اميركا.. امبراطورية
"الشكل" والعدو المقسم على تحطيم المحتوى
صائب خليل
19 تشرين أول 2016
كتب على شعب العراق ان يكون تحت رحمة هذا الكائن الغريب والخطر، والآن
يتوجب عليه ان يخوض حرب "تحرير" الموصل تحت اشرافه، فلماذا يتوجب علينا
ان ننتظر أن يكون ذلك "التحرير" الأمريكي، مختلفاً عن
"الديمقراطية" الأمريكية و "الصداقة" الأمريكية و
"السفارة" الأمريكية، وكل شيء أمريكي فارغ أو مقلوب المعنى؟
مع اميركا، كل شيء مزيف!
“الديمقراطية”، عندما تأتي من اميركا، غلاف جميل لتغطية خيوط السلطة الأمريكية
للهيمنة على الشعب "الممقرط"، وسلبه أية قدرة على التحكم بمصير بلاده. “حرية
السوق” الأمريكية التي تفرض على الشعوب فرضاً وبالانقلابات العسكرية والضغط، ليست
سوى حرية اللصوص الدوليين بنهب البلاد. "حرية" الأثرياء في البلاد بطرد
العاملين والموظفين متى شاءوا. "حرية" الشركات في تدمير بيئة البلاد
التي تعمل فيها دون ان تدفع تكاليف ذلك، وحريتها في "احتكار العمل" وفرض
اوطأ الأجور. إنها "حرية" البنوك الكبرى في طباعة النقد وحريتها في نهب
نسبة من ممتلكات الناس بخفض قيمته. هي "حرية" الأثرياء برشوة الحكومة
لتكون خططها لصالحهم على حساب الشعب الذي انتخبها، و "حرية" اللوبي
التابع لهم لدفع البلاد إلى الحروب التي تثريهم وتدمي شعبهم وضحاياهم معا. إنها
"حرية" من يمتلك الصحيفة وقناة التلفزيون ان يحدد للناس من يجب ان
ينتخبوا في المرة القادمة ومن يهملوا. وحريته في ان يحدد لهم مقاييسهم واخلاقياتهم
وتحديد ما هو مهم وما هو غير مهم، فتترك الاخلاق والقيم معناها الاجتماعي لتصب في قبول
"الجشع" والظلم. إنه حريتها في ان تشل إرادة الشعب وحكومته المنتخبة
وتمنعها من التصرف بثروات البلاد لصالح هذا الشعب، وحريتها بأن توجه تلك الثروات
وضرائب البلاد إلى ما يخدم أثرياء أميركا وذيولهم دون غيرهم.
كل شيء أمريكي، مزيف!
“الاستثمار” بالفهم الأمريكي الذي يسود العالم، ليس سوى “استثمار لشلل
البلاد” وضعف إرادة شعبها لامتصاص خيراتها، ولذا فهو حريص على الحفاظ على هذا
الشلل الاقتصادي والسياسي وخلقه ان تطلب الأمر.
أما “الخصخصة” التي تطالب بها اميركا في كل مكان تواجدت فيه، فليست سوى سرقة
مباشرة وصريحة لممتلكات الشعب التي حققتها لهم حكومة سابقة. "الاقتصاد"،
في هذا الزمن الأمريكي، لم يعد علماً لزيادة الإنتاج او توزيع أرباحه، بل لإيجاد
طرق جديدة لسرقة الناس وقنونة هذه السرقة واثارة الغبار في مصطلحاته لتعمي الناس
وتردعهم عن محاولة الفهم. ووفق هذا "الاقتصاد" يجب اعتبار الحرب وفتح
السجون، بل حتى إصابة شخص بالمرض أو حدوث ثقب في إطار السيارة، عوامل
"منشطة" للاقتصاد، لان ذلك يعني "فرص عمل" للضباط والجنود
وشركات السلاح والشرطة والطبيب والبنجرجي، وكل ما يدفع من اجل ذلك يدخل وفق هذا
"الاقتصاد" ضمن "الناتج الإجمالي القومي"، وهو المقياس
الأساسي لتقدير حالة الاقتصاد!
في الزمن الأمريكي هذا، لا تمنح جوائز الاقتصاد إلا لمن يسهم في خداع الناس
بمفهوم جديد، له هيئة توهم بالعمق والعلمية لتخفي فراغ المعنى.
لقب "الإرهاب" تمنحه اميركا دون غيرها! إنه تهمة توجه للأبطال
الذين يحررون بلادهم من الاحتلال! وقد يعود البعض من هؤلاء فيحصلون على لقب البطولة
وينالون جوائز التكريم والتعظيم من “امبراطورية الشكل”، إن اقتضت الحاجة. أما “جوائز
نوبل” للسلام وللأدب فصارت بالتأثير الامريكي تعطى لمجرمي الحرب الكبار ولمن يروج
الانبطاح للقوة الغاشمة وصار ارتكاب جريمة حرب يزيد فرصك من نيل جائزة نوبل
للسلام!
قوانين محاربة الإرهاب" ليست سوى “قوانين إرهاب” يستخدمها القوي
لإرهاب شعبه واجباره على التنازل عن حقوقه بحجة "الطوارئ" متخذاً من رعب
الكلمة، حجة لتجاوز المسيرة القانونية الطبيعية للتحقيق والمحاكمة والعقاب.
"قوانين محاربة الإرهاب" ليست لمعاقبة الإرهابيين لأن هذا كان ممكن
دائما ضمن القوانين الاعتيادية السابقة، لكنها مناسبة جداً لمحاربة ومعاقبة
الأبرياء الذين لا يروقون لأميركا، لأن المتهمون فيها لن يحصلوا على الفرصة لإثبات
براءتهم.
"الأمم المتحدة" التي أسست بعد الحرب العظمى الثانية للحفاظ على
السلام الدولي والقانون الدولي لم يبق منها بعد الجهود الأمريكية، سوى قشرها. فأفرغ
محتواها ليملأ بكل ما يجعلها أداة لشرعنة العدوان على الضعيف. و "التدخل
الإنساني" لم يعد إلا وصفا شكلياً مّقنعاً وحجة لتجاوز القانون من اجل تحطيم
الشعوب والدول، وتهمة "جرائم الإبادة الجماعية" لم تستخدم مرة واحدة
لمعاقبة قوي قام بتلك الجرائم، بل فقط ضد من خسر الحرب أو وجد نفسه في حالة ضعف،
لابتزازه أو لتبرير ارتكاب "جرائم إبادة جماعية" ضده. إن الدعوة اليوم
لتدخل الأمم المتحدة تثير الرعب لدى الشعوب، والدعوة لإدراج حدث ضمن "جرائم
الإبادة" يثير القلق الشديد كمشروع ابتزاز جديد، لا أكثر.
"وسائل الاحتجاج الشعبي" من تظاهرات واعتصامات، والتي طالما خدمت
الشعوب في التخلص من الدكتاتوريات، تمت دراستها و"تطويرها" في اميركا، لتصبح
هراوات لتحطيم الشعوب. لتصبح "ثورات ملونة" شديدة الفعالية في الانقلاب
على الحكومات المنتخبة ديمقراطيا، والتي لا تناسب اميركا. وتجوف مثلا، معنى الظاهرة
الاجتماعية الجميلة بتقديم "الورد"، عندما استخدمها متظاهرو "الثورات
الملونة" وتحولت إلى رمز مخيف وعلامة تحذير من كارثة قادمة على البلد. فهذه
الحركة هي ضمن حركات كثيرة تم تدوينها في كراسات طبعتها منظمات مشبوهة تدير
"الثورات الملونة" من وراء الكواليس، ووزعتها على الناس، وتستخدم كطريقة
لابتزاز الشرطة ومنعهم من أداء واجبهم بحفظ النظام. ونفس هؤلاء الذين يركضون
لتقديم الزهور، سيحملون الاجندة الأمريكية القادمة بكل ما قد يصاحبها من عنف. وبمثل
هذه الأساليب ذات "الشكل" الجميل، والقصد المخيف، تم استبدال حكومة
أوكرانيا المنتخبة بمجموعة من العصابات النازية الجديدة، وتم تمزيق البلاد على يد
الشعب المخدوع نفسه وبفضل تظاهراته، وبتوجيه مما يسمى "المنظمات الإنسانية"
غير الحكومية، وهي بلا استثناء تقريباً، وعلى عكس اسمها تماما، منظمات تآمر وإدارة
انقلابات وأوكار تجنيد للعملاء والمتآمرين، في الزمن الأمريكي الجديد.
"السفارة" عندما تكون أمريكية، فهي ليست سوى قاعدة عسكرية
استخبارية للتآمر، يتناسب تحصينها وحجمها مع حجم العداء المنتظر بينها وبين ضحيتها
(الشعب) وحجم الخراب الذي تنوي القيام به في تلك البلاد. "الصداقة" الأمريكية
لا علاقة لها بما يوحي هذا الاسم للبشر، فهي ليست سوى “الشكل” الذي يتيح لها
الوصول إلى أحشاء البلاد التي "تصادقها" لبث السم وتأسيس الدمار فيها. ولنلاحظ
إنها لا تختار "السفراء" كما يفهم الناس لدور السفير، بل تختار سفيرها
من بين أشد مرشحيها خبرة بصناعة الإرهاب ومن تمكن من هؤلاء من إراقة أكبر كمية من
الدماء والدموع والرعب في دول أخرى كانت ضحايا لهم، مثل السفير الأمريكي الأول في
العراق نيغروبونتي، او "أصحاب المواهب" الجدد، الواعدين ببناء مستقبلهم الدموي
على خطى من سبقهم. وليست "المساعدات" التي تقدمها السفارة إلا كمثل أصحابها.
فمعاهد "تدريب المهارات الوطنية" مثلا، لا يعني، في أسوأ الأحوال سوى
تدريب الإرهابيين كما في "مدرسة الأمريكان" في اميركا الوسطى، وفي أحسن
الأحوال "زرع مفاهيم الوهم" في المتدربين وزيادة كفاءتهم ليقودوا البلاد
اقتصادياً وسياسياً نحو الهاوية.
الحاكم على البلاد التي تتحكم فيها اميركا، لا يتم اختياره لخدمة البلاد،
بل لخدمة الأهداف الامريكية التي تتناقض تماما مع مصالح البلاد المحتلة. وفي لحظات
تاريخية كانت مصلحة اميركا متلائمة مع مصلحة بعض البلدان مثل أوروبا واليابان،
للوقوف بوجه المد الشيوعي العالمي، لكن تلك الفترة انتهت منذ زمن طويل. أما الآن،
فبدلا من ان يصل الأشراف إلى رأس السلطة لخدمة الشعب كما يفترض، لا يصل إلى السلطة
في بلد تشرف عليه اميركا، إلا اشد الحثالات من المرشحين المتوفرين، وأكثرهم وعوداً
بتنفيذ الدمار المخطط، وليس "البناء". وبدلا من ان يصبح ممثلو الشعب
وحكومته في خدمة هذا الشعب، نصحوا لنجدهم بتوجيه امريكي، الخط الهجومي الأول
للتدمير المخطط، والعدو الأول الذي يجب ان يتخلص الشعب منه إن أراد الحياة. وإن
فشلت الخطة ولم يكن من على السلطة بالسفالة اللازمة لتنفيذ الخطة فإنه يزاح خلال
أسابيع لينتخب من يكون كذلك. وعندما يستهلك هذا يؤتى بمن هو أكثر استعدادا منه
للتدمير، حتى لو لم يكن أحد يعرفه او ينتخبه.
كل ما هو امريكي، مزور ومقلوب المعنى. "التعاون العسكري" لا يعني
سوى تجنيد الضباط عديمي الشرف، وأولئك الذين تم جمع معلومات تدينهم وابتزازهم بها،
وإعدادهم للمهمات الأمريكية القادمة. وفي العراق، بدلا من الدفاع عن الوطن، قام
قادة الجيش الذين اختارتهم اميركا وسلمتهم المناصب المناسبة عن طريق عملائها في
بغداد، بتسليم المدن التي وضعوا للدفاع عنها، إلى الإرهابيين، مع كامل أسلحتهم
ودون أي قتال. وبدلا من قصف الإرهابيين المعتدين، لا يقوم "التحالف
الدولي" الذي تقوده اميركا إلا بقصف حشد وجيش البلد الذي جيء به لـ "يدافع
عنه"، "بالخطأ"، المرة تلو المرة. ولا تهبط مساعداته بالباراشوت
إلا "بالخطأ" إلى الإرهابيين.
حلفاء اميركا وذيولها الأجانب، بدلا من ان يكونوا حلفاء لـ
"اصدقاءنا" فهم الجهات الأشد عدوانية علينا، يصرفون أموالهم لدعم
الإرهاب الذي تدعمه اميركا في بلادنا، وتخترق جيوشهم حدودنا عنوة وبصلافة متناهية،
فلا يجد "اصدقاؤنا" الملزمون بحمايتنا ما يقدموه لنا سوى النصيحة
بالتفاهم مع المعتدي.
ولو نظرنا إلى ما يسمى "تسليح الجيش"، بالمفهوم الأمريكي كما
يطبق على جيشنا، لوجدناه لا يعني سوى منع الجيش من الحصول على السلاح بشتى الطرق.
فيؤخر تنفيذ صفقات الأسلحة إلى سنوات عديدة، ويمنع البلد من الحصول على السلاح من أي
مكان آخر من خلال جوقة رخيصة من العملاء داخل البلد.
وبنفس الطريقة، فأن "دعم وحدة البلاد" لا تعني كما يبدو في الفهم
الأمريكي، إلا السعي الحثيث إلى تمزيقها على خطوات تبدأ بإعلان أقاليم وزيادة
صلاحيات محافظات ومشاريع جيوش مستقلة وقرارات برلمانية بالتعامل مع مختلف الجهات
باستقلال عن حكومة المركز، وكلها موجهة لتحطيم سلطة المركز وتسهيل تفكيك البلد.
ويمكننا ان نلاحظ علاقة وطيدة بين من يدعو بحماس الى تلك المشاريع، وعلاقة هؤلاء
بأميركا.
وسائل
"الإعلام" التي قام الأمريكان بزرعها، ليست في مضمونها إلا وسائل
"إيهام" تشن حرب هلوسة وإبادة شاملة على وعي الشعب، لتصوير الصديق عدوا
والعدو صديقا، والنقي فاسدا والفاسد نقيا. تنشر الجهل والخرافة علناً
وتركز الأضواء على تافه الأخبار وتترك ما هو مهم ليدفن في النسيان. ومن مهماتها
تأكيد العبارات الفارغة المعنى او المقلوبة المعنى في أذهان الضحايا، فلا يفلت
منها إلا شديد الانتباه.
لقد قال البروفسور جومسكي عن "اتفاقية حرية التجارة" بأن لا
علاقة لها بالتجارة أو الحرية، ولا هي حتى "اتفاقية" كما تعرف
الاتفاقيات! وقال عن الحرب التي شنتها بلاده لـ "تحرير كوبا" بأنها كانت
حربا "لمنع كوبا من التحرر"! فهذه الأسماء لم تصمم إلا لخداع الشعب الأمريكي
ليرى العالم مقلوباً! إن من يصرف مئات المليارات ليخدع شعبه (وهو، ويا للمفارقة،
من اطيب الشعوب في العالم!)، لن يبخل بمثلها لخداع الشعوب الأخرى وقلب عالمها.
إن كل ما يتعلق بأميركا مزيف ومقلوب المعنى وعبارة عن شكل مفرغ المحتوى،
وليس ذلك صدفة. فتركيبة اميركا وكل دولة مبنية على العدوان ومستفيدة منه، ان تبقي
ضحاياها في الوهم تحت سيطرتها. لكنها ليست مهمة سهلة لمن يرى العالم كله، بضمنهم
شعبه نفسه، اعداءاً وفرائس له يجب خداعهم. لذلك كانت المهمة هي تحطيم محتوى
المفاهيم وقلبه، مع الإبقاء على الشكل سليماً وكأن شيئا لم يكن! وقد بذل جهد هائل
واموال طائلة في سبيل هذا الهدف، داخل اميركا وخارجها. وإلا كيف يمكن لنا ان نفهم ان
هاتين الشخصيتين التافهتين السايكوباثيتين، مرشحتان لحكم أقوى دولة في العالم؟
وكيف أصبح الإنسان ضائعا في عالمه لا يعرف دربه، لا يجد امامه أي خيار يمثله في
دولة يفترض انها "ديمقراطية"، لولا انفصال المعنى على الشكل تماماً؟
كل شيء مزيف ومقلوب المعنى وبخطة دقيقة. جربوا ان تقلبوا كل كلمة لها علاقة
بأميركا، وانظروا إن لم يصبح العالم مفهوماً أكثر!
إن لقلقنا على الموصل والعراق وعلى العالم والبشرية عموماً، كل مبرراته
وأكثر. فدخول اميركا (وأكثر منها، إسرائيل) إلى بلد ما، يجعل كل قائم فيه يميل، وكل
مستقيم ينحني، فتقلب الكلمات ويزوغ البصر. إن التواجد الأمريكي او الإسرائيلي في
بلد ما، لا يختلف في نتائجه عن انتشار الطاعون في ذلك البلد، او وقوعه تحت مصيبة
مزمنة كالجهل أو الأمية أو الفقر أو الجفاف! وإفلات البلد من هذه السلطة ثروة
قومية هائلة يجب المحافظة عليها بالناب والمخلب، فهي تزيد في قيمتها على الثروات
المعدنية والمناخ اللطيف ونعمة خصوبة الأرض ووفرة المياه. يجب على الشعوب التي
تريد البقاء على قيد الحياة البشرية أن تدرس هذا الوحش جيداً وتطور مناعتها بوجهه
وتكتشف اللقاحات المضادة له، مثلما تفعل ذلك مع الأوبئة والكوارث الطبيعية، فلم
يكن مخطئا ذلك السياسي المكسيكي الذي نعى بلاده بأنها ابتليت بكارثتي "بعد
الله عنها وقرب اميركا منها".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق