الاثنين، 31 أكتوبر 2016

قصة قصيرة-عادل كامل

 


قصة قصيرة
تقرير غير مؤكد حول العدم

"لأنك تتصوّر أني أتكلم في الغوامض والأسرار، بينما أنا أقول بكل بساطة أن الكذب، أو كون المرء فريسة الكذب، وخلو عقله من المعرفة في ما هو من اثبت اليقينيات، أن يسكت عن تسرّب الكذب إلى نفسه، هو ابعد ما يرضاه عاقل لأن كل الناس يكرهون الباطل في النفس كل الكره"
سقراط
"كثيرا ً ما نفعل الخير لنتمكن من فعل الشر دونما عقاب"
"إن فضائلنا تكون في معظم الأحيان عيوبا ً مموهة"
لاروشفوكو
[...وها أنت تجدني اكتوي باليقين أكثر من عذاب ارتكاب المعاصي! ]    

عادل كامل

    تساءل بشرود تام، إن كان أصيب بالمرض، استنادا ً لأقوال أسلافه بان اللعنة ما أن تصيب احدهم فلا مناص على المصاب أن لا يرفع صوته، أن لا يحزن، وان لا يتذمر، وان لا يقنط، تساءل إن كانت محض مصادفة، أو وفق خطة ما تضمنت استحالة نفيها، فهو ـ تابع يخاطب نفسه، في الحالتين، ليس لديه ما يعترض عليه، مثلما أن صمته لا يمثل أكثر من مسار الأسباب ذاتها التي توارت فيها الأسباب. فالعلة تامة، منذ البدء، لكنه انتفض: لو كانت في ذاتها، فلماذا أصبت بها كأنها تحولت إلى ذنب؟ تخيل أسلافه اخفوا لغز الأمر، من غير قصد، أو باليات محكمة تطلبت ذلك، ولم يتركوا له إلا طيفها: المفتاح بلا باب، والقفل بلا ثقب.
   كاد يبتهج، ليس بسبب نشوة ملغزة غمرته، من غير سبب، بل لضرب من اللامبالاة اعتاد أن يجعلها عرفا ً شخصيا ً له، معترفا ً أن مرضه، ليس من الأمراض النادرة، الاستثنائية، أو العصية على الفهم، بل: من أكثرها انتشارا ً حد انك لا تعثر عليها إلا لتتجاهلها، وإنما أيضا ً لا تستطيع أن تتجاهلها إلا وقد وجد المرض مخبأه بعيدا ً في المناطق القصية، النائية، كأنك تحولت إلى ممر أو صرت مثل جسر مهمته السماح للقطيعة أن تبقى تعمل وكأنها هي العبور نفسه.
   إنما أخفى بمناورة  ـ مع ذاته ـ انه كان يحدث نفسه، أو كان يسعى للعثور على آخر يستأنس بالحوار معه حول المرض. فقد أكد أن الأمر لا يتطلب فضيحة، أو إثارة غبار، في قضية: لا وجود لها بعد أن اخفت عللها، ولم تترك إلا خيوطا ً وهمية، شبيهة بحافات مجرات اندرست منذ زمن بعيد.
    وشرد ذهنه، مرة ثانية،  متندرا ً بمناورة أخفاها على نفسه، معترفا ً انه غير مقيد إلا بما تحول إلى عادات طالما أنتجتها شطحاتها وما كان يجعله يعمل بمعيتها، من غير قصد، على إنها كانت تتيح له الطيران والابتعاد عن لزوجة الجاذبية، وتأثيراتها، حتى انه كان يستسلم لحالات يغدو فيها شبيها ً بمن فقد كيانه طواعية، ومن غير إرغام، أو تعنت. فكل ما كان عليه عمله هو إظهار مهارات واضحة، كتحديد موقعه في اللا مكان حيث الغياب يكتسب دلالة الحضور التام، بعد أن تلاشى الزمن وتحول إلى صفر ممتد، لا يؤدي دورا ً سلبيا ً أو ايجابيا ً، بل وسيطا ً يعمل بتلاشي قوى الجذب، في الحركة. انه ليس العدم، ولا ما جاوره، ودار بخلده انه أدى كل ما يمكن عمله، بغير شرود، أو انشغالات نادرة، وكتم بقية العبارة.
     ولكنه قال مادام المرض ليس من اختراعه، فانه لا يمتلك قدرة تحديد خصائصه، ومظاهره الدالة عليه، مؤكدا ً انه لم يسهم باستحداثه، أو التنبؤ بولادته، إنما المرض تسلل عابرا ً الحقب والمسافات الطويلة، حتى غدا وجوده لا يدعو إلى القلق، والنكد، فالمرض هو المرض من غير ضرورة لوجود الدلائل، أو البراهين، أو إجراء إثباتات دالة على ذلك. فهو موجود بقوة نفيه لذاته عبر ما لا يحصى من الكائنات، والحقائق، التي دامت وقاومت شتى صنوف الإبادات، والاجتثاث.
      ثم وجد انه يجتاز عقبة الإشارات، وعلاماتها، ليرى انه لم يختر إلا كل ما سعى إلى تقويضه: لا الحفرة التي استبسل بجعلها تبدو لا مرئية، ولا شريكة حياته التي ما عاد يمتلك قدرة على تحديد ماهيتها، إن كانت هابطة من الأعلى، أو جاءت بفعل فاعل. بل انه اضطر لاختراع شكوك راح يجد فيها مبررات للحديث عن مرضه بوصفه انتقل إليه من غير وساطة، بلا لمس، ومن غير قهر.
    ولأن الذبذبات التي اتخذت أشكالها بإرادة وقصد، فلا فائدة من البرهنة على إنها ذات نفع محدد. ودار بباله انه أمضى سنوات طويلة غير مكترث باشتداد حساسيته تجاه ما كان يحدث، حتى شعر، في لحظة التحول، انه سيكون هزأة لو اصدر امرأ ً بمعاقبة نفسه، وقهر إرادته، وإذلالها حد محوها من الوجود. فانا أصلا ً، خاطب نفسه، عملت على ذلك. وفكر للحظة، انه لم يجد ما كان يرغب أن يتعكز عليه، أو يمضي نحوه.
    كيف لم يعد صفرا ً...، تساءل، وهو يراقب الذرات تحولت إلى شظايا لا عدد لها حتى غابت مكونة هالات لها أصوات معتمة سرعان ما تلاشت ممتزجة برائحة دماء جافة. فامتعضت مشاعره بلون مستحدث: غير متوهج ولا يمكن تحديد موقعه في الفراغ. فأحيانا ً كان يتستر على النتائج بوصفها حصلت قبل وجوده، وإنها ستواصل عملها، بعد غيابه، الأمر الذي منحه نشوة كادت توقف ما كان يدور داخل رأسه، قبل أن يراه مفقودا ً.
   ثم عاد يدحض فكرة انه لم يصر صفرا ً، مستندا ً إلى البرمجة التي لا علاقة لها بأية خاتمة ربما تتقاطع مع نواياه وما عمل على انجازه.  فالحفرة ما هي إلا جزء من تجويف اكبر، إلى ما لانهاية، مقعرة، أو منبعجة، أو ممتدة عبر حافاتها...، فما معنى ـ تساءل ـ إن كان هو جزء منها، أو هي جزء منه. فالصفر هو العدد التام عبر تتمات كل سيبقى ممتدا ً.
   كاد يقهقه .. لولا إحساسه بأنه لم يتورط في الإساءة أو يبالغ في ارتكاب الهفوات والأخطاء، بل كان متجانسا ً مع نفسه بشروط ابتكار منافذ مغايرة للمسارات العامة...، وانه حرص للعمل بلا توقعات محددة، تاركا ً الخطة تستكمل كل ما يجعل نهاياتها شبيهة بالصفر التام وقد انصهرت فيه الأعداد. فالخطة نائية ومن المستحيل الاقتراب من حدودها، أو حتى ملامسة أطيافها، ليس لأن العدم جزء منها، بل لأنهما ـ دار بخلده بذعر مكتوم ـ يمثلان مسارا ً لن يترك أثرا ً دالا ً عليهما أيضا ً. فالقضية كأنها حدثت قبل حدوثها. ألا أبدو أني أثير شغبا ً حول قضية ربما لن تحدث حتى لو كان وقوعها بحكم اليقين؟ مثل وجودي غدا يمتد خارج مركزة ليفقد موقعه هنا أو في أي مكان محتمل آخر، مادمت لم أر إلا ما عملت على محوه.
    هز رأسه وهو يراقبها تحك جلدها بجذع نخلة، ثم تبتعد، لتتوارى وراء جدار الإسطبل. متندرا ً بان مرضه ـ كما استعاد كلمات الطبيب ـ لم يعد بالإمكان استئصاله، أو توقع الشفاء منه، فالانتظار لا علاقة له باحتمال الخلاص، بل بما يشبه المصالحة مع عدو وجد كي يخفي أسباب وجوده، ولا يعلن إلا عن مرافقته، وعدم التفكير بالتخلص منه، أو الحد من أسباب حضوره، فليس ثمة عقار مناسب لهذه العلة، ـ سمع صوت الطبيب يرن داخل فراغات راحت تتسع ـ: فالعلة ليست مستحدثة، أو ذات تاريخ، أو أسباب، وليست قدرا ً للتذمر أيضا ً...، بل إنها، أي مرضك: شبيهة بهذا الذي يمتلك أسباب عدم تحديد ماهيته، لا في الولادة، ولا في الموت.
    ما الذي ينفي حقيقة إنني تحولت إلى محض ظل..، إلى محض طيف، إن لم أكن صرت شبحا ً، أو روحا ً تعرضت للاضطراب، والتصدع...، فراحت هذه الروح تتمايل، ثملة، تتسرب نحو مديات ابعد، فانا ربما أكون معاقبا ً بضرورة سبر هذا المرض المجهول الذي أنتج أعراضه...، وان مصيري برمته غدا منفصلا ً عني، بالحتمية ذاتها التي تجعلني منفصلا ً عنه، حد استحالة تشخيص البدايات، أو احتمال  وجود نهاية ما مناسبة له.
   إنما ردد، بصمت تام، انه لم يعد يشعر قط بالمسافة تمتد وتمتد إلى ما لا نهاية، كما أحس بها، وهو يرى الحياة برمتها ليست عبئا ً، ولا كدرا ً، فهي لا تمتلك غاية محددة، مثلما وسائلها متنوعة درجة إنها تعمل بطلاقة، وبمصادفات منتشية بعواملها الفردية ...، لكن مشاعره سرعان ما تجمدت، فقال أن جرثومة ما لا يمكن فك مغاليق أبوابها راحت تعمل بعناد أفضى بها لتجد سكنها في مكان منحها اختراع الشغف الفائض بكل ما كان رآه لا يستحق إلا أن يأخذ مجراه نحو التلاشي، والزوال.
فهؤلاء: الرؤوس....، وهي لا تتميز إلا  برائحة حيوان يحتضر...
   وتخيلها تتدحرج، بعد أن اختبأت خلف الجدار، ثم توارت، كأنها وهم فند وهمه، فيتشبث باختراع حلم ليجدها تحولت إلى دمية، وليس إلى أتان، أو إلى أنثى كركدن. دمية شبيهة بكيس بطاطا، منتفخ، زاخر بالنتواءات، والزوائد، وبإبر حادة، وأشواك ذات رؤوس مدببة، عمياء، هابطة إلى الأسفل، توخز بغواية وتخفي كمائنها، خالية من الملامح، وكأنه لم يرها ذات يوم تشع بلورا ً بلون الفجر..!
   أكانت بمثابة خطة بالغة الحنكة، محكمة، حد انه كلما عمل على مقاومتها انتابه إحساس  برغبة التوغل في مناطقها التي بدت له ممحوة الملامح...، طالما تتبعها عبر الأدغال، والضفاف، والمنحدرات، مستنشقا ً عطرها، وها  هو الآن لا يعثر إلا على اثر يمحو آخر ما تبقى من ملامحها  المندثرة.
ـ كأنها أطلال مدينة أنهكها الجذام...، ففقدت ذكرى براءتها!
     أم إنها مشاعر ما تحمل نسق التنبؤ بشفاء محتمل من العلة...، ذلك لأنه لمح بصره يشرد عنه، فكرر ربما إنها ليست نبوءة، ولا إشارات تحذير...، بل هي اللعنة ذاتها التي عبرت من الماضي السحيق لتذهب ابعد من أي أمل بالإمكان أن يعدل انحداره العنيد...
    إنما شاهدها تتجمع...، تتكوم، مرئية رغم غياب الضوء، فانتابه إحساس بوجود حيز تتضافر فيه الفواصل، والمخلفات...، مثل موقد خمدت ناره، ورماده وحده يكتم كل ما كان يود البوح به.
   مع من أتكلم؟ اطمأن انه مازال يتنفس، فالحياة لم تقدر بجبروتها أن تسلب منه هذا الذي صار يرعاه كبذرة وجدت للخروج من مدافنها ...، الهواء، وهو يستطيع أن يتنفس، متسائلا ً: فمن منا  غدا علة لديمومة الآخر...، أم إن المرض وحده  غدا فائق البراءة، ومنزه عن الشبهات...؟
    انتفض للتخلي من ورطة الاسترجاع، والاستعادة، والتذكر. فمادام اللا متوقع ـ تمتم مع نفسه ـ لا يمتلك قدرة الإجابة على أيهما وجد علة للآخر فان أحدا ً ما من اللا عدد الهائل للمخلوقات فوق هذا الكوكب الظريف لا يعنيه الأمر...، ولا يكترث له...، فكما أنا نفسي اجهل ماذا حدث، وماذا يحدث، للمجرات بعد تحولها إلى إشعاعات، وذبذبات، وأثير كوني، أو لأي آخر لا يجد من يمنحه نسمه هواء، أو قطرة ماء، أجد إنني لا اختلف بالبراءة ذاتها وقد أغوتنا  بالذهاب بعيدا ً في التوغل من غير تردد، أو مخاوف العقاب.
     ترك رأسه يستقر فوق صخرة، ليرفعه قليلا ً، فماذا يفعل المحتضر وهو يجهل فك لغز لعبة الموت، سوى إيقاف النزيف داخل ذاكرة تتوهج بالمنبهات،والظلمات، مستعيدا ً السنوات التي مضت مثل وهم تداخلت صوره بالرموز وصارت طلسمات خالية من المفاتيح، والعلامات. فقد أدرك انه لم يختر شريكة حياته، ولم يختر انفه، ولا ذيله، ولا عدد خلايا الدماغ، ولا مخبآت نظام الموروثات، لكنه اختارها هي تحديدا ً وليس سواها، لأنه لم يقدر إلا أن يجد نفسه اختارها، ليس لأنه ذاق مرارات الإحباط، والمنع، والفشل، بل لأنه وجد تيارا ً لم يترك له إلا أن يختار ممراته ليجد انه كلما بلغ نهايته، يبتكر تدشينات فائقة الغواية، بالانجذاب، وبالعودة لتتبع مساراته العنيدة.
    لو حقا ً لم ْ اختر إلا الذي كنت لا أريد ـ ولم أكن أفكر في ـ اختياره، فانا يقينا ً اخترت الذي كان علي ّ أن اختاره...، متندرا ً، لكنها ليست لعبة، نزوة، ولا مراوغة.
   متخيلا ً المساحة اللا محدودة للحديقة بأجنحتها، أقسامها، معابدها، مصحاتها، مستنقعاتها، وأقفاصها...؛ فلولا الأخيرة، لولا القضبان الحديدية، والأبواب المحكمة، والأقفال، والحرس...، لكان وجود الحديقة وعدمه سواء: برية تمتد برمالها ولا تجاور إلا البراري الأخرى. فانا في الأخير، لا امتلك إلا أن ارضخ لهلاكي!
ـ وهل كنت حقا ً تحلم بحياة دائمة لا تتوقف عند الوهن، والموت؟
ـ لا!
ـ بماذا كنت تحلم إذا ً...؟
   دار بخلده، وهل كنت استطيع عزل الحلم عن القيود...، والضرورات، والضواري؟
ـ كنت احلم أن لا اعتدي على حدود احد...، وأن احصل على الحلم لأرسم له مداه ...، ومادام كل منا ـ هي وأنا ـ تنقصه الدقة، ووجد من غير صدق تام، فالصراع غدا شبيها ً بالنار لا تمتد إلا بانعدام ما يغذي لهبها. لهذا كنا نسمع صوت المحرقة يلعلع: لا تهلكوني بالأشرار!
ـ أصبحت تخفي علينا لغز خلافك؟
ـ بل ـ ها أنا ـ أعلنه: استحالة تحديد أن تكون لنا إرادة تحديد مساحة لرغباتنا من غير قوة  اللعنات التي...، اسمها: تلك المخلوقات الهامدة القابعة في المناطق المظلمة. قوة الاختيار....، وقوة اللا مبالاة في نهاية المطاف.
   تراجع إلى الخلف: هل دار المفتاح في القفل ...؟
ورفع صوته:
ـ هو ذا الحلم ذاته يتكرر: حديقة بلا أسوار، بلا أقفاص! لهذا كنت أراها حرة، طليقة تتنزه خارج قيودها، أما أنا، فكنت اخترت المصير الشبيه بمصير غزال طوق بالأعداء من الجهات كلها، فرفعت الغزال رأسها وقالت لخالقها: ها أنا استسلم!
ـ هكذا اخترت أن تحافظ على حلمك بقيود الحلم...؟
   هز رأسه: تلك هي حدود القيد...، حدود من لا حدود له إلا الحدود التي تجعله طليقا !
وأضاف هامسا ً:
ـ لهذا لم أبح بمرضي...، ولا بأعراضه...، إلا عندما  بلغت العزلة ذروتها: صرت طليقا ً، حرا ً. صرت وحيدا ً من غير أعداء ولا أصدقاء، صرت من غير آخر، ومن غير جسد ينذرني بالهرم والموت! بل... من غير الخالق نفسه!
ـ من غير الرب؟
ـ أرجوك لا تفهمني بالمقلوب...، فقد أدركت أن الخالق وحده يمتلك الصواب الذي لا علاقة له بما كنا نتخبط فيه: أوهامنا، عظمتنا، شطحاتنا، مجدنا، رزايانا، عللنا، سفالاتنا، وهننا، وقد بدت ـ لي ـ سيدي، من غير فواصل أو حدود.
ـ إصابتك العزلة في الصميم...، في العقل وفي القلب، فعزلتك تماما ً..؟
ـ بل وحدتني.. حررتني... وطهرتني من الحاجة، والفقر، لقد صرت كالهواء لا يد تتحكم باتجاهاته، ولا أوامر تقيده، أو تدعه يذهب ابعد من نشوته!
   إنما انكمش ليجد انه أضاع حدود الفجوات، والفواصل، والتصوّرات:  فلم يعد يعنيني إنها كانت هي ذاتها الأفعى أو الشيطان...، بعد أن أدركت إن المرض لم يتكون داخل خلايا هذا الرأس...، أو كانت ترى أن الأقفاص ضرورة لرسم حدود كل واحد من تلك البهائم والضواري والمفترسات.
    وتمتم بصوت مبتهج: فلم اعد أرى الحدود...، ولا الجدران،  لا الأسوار ولا الأقفاص...، لا المدراء ولا الحرس...، فقد امتدت الحديقة حيث اللا حدود تمتد بالاتساع ...، لا تمتلك إلا لغز جبروتها إزاء الصفر!
ـ عدمها؟
ـ عدمها الإلهي... عدمها الخلاق! عدمها الموّلد للعدم!
ـ ها هو الخوف يتسلل إليك...؟
ـ تقصد: البرد.. ووهن الذاكرة، الوجع، وذبول الأطراف، وكلل البصر ...، فالحديقة بسعتها صارت بحدود خرم إبرة!
ـ هو ذا مرضك إذا ً..؟
ـ لا!  فالحامل للمرض غدا يعمل بذات الأمر الذي أوقد الروح في الطين!
ـ ها أنت تجدف ...؟
أخبرتك انه المرض وقد بلغ نصره المؤزر...، وها أنت تراني أتجمد...، لا ارقص، لا أهرج، لا اهتف، ولا احتفل!
ـ ها أنت تكف عن الثناء؟
ـ على م َ، على قرار لم اختر منه إلا نفيه، وعلى قرار لم اعمل إلا على تقويضه...؟
ـ وكيف يكون العصيان إذا ً...؟
    طمر رأسه بالتراب، وكف عن التنفس، مستدركا ً: لو كانت للغزالة قدرة قهر الضواري والمفترسات هل تجرأت ورفعت صوتها بالثناء؟ إنما هي استرخت للذّة ذهابها ابعد من أفواه المفترسات والضواري! وها أنت تجدني اكتوي باليقين أكثر من عذاب ارتكاب المعاصي! ذلك لأن الغفران ـ أضاف بلا صوت ـ ولد قبل تذوق شهد الموت وأنت لا تجد مصيرك يذهب ابعد من حدود ثقب الإبرة داخل هذا القفل، في هذه الحديقة، وربما في هذا الكون!
     لكنه ضحك متندرا ً عندما مر بباله مثال طالما رن ولعلع داخل خلايا رأسه:
ـ تلك هي حريتك احرص أن لا تجعلها أكثر من قيد...، لأنك لا تقدر أن تتقدم خطوة، خطوة واحدة، من غيرها!
     تلك هي المعضلة التي راحت تحفر كي تجد قاعها يقودك إلى السطح. ودار بخلده، انك لم تختر إلا الغواية التي عملت على تجنبها، فصرت تجهل هل هي التي أوقعتك في فخها، أم انك أنت كنت كمينها؟
     وسأل نفسه بشرود: أكان عليك أن تجد حديقة أخرى، وتعلن: أصبحت طليقا ً، ولكنك لم تفعل، لأنك كنت قررت: ليست الأرض سوى مجموعات من الثقوب، الصخور، الحشرات، الفيروسات، الأقفاص، الجراثيم، الضواري، التمويهات، وانك لن تجد نفسك إلا في متاهاتها، وكأنك عثرت على المفتاح...، لتدرك، عمليا ً انك أضعته. فالمتاهة لا تعمل إلا على إعادة نسج خيوطها...،  لتدرك أن المرض كان يرافقك أينما وليت، وأينما ذهبت...، فهو سابق في وجوده على وجودك، وسيبقى حيا ً مزدهرا ً بعد موتك، وموتها. فأنت حر بحدود سبر أغوار الظلمات التي رأيتها  تمتد وتتسع لتشمل مساحات البراري والمحيطات والمرتفعات ...، الكل ضد الكل، الكل منشغل بغوايته ضد تمويهات الآخر...، لتدرك، بعد فوات الأوان، انه لم يعد لديك إلا ظلك يترنح بمعزل عنك، بعد أن غدا جسدك ذرات غبار ورماد وعين ماء لا تبصر إلا عزلتها في الكل الأبدي.
   ومع ذلك تهت وتلذذت العبور عبر المنافي...، كان مرضك لا مرئيا ً، فلم تستسلم، لم تهن، فكانت المتاهات تدعوك للذهاب ابعد منها...، وعندما لم تجد متاهة أكثر شناعة من التراخي والرضا ـ لأن المتاهة هي الأخرى ـ رحت تتوحد بظلها، لأنها ـ هي أيضا ً ـ  كانت تعمل كعمل الأسرار ما أن تبدو ظاهرة  حتى يتم دفنها لتولد وكأنها اجتازت عقبة نهايتها الأولى، لتدرك أن حفرت صارت باتساع المنافي وأنت تارة تزداد ضيقا ً، وتارة تدرك انك لست أكثر من ورقة في شجرة، ومن طيف في الظلمات.
ـ كان اختيارك شبيها ً بمن نجا من حرب سوداء...، ومن وباء شامل، وكأنك نجوت أيضا ً من سعادات النمل، ومهرجانات الثعالب، والضباع ...، فأنت حقا ً لم تختر إلا الذي عملت على هدمه. كان معبدك مقبرة وليس مصنعا ً، حفرة وليس مزرعة، سجنا ً وليس فضاء ً،  لتقول إن أعظم الانتصارات لا تنطوي إلا على قاع هزائمها. لكنك لم ْ تهزم ولم تنتصر...، فأدركت تماما ً إن دفاعاتك لا تستحدث إلا ما كنت تراه ينمو.. ويزدهر، كي ترى حفرتك ضاقت بك حتى أوقفت اتساعها معترفا ً أن مرضك وحده لا يمكن دحره، لأنك ستعمل على منحه اللغز ذاته الذي دفنه فيك. لأنك كنت لا تقدر على شطر العدم إلى عدمين، بل منحته سماحة التوحد بعدم واحد يذهب ابعد منك، ومن أطيافه وهي تطوقك كما يدور الحبل حول رقبة الضحية قبل الذبح.
    لكنك لم تذهب مع المشيعين لحضور مراسيم الدفن. أخبرت نفسك انك كنت تراها تتلاشى، تتناثر، كما فعلت بك، وحولتك إلى عدم يترنح بلا عكازات! هكذا لمحت الخطيئة تنجب أبنائها، لاستكمال دورة الأسلاف. كنت تراها حملت جرثومة المرض ولم تترك منه إلا ما كنت تجد نفسك تحرص على حمايته كجنين كنت تراه بعمر التراب، والماء، والأثير.
   كيف تكّون...، بالأحرى: متى اكتشف انه لم ْيتكون بعد...، فالمرض ليس محض خلايا جرثومية غير حميدة ترعرعت داخل عفن تلك المستنقعات الافتراضية، ولكنها التي مازالت تستحدث ما هو اشد منها قدرة على التجدد...، ليس لأنها حملت معها هذا الذي  أراه يعمل خارج قمقمه، بل لأنها تعمل بلغزه العنيد: ثمة مفتاح دار في القفل، لكن المارد غدا واحدا ً منا: مخلوع حد التمتع بالفضائل كاملة. فكر لبرهة وجيزة انه لم يعد طليقا ً، داخل بذرته، ولا مقيدا ً بقيودها: فالديناصورات لم تترك دابة إلا وروضتها، هذبتها، شذبتها حد التقشير، وبرمجتها كي تبلغ النهاية ذاتها: من غير شر ساحق لا معنى لبلوغ ذروته: العدم من غير زوائد، والحياة من غير تمويهات، وباطل.
   معترفا ً انه لم يكن يتباهى بالأوهام لولا انه لم يعمل على رؤية المشهد حتى نهايته: لم اصب بالعدوى...، بل ـ هو ـ من وجد انه لا يمتلك إلا أن يختار جحيمه.
    سمه صوت الطبيب يتندر: وهل هناك أكثر حماقة لم ترتكب إلا بدوافع أقوى منها، كالفضائل، والمجد، والخلود؟
ـ كأنك تبوح بما لم اختبره، وأفتش في مخبآته،، وبما راح يطن داخل رأسي العمر كله وكأنك تغفل أو تتظاهر بالغفلة أني لم اسبر أغواره اللعينة بنفسي، واكتوي بكمائنه: فأنا هو من  فعل ذلك بإرادة لا مجال للبحث عن أعذار لها، ولا تسويات.
   قال الطبيب بصوت ناعم: لا تدع حساسيتك تنشط كخلايا عدوانية  للغطس ابعد من قاع هذا الجحيم.
   تردد في العثور على إجابة، وماذا بعد...،  وهل كان باستطاعتي اختيار المرض بمعزل عن اختيار عقار يعمل عمل الأفيون...، عمل العدم...؟
    وتمتم بصوت مكتوم: فانا  رأيت ابعد من ذلك.
     وما فائدة الشروح، المبررات، والاعتذارات...، بعد أن تكون النهاية برمجت لمنح الخطيئة كل هذه الفضائل؟
ـ أحسنت...، فلولا تلك الخلايا اللا مرئية لكان وجود الديناصورات أمرا ً يتعذر حدوثه...، مما سمح للمسار أن يستحدث دفاعاته العنيدة. الم ْ أخبرك إنها برمجة لا مرئية للمرئيات وقد عملت على محو عللها...؟
   ود لو كان قد اعترف لها: حمار من لم يمش خلف حمار!
    بيد انه لم يقدر على منع نفسه من الانفجار: وكأنني مشيت خلف غزال...؟!
   ـ أين هي المعضلة...؟  وسأله الطبيب:
ـ هل لمحت خيطا ً من خيوطها...، أم استجبت لندم فاق الغوايات سلاسة ونعومة وعمى تجمعت فيه الأنوار كلها..، أم إنها لعبة أضداد، فلولا الحمل لتهدم عرش الذئاب، ولولا العبيد لكان من يقف في أعلى الهرم حزمة أوهام، ولولا  الآلهة لكان الشر قوة كامنة خارج هذا السرد...، ولكان العدم حاضرا ً بسرمدية غيابه؟
ـ عدنا نستنشق عفن المستنقعات...، ونتلذذ بروائح جثثنا الشفافة!
ـ وهل باستطاعتك أن لا ترى جسدك يتفسخ، يتفكك، يتعفن...، أو يصير ذرات رماد، ويرجع أثيرا ً لا مرئيا ً كما في فاتحة دورته....، عندما اللعبة تضمنت لغز تمويهاتها...، فتارة تجرجر إلى المقصلة، وتارة تشرف عليها بوصفك من استحدثها...، الم ْ أخبرك أن هناك تلك العهود والصفقات بينهما...؛ بين الأضداد..، كي تحافظ على بهائها ورونقها والقها أيضا ً...؛ صفقة لم تبح بأكثر من العمل على ديمومتها، ومحو كل من ينوي الدنو من حافاتها؟ فأنت مريض لأنك لم تعمل إلا بخيانة مرضك، للتخلي عنه، وهذه هي النتيجة: أن أحدا ً لم ينتصر...، إلا وقد أجاد التمويه على هزيمته حد البذخ بإقامة أنصاب لها.
    قال من غير صوت:
ـ لكن لا اثر لي...
ـ أنا لا امتلك إلا نية منحك بسالة المواجهة...
ـ بسالة العدم؟
   معترفا ً بصمت تام: أنت تقول الصدق لتمتلك قدرات اكبر على اختراع الغوايات...
ـ لا.. أبدا ً...، فالغوايات ليست من صنع احد...، لأنها، في الأصل، هي العلة المولدة لمسارات نفيها، العلة التامة، بلا علامات قابلة للتأويل، فالذئب لم يخترع قطيع النعاج، ولا الراعي هو من اخترع الذئاب!
ـ ها هو مرضي صار بلا علة، صار تاما ً..! وأنا بعد الآن لست بحاجة إلى الشفاء!
ـ ومن أنبأك بنهاية مغايرة...؟
ـ هو ذا الوهم العنيد الذي منح الكل هذا التدفق...، كأن اللحظات المضافة لزمن المحتضر تقدر على إخفاء لغز الفضيحة؛ لغز المحو؟

ـ لا فضيحة هناك، أو هنا، مادام الأثر  هو وحده لا يعمل إلا على ديمومته الأبعد...،  وإلا هل كنت أحرزت هذا الوهم حد انك لا تعرف إلا أن تمجده، وتدوّن أسفاره؟
ـ هل أنا هو من مجد الوهم وأقام له هذه الأوثان...؟
ـ وإلا لماذا مازلت تتشبث بالخلاص..، مت كأنك حصلت على ولادتك الأبدية!
   هل كنت أفكر...؟  أغلق فمه لعله يؤثر على عمل دماغه، ويضع حدا ً لاضطرابه، فلا معنى للرد بـ: نعم، أو بـ: لا....، ولكنه عاد يكرر: اختر المفتاح الذي تفك به القفل، وإلا ستفقد توقك للعثور على الباب!
باب من..؟ لم يجب، لأنه لم يعد منشغلا لا بالقفل ولا بالمفتاح.
إذا ً فانا لم اعد مصابا ً بأكثر من مسرة نادرة لا يمكن الوثوق بأنها مغايرة للإحساس بالموت. انشغل لبرهة، ليجد أن لسانه يدور داخل تجويف فمه بحركة لولبية. لكن المعضلة لا تكمن في العثور على الأداة...، المفتاح، بل لأن وجود القفل مهمة شبيهة بهذا المرض الذي لم يسمح لأحد إلا باستقباله بشوق مكتوم. أنا لا أهذي....، دار بخلده، فانا بوضع يسمح لي بمغادرة هذا الحيز، هذا الفراغ....، إنما ليس ابعد من مداه، وابعد من جدران هذه الفجوة...؛ حدود المرض ذاته وقد اخبرني الطبيب باني شفيت منه، ولكن علي ّ التمتع بفترة نقاهة ..، فقلت له: سيدي، لا بد أن تكون سلسلة؟ فأجاب بغموض زاد من اطمئناني باني مازالت أتنفس...،  وعلي ّ ألا ادع الكلمات ذاتها تقودني إلى خاتمتها.
   متذكرا ً انه سأل الطبيب أن يشرح له قليلا ً، هل باستطاعته التمتع بالنقاهة ما لم يتم القضاء على أسباب المرض، واجتثاث علله الخفية؟ فشرح له كيف توجد قضايا ومعضلات لا سببية وإنها خالصة من غير أسباب تفضي إلى وجود ظواهر شبيهة بالعوامل المساعدة، أو بحاملي الكفر، تقود إلى الأسباب ولكنها، في النهاية، منفصلة ولا صلة لها بما حدث، وبما سيحدث، بعد أن يكون دورها بلغ نهايته. فأنت  حر تلقائيا ً شرط ألا تدع الأسى يتلاعب بمشاعرك الدفينة. فضحك حد انه أفاق من كابوس غطس فيه وراح يبعث في رأسه دويا ً وطنيا ً متقطعا ً يماثل من تعافى وغدا واحدا ً مثل الجميع. إنما شعر بالخدر يدب، يزحف، مسببا ً له حالة دوار، ورغبة بالذبول والتلاشي. ...، حد انه شعر برغبة لتنفس الهواء الطليق، هواء ً لم يتم استهلاكه ليصبح ثقيلا ً دبقا ً ولا يخلو من لزوجة ذات مرارة خالية من الملامس. ولأن الدخان الرمادي مازال يملأ الفجوات ما بين السماء والأرض، رفع صوته قليلا ً، لكنت نجحت بالبحث عن ممر أتدرب فيه على المشي، فانا أخبرتهم باستحالة الموافقة على استئصال علة لا وجود لها إلا كوجودي نفسه. فأكد الطبيب له أن هناك خلطا ً يشوش عليه قبوله بالشفاء...، والنجاة، بل وحتى بالحصول ما يرتقي إلى درجة: الخلاص. فسأل الطبيب فجأة: كنت تحدثني عن النقاهة، أليس كذلك...؟ فاخبره الطبيب بان مهمته انتهت، ولا ضرورة لإعادة ما تم شرحه بإسهاب.
ـ فأنت تتمتع برؤية استثنائية...، ورهافة نادرة لكنها لا تعد مرضا ً.
   مد أصابعه نحو جسده ليجده باردا ً وقد تصلب كأنه تجمد داخل ثلاجة حفظ الموتى..
ـ جسد من هذا ...؟
   لم ينتظر ردا ً فقد انشغل بالتعرف على كثافة الهواء. قال: هذه هي العلة، الهواء. ولم يدع فمه ينطق بكلمة خشية أن يربك الهدوء الذي منحه رضا ً أنساه  التفكير بجسده.  فوجد جسده يذوب..، ويتسرب، وشاهده يتحول إلى ذرات متطايرة...، تنتشر وتملأ الفضاء، ليردد بصوت لا يخلو من ذعر مكتوم:
ـ ويقول الطبيب انه لا توجد دلالة ما على إصابتي بالمرض.
    ها هي العلة: انك لا تمتلك قدرة على حسم هل لك دور محدد ...، تم اختياره لك أو أنت وجدت نفسك تؤديه، أم عليك أن تمضي عمرك فائضا ً، لأنك، في الأصل، تتوهم أن لك مثل هذا الدور. فأنت تموت للبرهنة على عجزك تماما ً كما هلكت الديناصورات، ومضى زمنها،  وكما يتم اجتثاث الأنواع التي آن لها أن تهلك، وتزول.
   وانشغل يسأل نفسه، بتردد، انه يهبط هكذا تاما ً من مكان مجهول، فثمة أسلاف خلفوا أحفادا ً...، صاروا أسلافا ً لأحفاد مازالوا يدبون، ويزحفون...، رخويات وبكتريا وخلايا أحادية...، قبل أن يكون هناك عفنا ً...، في المستنقعات، وقبل أن يأخذ الصراع قواعده باختراع ما لا يحصى من الإبادات، والانبثاقات...، لم تكن ثمة معضلة تتطلب حلا ً...،  فالموجودات وجدت تامة الأسئلة بتمام الإجابات. بالأحرى: لا تمتلك أن تفتح فمك، لأنك لا تمتلك القدرة ولا الأدوات للبرهنة على موجودات أنت غير فائض فيها. فأنت موجود لعلة لا علاقة لها بهذا الذي تراه يتفسخ، يتعفن، بعيدا ً عنك، وفي أقاصي روحك أيضا ً. فروحك عفنه! وكاد يلعن نفسه، لولا انه راح يستنشق عطرا ً عزله عن النتانة، ليحس، انه صار كريها ً كجثة تتفسخ داخل حفرة رطبة.
ورفع صوته: على أن العلة كامنة في هذا الذي تصورت انك حسمت أمره، لأنك بت تدرك استحالة إلا أن تختار مرضك...، لأنك إن لم تختاره بتحتم عليك أن تدمر نفسك أو تجعلها نائية لا يمكن لمسها أو مسها،  كي تصبح هي ذاتها علة وجودها. وهنا لا تتساوى الأضداد، ولكنها لا تتوحد أيضا ً...، حتى لو دخلت في حيز منعدم الثنائيات، والأبعاد، لأنك لن تكون أكثر من ذرة توحدت بأخرى لإنتاج فلز مهمته الدخول في تسويات لا نهائية بحسب الخطة التي أدركت، منذ سمح لك مرضك أن تكف عن التدحرج، استحالة مغادرة حيزك في المعادلة. فهل ثمة شفاء لمرض لا وجود له كهذا الوجود الموجع؟
     وأحس بوعيه يعود إليه، فقال متندرا ً: لقد هزمت...، فعاد يصغي للطبيب يهمس في أذنه: المشكلة انك تتمتع بمرض شبيه بالجرثومة التي كلما حاولنا القضاء عليها استعادت مناعتها وصارت اشد فتكا ً...، فلا وجود لها في الأخير إلا بوصفها سابقة على تعرضك للمرض. فأنت غير مصاب بمناعة هشة وإنما المعضلة لا قفل لها ولا مفتاح.
ـ قبل قليل أخبرتني بضرورة التمتع بالنقاهة...، والآن تتخلى عني...؟ وكرر: ها أنا اهزم قبل حصولي على حتى على النقاهة.
ـ قد لا تستطيع الانتصار، إلا لبرهة، لكنك لن تقدر أن تبقى منتصرا ً أكثر من زمن مرورها  ...
وأضاف:
ـ إلا أن المعضلة لا تكمن هنا، بل لماذا لا بد أن تقهر ...، بعد أن تكون قد وجدت من يساعدك الوصل إلى الذروة: الهزيمة؟
ـ هذا ـ هو ـ ما منح مرضي سره العنيد؛ قوته في التقدم، فلو انتصر العبيد والضعفاء على الأقوياء والطغاة، وانقلبت المعادلة، فان دماء الجلادين ستروي عجلة التقدم، لكن ليس إلا عبر مسافتها في الزوال. فالمرض  لا يعمل إلا بوصفه عاملا ً مساعدا ً..، شبيها ً بمحركات الزمن الخفية، كلاهما لا يتركان أثرا ً لحضورهما في المرور، والعبور...، فالعدم إن نطق، فانه لا ينطق إلا بحضور غائب.
ـ انك لم تبق لنفسك لا أملا ً، ولا سرابا ً تجري خلفه، لا وهما ً تتعكز عليه، ولا احتمالا ً قد يدلك إلى الصواب..، كي تموت موتا ً يليق بما حاولت الفرار منه!
ـ  ومن أخبرك إن للموت سلطة على الموتى...، انه، أيها الحكيم، شبيه بجرثومة هذا المرض، إنه كالعامل المحرك الذي يصنع الحركة ولا يتحرك، لأنه لا يفنى ولا يستحدث، ولا عمل له سوى محو كل اثر دال على  مسارات ومنعرجات هذا المحو.
ـ ألا ترى إن ثمة شيئا ً ما، في هذا، لم ُيدرك: أن تخترع وهما ً كي تفنده، كاختراع بريء كي تعاقبه، وكاختراع نهاية حشوتها بهذه المقدمات؟
   ابتسم بخوف أعظم:
ـ لِم َ ـ قل لي ـ لِم َ انشغل الليل بالانتصار على النهار، ولم ينتصر، لِم َ انشغل الشر بالقضاء على الفضيلة، ولم يحرز تقدما ً يذكر، لِم َ انشغل الموتى بافتراس مواليدهم، ولم يتقدموا خطوة واحدة في إحراز النصر...، مادامت النهاية أعدت للجميع قبل الشروع بمنحها هذا الامتداد...؟
ـ لأن زمن المرور لم ينته بعد...، فعندما يأتي اجل الشمس، وتخمد نيرانها، تتجمد الأرض، آنذاك يكون مرضك قد أدى دوره من غير نقص، وربما من غير زيادة!
ـ تلك هي المعضلة: انك لا تنتصر على آخر جدير حتى بالهزيمة...، بل، بالعكس، إن عدوك وحده هو الجدير بالنصر ـ لكن ليس عليك ـ ولا على نفسه، بل على هذه اللعبة التي قسمتنا إلى قتلة أبرياء، والى أبرياء قتلة. فأي نصر هذا وأنت تسفك دماء بنات وشيوخ وفتية الدواب والمواشي والبهائم والبشر....، وأنت تعرف أن عويلهم يتجمع، وان آلامهم لن تذهب سدى، وفزعهم يتراكم، وكراهيتهم تتراص، تتوحد، مثل صراخهم، ومثل قدراتهم الجبارة على خزن هذا كله، ليولد رد الفعل الأعظم، منفجرا ً في لحظة الذروة، حيث تدرك انك أنت وحدك كنت من يعجل بهزيمتك! فيا لها من حياة غريبة وخطة غامضة تمنح البعض قوة السباع والتماسيح والنمور، وتمنح البعض الآخر قوة البعوض والبرغوث والعقارب! لكن لا الضحايا ولا الضعفاء ولا الديدان كفوا عن استحداث بسالتهم العنيدة بجعل النهاية تمتد ابعد من خاتمتها، ولا المفترسات والقتلة تعلموا الدرس. فحتى المنقرضات لم تمح أثرها بطيب خاطر إلا بإنجاب كائنات تجهل إنها ستؤدي كل ما ظنته مجدا ً وبسالة. فيما الهزيمة، هي الأخرى، ما أن تشرع برفع رأسها حتى  تراها لا تترك حجرا ً فوق حجر، ولا صرحا ً يدوم أكثر من زمن زواله. لعبة إن لم تلعبها، ستراقبها، بشرود أو بفزع أو بلامبالاة، فلن تكترث لك...، فأنت لم تختر ما كنت تعمل على اختياره، ولم تختر حتى الذي كنت تعمل على تدميره، تقويضه، ومحوه. فالموت وجد قبل وجود الموتى، أليس كذلك؟
ـ إنما لولى الموتى لكان الموت شبيه بكائن من غير أوامر، ومن غير اله، مثل ابن فقد والده وهو في المهد...، أو مثل أم يذبح بكرها أمامها تحت قبة السماء الزرقاء!
ـ غريب!
ـ لا غرابة...، فان لم تؤد دور الضحية، ستجد نفسك مرغما ً بأداء دور الآخر، وإن لم تتقن لعبة الجلاد فلن تجد سلوى إلا بالبحث عن عقار مستحيل تعالج فيه مرضك اللعين هذا!
   إذا ًفانا مصاب بمرض لا شفاء منه.
ـ أخبرتك...، لا وجود لهذا المرض، فالأعراض لا علاقة لها بما حدث لك، وبما تحدثت عنه.
    ها أنا طليق كأنني أتجمع كي أصبح نطفة.  وأضاف بحذر مشوب بالتردد: إنما أنا اجهل نتائج هذه الممرات..، فبعد انقراض الديناصورات، ظهرت كائنات أخرى بغية استكمال البرمجة، فالخطة وضعت قبل أن يكون هناك عبور، ومسافات، ونهايات. ثم تعرضت ـ هي الأخرى ـ لدرجات الحرارة المرتفعة..، فاستحالت إلى رماد...، والى أثير، ثم بزغ فجر النمل، والمواشي، والحشرات، والمفترسات...
ـ عصر آخر مزدحم بالبلور، والأضواء...، عصر الاحتفالات، مضى تحت شعار: تمتع ولا تنظر إلى الخلف.
ـ ها أنت هزمتني بنصر غير متوقع: ولكن اخبرني من تذوق لذّات المرارات حتى غدا يتتبع أطيافها...، من ارتوى حد ما بعد الهزيمة كي يحمل نصره عدما ً ناعما ً يتقدم باستقامة، وورع، وتقوى...؟
ـ هو ذا الذي شغلنا...
ـ عدنا لا نجد أحدا ً نخاطبه فلا نجد إلا أنفسنا كي لا نجدها إلا صفرا ً يترنح بين الأعداد!
ـ نفسي...، روحي...، ظلي.
     عاد يرى هالات خالية من الأصداء تتموج بنهايات لها ألوان غيوم نائية.
   فانا ظننت أني شفيت من ... الحلم.
ـ كلا...، سيدي، فأنت مازالت تمتلك الكثير الذي لم تخسره بعد.
   اختلطت عليه الذرات، وهو يتلمس الجدار، ليرى عتمة سمحت له باستنشاق ضوضاء أبصرها تلامس جسده وتتوغل حد انه تركها تحمله معها إلى فضاء بلا حافات. فقد شاهد جسده يرقد في فرن توهجت نيرانه  درجة انه غدا بلون لا يشع إلا عدما ً بلا حدود.
   ها هي العلة التي لا أسباب لها عدا إنها تعمل كعمل العوامل المساعدة.
ـ ها أنت ترغمني كي لا أقول شيئا ً..
ـ أحسنت! فأنت لم تخلق لنفسك...
   هذه هي المعضلة حقا ً: إن مرضي يبلغ ذروته...، فانا لن أنجو حتى لو شفيت منه، بل الأمر أكثر صراحة: أن مرضي كالموت، سابق على وجودي،  وسيبقى بعدي إلى الأبد،  انه شبيه بوجود اللاشيء تماما ً، فانا مريض بالعلة التي لا عقار لها، ولا شفاء منها، لأنني إن نجوت من الموت، فلن تنجو الموت من المعاقبة بما هو أقسى منها.!
   ارتج الفراغ بأصوات رآها تتداخل وتمنع عنه فتح فمه.
ـ فأنت حصلت على العقار لمرض لا وجود له. لأنك أبصرت غيابك قبل أن يكون لك حضور، ليكون الخليط اكتملت عناصره كافة.
  بعد زمن لا يعرف مداه آفاق:
ـ ما الذي جرى في كوكب ـ شبيه بكوكبنا ـ ولم يخلف إلا ما يدل على انه توارى، قبل ملايين السنين الضوئية، ما الذي يجري ـ الآن ـ فوق كواكب لها مواصفات كوكبنا لا نمتلك وسيلة حتى لتحديد مساراتها ومواقعها في مجرتنا، أو في باقي المجرات...، وما الذي سيحدث لكوكب سيتكون، بعد تحوله إلى صفر اسود، وهو يمضي نحو خاتمة أعدت له عبر نشأته وتكونه واختفاءه...؟
مصغيا ً لجواب لفت نظره:
ـ ما شأني بالأمر...، إن جرى وغاب، أو انه سيتكون ليتلاشى..، الإله وحده اعرف بخططه، بعد أن تركتني امضي حياتي جثة هامدة تم تحنيطها ودفنها في حفرة؟
     اهو مدخل لحوار..، أم خاتمة له؟  بحث عنها فلم يجدها، ككل مرة، إلا ورآها توارت. فوجد ممرا ً ضيقا ً سمح له بسؤال نفسه:
ـ ماذا لو كنت امتلك إرادة الـ ...
   لجم فمه بحركة لا واعية، مستنشقا ً رائحة أصابعه: كريهة كدم لم يجف بعد. متابعا ً:
ـ ماذا لو ولدت في أي كوكب سوى هذا الكوكب ...، وماذا لو كنت ولدت في أية حديقة إلا هذه الحديقة...، وماذا لو أني اخترت أية دابة إلا هذه....؟
ـ ما شأني أنا بأسئلتك الغريبة؟
    ليتبدد موقع الصوت قبل أن يحدد موقعه، وقبل أن يستمع إلى إضافة. فزحف محركا ً جسده نحو الفتحة: مازال الدخان كثيفا ً، فالحرب لم تنتهي بعد، فتراجع:
ـ ربما هي ليست إلا سلاسل مصادفات محكمة قادت الأولى كل ما راح يكمل تسلسلها...، فلو كنت ولدت...، ولو لم اختر الدرب الشائك هذا ...، ولو لم تكن هناك غواية، وظلال معرفة، وتمويهات آثام عنيدة ...، لو لم تكن هناك أصوات، إشارات، وحكايات مضطربة ...؟

    ها، ها، ها. مبتسما ً بلذّة خدر أحس به يصعد نحو الأعلى:
ـ  لا يمكن لهذا الرأس وحده أن يكون مسؤولا ً عن هذه النتائج، الرأس وحده بمعزل  عما لا يحصى من الأسباب.... ، ليعاقب، وليجد انه لا يبحث إلا عن مدية يغرزها في القلب!
   ليعود يتذكر من غير رغبة:
ـ  عندما رأيت الملايين تزحف..، تزعق، تستنجد، تتضرع، سألت: ماذا يفعلون؟ قالت لي: يبحثون عن ممرات تقودهم إلى السماء.
  فطس من الضحك. هامسا ً بحذر:
ـ هو ذا لغز الداء وسره...، يهرولون، يصعدون، يهربون، تاركين اقرب المقربين يغطسون في الوحل...
ـ من قيدك ...، من منعك...، ولم يسمح لك بالذهاب معهم، خلفهم؟
تساءل بشرود تام:
ـ  كأن العدم وحده يعرف ماذا يعمل، أم إنها هي خطة الإله المحكمة ...؟
    سمع أقدامها تدك الأرض:
ـ  أيها الإله! هل تعرف ماذا فعلت بحياتي...؟
ـ ...
ـ حتى انك لم تدعني أرى الله!
اقترب منها:
ـ والآن من منا علته كانت سببا ً بوجع الآخر...، ومن منا علته  لا شفاء لها ..؟
ـ أنا لم أجدف...، لم اعص...، حتى بعد أن سلبت مني إرادة الحياة وتركتني احتضر في هذا القفص داخل هذا المستنقع.
ـ أكاد لا افهم شيئا ً مما تقولين، ومما يحدث!
ـ غريب! بعد أن حولتني إلى ظل، إلى خرقة، إلى صفر، تتندر كأنك لم تعد إلها ً!
   عاد يتساءل:
ـ كأنها تتكلم لغة غير التي أتكلمها، وكأنني أتكلم لغة تحجب عنها المعنى. فأنا قلت لها، ببساطة: أنا لم اطلب منك ِ سوى رؤية ما يحدث...، لأنه وحده غدا غير قابل للتعديل، لأنه غير قابل للفهم...، بل ها أنا  صرت أدب، وازحف...أيضا ً!
ـ لن امش خلفك...، اذهب وحيدا ً كما ولدت وحيدا ً.
ـ أنا لم اطلب منك تتبع خطاي...، لم استشرك، ولم امد يدي استجدي العون...، والمساعدة، بل قلت: ليذهب كل منا في طريقه.
ـ أنا ذهبت.
   سمع الطبيب يتمتم:
ـ دعها...، دعها ترجع إلى كوكبها،  فما عليك سوى ترك الدرب يأخذك إلى نهايته.. لهلك تجد من يتستر  عليك! بدل أن تختلط روحك بالوحل.
ـ هل فهمت شيئا ً؟
ـ أخبرتك، منذ البدء، انك لم تخلق إلا لتدب، وتزحف.
ـ والسماء؟
ـ عندما لا تسمعك...، فالذنب هو ذنبك، وليس ذنبها!
ـ أنا لم اختر الإقامة في هذا الجحيم، لم اختر أن اقبع في هذه الظلمات، أنا لم اختر أن أرى أحدا ً إلا وغرس مديته في القلب...
ـ  أنا أخبرتك إنها لم تكن حاملة للوباء، بل..، هي، الوباء نفسه! إلا إنها ستصعد وحيدة إلى السماء! وها أنت تراها، مثل الملايين الملايين، كأنها لم تعرفك، وكأنك لم تعد تعرفها. كيف حدث هذا كله وعبر أسرع من أن يكون وهما ً، وأنت تراه سيحدث مرات ومرات إلى ما لانهاية!
ـ سيدي الحكيم، الآن أنا لا اسمع إلا ذرات تتصادم، حادة، لتتلاشى، متجمعة في بؤر، وتعود تتسع عبر فراغات لها أشكال لا مرئية، من ثم تلامسني كأطياف هامسة: امش خلفنا. قلت: إلى أين؟ سمعت: يا دابة، لو لم تفعل فسنمشي خلفك. قلت: إلى أين؟ سمعت: أمش، فالسؤال ذريعة للتوقف، لأنك إن لم تمش فستبقى بانتظار الموت، آنذاك ستجد زوالك دبّ فتهرول خلفه ولا تلحق به أبدا ً.
وأضاف بشرود تام:
ـ ومع أن المعضلة، كما قلت، غير قابلة للشرح، ـ مع إنها تسمح للتأويلات ـ إلا أن عدم شرحها لا يجعل تأويلها أكثر من تأويل الغواية ذاتها؛ فالمرض حقق تقدما ً حقيقيا ً بجعلي في موقع: المراقبة. لقد راح يفترس تاريخ الحديقة جزءا ً جزءا ً، ولم يترك لهذا التاريخ سوى أن يدفن. فلم يكن حضوره فائضا ً، أو محض مصادفة، أو ضربة نرد. فانا أدرك تماما ً انه عمل على شل الفعل، وشل أية رغبة بالعمل، وحولنا إلى كائنات مجهرية لا تمتلك إلا أدوات الفتك،  والافتراس.
وفكر بصوت أعلى:
ـ فانا أصبحت عقبة، وكلما توغلت في سبر مناطقها النائية، أدركت استحالة التقدم، مما يمنح العدم قدرات باسلة على صياغة كل ما يدفعنا إلى: محو بعضنا بعضا ً، وإنزال اشد الأفعال خساسة فيه، هو ذا واجبه. فهو لا يفكر كي يمتلك هويته، لأنه، ببساطة، يعمل على محوها.  فانا سأموت ليس لأنه حقق نصره، وكسب المعركة، أو لأنني لم اخلق كي اربح شيئا ً، بل لأن تاريخنا ـ في هذه الحديقة ـ وجد لينفي حضوره.
متابعا ً، بعد لحظات صمت:
ـ ثم أنا لا امتلك إلا الأدوات ذاتها التي لم تعد صالحة للاستخدام، فانا ولدت فائضا ً إذا ً.....، وهذا استنتاج يتنافى مع المنطق...، فهل الموجودات وجدت للبرهنة على عظمة البرمجة وهي لا تكف تعدل مسارها نحو ابتكار قدرات أعظم على الاجتثاث، والإبادات، والمحو؟
ـ أين ذهبت؟
ـ لا استطيع أن أرى سوى روحي وقد تحولت إلى حبيبات ناعمة تتطاير داخل مجالات لا تسمح لي بأكثر من: محو يمحو محوه، أم إن هذا كله تعبير منحرف عن حقيقة المرض، أم أنا كيان مازال يتكون....، ولكن ضد من...، ومن اجل من...، وأنت أدركت ـ مثلي ـ إن محونا لا يبرهن إلا على ديمومة هذا الذي غدا عدما ً أبديا ً؟ أم انك ستقول لي: إنني اخترت معضلتي لأنني عملت على تقويضها، وإنني لم اخترها إلا لأنني لم أجد سواها وهي التي انتقتني من بين باقي المخلوقات، وإنني مادمت لم اكتسب المناعة، فانا أصبحت معضلة نفسي، مثلما أصبحت المعضلة غير قابلة للاستئصال؟ ولكن اخبرني ـ أرجوك، فانا تعبت، ما عملها، بعد أن تنتهي من حساباتها مع هذه الحديقة؟
ـ آ ...، إنها هي الأصل الذي اكتسب المناعة! كالموت لا يتسلى إلا بزيادة أعداد الوافدين...، وكالشر لا عمل له إلا للبرهنة على أن الأشرار أبرياء في نهاية المطاف!
ـ أرجوك...، اقترب مني.
ـ لا مسافة بيننا كي ابتعد.
ـ لِم َ ساعدتني على الشفاء؟
ـ تقصدني، أم تقصدها؟
ـ لم اعد أميز...، فانا أفكر برأس سلب مني منذ زمن بعيد..!
ـ كي يكون النصر مؤزرا ً بعد هزيمة الجميع!
ـ وأنتما مسروران بمثل هذا النصر...، على حساب هذه المخلوقات التي نسجت من الوحل الملوث بالدماء؟
ـ لا مسرة، ولا شقاء في الأمر...، فالحرب لم تبدأ كي نحسب حسابات ربحها ومكاسبها...، لأن ما رأيته ليس سوى الوهم بتقنيات لا تعرف عنها شيئا ً...، فأنت ستموت قبل أن ينتصر مرضك عليك، وستشفى منه كي تمضي عمرك كله تبحث عنه فلا تجده!
ـ وسأموت وكأنني ولدت لأتذوق مرارات هذا الجحيم..؟
ـ وهل تذوقتها؟
    وهل بلغ الداء ذروته، تساءل مع نفسه، إنما وجد متاهة فترك أفكاره تحّوم فيها، غير مترابطة، مثل بذور تتقاذفها الريح، ومثل جسد مازال يتناثر في الفضاء، فعاد يتشبث بسؤال أيهما كان فائضا ً عن الآخر: هو عن مرضه، أم أن المرض وجد ليحد من رغبات لم يحدد أكانت متأصلة فيه، أم اكتسبها بوجوده متنقلا ً بين الحفر، الزرائب، الحظائر، والأقفاص...
    لم يكترث للبحث  عن رد فقد لمح إجابة غامضة منحته رغبة الاسترخاء: فقد أحس بفقدان للجاذبية،  وبوجود قوة سالبة تسمح له بأخذ قسط عميق من الراحة. فالمرض ـ إذا ً ـ لم يبلغ ذروته بعد...، فانا لا اختلف عن أي كيان أو مخلوق آخر لوجود الأسباب ذاتها التي راحت تكونه وهو لم يعد ينتج شيئا ً ما يذكر، غير المرض، وأعراضه..، أي غير هذا الصفر وقد تجمعت فيه الأعداد وصار عدما ً من غير زوائد،  وتاما ً من غير نقص!
    إنما راح يرى الفراغ ينصهر بالذبذبات التي شاهدها تصدر عن جسده وليس عن رأسه: فالجسد برمته هو الذي يفكر!  فرغب لو وجد أحدا ً ما يخبره بأنه استطاع تفنيد انه لم يعد فائضا ً، وانه لا يكن كراهية للمليارات التي لم يعد لها اثر...، فانا كلما فقدت الإحساس بالألم ازداد إدراكا ً بالتعرف على ما كنت ارغب لو لم ادعه يتبدد، ويتسرب، متسائلا ً،  هل باستطاعته أن يحدد ما فقده، وهو ذاته قد تحول إلى ذرات والى جسيمات لا مرئية متماثلة في انفصالها وعزلتها  وترابطها العنيد.
   فهل حقا ً لا يمكن رؤية الحياة إلا  بوصفها احد أكثر المشاريع سلبية للتوحد بهذا الذي حمل اسم: الموت...، الذي هو تاريخي وقد غدا شبيها ً بمرض تمت السيطرة عليه..؟ أجاب مؤكدا ً: والاحتفاء بما أنتج من عراك، اشتباكات، مكائد، وحكايات لا تجد من يصغي إليها، ولم تجد أحدا ً يضع لها خاتمة لا تستحدث ديمومتها ؟
رفع صوته:
ـ لقد بلغ مرضي ذروته...، فموتي لا علاقة له بالأعراض التي عملت على استئصالي. وود لو غادر وهتف بأعلى ما يمتلك من قواه الواهنة: ها أنا أتمتع بالاطمئنان ..، بالرضا...، بل بالمسرة والحبور...، فانا لم أتعرض للمسألة...، ولن أرسل إلى جهنم!
ـ شفيت...، بمعنى: انك اعترفت بمرضك؟
ـ أخبرتك ..، أيها الحكيم: بالشفاء...، لكن ليس من المرض...، بل من أعراضه!
ـ ها أنت عدت إلى العلة التي لا علة لها. إلى السبب التام!
ـ حتى لو كانت أدلتك موثقة، لا تقبل الشك، فانا لن أتوقف عند ذروتها. لقد أخبرتك إن الحياة لا تستحق إثارة هذا الاضطراب، وهذا اللغط، لا هذا الصخب ولا هذا الحبور!
   ولم يفصح عما دار بخلده، وزحف نحو الضوء:
ـ لكنك لا تستطيع أن تتجاهل إننا نتكدس كتلة موحدة داخل هذه الحفرة...، وداخل هذه الأقفاص...، في هذا المستنقع؟
ـ ها أنت بدأت تبحث عن البديل المستحيل، البديل الذي لا وجود له.
ـ ....
ـ أخبرتك...، إن الحرب لم تبدأ بعد...، ومن الصعب استفزازي للحديث عن نهايتها...، أو للحديث عن مرضك الذي شفيت منها.
ـ ها أنت تلمح أن الحياة عبور ابعد من هذا الذي مضى وتوارى وزال؟
ـ ها أنت عدت تتحدث عن الأعراض...، لكني أؤكد لك أن الشفاء تم بنجاح باهر، حتى لو كان المريض فارق الحياة!
ـ أحسنت!
ـ لكنك الآن تؤكد انك عدت إلى المرض اللعين!
ـ آ...، أيها الحكيم، الآن أدرك تماما ً انك تحديدا ً لا تريد إلا أن أحافظ عليهما: الأعراض والمرض أيضا ً...، كأنك مكلف من العدم بالحفاظ على ديمومته...، والسياق يثبت  ذلك.
     رفع أصابعه قليلا ً إلى الأعلى، فلم يجد فتحة، فتحسس جسده: المرض انتشر على نحو تام  للحفاظ علي ّ، وأعراضه صارت عونا ً لي بالذهاب عميقا ً في الظلمات.
معترفا ً مع نفسه:
    ـ هو ذا المفتاح يدور في القفل؛ فأنا كنت اعمل أجيرا ً عند المرض!
   ضحك المرض ساخرا ً:
ـ بل أنا ـ هو ـ  من كان مكلفا ً بخدمتك عبدا ً يعمل من غير قيود..!
ـ أكاد اجن: من يعمل عند من...؟ فأنت لم تخلقني كي أعبدك، ولا أنا اخترعتك كي أرعاك...؟
ـ تلك هي المعضلة التي ستقودك إلى السجن..، وربما إلى قطع رقبتك، أيها الزنديق الكافر!
ـ أنا لم أجدف...، ولم اعص. فانا هو جنين الحمامة الذي لم يتكون في الرحم بعد!
ـ بل ذهبت ابعد منهما...، وكان عليك أن تضبط حدودك...!
ـ حدود مرضي...، أم كان عليك أن تعرف أنت حدودك معي؟
ـ هذا مقبول كي لا ترسم الحدود، بيننا، بسفك الدم.
ـ لم افهم؟
ـ كل دابة، كل بهيمة ترسم حدودها بالبول...، هكذا لا يعتدي الذئب على النمر، ولا الفهد على السباع...، ولا ابن أوى على الثعالب...
ـ من غير سفك دماء، وحروب جائرة..؟
ـ اجل...، الحرب لا تجري إلا كما فكرت، طوال الوقت، بالقضاء علي ّ..، وكان عليك أن تدرك، منذ البدء، استحالة انتصار احدنا على الآخر...، فلا أنا امتلك أوامر بمحوك، ولا أنت لديك صلاحيات بالقضاء علي ّ.
صعق:
ـ ماذا علي ّ أن افعل...، وأنت تعرف سر شقائي كله؟
ـ لو كنت اعرفه، كما قلت، لكنت عثرت على حياة لا اضطر فيها إلى المكر، والتمويه، والمناورة..!
ـ آ ...، أيها الماكر ...، طالما ساعدتها بإيذائي، بل بتدميري، وإفنائي...،بل حتى انك وجدت رعاية غير معلنة من لدن هذا الحكيم، الذي اشرف على علاج مرضي؟
ـ هذا احتمال لا يمكن استبعاده..، طبعا ً، لأننا، هي وأنت، وأنا والطبيب، نعمل على تنفيذ خطة ليس علينا إلا أن نكملها...؛ خطة وضعت قبل وجودنا، وستبقى تعمل بعد هلاكنا أيضا ً.
ـ هلاكنا؟
ـ  نعم، سيدي، فأنت تموت كي يأتي حفيدك يكمل مسيرة  أسلافك..، وهي تموت كي تأتي ابنتها بأولاد يديمون زخم الاشتباك، والطبيب، هو الآخر، ستعمل إرشاداته، وكتبه، عمل الحد من تجاوزنا لحدود عملنا، أو الإسراف فيه، فنحن جميعا ً، بكل صنوفنا، سنبقى نحرص على إتمام ما هو متصل، مادام لعملنا الفوائد الاستثنائية التي غايتها التوازن بأداء واجبنا على الوجه المقرر...!
ـ من أنت؟
ـ أنا هو واحد من المجموع الذي لا يمكن إحصاء عدده، المكلف بتنفيذ هذه الخطة في هذا البرنامج...!
ـ وعند من تعمل... ؟
ـ عند الذي تعمل امرأتك، والطبيب، وأنت عنده!
ـ آ....، حتى الأسى يجيد الدفاع عن نفسه؟
اقترب منه:
ـ وإلا هل كنت استطيع الفتك بكم عن طيب خاطر، أو بدوافع التسلية، والشفافية، والترفيه الباذخ، أو حبا ً بارتكاب الآثام..؟
    لم يعد لدي ّ عقل...، مرددا ً، وهو يدور حول ظله، ولا قدرة على الفهم.
اقترب المرض منه:
ـ وماذا كنت ستعمل لو كان لديك عقل...؟
ـ لكنت قضيت عليك، واسترحت!
ـ أيها العجوز الهرم..، المعزول حتى عن نفسه، هذا لن يحدث، ولو حدث، فان ما تبقى منك  سيبقى يبحث عني. فلا أنت وحيد، ولا هي وحيدة، ولا الطبيب وحيد، ولا أنا أيضا ً...؟
ـ ها أنت تقودني إلى السؤال المستحيل: إذا كنا جميعا ً سنهلك، ولا نترك إلا من يكمل مسيرتنا، بديمومة زوال لا يزول، فمن ذا سيجني ثمرة هذا الكد والجهد والشقاء على مدى مليارات مليارات مليارات مليارات .....، السنين الضوئية؟
ـ لو كنت اعرف...، لقضيت عليك...، واسترحت، بدل أن ادعك تديم زخم صراع لا ينتهي بخسارة احد، ولا حتى بفناء الجميع!
ـ لا بد انه الإله...، يا سيدي؟
تساءل المرض:
ـ  وما نفع الإله من صخب كائنات واهنة لا عمل لها سوى ابتكار ما هو اشد تعسفا ً وقهرا ً وجورا ً في ديمومتها الزائلة...؟!
ـ وهل ستدوم، وهل ستزول، بعد أن أدركنا إننا لا نمتلك إلا أدوات تستحدث مخبآتها لإكمال خطة ستمتد وتمتد حيث برمجتها تشتغل من غير وهن، وكلل، وبعيدا ً عن كل العثرات...؟
ـ ها أنت تجاوزت حدود السؤال...، أما أنا فلا امتلك إلا أن أبقى اعمل بحدود عملي! هل فهمت الآن لماذا وجدت الغوايات، والتمويهات، والمراوغات...، لماذا يمتحنك الموت بأشد النكبات قسوة، وغرابة.. ...، ولماذا لا تحصل على الغفران إلا وأنت ذهبت ابعد منه، لكن عبر دروب الخطة، وممراتها، عبر الذي ظننت انك أمسكت بمتاهته، وليس بسرابه، كي تجد الذي أضعته، وتغيب...  ؟
   ها هو تاريخ إزاحة...؟ لا...، معترفا ً ومعترضا ً، فلا أزمنة هناك كي تتجمع...، وكي تزاح، أو تستبدل. انه المحو وحده ينبثق بلا مقدمات: ويتلاشى كهذا الذي رآه تحول إلى رذاذ جاف. فالصفر، دار بخلده، غدا ً دويا ً من غير صوت، وصخب، وبلا امتداد، واضطراب. لكنه لمح غيابها بلا قطيعة، يتدحرج، ويمتد، متقطعا ً، من غير أمل إلا بالعثور على اثر...، عدا انه لم يعد يستأنف ما دار بباله بوجود موت سابق، وآخر، بلا حافات. فالجرثومة راحت تمحو أعراض مرضها ـ مرضها ومرضي ـ كي يتكون...، وقد رآه مثل نجم يلمع بحدة أفقدته الرؤية، فترك رأسه يتمايل، وأصابعه تتشبث بالهواء...، وثمة ظلمات أحس بها تلامس حواسه، جلده، وتتحول إلى خلايا أدرك إنها مازالت تمتلك مناعة ضد المحو...، فأفاق، لبرهة، ممسكا ً  بفراغات بدأ ينسج بها بساطا ً للطيران؛ هو ذا اللا زمن إذا ً....، إنما أحس بثقل جذبه إلى الأسفل، فوجد انه حلق عاليا ً، فانا أموت إذا ً...، لا، مستنشقا ً رائحة وعود رآها تذوب، تتهدم، وتقترب منه. فانا كنت اخترت إذا ً...، لا، منجذبا ً لمتاهة قادته ليرى انه لم يعد وحيدا ً....، بل منجذبا ً، يدب، يزحف، ثم يجد جسده مطوقا ً بالفراغات ذات الملامس الباردة، فالزمن باح بما لم يفقده: براءة دفنها قبل أن تهرم، وقبل أن يتذوق الآم العدم تتموج مرحة بغضب مضطرب وبحروب لم تترك حتى أثرا ً لمحاربيها، لمكانها، لأسبابها، لتاريخها....،  حتى كاد يخبرها بما سمح للمفتاح أن يدور بقفل الباب: لم نجن إلا القهر منبثقا ً...ورفع صوته، لأن حضورك كان صنو غواية الأفاعي، لا براءة ولا إثم،  كان حضورك تاماً، مثل وجود من غير علة، يمضي ابعد من أسبابه، لا يخفيها، ولا يعلنها، ليبقى أبدا ً يذهب ابعد منها. لكنها لم تجب، لم تغب. كان غيابها قد اكتمل...، فقبل زوالنا، وبعده، هل ثمة قوة ما باستطاعتها أن تحدث ثلما ً، أو فجوة، في مسارات حكاية غير مؤكدة، لكن لا احد باستطاعته أن ينفيها، أو يمحو أثرها في ملغزات هذا العدم.
    وهنا تكمن المفارقة، إلا إنها أكثر التباسا ً:
ـ فلو لم ْ أكن أنا هو هذا الذي علي ّ تدميره، لكان وجوده بمثابة مد بأيام عمري، لكنه فعل كأنه تام الحرية في فقدانها. فانا لم اعد أميز أو امتلك قدرة وضع فاصل بينه وبيني، فكل منا متجانس حد ذوبان التقاطعات، والاختلافات، فانا وهو صرنا مثل الأعداد تتجمع فيها بسالة الأذى حد الشفقة. لأنه  لو كان سلك ـ ولو كنت أنا سلكت أيضا ً ـ غير هذا التدرج المبني على ما لا يحصى من العثرات، الارتدادات، والوثبات، لكانت الفجوة قد اتسعت بين الفعل والفكر، بين التشكل حد بلوغ الذروة وبين غيابها التام.
     فهو ـ مثلي ـ اضعف من أن يكون ضعيفا ً، مطوق بالذعر، لا يمتلك الا الحد الاخير من الجهل، فهو اكثر من ان يتسم بالجهل، انما لاسباب اخرى، منها، استحالة تحديد معيار للحكم، غدا كل منا لا يسمح للاخر ان يكون الا ما صار عليه: جرثومة تعمل عمل حيوان خائف، عديم السمات، شارد الذهن، منهك القوى، عديم الحيلة...، انما، على خلاف هذا، غدا كل منا شبيه ببركان ما ان يخمد، الا ليباشر باستكمال برمجة انفجاره التالي.
   فما أكثر منافع الرداءة! لا اعرف أأنا بحت له بما دار ببالي، أو هو من دندن مع نفسه ليبوح لي بان ما يرعبه، ويعري وهنه، ويفقده صبره، شعوره بالتقدم خطوة لإجراء التسوية.
    ذلك لأن الجرثومة ـ جرثومة الرداءة ـ أدركت تماما ً أن تقدمها خطوة واحدة لا يعني سوى الحصول على ما هو ابعد من الحلم: موته الذي هو موتي، وموتي الذي هو موته، لكنها أدركت إنها لا تمتلك هذا ألتوق، مع أن كل منا، عندما تتجمع خسائره، وانكساراته، وما لا يحصى من مرات الإبادة التي عشناها،والمحو حد إزالة كل ما يخلفه المحو ...، يجد انه صار لا يمتلك قدرات مضادة، وقوى لا مرئية تسلك أفعال الإعصار أو الزلازل أو البراكين أو الطوفان: النشوة بنصر محكوم عليه بتذوق مرارات المحو، وما هو أسفل كل درجات الخسران، والإخفاق.
   لهذا كان من المستحيل عزل الفعل عن الفاعل، مع أن الأخير، بخبراته البدائية، لا يمتلك أفعالا ً تدوم أكثر من الفراغ الذي يهرب منه. ففي تلك المناطق غير المسكونة، ولا أقول المشغولة بما بعد ـ وبما قبل ـ الفراغ، بل بهذا ألتوق النائي الذي تسكنه البذور العنيدة، والتي ترسخت فيها ما يشبه اقتران الصفر وقد صار عددا ً. فهو يقول لي: العدم ممتدا ً، وأنا أقول له: امتداد العدم، وديمومة ديناميته!
     هل أجبت على السؤال الذي لم يخطر على ذهني أبدا ً...، لماذا انتصرت هذه الديمومة، وشيّدت، حتى عبر تمويهاتها، وأقنعتها، وخداعها، سكنها، وصارت غير الذي حمل موتها؟ وكيف غدا التسلسل شبيها ً بسلم  لا ينتهي بباب، بل صار هو ذاته الممر، يؤدي إلى ما لا يحصى من الممرات، هي الأخرى تعمل عمل السلالم، لا تمتلك إلا غوايات عنيدة، تجعل أي تقدم بمثابة العثور على عقار  لا يدع للأفعال أن تصبح اسما ً، أو ترتقي لتشكل عنوانا ً.
   أم أن هذا كله تصدعات أبعاد، لا تمتلك إلا إرادة البوح بالحد الأدنى من أبقاء الهزيمة مؤجلة، مثل النصر، علاقة أطياف تنبثق بالمرور من اجل الاختفاء...؟ لأن هذا الذي تشكل بين الفراغين، ليس دويا ً، وليس جذاما ً، وليس وعدا ً، بل الذي سلبت منه هزائمه، كما سلبت منه انتصاراته، ليصبح التقدم ذاته الجرثومة التي عملنا على تشييد أنصابها، وصروحها، ومعابدها، وشركاتها العملاقة ...، عبر الدخان والأثير....، وكأن كل الثنائيات، حتى التي لم نلمح أثرها، كانت عنصرا ً مكملا ً لنشوء جرثومة تمتلك هذه المواصفات؟
   هل بحت ـ بلا إرادة مني ـ عن إرادتي بعدم الرضا ...، لكن ماذا يعني أني سبرت أغوار الخطة التي لم أر منها أكثر مما جنته أدواتي بالتنقيب، وقد كنت واعيا ً تماما ً أن الشيخوخة لا تنتج الحكمة بمعزل عن الوهن، ولا تقود إلى النافع بمعزل عن الضار...؟
     إنها حكاية نبات لا نعرف شيئا ً عنها، نبات ظهر مثل فطريات لا مرئية، ومكث يؤدي الدور الذي أؤديه أنا مع ـ هذه العلل ـ العثرات، ولكننا لا نمتلك حتى الاعتراض عليها. فانا سأموت ليس لأنني اخترعت الذي عملت على دحضه، أو لأن المرض هو من فتك بجسدي الهزيل، بل لأننا لم ننشغل إلا بإنشاء بناء يذهب ابعد من أوهامنا، وأحلامنا....، فهل هناك عدالة دمرت أركانها كما فعلنا، مع ذلك لم نر إلا ما حصل بمعزل عنا، لنبصر المشاهد تجري عبر ما لا يحصى من الشاشات، ناعمة وسلسلة بقسوتها، عشوائيتها، ونظامها العنيد.
    فانا لم اعد امتلك إلا ما تمتلكه: الصخور...، وهي تستكمل دورتها في المختبر الأكبر...، إن كنت أنا هو من أبدى كل البسالات أو استسلم لها، كرها ً أو لامبالاة، فانا أتدثر بالكلمات، وبالمشاعر المعادة، وفي كيانات اجهلها، ليس لأن أدواتي باطلة، وليس لأن اللا شرعية فاتحة الاستطراد، والحشو، والاشتباك، بل لأنني ـ ككل من عملت فيهم هذه الجرثومة ـ لا نمتلك إلا المضي ابعد من خضوعنا للغوايات، وكأني بت قانعا ً بالرضا ـ هنا ـ والقبول بالتسوية، مساوما ً هذا الشبح، ذكرا ً أو خنثا أو أنثى أو عاملا ً مساعدا ً أو بعدا ً لا مرئيا ً للتخلص من تراكمات أراها تقترب من التحول إلى بركان...، إلا أن للكلمات أداء يتستر على ملغزاتها، كي أصبح ضحية شهامة مغوار مضى إلى الحرب، وكي أتذوق مرارات هزيمة الأخير وأنا لا امتلك إلا أن أدّب، ازحف، أتموج، أتطاير، واثناثر ...؟ معترفا ً بنهاية رحت أتدثر فيها وقد انصهرت فيها المتضادات...، لأن الخروج من العالم، حتى بالحد المعقول، ليس أكثر من إرغام العالم بمنحي عقارا ً يحقق لي الشفاء بدل تحولي إلى مرض اكتملت ألغازه العنيدة !
   فهل ثمة متاهة ـ أدندن مع نفسي ـ لا تستدعي أن أقول لنفسي بإصرار: لا تدعها ترحل! فأنت لا تريد أن تأخذ إلا غيابك، وتدع للحضور أن يتذكر مسرات تردم الأسى، وأنت تراه شبيها ً  بالمنحدرات التي كوتنا، واكتوينا بمحوها، فزورنا المشهد كي يغدو احتفالا ً...، وكسونا الصراع أعلاما ً كي  تمتلك خواص الابتهالات، والمجد.
    تبا ً ليدي ّ وهي تداري زحفي، كلمة كلمة، من غير فواصل، مثل قنفذ لم يجد شريكا ً إلا أشواكه كي يدعها تعمل عمل السكين في القلب، حيث الأدوات عديمة النفع تؤدي الدور ذاته الذي يؤديه الموت مع من سيولد، يانعا ً، في كوكب أو في مجرة لديها عدمها تستحدثه مادامت كل لحظة، مثل كل فراغ، ومثل كل ما لا وجود له إلا عبر عبوره، ومثل كل كلمة لا تستكمل إلا ما يكمل استحالة ردمه...، ادع رأسي يتجول بما أحدثه المرض...، أنثى كان أو خنثا  أو عاملا ً مساعدا ً، في ّ، بعد أن راح العدم يدوّن كل ما تم دفنه، ومحوه، وانتظار بزوغه أكثر محوا ً، وعنادا ً، في الانبثاق.
17/10/2016
Az4445363@gmail.com


السبت، 29 أكتوبر 2016

تلك المسلّة البعيدة-المؤلف كريم النجار


كتب
تلك المسلّة البعيدة


تلك المسلة البعيدة  

المؤلف
كريم النجار
  

 الطبعة الأولى: القاهرة 2009 
دار أدب فن للثقافة والفنون والنشر
بالتعاون مع مؤسسة شمس للنشر والتوزيع
لوحة الغلاف للفنان: مهند العلاق
تصميم الغلاف: كريم النجار

رقم الإيداع: 19410/2008
البحت التائه، التاريخ، وتجربة الحياة اليومية
في ديوان "تلك المسلة البعيدة"   
  
"حسين عجة"
يستوقفنا، قبل كل شيء، العنوان الذي أختاره الشاعر لسفره الكبير هذا، وذلك لأنه يدخلنا من كلمته الأولى ضمن ديوان الشعر العربي في بحثه الواسع، الصعب والمشتت عن بقايا "الأشياء" والكائنات. بحث جديد عن الإطلال. مغامرة أخرى لطرح تساؤلات قد لا يتحمل إيقاعها الحاضر الرتيب والصاخب في آن معاً. ذلك لأن "البحث" هنا لا يكف عن الانشطار، أو أن منهج البحث ذاته يتعمد ذلك الانشطار. فتارة يتوجه المسار نحو الماضي المتواصل العيش، أو الماضي الذي لا يقبل بالوقوف ضمن حركة التاريخ، أي ابتعاده ولو قليلاً عن الحاضر، حتى يتم تناوله وتأمل موقع الضربات فيه، ومن ثم وضعه في موقع التجربة التي تمت معايشتها من قبل. كلا. فهذا الماضي لم يصبح ماضياً بعد. ذلك لأن نوعية وتوتر أحداثه، دمويتها وشراسة دمغاتها، تقدمه وكأنه ماثلاً في كل لحظة من لحظات غيابه. لا على صعيد الذاكرة وحدها، أو كآثار صور بدائية، ممحوة، ترتد في زمنيتها لماضي سحيق وحسب، ولكن لأنها لا تكف عن الامتزاج وتعكير صفاء الحاضر، أو حتى مجراه المسربل العادي. وتارة أخرى، يساورنا الشك بأن البحث برمته منصباً على تشابكات الحاضر، وتفاصيل التباساته اليومية، فيما يبقى الماضي محض خلفية لمعايشة آنية تمحي صوره ورتوشه القديمة، حتى وإن كان ذلك على صعيد المتخيل، أو ما يمكن أن يكون بديلاً له : نحن فقط في الحاضر المحض، بكل ما تنطوي عليه المفردة من رعب وبياض، لا يسمح بظلال أخرى غير تلك التي وضعها لنفسه كحاضر وحسب.

قلنا أن الديوان يستوقفنا بدءً بكلمته الأولى، لا لأنه يضعنا فجأة أمام "البعيد" أو "مسلة" ذلك البعيد، ولكن لأن مفردة "تلك"، وبغض النظر عن استخدامها اليومي وعفوية ما توحي به ضمن قاموس اللغة المُتشكل، تحيلنا بدفعة واحدة نحو أنفسنا، إذا جاز التعبير، لدرجة تولد لدينا شعوراً بأنها وحدها من يتحمل ثقل مسافة البحث، أكثر من "المسلة" ومن ذلك "البعيد" الذي يتم تذكره. أو مسافة البعد المفترضة للبحث عنها، أو لتسميتها وحسب : أن يقال كانت هناك "تلك... المسلة". وبذات الحركة الواحدة، تحيلنا نحو "أشياء"، كائنات، أحداث، عبارات، وجوه، وحتى بعض الأحاديث التي لا نعرف من قالها ومن أصغى لها.

كذلك لا ينبغي، من وجهة نظرنا، التعامل مع مفردة "مسلة" باعتبارها شاخصاً مادياً، يمكن اللجوء إليه، أو أنه كان في يوم ما حاضراً، ومع اندثاره قد ولد إغواء البحث عنه، عند أحدهم. فالمسلة التي يتحدث عنها النجار هي، في الحقيقة، علامة الانفصال، الدالة اللامادية عن الشيء ذاته وما يتجاوزه. أو، بدقة أكبر، المسلة هي الإشارة غير المرسومة في مكان ما، أو التي لم يقم ببعثها كائن ما. أنها الانفصال والانشطار المحض. تلك التي "يتحنط فيها الكلام". تلك التي ترغم الشاعر على القول:
تلك أيامك الخاوية
يتصارع ثوران... في حضرتك
وأنت لاهي بيومك المتأخر
ساعة أو ساعتين
بتعبير آخر، المسلة هي ما لا يمكن البحث عنه. الشيء المولد للخواء ذاته. الخواء الذي ليس بالخواء، بل نزاع؛ والذي يعطي نفسه، في البداية وكأنه بدون منازع، ولكننا سرعنا ما نكتشف "صراع الثيران فيه"، في حضرة ذلك الذي قد يلتفت له ولا يمنحه من زمنه المتأخر سوى "ساعة أو ساعتين" في اليوم الواحد. ظن منه بأنه بهذا يكون قد واجه حجم وضخامة "الفجيعة"، التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً. لندخل في العمل : تحمل القصيدة الأولى عنوان "أيامك الخاوية". يبدو أن ثمة ذات تجري مخاطبتها هنا. غير أنها معدومة الوجود. فما يصلنا عنها أو منها، يظل وكأنه منقولاً عما يُقال بخصوصها. من هي هذه الذات؟ سيكون من العجالة القول : ذات الشاعر. وقد يكون الحال هو كذلك، بالرغم من صيغة الحوار الضمني الذي يغطي القصيدة بكاملها. تتشكل إذاً، شيئاً فشيئاً،، لدينا معرفة أكبر عن توزع ميادين الديوان، فبعد الخواء، وتحنط الكلام، نفاجأ بالجوهر المتجذر بذاته، أو الذي يريد "هو" التجذر فيه. لنرى الثمن الذي ينبغ دفعه من أجل ذلك التجذر :
"ليس سواك من أحدٍ
يجمع الغياب".
للوهلة الأولى، نعتقد بأن ذات ما قد تلبست ذلك الجوهر، ومن ثم ستكون قادرة على"جمع الغياب" الذي لا يجمع؛ بيد أن تلاحق الرموز، تناثر المجازات سيضعنا مباشرة أمام :
"جدران تطبق على بذخ
اللون وضوء يتوضأ بالرذيلة".
لا أحد يستطيع، إذاً، تجسيد الجوهر، إدعاء تحمل بذخه، أو قبول لونه الذي سيتوضأ بالرذيلة. ذلك لأن عشق الجوهر لوحده لا يكفي، إذا كان في عزلة كاملة عن الغلاف السديمي الذي يحيط به، أسم هذا السديم قد يكون التاريخ، الزمن، أو شيء ما غريب عن كل ذلك، قد يكون، في العمق، غاية غير مفهومة :
"لغايتك المعلقة بدبابيس الوقت وهيولي الومضة
الأولى
وحده الوقت يفرش جناحيه مثل أله ينازع
الغيم".
النزاع ثانية، الإله الغيم، فيما تمر ومضة الهيولي لكي تعبر غشاء العائق، في بحثها المخبول عن مثيلها، عن كائن أو صفة قد تخلى الكائن عن جسده والصفة عن قيمتها؛ سينفتح الباب أمام شخصية لا يمكن تلويثها لا بتراكمات التاريخ، ولا بما يعلقه الوقت في دبابيس. لنسمع :
الحلاج يهمس بأذنك، لا أحد غيرك سواك
لا صوت يأتي
لا أثر
لا أنين
هسيس يدب بين الضلوع.
بهذا يتجمع ويتكور الجوهر على نفسه، في لغة التصوف. وبالرغم من ذلك، لا يستسلم التاريخ بمثل هذه السهولة، ولا يُفرغ ناسه بلمحة بصر :
عرب هنا، عرب هناك
مر التاريخ بحدقاته المتورمة
(...)
ونام الزمن
في جوف الحوت
الصمت وسيلتك الناهضة
والصراخ تعلمته.

تلك هي صيغة الحوار : ما بين الأنا والآخر. ما بين الأنا والأنا، تحت نظر التاريخ ذو الأحداق المتورمة، والذي ينازع الشاعر حتى الموت للخروج منه، رغم وهم تمسكه به. قد يقال كل ذلك من جزئيات موروث المتخيل الشعبي. وليكن. بيد أن الرحلة لم تتم. إذ سيحاول الشاعر، هذه المرة، عبر وفي لحظة بحثه عن ذلك الموروث، القيام بفعل آخر. السكن أو المكوث في قطب آخر، وها أن قصيدة "أبني بيتي في البحر" تقدم لتعلن لنا ذلك صراحة، وبلغة لا تقبل لا المجازات ولا اللبس :
أبني في البحر بيتي
بيتي من رمال البحر
أسكن بهدأة من الريح والعاصفة
لا ضوء
ولا دخان
يتصاعد من أفواه العتمة والشوارع.

رواية "الحج إلى واشنطن" للمهدي عثمان-إصدارات

_________________________________________________________________________
إصدارات
رواية "الحج إلى واشنطن" للمهدي عثمان


صدرت في القاهرة عن العصرية للنشر في 196 صفحة رواية "الحج إلى واشنطن"
تمتدّ على مجموعة فصول تجعل من الرواية أقرب في هيكلتها لتنظيم النص المسرحي. ولعلّ للعنوان الذي هو اختزال للمضمون دلالة سيميائيّة واضحة في علاقته بالمحتوى تتراوح بين المفهوم الديني والبعد السياسي، وفي الربط بين "الحج" و " واشنطن" دفع للتصادم بين المفهومين والتقاء في نقطة الانفجار.
وهذه المفاهيم تخيّم بظلالها على شبكة العلاقات بين الموجودات في الرواية، حيث تنهال على مخيّلتك أسماء مختلفة متنوّعة لأشخاص وأماكن متباعدة لا يمكن أن تربط بينها غير خيوط الرواية ومخيال الرّاوي في شبكة معقّدة للأحداث مسْرودة سردا عنكبوتيا يمتزج فيه النسق الخطّي بالاسترْجاع وبالاستباق في خيط رفيع جدا.
مجموعة الأشخاص من دول عربية مختلفة يجمعهم التنظيم العالمي للقاعدة، بعض الأسباب الشخصية الأخرى ليقرروا القيام بعمل "جهاديّ" ضد تمثال الحرية في الولايات المتحدة، الذي يمثل رمز الحرية والنظام العالمي الجديد.
وهذا الحدث هو نتيجة لما حصل بعد سقوط بغداد و 11سبتمبر، ونستطيع أن نجد في الرواية ذلك التقاطع بين هذين الحدثين وحادثة تفجير تمثال الحرية، وعلاقة كل ذلك بالقضية الفلسطينية والوضع المتفجر على الحدود اللبنانية الفلسطينية. لنصل إلى فكرة أن ما يسمى الإرهاب العالمي أو الاسلام الجهادي ليس إلا نتيجة لكل تلك الأحداث والوقائع.
وفي الرواية تحضر بوضوح مواقف الراوي من الراهن الحياتي في كلّ تجلّياته ومستوياته: مواقف من العولمة /الفقر/ التنظيمات السياسية/ أشكال النضال/ الأحداث العالميّة الأخيرة/ أحداث 11 سبتمبر ونتائجها/ الحرب على العراق ولبنان، دون أن ننسى الشتات الفلسطيني..
كما تنخرط في الشّاغل اليوميّ الطبيعيّ الحياتيّ (العلاقات الاجتماعيّة والجنسيّة) والهمّ الثقافي. إنها تمارس على القارئ إرهابا لغويّا، وهي تضع على طاولة التشريح الثالوث المحرم: الدين والجنس والسياسة.

مفازات جحيم الرؤيا- ميلود لقّاح

شعر
مفازات جحيم الرؤيا


  
عُصْفُورٌ يـخْرُجُ
منْ عُمْقِ الإسْمَنْتِ
ويخْبِرُنِي أَنَّ الشَّمْسَ
سَتُمْطِرُ هَذَا الْيَوْمَ رَذَاذا
مِنْ فَرْطِ تَوَهُّجِهَا
سَتُحِيلُ الْكَوْنَ صَقِيعاً
لا يُبْصِرُهُ
إلاَّ الرَّاسِخُ في الْعَتَهِ
المْتَعَمِّدُ بِالصَّحْوِ
المتَلَفِّعِ بِالسُّكْرِ الأشْهَى.

مَطَرٌ مِنْ غَيْبِ الْقَيْظِ
وَمِنْ غَبَشِ الْكَابُوسِ الأصْفَرِ:
يَعْرَى الْقَلْبُ
وَلا يُدْرِكُ عُمْقَ الأشْيَاءِ،
وَلا تَتْرَى في الأُفْقِ
صَبَاحَاتُ الظُّلْمَةِ.
مَنْ يُنْقِذُ مَوْتَ الأحْيَاءِ
مِنَ الصَّحْوِ،
وَمِنْ شَبَحِ الأحْلامِ الوَرْدِيَّةِ.
أَسْنِدْنِي يَا قَمَرِي،
وَخَلِيلَ الأرَقِ الثَّاوِي
في رَوْضَةِ كَهْفِ الرُّوحِ...
أَعِنِّي يَا مَطَرَ النِّيرَانِ الملَكِيَّةِ
أمْهِلْنِي بَعْضَ الدِّفْءِ...
ولا تَبْخَلْ،

سَيَصيرُ نَفِيرُ الْقَوْمِ غُرَاباً يَنْعَبُ
في مُنْتَصَفِ الحُكْمِ
وَلا يَكْشِفُ عَنْ بَيْنِ الْغَيْمِ،
وَلا لَيْلَى تَكْشِفُ
عَنْ سَفَرِ الأشْوَاقِ،
فَلا "عُوجُو" تَكْفِي
لِتُدَثِّرَ صُبْحَ الأنْوَاءِ
وتُلغَى مِنْ عَبَثِ الحْرْفِ
لَهَا أَنْ تَلْعَنَ كُلَّ الدِّمَنِ
الْمَنْصُوبَةِ زُورًا
في كُلِّ عَبَاءَاتِ اللاوَعْيِ
وَتُقْصِي نَغَمًا لا يَكْفُرُ
بِالسَّفَرِ الممْتَدِّ
عَلَى بَيْدَاءٍ مِنْ وَرَقٍ
يَعْشَقُ قَيْساً أَوْلَيْلَى

أَوْ يَعْبُرُ بٍالضِّلِّيلِ
إِلَى مُلْكٍ لا يَبْلَى..
هِيَ ذِي بَعْضُ مَفَازاتِ الرُّؤْيَا
تَرْفُضُ أَنْ تَسْتَوْعِبَ
نُعْمًا أَوْ لَيْلَى سَيَّانْ.


حوار مارتن هايدغر أسئلة وأجوبة حول السياسة والفلسفة والتاريخ-ترجمة : حسونة المصباحي

حوار
مارتن هايدغر
أسئلة وأجوبة حول السياسة والفلسفة والتاريخ

ترجمة : حسونة المصباحي



نشر هذا الحوار في المجلة الألمانية الأسبوعية »دير شبيغل« بتاريخ 31 آيار/مايو 1976 بعد أيام قليلة من وفاة مارتن هايدغر ونشرت المجلة التوضيح التالي: أرسل هايدغر في آذار/ مارس 1966 رسالة إلى المجلة يردّ فيها على الذين يتّهمونه بأنه كان على صلة بالنازيّة أثناء فترة صعودها. وكانت هذه الرسالة إشارة إلى أنه كان مستعدّا للإجابة على الأسئلة المتعلقة بهذه القضية. وفي شهر أيلول/سبتمبر 1966 تمكن رودولف اغستاين وغيورغ فولف من التحاور مع هايدغر. وقد أوصى هايدغر بعدم نشر الحوار إلا عقب وفاته قائلا:»المسألة لا تتعلق بكبرياء أو عناد وإنما بعملي هذا الذي أصبح مع السنين أسهل، ويعني في المجال الفكري أنه أصبح أكثر صعوبة«. ويعتبر هذا الحوار الوحيد من نوعه الذي خصّصه هايدغر للصحافة.

ـــــــــــــــــــ

شبيغل: أستاذ هايدغر، لقد لاحظنا دائما أن هناك شيئا ما أثر تأثيرا سلبيّا على أعمالك الفلسفية بسبب أحداث عشتها. ورغم أن هذه الأحداث لم تدم طويلا غير أنها لم توضح بما فيه الكفاية.

هايدغر: تقصدون أحداث 1933.

شبيغل: نعم قبل 1933 وبعدها. نحن نريد أن نضع هذه الأحداث في إطار أكثر شمولا ومنها ننطلق إلى أسئلة تلوح أكثر أهميّة. مثلا: ماهي إمكانيّات الفلسفة للتأثير على الواقع بما في ذلك الواقع السياسي؟

هايدغر: إنها أسئلة هامّة، ولست أدري هل أستطيع الإجابة عليها كلها. وقبل كل شيء لابد أن أقول أنه لم يكن لي أي نشاط سياسي قبل تعييني رئيسا للجامعة. وخلال شتاء 1932 وشتاء 1933 كنت في عطلة وأغلب أوقاتي كنت أقضيها في منزلي الريفي.

شبيغل: كيف استطعت إذن أن تصبح رئيسا لجامعة فرايبورغ؟

هايدغر: خلال شهر كانون الأوّل/ديسمبر 1932 انتخب زميلي فون مولوندورف وهو أستاذ مختصّ في علم التشريح عميدا. وتاريخ بدء العمل في جامعتنا كان يوم 15 نيسان/ ابريل. وخلال فصل شتاء 1932 و1933 كنا تحدثنا أحيانا عن الوضع السياسي وخاصة عن وضع الجامعات، وأيضا عن وضع الطلاب الغامض. وكان رأيي كالآتي: ليس هناك غير وسيلة وحيدة وهي أن نمسك بالتيار الذي بدأ يظهر شيئا فشيئا اعتمادا على القوى البناءة والتي لا تزال حيّة حقا.

شبيغل: كنت اذن تلاحظ علاقة ما بين وضع الجامعة الألمانية والوضع السّياسي في ألمانيا بصفة عامّة؟

هايدغر: لقد تابعت الأحداث بين يناير/ كانون الثاني ومارس/ آذار 1933، وحدث أن تحدثت في شأنها مع زملاء أصغر مني سنّا، ولكن عملي كان مخصّصا في ذلك الوقت لتحليل شامل لفكر ما قبل السّقراطية. وقد عدت إلى فرايبورغ في بداية فصل الصّيف. وقبل ذلك كان الأستاذ فون مولوندورف قد بدا عمله كعميد يوم 17 نيسان/أبريل. وبعد أسبوعين فقط من ذلك أقيل من منصبه بقرار من وزارة التعليم. وربّما كان قرار رئيس الجامعة بمنع تعليق ما سميّ في ذلك الوقت بالمنشور الخاص باليهود، فرصة للوزارة لكي تقيله من منصبه(١).

شبيغل: السيّد فون مولوندوف كان اشتراكيا ديمقراطيا. ماذا فعل عقب هذا القرار؟

هايدغر: يوم إقالته اتصل بي فون مولوندورف وقال لي »هايدغر... أنت الذي يجب أن يمسك برئاسة الجامعة«. قلت له أني لست على دراية كبيرة بالمسائل الإدارية، وعرض عليّ مساعد رئيس الجامعة السيد شارو (علم اللاهوت) أن أرشح نفسي لرئاسة الجامعة ذلك أنّه حسب قوله يمكن أن تعيّن الوزارة موظفا في حالة عدم عثورها على شخص تثق فيه. وجاءني زملاء يكبرونني في السن. وحدث أن تناقشت معهم قبل ذلك حول مسائل تتعلق بسير الجامعة. وقد تردّدت طويلا. وأخيرا قبلت أن أقوم بهذه المهمة، فقط من أجل مصلحة الجامعة إذا ما تأكدت من رضى كل أعضاء المجلس الانتخابي. ولكن شكّي حول مدى قدرتي الإداريّة ظلّ كامنا فيّ حتى أني صبيحة اليوم المخصّص للانتخابات، اتصلت بالزملاء وكان من بينهم فون مولوندورف وشاورتهم في الأمر وقلت لهم أني لا أستطيع أن أشغل المنصب. وعندئذ أعلمني زملائي بأن عمليّة الانتخابات قد أعدت وأنه لا يمكنني سحب ترشحي.

شبيغل: وقبلت طبعًا ما هي الأشكال التي اتّخذتها علاقاتك بالقومّيين الاشتراكيين؟

هايدغر: بعد يومين من بدء عملي كرئيس للجامعة اتّصل بي رئيس الطلبة القوميين الاشتراكيين(2) وكان مرفوقا بزميلين له وطلب منّي السّماح لهم بتعليق المنشور الخاص باليهود، فرفضت. وانسحب الطّلاب الثلاثة بعد أن أعلموني أنهم سينقلون قراري إلى قيادة الطّلاب القوميين الاشتراكيين. وبعد أيام اتصلت بي إدارة التعليم العالي بالوزارة تليفونيا وطلبت مني أن أسمح بتعليق المنشور مثلما حدث في بقية الجامعات. وإن أنا رفضت فإني أعرّض نفسي للإقالة وربما أيضا إلى غلْق الجامعة. وحاولت أن أحصل على قبول الوزير بقراري، ولكنه أعلن أنه لا يستطيع. ورغم ذلك لم أتراجع عن قراري.

شبيغل: نحن لا نعرف إلى حدّ هذا الوقت أن الأمور كانت على هذا الشكل؟

هايدغر: السّبب الحقيقي الذي دفعني إلى قبول منصب رئاسة الجامعة هو ذلك الذي كنت أعلنت عنه في محاضرتي الافتتاحيّة بجامعة فرايبورغ سنة 1929:»ماهي الميتافيزيقا؟« أنّ مجالات العلوم منفصلة وبعيدة عن بعضها البعض والطريقة التي تحلل بها العلوم الأشياء تكون مختلفة عن سابقتها اختلافا شديدا في كل مرّة. أن تعدّد مثل هذه العلوم المشتّتة لا يجد الترابط المنطقي اليوم إلا في ذلك الذي يمنحه له التنظيم التقني للجامعات والكليات، وبين مثل هذه الإختصاصات ليس هناك سوى نقطة التقاء وحيدة، وهي الاستعمال العملي لها. وفي مقابل ذلك فإن تجذّر العلوم في جوهر وجودها شيء ميّت تماما«. وكلّ ما حاولت القيام به خلال فترة رئاستي للجامعة في ذلك الوقت- وحتى الأشكال المتطرّفة التي بلغها اليوم- موضّح توضيحا كافيا في الخطاب الذي ألقيته يوم تنصيبي رئيسا للجامعة.


شبيغل: نحن نحاول أن نكتشف كيف وإلى أي مدى يتطابق هذا القول الذي أعلنت عنه سنة 1929 مع الخطاب الذي ألقيته في حفل التنصيب سنة 1933. نستخرج جملة من إطارها العام: »الحرية الأكاديمية التي طالما تغنّى بها البعض الآن ملغية تماما من الجامعة الألمانية. ذلك أن مثل هذه الحرية ليست حقيقة ولكنها فقط سلبيّة«. ونحن نعتقد أننا على حق حين نتصوّر أن هذه الجملة تعبر عنها تصوّرات ما زالت قريبا منها ومتطابقا معها إلى حدّ اليوم.

هايدغر: اني احتفظ بما قلت. ذلك أن هذه »الحرية الأكاديمية« لم تكن في أغلب الأحيان إلاّ سلبيّة: الحرية في عدم بذل الجهد، وفي عدم انفتاح على التأمّل والتفكير اللذين تتطلبهما الدّراسات العلميّة. وأما بخصوص الجملة التي ذكرتها الآن، فإنها لا يجب أن تقرأ وهي معزولة عن إطارها العام. ففي هذا الإطار العام فقط يمكن للإنسان أن يفهم ما كنت أقصده بالحرية السّلبية.

شبيغل: نعم. ولكننا نعتقد أن في خطابك الافتتاحي هناك نغم جديد خاصة عندما تتحدث بعد أربعة أشهر من صعود »هتلر« إلى الحكم كمستشار للرايخ عن »عظمة وبهاء هذه الانطلاقة«.

هايدغر: هكذا كان رأيي في ذلك الوقت.

شبيغل: هل تستطيع أن توضّح لنا ذلك بأكثر دقّة؟

هايدغر: طبعا لم أكن أرى في ذلك الوقت أيّ حلّ آخر. ووسط الفوضى العامّة للآراء والتيارات السياسية التي كان يمثلها اثنان وعشرون حزبا كان لابدّ من إيجاد موقع قومي وخاصة اجتماعي في الاتجاه لمحاولة فريدريك نومان(3) Friedrich Naumann) وأريد أن أذكر على سبيل المثال بدارسة لإدوارد سبرائغير(4) (Eduard Spranger) تذهب أبعد من خطابي الذي ألقيته في حفل الافتتاح.

شبيغل: في أي وقت بدأت تهتم بالسياسة؟ الاثنان وعشرون حزبًا كانت موجودة قبل ذلك وكان هناك أيضا ملايين من العاطلين سنة 1930.

هايدغر: في ذلك الوقت كنت مهتما أساسا بالمسائل التي وردت في »الوجود والزمن«

(Sein und Zeit) وبالكتابات والمحاضرات التي ألقيتها في السنوات الموالية. أنها مسائل فكرية أساسية على علاقة غير مباشرة بالمسائل القومية والإجتماعية. والمسألة الأكثر إلحاحا بالنسبة لي كأستاذ جامعي في ذلك الوقت كانت مسألة مصير العلوم واتجاهاتها، وفي نفس الوقت تحديد دور الجامعة وعملها. وهذا البحث كان واضحا في عنوان خطاب حفل التنصيب:»اثبات الجامعة الألمانية لوجودها« لم يكن هناك حفل تنصيب تجرّأ على اتخاذ مثل هذا العنوان في ذلك الوقت. ولكن من بين هؤلاء الذين تحاملوا على هذا الخطاب وانتقدوه... قرأ وتأمّل فيه جيّدا وفسره انطلاقا من ظروف تلك المرحلة؟

شبيغل:»إثبات الجامعة لوجودها« في عالم متقلّب ألا يبدو هذا في غير أوانه وفي غير محلّه؟

هايدغر: كيف ذلك؟ »اثبات الجامعة لوجودها« لقد كان هذا يتعارض مع ما يسّمى »بالعلم السياسي« الذي منذ ذلك الوقت، كان مطالبا به داخل الحزب وداخل صفوف الطلاّب القوميين الاشتراكيين. وهذه التسمية »العلم السياسي« كان لها معنى يختلف تماما عن معنى اليوم. انها لا تعني السّياسة في حدّ ذاتها بل تعني ما يلي: إن العلم الحقيقي هو ذلك الذي يكون مفيدا للشعب وملبّيا لرغائبه. وما ذكرته في خطاب الافتتاح كان يتعارض تماما مع هذا الاتجاه »التسييسي« للعلم(5).


شبيغل: هل نحن نفهمك جيّدا؟ هل كنت تريد في ذلك الوقت التأكيد على أصالة الجامعة وحمايتها من تلك التيارات القوية التي كانت تتهددها؟

هايدغر: نعم. وأمام التنظيم التقني للجامعة لابد من أن يكون لإثبات الوجود معنى جديد انطلاقا من التفكير في تقاليد الفكر الغربي الأوروبي.

شبيغل: سيادة الأستاذ. هل نستطيع أن نفهم من كلامك أنك كنت تريد إنقاذ الجامعة بالتعاون مع القوميين الاشتراكيين؟

هايدغر: إن هذا الفهم خاطئ. لا بالتعاون مع القوميين الاشتراكيين. الجامعة لابدّ أن تتحدّد انطلاقا من نفسها وأن تحصل على موقع قويّ وصلب أمام »تسييس« العلم في المعنى الذي كنت وضحته من قبل.

شبيغل: ولهذا أنت ذكرت في خطاب الافتتاح هذه الركائز الثلاث: العمل- الدّفاع- المعرفة.

هايدغر: ليس هناك ركائز. إذا أنتم تأمّلتم جيّدا فإن المعرفة تحتل الدرجة الثالثة ولكن المعنى يعطيها الدّرجة الأولى. ما يجب أن يتأمّل فيه هو أنّ العمل والدفاع مثل كل نشاط إنساني متأسسان انطلاقا من علم ما ومستنيران به وبه يهتديان.

شبيغل: لابدّ أن نتحدث - ثم سوف ننتهي بعد ذلك من ذكر مثل هذه الاستشهادات المضجرة- عن جملة لا تتصور أنك مقتنع بها اليوم. قلت في خريف 1933:»لا يجب أن تكون النظريات والأفكار هي قاعدة وجودك. وحده »الفوهرر« هو الحاضر والمستقبل والواقع الألماني وقانونه«.

هايدغر: هذه الجملة لا توجد في خطاب حفل التنصيب ولكن في الجريدة الداخلية »لطلاب فرايبورغ« وذلك في بداية الفصل الدّراسي لشتاء 1933-1934.

عندما قبلت أن أكون رئيسا للجامعة، كنت أعرف أني لابدّ أن أقدّم بعض التنازلات. أني لا أكتب اليوم الجمل المذكورة. ولم أقل مثلها أبدا منذ 1934.

شبيغل: هل نستطيع أن نلقي عليك سؤالا عرضيّا؟ هذا الحوار وضح الآن أن موقفك خلال سنة 1933 كان يتأرجح بين اتجاهين. أولا كنت مجبرا على قول بعض الأشياء. وهذا هو الاتجاه الأول. ولكن الاتجاه الثاني كان على الأقل أكثر ايجابيّة وذلك عندما تقول: كنت أحسّ أن هناك شيئا جديدا. أن هناك انطلاقة«.

هايدغر: هذا ما كنت أقصده. لم أتكلّم متصنّعا ذلك وإنما لأني كنت أرى حقا هذه الإمكانية.

شبيغل: أنت تعرف أنه انطلاقا من هذه الأشياء اتهمت بأنك كنت على علاقة مع القوميين الاشتراكيين ومع جمعيّاتهم. ومثل هذه الاتهامات التي بلغت الجمهور الواسع ظلّت إلى حدّ الآن دون توضيح. وهناك من يتهمك بأنك ساهمت في عمليّات حرق الكتب التي نظمها الطلاب الهتلريون.

هايدغر: لقد منعت عملية حرق الكتب التي كانت ستحدث أمام مبنى الجامعة.

شبيغل: ثم أن هناك من يتهمك بأنك أخرجت من مكتبة الجامعة ومن منتدى الفلسفة مؤلفات الكتاب اليهود؟

هايدغر: لم تكن لي سلطة كرئيس لا على المنتدى ولا على مكتبته. ولم أرضخ أبدا للأوامر المتكرّرة التي كانت تلّح على ضرورة القضاء على المؤلفات اليهودية. وبعض الذين ساهموا قديما في بعض أعمالي في منتدى الفلسفة باستطاعتهم أن يشهدوا على أننا لم نخرج مؤلفات اليهود وأننا كنا نناقش أعمالهم وخاصة أعمال هوسرل (HUSSERL) التي ظلت تُناقش وتفسر مثلما كان الأمر قبل 1933.

شبيغل: كيف تفسّر اذن أسباب انتشار مثل هذه الاتهامات؟ هل هو الخبث والنميمة؟

هايدغر: بسبب معرفتي بمصدرها، لا أستطيع أن أنكر، غير أن أسباب النّميمة أعمق من ذلك. أن قبولي برئاسة الجامعة ليست الفرصة والسبب الرئيسي لما حدث. ولهذا فإن الجدال يشتعل كلما سنحت الفرصة لذلك.

شبيغل: بعد سنة 1933 كان لك طلاّب يهود. وعلاقتك بالبعض منهم كانت حميمية.

هايدغر: لم يتغيّر موقفي منذ 1933. وإحدى طالباتي وإسمها هيلين فايس (Helen Weiss) وكانت الأكثر نبوغا هاجرت بعد ذلك إلى اسكتلندا، وقد أعدّت رسالتها لنيل شهادة الدكتوراة في جامعة »بال« بعد أن تعذّر عليها القيام بذلك في »فرايبورغ« وعنوان رسالتها: »السببيّة والصدفة في فلسفة أرسطو« وقد صدرت في بال سنة 1942. وفي مقدمتها كتبت المؤلفة مايلي: إن محاولة التفسير الفينومنولوجي التي سأقدم منها الجزء الأول ساعدتني على القيام بها تفسيرات لهايدغر لم تنشر إلى حدّ الآن حول الفلسفة الاغريقية. وها هي نسخة من هذه الرّسالة مع الإهداء وقد زرت السيدة فايس مرات عديدة قبل وفاتها.
شبيغل: كنت صديقا لمدة طويلة لكارل ياسبرس. وبعد 1933 تعكّرت صداقتكما. والشائعات تقول بأن سبب هذا التعكّر هو أن زوجة ياسبرس يهودية. هل تستطيع أن تقول شيئا حول هذا الموضوع؟

هايدغر: كنت صديقا لياسبرس منذ ٩١٩١. وقد زرته وزرت زوجته في »هايدلبارغ« خلال فصل صيف 1933. وقد أرسل لي ياسبرس كل كتبه بين 1934 و1938 مع »تحية ودّية«.

شبيغل: كنت تلميذا لهوسرل الفيلسوف اليهودي الذي كان يُدرس الفلسفة في جامعة »فرايبورغ« وقد أمر بتعيينك بعده في الجامعة. هل تعترف له بالجميل؟

هايدغر: أنتم تعرفون الإهداء في كتابي »الوجود والزمن«.

شبيغل: طبعا. ولكن علاقتك به تعكرت بعد ذلك هل تستطيع وهل ترغب في أن تقول لنا لم يعود ذلك؟

هايدغر: الاختلافات بشأن المسائل الجوهرية احتدت وتفاقمت. في بداية الثلاثينات، راح هوسرل يقوم بعملية تصفية حسابات مع ماكس شلير ومعي أنا بصفة علنية. ولست قادرا على إدراك السبّب الذي دفع هوسرل إلى التحامل على أفكاري الفلسفية علنا.

شبيغل: في أية مناسبة تمّ ذلك؟

هايدغر: في قصر الرّياضة ببرلين تحدث هوسرل أمام الطلاّب. وقد كتب أريك موهسام (Erich Mühsam) عن هذا التدخل في إحدى الصحف الكبرى ببرلين.

شبيغل: الخصومة ليست هامّة في حدّ ذاتها. المهم أنها ليست على علاقة بما حدث سنة 1933.

هايدغر: أبدا.

شبيغل: يقال أنك في سنة 1941 عند صدور الطبعة الخامسة من »الوجود والزمن« تعمّدت حذف الإهداء الأول إلى هوسرل.

هايدغر: نعم ... هذا صحيح. وقد وضحت السّبب في كتابي: (Unterwegs zur Sprache) حيث نجد ما يلي: »لكي أرد على ادّعاءات خاطئة ترددت مرات عديدة، لابد أن أقول أن الإهداء في Sein und Zeit ظل في مكانه في الطبعة الرابعة التي صدرت سنة 1935. وعندما رأى الناشر أن الإهداء سوف يُعرض الكتاب إلى بعض المضايقات، وربّما إلى المنع، طلب مني حذفه فقبلت شريطة أن يبقى على الملاحظة الواردة في الصفحة 38 والتي جاء فيها: »إذا ما تقدم هذا البحث خطوات إلى الأمام في مجال دراسة الأشياء ذاتها، فإن المؤلف يتقدم بالشكر إلى هوسرل الذي ساعده على تطويع موضوعه خلال سنوات الدراسة في فرايبورغ وذلك بفضل حسن توجيهه وقوة انتباهه إلى الأعمال المتعلقة بالفينومنولوجيا والتي لم تجد الفرصة لكي تنشر«.

شبيغل: إذن لا فائدة من أن نسألك هل أنت حقا منعت الأستاذ الشرفي هوسرل من الدخول إلى مكتبة الجامعة وإلى مكتبة منتدى الفلسفة عندما كنت رئيسا للجامعة؟

هايدغر: إنها نميمة وخساسة.

شبيغل: ولا توجد أيضا رسالة يوجد فيها مثل هذا المنع؟ كيف وُجهت مثل هذه التهمة؟

هايدغر: لست أدري.. ولا أجد تفسيرا لذلك. وأستطيع أن أبين لكم استحالة مثل هذه التهمة بذكر حدث ليس معروفا هو أيضا. عندما كنت رئيسا للجامعة أقالت وزارة التعليم أستاذين يهوديين من منصبهما. الأول هو فون هاوزر الذي حاز بعد ذلك على جائزة نوبل... والذي كان في ذلك الوقت أستاذا للطب ومديرا للمستشفى الجامعي. والثاني فون هيفسي وهو أستاذ للفيزياء والكيمياء. ولكني استطعت أن أعيدهما إلى منصبهما بفضل اتصالات قمت بها شخصيا داخل الوزارة. أن أقوم بمثل هذا العمل، وفي نفس الوقت أتصرّف مع هوسرل الذي كان متقاعدا في تلك الآونة، والذي كان أستاذي ومعلمي بمثل هذا التصرّف، هذا غير معقول تماما ثم أني منعت أيضا مظاهرة كان يريد الطلبة وبعض الأساتذة تنظيمها ضد الأستاذ فون هاوزر. في ذلك الوقت كان هناك ما يسّمى بـ(Privatdosenten) (6) (أي الأساتذة بلا كرسي) الذين تجاوزوا الحد وكانوا يقولون:»أنها لفرصة لكي تتقدّم على الأمام«. وعندما اتصلوا بي طردتهم.

شبيغل: أنت لم تحضر دفن هوسرل.

هايدغر: أريد أن أقول أن التهمة التي تقول بأني أنا الذي سعيت إلى قطع علاقاتي بهوسرل ليس لها أيّ أساس من الصحة. لقد كتبت زوجتي في أيار/مايو 1933 رسالة إلى السيدة هوسرل باسمنا وذكرت فيها اعترافنا لهما الدائم بالجميل. وأرسلت هذه الرسالة مرفوقة بباقة زهور إلى هوسرل. وقد رّدت السيدة هوسرل باختصار شديد. وأعلمتنا أن العلاقة بين العائلتين قد انتهت. إن كنت تقاعست عن التعبير عن إعترافي بالجميل وعن احترامي وتقديري خلال مرض وموت هوسرل، فهذا خطأ إنساني ... وقد اعتذرت عن ذلك أمام السيدة هوسرل في رسالة أرسلتها لها...

شبيغل: مات هوسرل سنة 1938. ومنذ فبراير 1934 قدمت استقالتك من رئاسة الجامعة. كيف توصلت إلى هذا القرار؟

هايدغر: هنا لابد أن أتوسّع قليلا في الكلام عن الجزئيات لتجاوز التنظيم التقني للجامعة، أي لتجديد الكليات من الداخل انطلاقا من أعمالها تجاه الأشياء ذاتها. اقترحت خلال فصل الشتاء 1933-1934 تسمية زملاء يصغرونني سنا في عمادات مختلف الكليات وكانت مقدرتهم كبيرة في ميادين اختصاصهم. وهذا دون النظر إلى علاقتهم بالحزب. وهكذا أصبح أريف فولف عميدا لكلية الحقوق وشادوولدت عميدا لكلية الفلسفة وسورغال عميدا لكلية العلوم وفون مولوندورف الذي أقيل من منصب رئاسة الجامعة عميدا لكلية الطب. ومنذ نهاية 1933 اتضح لي أن عملية التجديد داخل الجامعة مستحيلة بالنسبة لي بسبب مقاومة رجال التعليم والحزب لذلك مثلا... البعض من الزملاء انتقدني لأني أدخلت بعض الطلاب إلى مجلس إدارة الجامعة وهو أمر يحدث الآن بصفة عادية. ويوما ما دعيت إلى الوزارة وطلبت مني أن أعوض العمداء الذي عينتهم بزملاء آخرين. وقد رفضت هذا الاقتراح، وهدّدت بتقديم استقالتي إذا ما أصرت الوزارة على ذلك. وهذا ما تم بالفعل. في شهر فبراير 1934 استقلت، وكان هذا بعد عشرة شهور من بدء مهامي كرئيس للجامعة. وقد صمتت الصحافة الألمانية والأجنبية عن هذا الأمر بينما كانت أعلنت عن تعييني بشيء من الضجة.

شبيغل: هل توفّرت لك الفرصة في هذه الفترة لعرض أفكارك حول إصلاح الجامعة أمام الوزير المفوض من قبل الرايخ؟

هايدغر: متى في هذه الفترة؟

شبيغل: أنت تعلم أننا نتحدث دائما عن الرحلة التي كان من المحتمل أن يقوم بها »روست« (Rust) لفرايبورغ عام 1933.

هايدغر: الأمر يتعلّق بحادثتين مختلفتين: بمناسبة الاحتفال بذكرى شلاغتير (Schlageter)(7) في »شوتاو« بمقاطعة »فورتنبارغ«. كان هناك لقاء رسميّ قصير فيه صافحت الوزير. في ما بعد تحدثت مع الوزير في برلين في نوفمبر/تشرين الثاني 1933. وقد عرضت عليه مفهومي للعمل، وللشكل الذي يمكن أن نمنحه للكليّات. وقد أنصت إلي بانتباه حتى أني آملت أن يلقى العرض الذي قدمته وقعا وصدى عنده. غير أنه لم يحدث شيء. وأنا لا أستطيع أن أفهم لماذا يؤاخذني بعض الناس على هذا الحوار مع وزير التربية في حكومة الرايخ الثالث في تلك الفترة التي كانت فيها كل الحكومات الأجنبية تتسارع للاعتراف بهتلر، مانحة إياه الثقة المتعارف عليها في العلاقات بين الأمم.

شبيغل: هل تغيرت علاقتك بالقوميين الاشتراكيين بعد استقالتك من رئاسة الجامعة؟

هايدغر: بعد استقالتي اقتصرت على القيام بعلمي كأستاذ. وخلال فصل صيف 1934، قدّمت درسا في المنطق. وفي الفصل الثاني 1934-1935، درسا حول هولدرلين (Holderlin) وفي سنة 1936 شرعت في دروسي حول نيتشه. والذين كانت لهم قدرة على الاستماع فهموا أن ما قلته في تلك الدروس كان موجّها للقومية الاشتراكية.

شبيغل: كيف تمت عملية تنصيب الرئيس الجديد؟ هل حضرت الحفل؟

هايدغر: رفضت حضور الحفل الرسمي.

شبيغل: هل كان الرئيس الجديد عضوا في الحزب؟

هايدغر: كان رجل قانون. وجريدة الحزب Der Alemanne أعلنت عن تسميته رئيسا بعنوان كبير: »أول رئيس جامعة قومي اشتراكي«.

شبيغل: كيف تصرف الحزب معك؟

هايدغر: كنت دائما تحت المراقبة.

شبيغل: وكنت على علم بذلك؟

هايدغر: نعم: قضية الدكتور هانكه (Hanke).

شبيغل: كيف لاحظت ذلك؟

هايدغر: لقد جاء لزيارتي بعد أن تقدم لمناظرة الدكتوراه خلال فصل الشتاء 1936-1937 وساهم في المنتدى الأعلى الذي أشرفت عليه خلال صيف 1937. لقد أرسلته المخابرات لمراقبتي.

شبيغل: ولماذا جاء فجأة لزيارتك؟

هايدغر: بسبب الندوة التي خصصتها لنيتشه خلال فصل صيف 1937. وقد اعترف لي بعد اطلاعه على الطريقة التي كان يجري بها العمل، أنه لا يستطيع القيام بمهمّه المراقبة وأنه أراد أن يعلمني بذلك حتى أتمكن من معرفة ما يمكن أن يحدث لي في المستقبل.

شبيغل: كان الحزب يراقب بشدّة إذن؟

هايدغر: كنت أعرف أنه ممنوع الكلام حول كتبي... مثلا حول الدراسة التي قمت بها عن نظرية أفلاطون في المعرفة. وقد هاجمت مجلة الشبيبة الهتلرية بخساسة كبيرة محاضرتي عن هولدرلين التي ألقيتها خلال ربيع 1936 بالمعهد الألماني بروما. والذين يهمّهم الأمر يستطيعون العودة إلى مجلة أريك كرياك (Volk im Werden) لكي يقرأوا الهجوم الذي شن ضدّي ابتداءً من صيف 1934. وقد رفضت الحكومة الألمانية إرسالي لحضور المؤتمر العالمي للفلسفة الذي انعقد ببراغ 1934. كما أني لم أحضر المؤتمر العالمي الخاص بديكارت الذي انعقد بباريس سنة 1937. وقد استغربت لجنة المؤتمر بباريس غيابي فأرسلت لي عن طريق الأستاذ بريهياي أستاذ الفلسفة بجامعة السربون لتستوضحني الأمر، ولتفهم الأسباب التي جعلتني لا أكون ضمن الوفد الألماني. وفي جوابي طلبت من لجنة المؤتمر أن تستوضح الأمر لدى وزارة التعليم في الرايخ. وبعد ذلك جاءتني دعوة من برلين تطلب مني الالتحاق بالوفد فرفضتها. وقد بيعت نصوص المحاضرتين »ما هي الميتافيزيقا؟« و»جوهر الحقيقة« خفية ودونما غلاف. وقد سحب خطابي الذي ألقيته أثناء تنصيبي رئيسا، من المكتبات بعد سنة 1934 بأمر من الحزب.

شبيغل: ثم تدهورت الأوضاع بعد ذلك؟

هايدغر: في السنة الأخيرة من الحرب أعفي خمسمائة من أهمّ العلماء والفنانين من الخدمة العسكرية. ولم أكن أنا من بينهم بل بالعكس دعيت خلال صيف 1944 للقيام بأعمال تحصين على نهر »الراين«.

شبيغل: كان كارل بارت (Kart Barth) يقوم بالتحصين على الضفة الأخرى، الضفة السويسرية.

هايدغر: الطريقة التي تمّت بها الأحداث كانت هامة. دعا رئيس الجامعة كل الجهاز التعليمي وألقى خطابا قصيرا محتواه ما يلي: أن الإجراءات التي اتخذها موافق عليها من طرف الأجهزة العليا،

ومن الحزب القومي الاشتراكي. وهو سيقسّم الجهاز التعليمي، إلى ثلاث مجموعات أولا مجموعة لا يمكن الاستغناء عنها، ثانيا مجموعة يمكن ولا يمكن الاستغناء عنها. ثالثا مجموعة يمكن الاستغناء عنها تماما. وكان في رأس قائمة من يمكن الاستغناء عنهم هايدغر وريتر٭.

وخلال فصل شتاء 1944-٥٤٩١، بعد انتهاء أعمال التحصين على نهر »الراين« قدمت درسا بعنوان:»الشعر والفكر« (Dichten und Denken). وكان تكملة لدرسي حول نيتشه أي أنه توضيح لموقفي من القومية الاشتراكية. وبعد الدرس الثاني جندت قي الميليشيا الشعبيّة (Volkssturm) وكنت أكبر سنا من كل المجندين من الجهاز العلمي.

شبيغل: يمكن أن نلخّص الأمور على النحو التالي: في عام 1933، كإنسان ليس منخرطا في السياسة بالمفهوم الضيّق للسياسة، وليس في مفهومها الواسع، أنت انخرطت في سياسة هذه الحركة التي كانت تبدو كأنها انطلاقة...

هايدغر: عن طريق الجامعة...

شبيغل:... أنت انخرطت إذن عن طريق الجامعة في هذه الحركة التي كنت ترى فيها انطلاقة. بعد حوالي عام، أنت تخلّيت عن الوظيفة التي كنت تؤدّيها. وفي درس ألقيته عام 1935، ولم ينشر إلاّ عام 1953 تحت عنوان: »مدخل إلى الميتافيزيقا«:ما يروّج اليوم- ويعني ذلك عام 1935 باسم الفلسفة »القومية الاشتراكية، غير أنه لا يرتبط بأية علاقة مع الحقيقة الدّاخلية وعظمة هذه الحركة (أي مع اللقاء بين التّقنية في مفهومها الكوني، وإنسان العصور الحديثة)، اختار هذه المياه العكرة التي تسمّى »قيما« و»كليّات« لكي يرمي فيها شباكه. هل أضفت هذه الكلمات بين قوسين فقط عام 1953، أي عند صدور الكتاب- ربما لكي تشرح للقارئ عام 1953 أين كانت تكمن بالنّسبة لك »الحقيقة الداخلية وعظمة هذه الحركة«، أي »القومية- الإشتراكية-، أم هل أن القوسين المقصود بهما الشرح كانا موجودين في نصّك عام 1935؟

هايدغر: كانا موجودين في المخطوط، ويقابلان بالضّبط المفهوم الذي كان عندي في ذلك الوقت للتّقنية، وليس بعد التفسير الذي خصّت به التكنولوجيا في ما بعد كـ(GE- STELL) أنا لم أضع القوسين في الدّرس الذي قدمته فهذا يقوم على الإعتماد الذي كان عندي بأن المستمعين الذين كانوا قادرين على إدراك ما كنت أقصده. ولم يكن يهمّني أن يفهم الأغبياء، الجواسيس، والمخبرون شيئا آخر من كلامي...

شبيغل: الحركة الشيوعية بالنسبة لك كانت بلاشك من هذا الصنف؟

هايدغر: نعم، ومن دون أي شك في ذلك إذ أنها هي أيضا محدّدة بالتّقنية الكونية....

شبيغل: النّمط الأمريكي أيضا؟

هايدغر: ما قلته يمكن أن ينطبق على هذا النّمط أيضا. في غضون الثلاثين سنة الأخيرة يمكن أن يتأكد بوضوح أن الحركة الكونية لتقنية العصور الحديثة قوة تحدّد التاريخ، وأن عظمتها لا يمكن الإفراط في تقديرها. وهذه بالنسبة لي مسألة حاسمة لمعرفة كيف يمكن أن نقابل بشكل عام نظاما سياسيّا مع العصر التقني، وماذا يمكن أن يكون هذا النظام. أنا لا أستطيع أن أكون واثقا من أنه سيكون الديمقراطية....

شبيغل: لكن الديمقراطية ليست مفهوما عامّا فيه يمكن أن نضع تصوّرات مختلفة. السؤال هو أن نعرف إذا ما كان تحوّل هذا الشكل السياسي لا يزال ممكنا. لقد تحدثت بعد عام 1945 عن التّطلعات السياسية للعالم الغربي، كما تحدثت أيضا في هذا النطاق، عن الديمقراطية، وعن التعبير السياسي للنظرة المسيحية للعالم وفي نفس الوقت عن الدولة القائمة على القانون. وقد أطلقت على هذه التطلعات اسم »أنصاف حلول«...

هايدغر: قبل كل شيء، اسمحوا لي أن أقول أين تحدثت عن الديمقراطية وعن تلك الأشياء التي ذكرتموها في ما بعد. يمكنني أن أسمّي ذلك بالفعل »أنصاف حلول« ذلك أنني لا أرى في كل هذا إعادة نظر حقيقية في العالم التّقني إذ أن هناك خلف كل هذا، بحسب رأيي، فكرة تقول بإن التقنية في جوهرها شيء يمتلكه الإنسان. وبرأيي، ليس هذا ممكنا. إن التقنيّة في جوهرها شيء ليس بإمكان الإنسان لوحده التحكّم فيه.

شبيغل: من كلّ التيارات التي أجملنا وصفها، ما هو برأيك التيّار الذي يمكن أن ينسجم مع عصرنا؟

هايدغر: بخصوص هذا الأمر، أنا لا أرى شيئا. غير أنني أرى هنا مسألة حاسمة. يتحتّم علينا قبل كل شيء توضيح ما أنتم تعنونه بـ: منسجم مع عصرنا«، وماذا يعني »العصر« هنا، بل أكثر من ذلك، يتحتّم علينا أن نتساءل إذا ما كان الإنسجام مع العصر هو مقياس »الحقيقة الداخلية« للفعل الإنساني، هذا إذا ما كان الفعل الإنساني الذي يمنح المقياس ليس هو »الفكر والشعر« (DAS DENKEN UND DAS DICHTEN) بغض النظر عن الابتذال الذي سقطت فيه هذه العبارة.

شبيغل: من الواضح، أننا حين ننظر، نلاحظ أن الإنسان، في كلّ عصر، لا يتوصّل إلى حلّ مشاكله

أو إيجاد حلول للقضايا التي يواجهها، بآلته وحدها، حتى ولو كان هذا الإنسان مُطلق جنّ. ليس من الإفراط في التشاؤم أن نقول: ليس باستطاعتنا الخلاص بهذه الآلة التي هي بالتأكيد أكبر بكثير، نعني بذلك التقنية الحديثة؟

هايدغر: تشاؤم، هذا لا.. التشاؤم والتفاؤل هما في مجال التفكير الذي نحاوله في هذه اللحظة، لحظة اتخاذ مواقف جدّ قصيرة. لكن التقنية الحديثة ليست »آلة«، ولا علاقة لها بالآلات...


الحداثة مشروع لم ينجز بعد- بقلم : يرغين هابيرماز *


آفاق

الحداثة مشروع لم ينجز بعد
 بقلم : يرغين هابيرماز *

ظهر مصطلح الحداثة كمحاولة للفصل بين عصرين : القديم و الحديث. وكلمة
modernus اللاتينية إستخدمت للمرة الأولى في القرن الميلادي الخامس ، وللتفرقة بين الحاضر المسيحي والماضي الوثني الروماني ، وفي سياق متبدل عبّر مصطلح الحديث ، مجددا ، عن وعي العصر في موقفه من الأنتيك لكي يظهر نفسه ثمرة للإنتقال من القديم الى الجديد. وهناك من يحصر تاريخ مفهوم الحداثة بحقبة النهضة الإيطالية. إلا أنه تفسير محدود للغاية. ففي زمن شارلمان إعتبر الناس أنفسهم ( حديثين )، وكانت هذه الحال في فرنسا القرن السابع عشر. وعامة يتكرر مصطلح الحداثة في تلك الحقب من تأريخ أوربا حين شرط وعي العصر الجديد بقضية إعادة النظر في الموقف من الأنتيك ، وبشكل خاص حين كان يعّد النموذج الذي يمكن إكتشافه من خلال نوع معيّن من المحاكاة. غير أن أفكار عصر التنوير الفرنسي قلبت موازين الموقف ، وأزالت السحر الكلاسي للأنتيك من خلال الإيمان بالعلم الحديث والتطور اللامحدود للمعرفة والتقدم المطلق في الحقلين الإجتماعي والأخلاقي. هكذا ظهر شكل آخر للوعي ( الحديث ). فالحداثي الرومانسي جابه أفكار الأنتيك التي حملها الكلاسيون المحدثون بأفكار عصر آخر وجده في مثالية القرون الوسطى. إلا أن العصر المثالي الجديد الذي ظهر في مطلع القرن التاسع عشر لم يشغل ، كنموذج ، الموقع الدائم. وطيلة ذلك القرن برز من تلك الروح الرومانسية الوعي الراديكالي بالحداثة التي تحررت من جميع الروابط التاريخية المقيّدة. وهذه ( الحداثة ) الأكثر جدة قامت بمواجهة تجريدية بين التقاليد والحاضر، وخاصة النوع الأستيتيكي منها والذي ظهر لأول مرة في أواسط القرن وما زال يفرض وجوده. ومنذها صارت ( الجدة ) ميزة الإعمال المعتبرة حديثة. وهذه بالتالي تفقد موقعها وتصبح بالية حين تظهر جدة أسلوب تال. غير أن ماهو حديث يحتفظ على الدوام بعلاقة ما خفية مع القديم. وعامة فقدت العلاقة بين ( الحديث ) و( الكلاسي ) بصورة نهائية إحالتها التأريخية الملموسة.
و إكتسبت روح وأسلوبية أستيتيكا الحداثة سمات واضحة في أعمال بودلير وبعدها تطورت الحداثة في شتى الحركات الطلائعية كي تصل ذروتها في ( مقهى فولتير ) الدادائي ثم في السوريالية. وما يميز هذه الأستيتيكا تلك المواقف التي يكون جوهرها الوعي المتبدل بالزمن والذي يعبّرعن ذاته بذلك المفهوم المجازي للطليعة التي تجد نفسها قوة تغنم مساحات جديدة ، ومهيأة لخوض مخاطر كشف المجهول الذي يعني في معظم الأحوال ، المستقبل . كذلك فالوعي بالزمن الجديد والذي جاءت به فلسفة برغسون يعبّر وليس فقط عن تجربة ما يمكن تسميته بالحركية الإجتماعية وتجزئية الحياة اليومية ، إذ أن النوع الجديد من القيم والمرتبط بجريان الزمن والأشياء الوقتية غير الممسوكة ، وعبادة الدينامية ، يكشف عن الحنين الى حاضر نقي غير ملوث وبريء وذي ديمومة.. وهذا يفسر الأسلوب التجريدي للموقف الحديث أزاء موضوع( الماضي ). فالعصور المحدّدة ( بفتح الدال ) تكون محرومة من خصائصها الذاتية، والذاكرة التاريخية أبدلت بالفروض البطولية للزمن الحاضر ومعها مظاهر التأريخ المتطرفة. وهذا شعور بالزمن يحصل حين يتطابق الموقف لحقبة التدهور مع ما هو مضاد للتقاليد. كذلك تتوفر النية الفوضوية ، هنا ، في تبديد إستمرارية التاريخ ، وهي نابعة ،بلاشك ، من القوة الإنقلابية للأستيتيكا الجديدة. فالحداثة تتمرد على الوظائف التطبيعية للتقاليد وتستمد قواها من تجربة التمرد ضد كل ماهو قانون. والأكيد أن هذا التمرد لايهدف تحييد المعايير الأخلاقية أو النفعية. فالوعي الأستيتيكي يسهم دائما في اللعبة الجدلية بين الخصوصي والفضيحة العامة. وما يسحره هو الرهبة التي ترافق عملية التعرّض للمقدس، لكنه يتفادى على الدوام النتائج التافهة لتلك العملية. من ناحية أخرى فالوعي بالزمن والمعبّر عنه في الفن الطلائعي ليس لاتأريخيا ن بل قد نقول بأنه موّجه ضد ما يمكن تسميته بالمعيارية الزائفة للتأريخ. فالموقف الحداثي والطلائعي سعى ، حينها ، الى التصرف بالماضي لكن بأسلوب جديد حيث أخذت بعين الإعتبار تلك المقاطع من التأريخ التي أصبحت في متناول اليد ومفهومة بفضل المعرفة الموضوعية للتأريخية غير أنه في ذات الوقت ظهرت مقاومة أزاء التأريخ المحيَّد والقابع في المتحف. وحين يتناول فالتر بنيامين بحث روح السوريالية جاء وصفه لموقف الحداثة من التأريخ لكن بأسلوب ما بعد تأريخي
post – historic ، وضرب مثلا على ذلك بالثورة الفرنسية التي فهمت نفسها بهذه الصورة : الثورة إستشهدت بروما القديمة تماما كما تستشهد الموضة بزيّ من عصر آخر ، والسبب في أنها تحسّس بما هو راهن حين تتحرك في أدغال ما كان يوما ما ، وهذه هي فكرة بنيامين عن الحاضر كلحظة تجل وزمن يحوي نثار الحاضر الرسولي ، وبهذا المعنى تكون ، لدى روبسبير ، روما القديمة أثر الماضي والذي حصلت فيه لحظات تجل.


وكان ماكس فيبير قد حدد الحداثة الثقافية بأنها عملية تقسيم العقل الجوهري
substantial المعبّر عن الدين والميتافيزيقا الى ثلاث مناطق مستقلة وهي العلم والأخلاق والفن. و هي قد تعرضت لأحوال التنوع بسبب تقوض مفاهيم الدين والميتافيزيقا والتي كانت تجعل العالم متكاملا. ومنذ القرن الثامن عشر نظمت المشاكل الموروثة عن الأنظمة العقائدية القديمة بشكل يتيح لها أن تنتظم في مراتب جوهريات محدودة ، وهي الحقيقة والصواب المعياري والأصلية authenticity والجمال. و قد جرى تناول هذه الأمور فيما بعد كمسائل معرفة وعدل وأخلاق أو ذوق. كما كان بالإمكان أن تخضع البحوث العلمية ونظريات الأخلاق والقانون والخلق الفني ونقده ، للمؤسساتية. وكل حقل للثقافة صارت أمامه فرصة الإرتباط بتخصص مهني. وهذا التعامل المهني مع تقاليد الثقافة يكشف عن الهيكل الداخلي لكل بعد من أبعادها الثلاثة. فهنا تظهر مناطق أسماها فيبير بالعقلانية التعرفية – الأداتية و الأخلاقية – العلمية والأستيتيكية – التعبيرية. و أصبح كل شطر منها تحت سيطرة الخبراء المسلحين بالمنطق ، وأكثر من غيرهم. نتيجة لذلك تتباعد الشقة بين ثقافة الخبراء وثقافة الجمهور الكبير. وما تحمله الى الثقافة طرائق النشاط والتأمل يصبح على الفور ممارسة يومية. وأزاء هذا النوع من العقلنة الثقافية ينشأ خطر إفقار الحياة وتعرّض محتوياتها التقليدية الى عملية خفض القيمة.


وكان نموذج الحداثة الذي أعده فلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر يسعى الى تطوير العلم الموضوعي و الأخلاق والقانون الشمولي والفن ذي الكيان الذاتي ، وكل ذلك وفق المنطق الداخلي لهذا الحقل وذاك. في الوقت نفسه سعى هذا النموذج الى تحرير الطاقة التعرفية من تلك الأشكال المغلقة والمختومة ولكي توظف الطاقات المتراكمة للثقافة ذات الطابع التخصصي من أجل إغناء الحياة اليومية و تنظيمها بالشكل العقلاني. وكان مفكرو ذلك العصر على إقتناع ( ولم يكن محروما من الإستعراضية ) بأن الفن والعلم يعملان على إخضاع قوى الطبيعة ، بل فهم العالم والذات وتحقيق التقدم الأخلاقي و إحترام السيادة القانونية المؤسسة وحتى بلوغ السعادة، إلا أن القرن العشرين بدد تماما هذا التفاؤل. ففيه حصل التخصص البحت ، أما الأخلاق والفن فصارا حقلين منفصلين وللخبراء فقط، كما إبتعدا عن الإيضاح والتفاهم اليومي. رغم ذلك مازالت راهنة مشكلة الإبقاء على نيات التنوير ومهما كانت غير أكيدة وإلا فليس أمامنا إلا الإعتراف بأن كامل مفهوم الحداثة هو باطل .
ونحن نلحظ ببالغ السهولة في ما يخص الثقافة الفنية ، النزعة الآخذة بالإشتداد ، وهي الحرية المطلقة في تعريف الفن وممارسته. ففي النهضة الإيطالية ترسخ معيار الجمال وهيمنة الأشياء الجميلة، أما في القرن الثامن عشر فقد إكتسب الأدب والفنون الجميلة والموسيقى طابع المؤسسة كمنطقة نشاط مستقلة عن حياة الكنيسة والبلاط. وفي منتصف القرن التاسع عشر ظهر المفهوم الأستيتيكي للفن ( الفن للفن ). حينها بدأت في التصوير والأدب حركة وجد أوكتافيو باث جوهرها في النقد الفني لدى بودلير. فاللون والخط والصوت والحركة كفت عن أن تكون أدوات تقديم للشيء ولأن وسائط التعبير وتقنيات الخلق ذاتها أصبحت مادة أستيتيكية. كذلك فالفن في مرحلته الحداثية، ولنتذكر هنا السوريالية ، قد إنفصل عن الحياة ككل. وكان بودلير ، شأن شيللر
Schiller ، قد أراد خلق يوتوبيا وفاق إجتماعي عمادها الفن لكن بدلا عن ذلك ظهرت علاقات مواجهة ، فالفن صار مرآة نقدية تظهر تلك الصفات في الأستيتيكا والعالم الإجتماعي والتي لايمكن التوفيق في ما بينها. وهذا التحويل الحداثي يزداد زخمه كلما إغترب الفن عن الحياة وتوغل في قوقعته الذاتية. وفي الواقع نجد أن كل محاولات وضع علامة المساواة بين الفن والحياة و بين النظرية والممارسة و بين المخيلة والواقع أو محاولات إزالة الفوارق بين العمل الفني والآخر النفعي بين التظاهر الواعي والفورة العفوية أو الإدعاء بأن كل شيء هو فن وكل فرد هو فنان ونبذ جميع المعايير ، والمساواة بين الحكم الأستيتيكي والتعبير الذاتي عن التجارب ، أن كل هذه الأنشطة كانت تجربة بلامعنى ، بل محض عبث. فهذه التجارب عملت ، عن عمد ، لصالح هياكل الفن التي أرادت ، في البدء ، تصفيتها. وكانت الخطوة الراديكالية صوب رفض الفن قد إنتهت، وياللمفارقة ! ، بالإعتراف بتلك المعايير التي إستخدمتها أستيتيكا عصر التنوير. فالسورياليون أطلقوا ، حينها ، النداء الأكثر تطرفا إلا أن تمردهم فشل بسبب خطأين. الأول هو أن السوريالية حين حطمت أسوار منطقة الثقافة التي كانت قد نالت إستقلالها الذاتي ، بددت محتواها أيضا. و بذلك لم يأت التحرير بأيّ ثمار. والثاني جاء بعواقب أوخم ، ففي التفاهم اليومي ينبغي أن تترابط في ما بينها مسائل معيّنة كالأهمية التعرفية والتوقعات الأخلاقية ، والتعبير والتقويم الفرديين. فعمليات التفاهم او الإتصال تحتاج الى التقليد الثقافي الشامل لمناطق التعرف والأخلاق وممارساتها والتعبير أيضا.
وكان أمرا صعبا حماية الحياة اليومية المعقلنة من الإفقار الثقافي مع فتح ثغرة في منطقة واحدة للثقافة ، وهي الفن ، كي يمكن النفاذ من هناك الى مجاميع للمعرفة ذات طابع تخصصي. وهكذا تتوفر البراهين المعقولة لطرح مقولة إن تحسين الوجود اليومي لايتم إلا من خلال خلق شروط العلائق الحرة بين مناطق المعرفة والأخرى الأخلاقية – العملية والأستيتيكية – التعبيرية.
وما زالت في الغرب إشكالية الحداثة راهنة ، غير أن التركيز يتم على مسائل إصلاحها وتحسينها. وكم من دعوة تقول إنه بدلا من رفض الحداثة ومعاملة موديلها كأمر خاسر ، ينبغي إستخلاص الدرس من أخطاء تلك البرامج ذات البهرج والتي حاولت ، بالأساس ، رفض الحداثة، وبين تلك الدعوات التي تتحدث عن الفن كمثال يومي على المخرج. والواقع أن فن مجتمعات المدن يتوقع أن يكون المتلقي مستعدا فكريا وذوقيا و أنه صار خبيرا ، ومن ناحية أخرى يكون على إستعداد لتوظيف تجاربه الأستيتيكية في قضاياه الحياتية. كذلك بات أمرا واضحا في الغرب أن موديل الحداثة لم يستهلك تماما ، وفي صيغ كثيرة يسعى الى إقامة شتى الروابط بين الثقافة الحديثة والممارسات اليومية التي نجد مصادرها في القيم التقليدية ، إلا أنها مصادر ستنضب إذا إقتصرت على تلك القيم. كذلك فعملية نقد الحداثة الثقافية بطبعتها الغربية هي متقدمة للغاية وبسبب فشل برامجها الداعية الى رفض الفن والفلسفة.
ويصعب اليوم القيام بمحاولات تصنيف للمواقف الغربية من الحداثة ، فكل محاولة تعني تبسيطا لايخلو من المجازفة رغم تبلور الكثير من المواقف وإستقطابها.



والأكيد أن روح الحداثة بدأت تشيخ. وآخر مرة إستعرضت فيها حيويتها كانت في الستينات ، لكن بعدها بعقد واحد صارت الأصداء أكثر ضعفامما كانت عليه قبلها ب 15 سنة. وأوكتافيو باث نصير الحداثة لاحظ في منتصف السبعينات أن طليعة عام 1967 تكرر أنشطة ووضعات الأخرى من عام 1917 وأننا ( شهود موات فكرة الفن الحديث ) كذلك ظهر فيها مصطلح جديد ( فن ما بعد الطليعة ) ، وقيل إنه مؤشر لفشل التمرد السوريالي والدخول الى ( مابعد الحداثة ). وفي الواقع أن هناك تشخيصات أكثر صوابا لأزمة الحداثة بجوهرها الغربي. فمصدر أزمات مجتمعات الغرب يكمن في الفصل بين الثقافة والمجتمع. والثقافة الحداثية تسربت الى منطقة قيم الحياة اليومية وأصبحت الحياة مشبعة بالحداثة. وفي الغرب جعلت الحداثة عواملا مهيمنة من مبدأ التحقيق الذاتي غير المقيّد، والحاجة الى التجارب الخاصة وذاتية الحساسية المبالغ في صقلها. وهناك من يجد أن مثل هذا الموقف يحرر البواعث الهيدونية التي تتناقض مع إنضباطية الحياة ذات الطبيعة الشخصية في المجتمع. والأكثر من ذلك فالثقافة الحداثية لاتتفق البتة مع الأساس الأخلاقي لأسلوب الحياة العقلاني والهادف. وبذلك تلقى المسؤولية كلها عن تداعي الأخلاقيات البروتستانتية ، وهي ذات المظاهر التي أقلقت ماكس فيبير
M. Weber ، على ظاهرة ( ضد الثقافة ). و كان فيبير قد وجد أن الثقافة تتوجه بشكلها الحداثي ، وبصورة عدائية ، صوب اعراف و فضائل الحياة اليومية التي خضعت للعقلنة تحت ضغط متطلبات الإقتصاد وضرورات الأدارة. وفي الحقل السوسيولوجي هناك إقتناع بأن الحداثة قد نضب معينها ، وكل من يجد نفسه طليعيا عليه أن يقرأ حكم الموت على نفسه رغم أن الطلائعية توسع دائرة نفوذها إلا أنها كفت عن أن تكون خلاقة. فالحداثة تسود إلا انها ميتة.
والسؤال الذي يطرحه فصيل ( المحافظين الجدد ) أو ( السلفيين الجدد ) في الغرب إنما يخص السبل الكفيلة بخلق قواعد ونظم في المجتمع تحدّ من الحرية السلوكية وتجدد أخلاقيات السلوك والعمل ، كذلك فبأيّ قواعد جديدة يمكن مواجهة التنميط الناتج من أوضاع مجتمع الرفاهية كي تسود من جديد فضائل المنافسة الفردية ؟. وطبيعي إن قسما من هؤلاء يجد الدواء في الإحياء الديني ..
من ناحية أخرى لابد من القول إن الحداثة الثقافية تخلق تناقضاتها الداخلي. وبمعزل عن عواقب التحديث الإجتماعي نلقى في مفهوم تطور الثقافة ذاته أسبابا للتشكيك بنموذج الحداثة. وهذه حجج بيد من يعلن عن عصر ما بعد الحداثة أو من يدعو الى العودة الى شكل مبهم من أشكال ما قبل الحداثة أو الى رفضها المطلق. ولإزالة اأّّ إلتباس لابد من تكرار مقولة إن فكرة الحداثة مرتبطة تماما بتطور الفن الأوربي غير أن ما يسمى بمشروع الحداثة لايحدد إلا إذا تخلينا عن مسألة التركيز على الفن.


* يعتبر يرغين هابيرماز ( 1929 ) كفيلسوف وعالم إجتماع من أبرز ممثلي مدرسة فرانكفورت وممارساتها في حقل ما يسمى بالنظرية النقدية. ويتبين منحى هابيرماز في أن نظريته النقدية قائمة على أفكار ماركس حول تشخيص مصادر الهيمنة والمرجعية والتي تقيّد حرية الإنسان في المجتمع. والنص المترجم مصدره كتاب هابيرماز ( الخطاب الفلسفي للحداثة
The Philosophical Discourse of Modernity ) من عام 1985 . المترجم