الخميس، 6 أكتوبر 2016

أحمد العمراوي: الشعر بمفهومه التقليدي تغيَّر الآن-حاوره: فيصل رشدي

أحمد العمراوي: الشعر بمفهومه التقليدي تغيَّر الآن
خاص- ثقافات

حاوره: فيصل رشدي

نستضيف شاعرا من المغرب حيث للشعر مكانة خاصة في هذا البلد، الذي أنجب شعراء كبارا على مر العصور،  تركوا بصمتهم في الشعر الإنساني العالمي. منهم من مات، ومنهم  من لازال يعيش معنا، مفضلا كتابة الشعر لأن الشعر هو أساس الحياة.

وضيفنا في هذا الحوار يفضل كتابة الشعر للتعبير عن أحاسيسه ، رغم كونه يزاوج بينه وبين النقد والكتابة المفتوحة. فهو يرى بأن الشعر هو خلود الإنسان وتراث الدول وفخر الرجال. ضيفنا هو الشاعر المغربي الأستاذ أحمد العمرواي، ابن مدينة فاس التي رأى بها النور عام 1955 وتربى فيها، يعرفها معرفة الأب لابنه. درس بها وأحبها وكتب عنها، يحكي لنا العمرواي ذكرياته فيها وعن شعره وكذلك واقع الشعر في المغرب والعالم العربي.

         أحمد العمراوي هو خريج كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس. وخريج جامعة القرويين بفاس أيضا. ثم خريج المركز الوطني لمفتشي التعليم الثانوي بالرباط .

         عمل أستاذا لمادتي اللغة العربية والتربية الدينية. وتختص في التقويم وديداكتيك المواد الدراسية. ثم عمل مفتشا ورئيسا للجنة الامتحانات بأكاديمية وزارة التربية الوطنية بالرباط إلى حدود  2005 فبل المغادرة الطوعية. هو عضو مشارك في لجان التأليف المدرسي عدة مرات. وهو الكاتب العام لفرع اتحاد كتاب المغرب بالرباط حاليا .

         شغل منصب  المدير المسؤول عن مجلة “فضاءات تربوية” التي تصدرها نيابة وزارة التربية الوطنية بالرباط.·يشتغل حاليا بمحترفات أدب الأطفال وكتابة التلاميذ بالمغرب وخارجه.

         هو عضو مسؤول بخلية حوار الديانات بمجموعة مدارس الإيكام (التعليم الكاثوليكي بالمغرب ) ومؤطر ومنشط تربوي بالتعليم العمومي سابقا وبالتعليم الخاص حاليا. وهومؤطر مادة التربية الدينية بمجموعة الإيكام بالمغرب إلى الآن.

         مشرف على محترفات كتابية للصغار والكبار بالمعرض الدولي للكتاب عدة مرات، وبمختلف مدن المغرب. أطر العمراوي وأشرف على بحوث الطلبة المفتشين بالرباط. كما أسس وأدار المقهى الثقافي راندا بحي النهضة بالرباط. وهو عضو شبكة المقاهي الأدبية بالمغرب وأمين مالها. وهو من أوائل من أنشأ موقعا شعريا إلكترونيا بالمغرب.

         شارك الشاعر أحمد العمراوي ومثل المغرب في عدة مهرجانات شعرية دولية آخرها مهرجان “سيت” العالمي بفرنسا صيف 2013 والذي ضم 115 شاعرا من مختلف أنحاء العالم.

         يزاوج العمراوي بين الشعر والنقد والتربية ، ومن أهم إصاراته :

مجمع الأهواء : شعر  الطبعة الأولى ،1997 فضالة المحمدية، الطبعة الثانية 2001 دار الأمان، الرباط.

ينابيع مائية: شعر، الطبعة الأولى  2003‏ دار الأمان، الرباط.

الينابيع : حقيبة شعرية تشكيلية بالاشتراك مع الفنان الراحل عبد الإله بوعود، طباعة حريرية ، 2003.

يتجددون كأفعى ، شعر، منشورات بيت الشعر بالمغرب، 2015

س : مرحبا بكم أستاذ أحمد العمرواي

ج : شكرا الصديق فيصل رشدي ، وسعيد أن يحاور شاعر شاعرا في زمن قل فيه الشعر وكثر  فيه الشعراء.

س:  أنت ابن مدينة فاس، حدثنا عن بداياتك الأولى بها؟

ج : المكان بأهله يقول المتصوفة، والمكان الأول يرتبط بمسقط الرأس وله أكثر من دلالة رمزية حسب أمبرتو إيكو، ثم أذكر قول أبي تمام:

نقل فؤادك حيث شئت من الهـوى                           ما الحب إلا للحبيب الأول

كم موطن في الأرض يألفه الفتى                  وحنينه أبدا لأول منــــزل

أما عن فاس المكان فهي مقام العابرين كما يسمونها، عبور ضروري من الظلمة إلى الضوء. نشأت بها وعشقت كل حجرة منها. هل أقول أنني أحملها رمزيا معي أينما حللت؟ يطلق على مدينة فاس اسم العاصمة العلمية، وهو اسم يليق بها كثيرا خاصة في ما سبق من الأيام. لقد مثلت فاس العاصمة الإدارية للمغرب مدة طويلة نظرا لموقعها الجغرافي والتاريخي، قبل أن تنتقل هذه التمثيلية إلى الرباط  في السنوات الأخيرة. مكان صوفي بروائحه وأبوابه وتاريخه.

         نشأت بحي قديم من أحياء المدن العتيقة بفاس يقال إنه الموطن الذي وقفت به بغلة المولى إدريس حين وضع أول حجر لتأسيس هذه المدينة التاريخية، ليس بعيدا عن مسجد النوار أول مسجد أسس بفاس، وهو مهمل أيما إهمال للأسف الآن. بعدوة الأندلس حيث مسجدها الكبير.

         البيت الذي نشأت فيه هو بيت أدب وعلم وفقه، فتحت عيني على مكتبة والدي رحمه الله الحاج محمد بن التهامي العمراوي الإمام وعالم القرويين المتخصص في النحو والفقه والقرآت القرأنية والأدب أيضا. أينما وليت وجهك تجد أمامك كتبا متعددة في مختلف المجالات التراثية. هكذا وجدت نفسي في جو مشحون بالكتاب والكتابة. وأذكر أن بيتنا الصغير نسبيا كان مرتعا  لتجمع الفقهاء الذين كانوا يحضرون مع أبي كل خميس تقريبا لإحياء أذكار لتوحيد الله ومدح نبيه الكريم.

         والبيت نفسه سيتحول، فيما بعد، إلى مكان للنقاش الثقافي والسياسي في مراحل السبعينات. والكثير من الأسماء المغربية في المشهد الثقافي الآن تشهد على حضورها الدائم بهذا البيت والنهل من مكتبة المنزل التي لم تبخل على أحد في المعرفة. قد أذكر أسماء وازنة إذا سمحت لي للاستشهاد أصدقاء أعتز بهم: سعيد يقطين، فريد الزاهي، نور الدين الزاهي، عبد الفتاح الديوري، أخي المرحوم إلياس إدريس العمراوي، أخي الشاعر محمد العمراوي، الشاعر عبد الرحمن حمومي، الشاعر سعد سرحان، الشاعر عزيز الحاكم، القاص حميد مشمش المقيم بالنمسا،الكاتب مصطفى الكليتي،،،، ولائحة طويلة قد لا يتسع المكان لذكرها. فكيف لا تكون كاتبا في جو كان التنافس فيه حول وقت قراءة الروايات، بحيث كنا نقضي ليالي بيضاء لإتمام روايات لنجيب محفوظ ونناقشها. هذه أجواء فاس .

         هذا إضافة للجمعيات الثقافية التي أخص منها بالذكر جمعية مسرح الأقنعة التي أسسناها رفقة ثلة من الكتاب والمبدعين والتي استضافت آنذاك كتابا كبارا مثل الشاعر أحمد المجاطي، القاص والروائي محمد عز الدين التازي، الكاتب المعروف أحمد المديني، الشاعر محمد السرغيني… وآخرون…

2–  لك قصيدة بعنوان” إبتسموا إنكم في فاس” وردت فيها هذه العبارة  مكتوبة بأكثر من عشرين لغة، ما دلالة هذا العنوان ؟

         تُعرف مدينة فاس بأبوابها التاريخية المتعددة: باب المحروق، باب عجيسة، باب المكينة، باب فتوح وغيرها، ولعل من أشهر أبواب المدينة : باب أبي الجنود، والذي يطلق عليه المغاربة الآن اسم باب بوجلود. هو مدخل رئيسي معروف لدى السياح المغاربة منهم والأجانب، فأمامه تقام حفلات وسهرات مهرجان الموسيقى الروحية والعتيقة بفاس. على سور محادٍ له وبالضبط على حائط مسجد بوجلود العتيق نجد ملصقا ضخما يحمل هذه العبارة : ” ابتسنوا إنكم في فاس” ، كتبت بأزيد من عشرين لغة. هو أثر خلف في ذهني الكثير من التساؤلات وأنا جالس بمقهى بوجلود، ألاحظ الخلق وأبصر المكتوب. ولكن بمجرد أن تطأ قدمك عتبات المدينة العتيقة وأنت تدخل المدينة تلاحظ مظاهر متناقضة: حب وعنف، جمال وقبح، فقر ورفاهية… كلها تصدمك وأنت تتقدم ، والشاعر بطبعه هو من يلتقط مثل هذه اللحظات ويحولها إلى نص شعري قد يكون ساخرا كما هو شأن قصائد مجموعة “مرارات” المنشورة في ديواني الأخير : ” يتجددون كأفعى” وقد تجد عناوين أخرى في الاتجاه نفس من مثل: ” أنا مغربي ومتخلف طبعا لا” و ” ليس مهما” و” سيان” وغيرها.

3 – هل عنوان ديوانك باب الفتوح يدل على باب الفتوح المكان المعروف بفاس أم له دلالات أخرى؟

         نعم من ناحية ولا من ناحية أخرى، فباب الفتوح هو أقدم الأبواب وهو يوجد بالجهة الشرقية للمدينة، ومنه كان ينطلق موكب الحجاج سابقا، وبه توجد المقبرة الشهيرة  التي تضم رفات أغلب أولياء المغرب وفقهائه. هو باب ينقلك من سراديب المدينة العتيقة نحو حداثة الحافلات وسيارات الأجرة الصغيرة الحمراء التي ستقودك نحو المدينة الجديدة. نشأت غير بعيد عن هذا الحي شبه الشعبي. كل كتابة تأتي من أثر هو ما يطلق عليه ” غاستون باشلار” لفظ الخيال المادي وهو يحلل ذلك في علاقة الشعر بالماء والأحلام في كتابه الهام ” الماء والأحلام، دراسة عن الخيال والمادة”

         باب الفتوح من ناحية أخرى يشير إلى الفتح الشعري والصوفي الذي يحصل للشاعر حين تنفرج غمته بقصيدة أو مقطع شعري، وأجواء ديوان باب الفتوح هي أجواء تمتح من الصوفية ولكن بما أطلق عليه لفظ ” الصوفية الجديدة” . صوفية عميقة في لغتها تزاوج بين الحداثة والمتخيل الصوفي. وقد أتاني العنوان وأنا أكتب قصيدة طويلة أسميتها : “أبواب باريس” حين أقمت بهذه المدينة بعض الوقت، وبعض النقاد كتب أنني أحمل معي  أبواب فاس حتى في باريس. والفرق هو أن أبواب باريس لا وجود لها ماديا كأسوار، بينما أبواب فاس قائمة بجدرانها العتيقة. وإذن فالعنوان قد يحيل إلى دلالتين كما يقول “ريفاتير” الدلالة التي يحملها حرفيا ودلالة أخرى مستترة قد تكون هي الأعمق.

4 – هل يمكن أن توضح لنا أكثر المقصود بهذا اللفظ: ” الصوفية الجديدة” ؟

         ” القراءة العاشقة والصوفية الجديدة” هو عنوان مقال كتبته سيصدر قريبا ضمن كتاب: ” الكتبة وأسرار الرماد” خصصته لتأملات في الشعر والكتابة والفن بالمغرب وغيره على الطربقة البارتية (نسبة إلى رولان بارت) في شذراته العميقة.

         والصوفية الجديدة ترتبط بالقراءة التي تقودك حتما إلى الكتابة عما قرأت بشكل تفاعلى بين متلقٍّ قارئ نموذجي على حد تعبير “إيزر” و ” أمبرتو إكو ” وبين كاتب محترق بلوعة الحرف، أليس هذا ما فعله الصوفية وهم يتأملون أحوالهم ومقاماتهم؟ إلا أن الفرق هو كلمة الجديدة التي أعني بها الربط بين واقع الناس وعشق الكلمة الجميلة، ستجد نفسك مرغما على الكتابة هنا وأنت أنت تقرأ عبد الفتاح كيليطو، أو تسمع صوت العربي باطما ، أو تتأمل لوحة للفنان التشكيلي عبد الإله بوعود أو وأنت غارق في تفاصيل شخصيات لمحمد برادة أو عبد القادر الشاوي، أو حتى وأنت تفكك تعقيدات أرشيف جاك ديريدا. من هنا أتتني التسمية التي سأكتشف فيما بعد أن بعض النقاد الشباب قد أطلقها في بعض تحليلاته ولكن بطريقة مختلفة.

5 – كانت مدينة فاس تشهد سهرات ومسامرات شعرية بين الشعراء، هل لا زالت اليوم تحظى بتلك  السهرات والمسامرات؟

         المتتبع للمشهد الثقافي المغربي سيلاحظ قلة الأنشطة المرتبطة بما أسميته المسامرات بين الشعراء، إلا أننا نلاحظ بالمقابل أنشطة منظمة تقوم بها الجامعة وكلية آداب ظهر المهراز خاصة، وما يقوم به بيت الشعر واتحاد كتاب المغرب أحيانا. إلا أن ما أثارني في السنتين الأخيرتين هو ظهور صالونات ثقافية تقام في بيت الشاعر. وهذا ما قام به الشاعر محمد بنطلحة في بيته حين كرم الشاعر الكبير محمد السرغيني، لقد كانت مسامرة شعرية وثقافية حضرها ثلة من الكتاب والشواعر والشاعرات، تكلف محمد بنطلحة بالإيواء والتغدية ليوم وليلة على حسابه الشخصي، كان لي شرف حضورها كمشارك ومقرر لجلساتها التي ستصدر في كتاب لاحقا، وقد ساهم في جلسات هذا التكريم بصالون محمد بنطلحة مجموعة من الفعاليات الثقافية أذكر منها : الشاعرتين: فاطمة الزهراء بنيس، الشاعرة والمغنية الفلسطينية شادية حامد  ، والشعراء      محمد بنطلحة ،محمد بودويك، عبد السلام الموساوي، عزيز الحاكم ، محمد الصالحي ، أحمد العمراوي ، وحضرها من النقاد والمفكرين، محمد البكري، بنعيسة بوحمالة، إدريس كثير. كل هذا طبعا بحضور الشاعر المكرم محمد السرغيني. كان النقاش والتذكر والمحاورة أهم ما ميز الجلسات التي استمرت إلى وقت متأخر من الليل. لقد أحيى محمد بنطلحة تقليدا قديما كنا نقوم به في فاس بعيدا عن أضواء الإعلام والبهرجة الصحافية رغم أهميتها أحيانا. وسيقيم محمد بنطلحة تكريما آخر لشاعر آخر هو عبد الرفيع الجواهري وبحضور شعراء ومثقفين آخرين. هو صالون ثقافي بامتياز.

         من جهة أخرى نلاحظ كثرة المهرجانات الثقافية الأخرى بفاس كمهرجانات الثقافة البروحية، والموسيقى الروحية، وربيع الفلسفة وغيرها. لقد قلت الملتقيات الخاصة بالشعر في فاس خاصة بالقياس للسابق.

6 – عادة ما نسمع الصالونات الأدبية في المشرق خاصة صالون مي زيادة، هل في المغرب صالونات أدبية شبيهة بالمشرق العربي؟

         في الآونة الأخيرة بدأت بعض الصالونات الثقافية تظهر في المغرب بهذا الاسم أو بغيره، أذكر من بينها تمثيلا لا حصرا : الصالون الأدبي الذي تشرف عليه الشاعرة أسماء بنكيران بأكادير، وصالون الكاتبة زهرة الزيراوي بالبيضاء وغيرهما. وما يلفت النظر هو ظهور نوع آخر من الصالونات الثقافية من خلال المقاهي الثقافية التي أسسنا شبكة لها في مختلف أنحاء المغرب بحيث أشغل منصب أمين مالها. وهي شبكة تستضيف فنانين وشعراء وكتابا من مختلف الاتجاهات في لقاءات حميمية تعوض ثرثرة المقاهي إلى تواصل هادف وفعال.

7 – لماذا اخترت بعض عناوين قصائدك باللغة الفرنسية ، ما هو الدافع؟

         قد لا يكون للشاعر اختيار في اختيار اسم مولوده بما أن الاسم يدل على المسمى، فعنوان قصيدة : Grand A  مثلا قد لا يحمل الدلالة نفسها وهو يترجم للعربية بما أنه إحالة على لفظ عميق استعمله المحلل النفساني الفرنسي جاك لاكان، يصعب ترجمته حرفيا وهو مقصود لإثارة القارئ الذي عليه أن يجتهد قليلا وهو يقرأ النص قراءة عاشقة. والأمر نفسه ينطبق على باقي العناوين. ليس في الأمر تبخيسا للغة العربية أبدا ولكنه الشعر المختلف الجديد الذي يفرض نفسه بقوة.

8-  أدرجت في قصيدة لك الحكاية الشعبية ، وسلطت الضوء على  شخصية “سعدون” لماذا هذه الشخصية دون سواها؟

         وأنت تكتب تحضرك آثار مخلفة على الذاكرة : أسماء أمكنة، كتب، شخصيات… وشخصية “سعدون” إضافة إلى شخصية “عسالة” أو “حربة” مثلا هي شخصيات مهمة في مدينة فاس التقليدية، مجرد ذكر هذه الأسماء يستدعي لديك أشرطة كثيرة. هم مجاذيب المدينة العقلاء. كلامهم حكمة وشعر شعبي. لقد ضحوا بعقولهم من أجلنا. وهي شخصيات مؤثثة لفضاء مدينة فاس كما هو شأن كل المدن التقليدية. مجاذيب لا تؤذي أحدا. أليس المكان بأهله؟

 9– أنت تزاوج بين كتابة الشعر وكتابة الدراسات النقدية والكتابة في المجال التربوي والثقافي عامة. أين تجد نفسك أكثر؟

            أنا أعتبر نفسي شاعرا بالدرجة الأولى، هكذا وجدتني منذ البادية، إلا أن الشعر بمفهومه التقليدي تغير الآن، كما تعرف، فلم يعد الشاعر هو ذلك الكائن المثالي الخارق الذي يأتيه الإلهام من عبقر، الشعر يوجد في القصة والرواية والدراسات النقدية. أحيانا وبحكم القراءة العاشقة التي تحدثنا عنها ، أجد نفسي منساقا لكتابة تأملات قد ترقى أحيانا إلى مصاف الدراسات النقدية، ولكن الهمّ الشعري يبقى حاضرا في كل كتابة. الشعر هو الأصل وكل ما نقوم به هو من أجل ترسيخه. الشعر هو المحبة والسلم ، وهو أيضا تعرية الواقع والارتفاع عنه أحيانا بالحلم والمتخيل. كل كتابة أو إبداع هو شعر الآن ، وأنت تعرف أن اللغة وحدها لم تعد كافية للإفراج عن غمة الذات والأشياء. التواصل عبر الرقمي أثّر على كل شيء وعلى الشاعر أن يعيد النظر في أدواته حتى لا يبقى في عصر الانشداد لماضيه فقط.

10 – استضافك الشاعر والإعلامي ياسين عدنان في برنامجه التلفزيوني المعروف  “مشارف” وكان موضوع الحلقة عن ورشات الكتابة الإبداعية لدى الأطفال، تحدثت عن المحترفات وأهميتها في الكتابة وأكدت على ارتباط القراءة بالكتابة الإبداعية، كما أشرت إلى أهمية الابتداء بالكتابة للوصول للقراءة. هل يمكنكم توضيح الأمر.

         ” الكتابة الإبداعية والمتخيل الشعري للتلاميذ ” هو كتاب يلخص تجربتي المتواضعة في مجال المحترفات الكتابية ، وأعني بها ورشات الكتابة الإبداعية، والاسم الصحيح هو المُحتَرَف. وقد أطلق هذا اللفظ قديما على كل عمل تعلمي لحرفة أو فن، وهو ليس ترجمة حرفية للفظ الفرنسي d’écriture  Atelier رغم التطابق الظاهر بين اللفظين . ملخص ما ذهبت إليه هو نفور الأطفال والمتعلمين من الكتابة بمفهومها التقليدي، إذ أن التلميذ مثلا في المدرسة لا يكتب إلا ما قاله الآخرون  في التعبير والإنشاء، ونحن نادرا ما نترك الحرية للمتعلم ليكتب ما يشعر به، ما يخالجه، وحين نفسح له المجال لفعل ذلك فإنه سيجد نفسه مضطرا لتصحيح لغته بنفسه بالبحث والقراءة. ومن هنا قد تؤدي الكتابة الإبداعية في الشعر خاصة لتعزيز القراءة. هذا ما قصدته حين عبرت في الكتاب قائلا : ” في كل منا يرقد شاعر وما علينا إلا إيقاظه” . والإيقاظ سيتم بمقروء آخر، بالتأويل وبطرق ووسائل متعددة أخرى قد تكون مختلفة مثل ما قمنا به في مهرجان سيت الفرنسية منذ سنتين في صلام الكلمة. Slam  ، وقد كانت تجربة متميزة حبّبتْ الكتابة والقراءة بعدها للمستفيدين من المحترف.

11– هل يمكن للمدرسة أن تنتج شعراء؟

         هو السؤال نفسه الذي طرحه علي ياسين عدنان  في برنامجه المتميز في الفضاء السمعي البصري المغربي “مشارف” و أنت تعرف أنني أخوض في المحترفات الكتابية والإبداعية منذ الثنانينيات من  القرن الماضي وما زلت ولم يكن هدفي أبدا خلق شعراء وكتاب من خلال المحترفات، إن همي الأساسي هو تحبيب اللغة والقراءة للمتعلمين والتدريس بطرق مختلفة، وخلق شعراء في تلك المرحلة فقط. فكم يشعر المتعلم بلذة كبرى وهو يخترق ويقتحم اللغة للتعبير عن ذاته، وقد وصلت مع بعض المستفيدين من المحترفات الكتابية إلى درجة مطالبتهم هم أنفسهم بكتابة قصيدة لكونهم يشعرون بالمتعة وهم يسخرون من عالمهم بطريقتهم الخاصة. هي طريقة فنية تدفع للقراءة من أجل الكتابة.

12 –  كيف ترى دور اتحاد كتاب المغرب في تشجيع المواهب الشابة على الإبداع؟

         يمكن لاتحاد كتاب المغرب أن يلعب دورا هاما في التشجيع على الكتابة والقراءة من خلاله فروعه المنتشرة في كل المدن المغربية. لقد أنشأ الاتحاد جوائز للكتاب الشباب، يمنحها سنويا للكتاب الجدد الذين ينشرون كتابهم الأول، إلا أنه أمر غير كاف في نظرنا. على الفروع أن تقوم بهذه المهمة، ولكن بتشجيع من وزارة الثقافة ومن المجالس المنتخبة والجامعات خاصة، وكذا من الخواص الغيورين على الشأن الثقافي في هذا البلد، والذي بدونه لن تكون هناك قيمة لأي تقدم اقتصادي مفصول عن جذوره الثقافية. نحن نحاول في فرع اتحاد كتاب المغرب فرع الرباط القيام بهذا من خلال النزول للمؤسسات التعليمية وللمقاهي الثقافية للتعريف بالكتابة والكتاب في المغرب إلا إن اليد الواحدة لا تصفق كما يقال.

13 – أريد رأيك في أربعة شعراء مغاربة: محمد بنيس، محمد بنطلحة، محمد السرغيني، محمد الصالحي؟

         محمد بنيس ليس شاعرا فحسب بالمعنى التقليدي للكلمة، إنه فاعل ثقافي ومنظر ومتابع ومدافع عن اللغة العربية وعن الحداثة خارج المغرب. هو شاعر يعرف ما يقول. لقد خاض حروبا شرسة في الماضي لدرجة أن همش من طرف الكثير داخل المغرب في مختلف اللقاءات، وقد انتبه له الكثيرون الآن من خلال التكريمات المتتالية التي أقيمت له. يكفي أن نذكر تأسيسه لبيت الشعر في المغرب ودعوته لتخصيص يوم عالمي للشعر، والتي انطلقت من المغرب لتفعل عالميا فيما بعد.

         محمد بنطلحة علامة بارزة في الشعر المغربي الحديث. مؤسس ورائد  للشعر المغربي. قمة الحداثة. يحفر الكلمة ويعيدها قبل إخراجها للناس. هو أشهر الشعراء المغاربة في المشرق والمغرب. عوالمه متخيلة وجريئة تقتحم اللغة والتقليد مسلحة بثوابت القول عربيا وعالميا. تصاب بالدهشة وأنت تقرأ المختلف في كتابته والذي لا يمكن أن يقوله غيره. هو فاعل وشاعر شديد الحساسية، لا يهادن. هو صوت يعتز به المشهد الثقافي العربي والمغربي والعالمي.

         محمد السرغيني رائد الرواد المتعدد. شاعر بألف شكل. كتب بالعربية وبالفرنسية والإسبانية . وله يد كبرى على أغلب مثقفي المغرب الذين تتلمذوا على يديه بشكل مباشر أو غير مباشر. ترجم وواكب المشهد الثقافي شعرا ونقدا وتشكيلا وصورة. عالمه تتداخل فيه الفلسفة بالفكر بالحكاية والأسطورة مما يدفع للتسلح بعلوم وثقافات متعددة للدخول لعوالمه المتميزة.

         محمد الصالحي صوت شعري مختلف. عرف بشذراته الدقيقة وبانتمائه بإخلاص لقصيدة النثر ولكن بطريقته الخاصة. وما لا يعرفه الكثيرون هو ثقافته التراثية الهائلة. وهو يحفظ دواوين الشعر العربي القديم وخاصة ديوان المتنبي كاملا. هو صوت الحداثة المؤسسة على خلفية فكرية وثقافية عميقة عكس ما نراه لدى بعض الشعراء الذين يلغون كل مقروء سابق بدعوى “قتل الأب” دون معرفة بما يقولون.

14–  وماذا عن شعراء الحساسية الجديدة بالمغرب كما سميتها؟

         قد يكون الشعر هو الأكثر حضورا في المشهد الشعري المغربي من حيث الكم، كثرة الدواوين الصادرة وكثرة الملتقيات الشعرية يؤكد ذلك. الشعر هو الدعوة للمختلف من خلال فسح المجال أمام الخيال والمتخيل. ولكن بامتلاك أدوات جديدة . الشاعر ينوب عن الآخرين في إثبات الجمال بدل القبح. الوردة عوض الدبابة. وكذا بالفضح والاقتحام من خلال اللغة أيضا. لقد ظهرت موجة قوية من شعراء الحساسية الجديدة في المغرب منذ التسعينيات إلا أنها قلت أو كررت نفسها الآن للأسف وهذا بفعل تأثيرات أخرى أكبر. لقد تراجع دور المقروء ودور الثقافة والكتابة التقليدية لدى الشباب ، بحيث أصبحوا ينفرون من كل ما هو تقليدي. بعض الشعراء يواكبون المشهد ويكتبون بحساسية مختلفة، متخذين من السخرية والمغايِر شكلا لها، مع توظيف بعض التقنيات الصوتية أحيانا، وأهم ميزة لهذه الموجة التي ليست شابة بالضرورة هي الحسم مع الثوابت اللغوية والإيقاعية الرتيبة والبحث عن المدهش والمتوهج والمختلف. قد نلاحظ ذلك عند شعراء شباب كما نجده عند كبار الشعراء، كما هو شأن الشاعر الكبير محمد السرغيني الذي تجاوز التسعين، أطال الله في عمره، وما زال يكتب وكأنه شاعر شاب. الشعر مواكبة تسبق ما هو سياسي ومجتمعي. تعبر عن الموقف بوسائلها الخاصة التي تواكب بل تسبق كل مستجد بتنبئ مستقبلي.

15 – أما زلت ترى جدوى وضرورة للشعر في الزمن الرقمي؟

         المحلل النفساني الشهير سيغموند فرويد كان يقول دائما في محاضراته : إننا نتعلم الكثير من الشعراء، وإن آخر كائن سيوجد على الأرض هو الشاعر. وأذكر قولة هولدرلين الخالدة : وما يتبقى يتمه الشعراء. إن الدلالة الرمزية لهذا الكلام هو أن الشاعر هو الكائن البشري نفسه، لأنه يرتبط بالخيال والتخيل الذي بدونهما سيعم الجفاف، ويكثر العنف والقتل. مهما امتدت الرقمية لكل المجالات فسيبقى هناك متسع للشعر والقصيدة. نعم سيطرأ تغيير على الأشكال والمفاهيم، بما أن اللغة نفسها أصبحت تتحول باستمرار وبشكل سريع. الفن ضرورة والشعر ضرورة الضروريات. وإذا أردت أن تقتل شعبا فدمر لغته ومتخيله وشعره أيضا. الشعر ضرورة ويجب أن يبقى كذلك في كل الأزمنة بما فيها الزمن الرقمي الهائل.



ليست هناك تعليقات: