فانا لو تسببت عمدا ً بإصابة شخص بالسرطان وجب ان اعتبر وحشا ً، غير أنني إذا ما تسببت عمدا ً بإصابة آلاف الناس بالسرطان اعتبرت وطنيا ً نبيلا ً"
مثال مضاد لنزعة التدمير، ولأي دافع من دوافعها، إن كانت متأصلة أو مستحدثة، ان كانت الأسباب اقتصادية، أو ثقافية، أو رمزية، فان أشكال الدمار ـ بتنوعها ـ تترك نسقها في عزل الإنسان، وتجريده، ودفعه بعيدا ً عن معالجة نزعات التصادم، وما تتركه من أسى، ولا مبالاة في مواقف مليارات البشر، حيث ان أكثر من مليار إنسان يعيشون بدرجات لن تقارن برفاهية المحميات الطبيعية للحيوان، أو في حدائق الحيوان، أو حتى في بعض السجون! فضلا ً عن المليارات الأخرى، غير بعيدة عن اثر التلوث وما تؤدي إليه في ظهور أجيال مناعتها أخذة بالاضمحلال! إنها تقارير معلنة يحرص النظام (الحر) على نشرها، كنقد ذاتي، لكن مبادرة مغايرة لها لا آمل ان توقف حتمية التدهور.
هذا كله ولدّ لدى الأكثر رهافة، وعند المتضامنين مع البيئة (في النشاط الايكولوجي) كالجماعات الخضر، والنضال ضد التلوث، والضوضاء، ولأجل الأطفال، وحقوق النساء، والقابعين في المحتجزات، ووراء القضبان، وسجناء حرية التعبير ...الخ هذا كله له أثره في شتى أساليب التعبير التي لا استطيع تحديد معاييرها الجمالية، تحافظ ـ بالدرجة الأولى ـ على ما قصده شوبنهاور، بالحياة كإرادة، كامتداد، ومتابعة، واستكمال الدورة، حسب الفكر السومري، و (الحلولية) و (المثنويات) و (المرجئة) و( الدهرية) و...الخ عندما عملت كل جماعة ـ عادة ما يعبر عنها حكيم أو زعيم أو فيلسوف أو من يؤدي هذا الدور ـ على إيجاد توازن لديمومة الاشتباك، وليس لتشذيبه، في الأقل.
كيف يحافظ الجمال ـ والجميل ـ على تماسكه، داخل النص الفني، وما يميزه عن عبث الأصابع وباقي الحواس وهي تحدق في السفينة، الأرض، عندما لا يكون هناك من ناج ٍ، والطوفان ليس وهما ً!
أنا لم اصدم بمواقف المشتغلين في الكتابة، والفنون، والفكر، بصفتهم يعملون كموظفين في الأجهزة ذاتها التي صاغ نظامها أول قاتل، صياد، تميز بالمكر والدهاء، ومن سيؤدي دوره عبر التاريخ فحسب، بل لأن الأمل بوجود (أمل) غدا منجزا ً تشرف عليه المؤسسات ذاتها التي حولت العالم إلى زنزانات اما مزدحمة بالبضائع، وأما بمثابة (علب) تم حشوها بالفائض من السكان! أو إلى عالم انشطر إلى نظام لتصنيع: الأسلحة/ السينما/ المخدرات/ الدعارة/ والمتاجرة بالأعضاء البشرية/ وغسل العقول/ والتلاعب بالمشفرات الوراثية/ والأحادية ...الخ وإما إلى إمبراطوريات ومملكات ومعسكران من (النمل)، لكن بعيدا ً عن رؤية مصيرها، وهي ترجع إلى العناصر التي كونها، إنما باليات بالغة الدقة، وخالية إلا من رحمة الموت، أو بحياة أخرى يمسك بلغز نظامها الصياد ذاته، بعد ان يكون قد تحول إلى أثير، ورجع إلى العناصر ذاتها، التي كونت باقي الأنواع!
[21] حدود ـ ولا حافات
مازال هناك (اثر/ أو ما يشبه الفن/ نص) ـ من الخدوش فوق الجدران إلى كل ما هو مضاد للفن، وضمنا ً التجارب غير المنفصلة عن العبثيين، والبدائيين المعاصرين والعشوائيين ـ غير مكتشفة، فهي مازالت أما تحت الأرض، أو بعيدة عن التحقيق، والنشر. وفي الوقت الذي تتنوع فيه المناهج، واليات القراءة، واستحالة سيادة مدرسة أو برنامجا ً أخيرا ً للقراءة، أو حتى المفاضلة، أو الدحض، والإلغاء، والتهميش، فان عملية إعادة قراءة (الخزين)، وفق النقد الأقل انحيازا ً لفلسفة ما من الفلسفات، فإنها تقوم بإعادة تخليق ما تم دفنه، دون إغفال ان هناك اندثارا ً حتميا ً يتوازن بين (الموت/ البعث) في الديمومة. فهذا الذي حمل (ميتافيزيقا) السلعة، ذاته، بحسب ومضى فلسفية لكارل ماركس، مسبوقة بسياق: لا ـ سلعي، لأن عصر (السلعة) ـ عصر الصراع حد المحو ـ ليس قانونا ً أبديا ً، أو غير قابل للتشذيب. لا لأن مشروع (الحضارة ـ التشذيب ـ الارتقاء الجمالي ـ والإقامة في عالم محتمل ..الخ) له سلطته فحسب، بل لأن الآليات الكلية للإرادة تسهم بعزل الأقل أهمية، كالموضات، والإعلانات التجارية، وملصقات حقب الانحطاط والتدهور.
هكذا يتسلل إلي ّ، في لحظة شروق أولى بذور الشمس، من الأزرق العميق إلى الفضي إلى الذهبي إلى البياض المتوهج، في صباح هذا اليوم من تموز (22/7/2011) مفتاحا ً لقراءة ما وراء الأبواب: ذلك المجهول الذي اسمه النص ـ واسمه، في الأصل، علامة وجود: اثر!
لقد أشرت إلى نصوص تمجد سلطة أعلى الهرم، عبر تقديم الأضاحي، والنذور، والطاعة، حد ان المقارنة بين الطرفين، لا معقولة، وغير منطقية، عندما يقوم 999% من بسطاء الناس، المجهولين، كالنمل، الفانين، غير المدربين على التفكير، ولا على حب الحكمة، بإعلاء شان آلهة، أو من يؤدي دورهم، بأنه سياق شيّد، كما شيّد الكوخ! فهل سنستغني عن ما لا يحصى من تلك العلامات الشبيهة بالفن، والنفعية الاستهلاكية ذات السمات الجمالية، لأننا لم نعد نسكن الكهف، أو الكوخ، أو الخيمة؟
ان أعظم المدن المشيّدة بالتقانات الحديثة، المتحركة، والتي تلبي متطلبات الرفاهية، إلى جانب الوظائف، لا تخفي نظام الكوخ فحسب، بل لا تستطيع دحضه!
فهناك السقف، الأساس، الجدران، النوافذ، والباب! فهل سيكون الفردوس أو الجنة شيئا ً آخر...؟ وهل ستكون نساء، وطعام، ولذائد العالم الآخر، للمكرمين بدخول الفردوس، مغايرا ً لتصورات الحواس، والحدس، والمخيال، والعقل...؟
ان وسائل التحليل، والحفر، والتنقيب، والتفسير، والتأويل، لن تضع برنامجا ً سيستغني عن مراحل ما قبل الطفولة، أو عن طفولة الإنسان ... هذا اذا كان الزمن قد وضع كطرف في: اللا زمن. لا لأن المصادفة وجدت بالمصادفة، ضمن دورة محكمة بما فيها من نظام فحسب، وبعيدا ً عن تاريخ التكيف، والديمومة لأجل الديمومة، وتقدمها، وارتدادها، وإنما لأن شيئا ً ما لم يسمح للزوال ـ وللذي ينبثق منه ـ ان تكون له خاتمة.
ألا يلتقي، بإحكام، البرنامج العلمي المتفوق، بالرهافة الجمالية، وبالمعتقد الذي تتمثل فيه، وتتوارى، دينامية الخلق؟ وان أي قراءة 0احادية) مهما بدت محكمة، إنما ينقصها التعرف على نفيها، فضلا ً عن الذي أهملته، أو استغنت عنه.
فقد يأتي زمن تتم فيه معرفة تلك المناطق التي لم ترها أبصرنا، ولا حواسنا، ولا أجهزتنا المختلفة، ذلك الكامن في ترليونات ترليونات المشفرات المشعة، والباثة للأصوات والخطوط والألوان، ولغز اشتغالها، كي تمضي في الوجود الذي وجد بما هو ابعد من وسائلنا في الإدراك.
وليكن، من وجهة نظر الميتافيزيقا، اسمه (الرحمة) أو (العدل) ولكنه، من وجهة نظر العلم، ومختبراته، لن يكون لا معقولا ً، أو نسقا ً عشوائيا ً حرا ً، وهو السياق الذي كانت تنقصه، حتى فاتحة الألفية الثالثة، هذا التوحد الذي طالما تجسد في ومضات حكماء أو شعراء أو علماء أو فلاسفة أو فناني أو سحرة، أو خيميائي الأزمنة منذ عصر صناعة الأكواخ، إلى عصر السكن بلا جدران، وبلا سقف، في الفضاءات..! ذلك لأن السكن القادم ـ عندما يبلغ تعداد سكان الأرض المائة مليار نسمة ـ لن يستغني عن المفتاح الذي يبحث عن القفل، والذي لن يكون ـ كتأويل ارغب ان لا يكون طوباويا ً، أو أحاديا ً أو باذخا ً بلغز الرهافات ـ خاتمة إلا اذا كانت دورة الحياة تكون قد بلغت ذروتها: الوجود ممتدا ً بلغزه، الذي طالما سكن فعل الاشتباك، ولكن الذي صاغ طرقه، من غير ان تكون له خاتمة، أو نهاية.
أليس هذا سببا ً طالما منح عزلتي ان لا أرى أفواه هؤلاء الذين ينتزعون الطعام من أفواه الأطفال والفقراء والنساء للتمتع بأخلاقيات الصياد ـ وصولا ً للذين يمسكون ـ ويمارسون ـ سلطة الاجتثاث، والمحو، والإبادة. وهل لو كان كارل ماركس، أو رامبو، أو نيتشه، وقبلهم المعري، أو الجنيد، أو محي الدين بن عربي، أو منعم فرات، أو ملا عبود الكرخي، أو جواد سليم، أو مدني صالح، سيقولون شيئا ً آخر...؟!
• تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق