قصة قصيرة
حصل في وقت ما
عادل كامل
عندما لمحها تبتعد عن جسده، تركها تتمادى وكأنها كانت قد حصلت على موافقته، أو إنها ليست بحاجة إلى مثل هذه الموافقة، فشاهدها تحفر بضرب من اللامبالاة في التراب خطوطا ً متعرجة وملتوية ومتداخلة النهايات...، حتى وجد فمه يتلعثم بكلمات لم يفهم من معناها ما يؤكد انه منحها تلك الحرية، أو انه لم يعترض عليها على نحو مباشر. وعندما ميز إنها كانت مازالت متصلة بجسده، شاهد الأخرى مترددة في مغادرة حدودها، إلا بعد لحظات، حيث رآها تتحرك مثل حلزون يدب بعيدا ً عن الماء...، وتبتعد عنه أيضا ً. لم يصدم، ولم يستفز إلا عندما مر جار له تذكره بصعوبة وهو يخبره بان الأمر لم يعد يجري بحسب الأعراف والعادات. فهز رأسه بحركة تقليدية في بادئ الأمر، لكن الجار أكد له أن النتائج ستكون ذات نهايات من الصعب التكهن بفداحتها:
ـ أنا لا أظن ذلك...، فانا في الأصل ...
وفكر الذئب العجوز مع نفسه، بأنه كان يتكلم في أمر لا علاقة له بما كان يتحدث عنه الآخر، لأن الآخر قال له:
ـ فهنا أنت تراني فقدت السيطرة ...
فسأل نفسه بصوت مسموع:
ـ ما الذي حدث....؟
وخاطبه:
ـ كأنك تتحدث عن أمر محدد...؟
رد الآخر:
ـ الم تر إنني اجري من غير ذنب!
ـ آ ....، صحيح...، ومن غير ساق!
فقال الآخر بصوت متردد:
ـ بل حتى انفي تخلى عني ...، فانا الآن امشي خلفه!
فسأل الذئب نفسه: وأنا امشي خلف من ...؟
أرسل نظرات قلقة متابعا ً أصابعه وقد ابتعدت كثيرا ً عنه:
ـ آ ....، انظر ...، إنها انفصلت عني.
لم يجب الآخر. فراح يصغي إلى انفه:
ـ منذ سنوات وأنت تعاملني بإهمال وعدم اكتراث حتى انك أصبحت تستنشق الهواء وكأنك تخليت عني...
ـ ماذا تقول...؟
قال انفه:
ـ آن لي أن أخبرك بما عزمت عليه...
قال يخاطب انفه بخوف:
ـ أنت تذكرني بقصة روسية قديمة ...
ـ اسمع، لا مجال للهذار....، فانا سأتبع خطوات نابك الذي تركته يفر من فمك...، بعد ان تخليت عن القواطع ...
ـ آ ...
عندما بحث عن جاره وجده اختفى. فترك رأسه يستقر فوق صخرة وهو يرى ذنبه يبتعد عنه:
ـ وأنت أيضا ً...؟
ـ سأقوم بنزهة صباحية ...، ثم انك لم تعد تستخدمني..
اعتذر الذنب له:
ـ هذا صحيح...ن فلم تعد لديك فائدة.
ـ إذا ً لا تغضب علي ّ.
ـ ولماذا اغضب...؟
لم يعد يرى الأشكال والصور والألوان إلا هالات متداخلة النهايات، تبتعد وتقترب منه، وعندما لمح ساقه اليسار تمشي خلف ساقه اليمين كاد يعترض، لكن أذنه التي لم يستخدمها، همست له:
ـ دعهما! لا تعترض...، وهل كانت لك إرادة على أصابعك ...؟
حرك رأسه قليلا ً، وهو يراقب شيئا ً شبيها ً بالحبال يتلوى فوق الأرض...، يبتعد عنه، حتى صدم وهو يرى كرات تتدحرج من حوله. فقال له لسانه:
ـ تبدو الأوامر صدرت لها ...
ـ أين معدتي؟
لم يجد وسيلة يتلمس بها جسده، باستثناء نظرات سمحت له أن يراقب أعضاء جسده تخرج الواحدة بعد الأخرى. فمر قنفذ بجواره ثم تبعه آخر:
ـ إلى أين...؟
أجاب القنفذ الثاني:
ـ امشي خلف شبحي!
ـ هو شبحك أم أنت شبحه...؟
ـ ما الاختلاف ...، المهم إن احدنا لا ينوي الانفصال عن الآخر! فأنت تعرف إن الحديقة إذا تقسمت ذهب مصيرها إلى الحضيض، مثل هذا الكون إن لم يكن وحدة متماسكة فانه لن يغدو أكثر من كوابيس لا رابط يربطها!
قال لسانه يخاطب القنفذ الأول:
ـ كأنك تنوي الهرب...؟
ـ ما شأنك أنت...، انتبه لمعدتك، وأمعائك، ومخرجك!
نظر الذئب فشاهد حلقة تتمايل مبتعدة عنه:
ـ وأنت...، يا مخرجي، ماذا تفعل...؟
أجاب:
ـ أنا أنفذ أوامر قلبك؟
قال القلب:
ـ أنا غير مسؤول عن ذلك...، صحيح، كنت أغط في نوم عميق، ولكنني لم آذن له بالمغادرة..
صرخ المخرج:
ـ سيدي، أنت تكذب! فأنت نظرت إلي ّ كعضو تالف!
ـ آ ....، ولكن هذا لا يسمح لك باتهامي بالكذب، ولا بهذا التصرف المشين، أم انك لم تعد تستحي، فرحت تفعل ما تشاء...؟
ـ ها، وتعترض علي ّ...؟
ـ كنت لا أود الاعتراض...، ولكن اخبرني من أين أتبرز...؟
ـ آ ....، هذه مشكلتك أنت، وليس مشكلتي..
فدار بخلد الذئب انه لم يغادر حفرته منذ زمن بعيد، ولم يتناول طعاما ً، وما ذاق قطرة ماء، بل اكتفى ـ إبان مرضه ـ بتنفس الهواء، والقيام بجولات سياحية عبر ساعات النوم الطويلة. ذهب مرات قليلة إلى بركة الحديقة الخلفية، ثم زار أجنحة الثيران، والنعاج، ومر بمغارات بنات أوى، والجرذان، من غير مشاكل تذكر.
ـ اسمع...
انتبه إلى الصوت:
ـ لم تبق إلا أنت يا لساني...، أيها السليط...، غير المهذب!
ـ أنا آخر من يتخلى عنك...، فانا أحذرك وأقول لك إن عقلك الأسفل الذي ينوي الهرب....
تساءل الذئب: وماذا افعل وأنا من غير أدوات للعمل....
رد ما تبقى من دماغه الأعلى:
ـ حذار من الطبقة الوسطى...، فهي ترى انك جمدت عملها، بعد أن دفنت الطبقة السفلى، وانك تنوي الالتحاق بماضيك!
ـ ها...، وهل لدي ّ ماض ٍ ...؟
ـ أنا معك ...، مع انك لا تمتلك شيئا ً يذكر، فلا تدع القلب يخلعك، ويغادرك...!
وجد انه تحول إلى كائن لا حافات له. فلم يعد يذكر متى فقد جلده.
فشاهد بقرة نحيلة تتبعها أخرى ويمشي خلفهما ثور اسود، وشاهد مجموعة من الزرافات تحوّم في البعيد، مثل طيور، فدار بباله انه طالما رأى مثل هذه المشاهد، في اليقظة، أو عبر أحلامه، من غير منغصات أو الم.
ـ تعبت!
فقال له لسانه:
ـ حذار أن تفقد عقلك؟
ـ آ ....، أصبح لساني يتحدث مع لساني باستقلالية تامة...!
ـ هذا هو ذنبك، سيدي.
فقال الذئب بصون واهن:
ـ لم يعد لدي ذنب.
ـ أنا لم اقصد ذيلك...، بل ذنبك!
ـ لا ....، منذ أسرونا ووضعونا في هذه الأقفاص لم اعد امتلك ما افعله...، فهل أنا مسؤول عن الخطيئة التي لم ارتكبها...؟
ـ سيدي، أنها هي الوحيدة التي لا غفران لها! فلو كنت أذنبت، لهان الأمر، أما ما تخفيه، فهذه علامة مثيرة للظنون، والشبهات!
ليحس، في شروده، إن الجاذبة قد بلغت درجة الحياد: مثل الزمن وقد تخلى عن الحركة.
ـ ماذا قلت...؟
رد دماغه الأعلى:
ـ أنا أدركت هذا قبل حصوله بقرون طويلة، وقلت: عندما تكتمل الحركة يتحرر الزمن من ذاته. وأنا هو من قال: إنها حتمية تغوينا بمظاهرها الخداعة!
ـ أي أنا أصبحت كأنني لم أولد...؟
ـ بل وكأنك لن تموت أبدا ً!
حاول أن يتحسس نبضات الدماغ وومضاته وصلتها باللسان والقلب ...، فعجز عن التحكم بها بعد أن شاهد بصره يتجمع في مثلث أعلاه يلامس الأرض وقاعدته إلى الأعلى!
ـ بمعنى إن هذا كله يحدث بمعزل عن إرادتي....، انفي غادرني قبل أن اشعر بالظمأ، وذيلي راح يلهو بمعزل عن أسناني، دماغي الأسفل تخلى عن الأوسط، وانسلخ عن جلدي، لا اسمع، ولا قدرة لدي ّ على تحديد الاتجاهات، الزمن هرب من البرد، وأشعة الشمس تبتعد تاركة الفراغات تتقلص.
لمح لسانه يقوم بحركة:
ـ لا ....، أرجوك....، إلا أنت....، أيها العضو المراوغ..!
فقال لسانه له:
ـ ليس لديك أفعال...، فماذا تفعل بأقوالك؟
تجمد، وبدت المشاهد متداخلة، ليس لها نهايات محددة، تتقلص تارة، وتتسع تارة أخرى:
ـ لم اعد أنا هو الذي كنت عليه....، فأجزاء جسدي استقلت، انفصلت، وراحت ترقص لهذا التفكيك!
ـ لا...، أنا لم أتخل عنك بعد...
ـ من أنت...؟
ـ لو كنت اعرف من أنا لتخليت عنك!
ولم يتبق من رأسه إلا الإحساس ذاته بأنه تحول إلى ذرات منفصلة ومتباعدة بعضها عن البعض الآخر:
ـ والآن اخبرني ماذا افعل....؟
لم يجد من يرد عليه:
ـ ولكني لم ارتكب إثما ً، فلماذا أعاقب...؟
ـ وهل كنت تقدر على ارتكاب الإثم ولم ترتكبه...؟
ـ كنت استطيع أن ...
ـ جرب.
فهجم بما تبقى لديه من قوة على الفراغات التي اتسعت فجواتها وتحولت إلى أثير.
ـ اسمع...، أنا ذيلك عدت إليك!
ـ وماذا افعل بك...، أنا ابحث عن عقلي؟
ـ لا تحزن...، فلو كان لديك عقل لكنت حافظت عليه...، أما الآن فانظر ماذا حل بك...؟
ـ كأنك تطلب مني أن أولد مرة ثانية...؟
ـ اجل!
ـ لا ...، لن ارتكب هذه الحماقة مادمت استطيع الامتناع عنها.
ـ سترتكبها! بل وستتضرع لارتكابها.
ـ ماذا تقصد...؟
ـ اقصد انك ستدافع عن كيانك...!
ـ غريب....، لا كيان لدي ّ وتطلب مني أن أدافع عنه...؟
ـ ها أنت تدافع عن ...
ـ وهل أدافع عن انف أمضى الوقت كله يستنشق رائحة الطرائد....، أم عن عين أمضت حياتها ترصد العدو، أم عن أنياب تتشهى لحم الفرائس، أم عن قلب أعمى.....، أم عن أصابع فرضت هيمنتها علي ّ حتى أصبحت عبدا ً من عبيدها...؟
ـ ها أنت تعترف انك تخليت عنها!
ـ هل أنا هو من تخلى عنها، أم هي التي تخلت عني...، فانا لم اعد إلا وهما ً مهمته اختراع الأوهام الأقل نفعا ً....! فأي دور علي ّ أن أؤديه....، وأنا اعرف تماما ً استحالة ذلك...؟
ـ اختر قناعا ً...
ـ أنا اخترت نفسي وفشلت! فماذا افعل بباقي الأقنعة...؟
ـ كي تبحث عن نفسك...
ـ أرجوك ....، أخبرتك بكل ما اعرف...، فهل تنوي أن تعاقبني بما لا اعرف...؟
ـ اجل!
ـ لن أدافع عن نفسي...، مادمت أنت هو من يحاكمني...؟
ـ آ ....، أنت تبحث عن العدالة إذا ً...؟
ـ لم أتفوه بهذا الطلب، ولم يخطر ببالي....، فالعدالة لديك!
ـ تقصد إنني أنا هو من قسمك، ونثرك، وحولك إلى أجزاء متباعدة، متصارعة، وأنا هو من فكك جسدك، ومرغك عقلك بالوحل...؟
ـ أنا لم اتهمك...، ولم اتهم سواك أيضا ً، فماذا تريد مني...، وأنا اغطس في قاع الوحل...؟
ـ أن تنتظر طريدة! فما أن تمسك بها، حتى تستعيد أجزاء جسدك عملها!
ـ ولكني أخبرتك بأنني ـ أنا ـ هو من أصبح طريدة!
ـ لا توهمنا أيها الماكر....، فالذي يرتكبون أبشع الآثام هم وحدهم الذين يرتدون أقنعة الملائكة.!
ـ ومتى استبدلت وجهي بوجه آخر...؟
ـ لم يبق لي معك كلام.
ـ أين ستذهب ...، وتتركني؟
ـ ستلتحق بي، وستتبع خطاي...، فها هو انفك يعود إليك، مثل جلدك، وها هي أصابعك ترجع لتؤدي عملها، ها هو قلبك الأعمى ينبض، ومخرجك عاد إلى موقعه، فافرح أيها الكاتم على أسرار بذرتك الأولى!
ـ ما أعظم هذه الغابة...!
ـ لا تتندر...!
ـ وهل لدي ّ قدرة على التندر...، أيها الكائن الغامض، بعد أن انتزعت مني كل ما تريد...، ولم تترك لي حتى ذريعة للوهم! حقا ً يا لها من حياة أما تمشي فوق وحلها، وأما أن يمشي وحلها عليها!
12/5/2015
حصل في وقت ما
عادل كامل
عندما لمحها تبتعد عن جسده، تركها تتمادى وكأنها كانت قد حصلت على موافقته، أو إنها ليست بحاجة إلى مثل هذه الموافقة، فشاهدها تحفر بضرب من اللامبالاة في التراب خطوطا ً متعرجة وملتوية ومتداخلة النهايات...، حتى وجد فمه يتلعثم بكلمات لم يفهم من معناها ما يؤكد انه منحها تلك الحرية، أو انه لم يعترض عليها على نحو مباشر. وعندما ميز إنها كانت مازالت متصلة بجسده، شاهد الأخرى مترددة في مغادرة حدودها، إلا بعد لحظات، حيث رآها تتحرك مثل حلزون يدب بعيدا ً عن الماء...، وتبتعد عنه أيضا ً. لم يصدم، ولم يستفز إلا عندما مر جار له تذكره بصعوبة وهو يخبره بان الأمر لم يعد يجري بحسب الأعراف والعادات. فهز رأسه بحركة تقليدية في بادئ الأمر، لكن الجار أكد له أن النتائج ستكون ذات نهايات من الصعب التكهن بفداحتها:
ـ أنا لا أظن ذلك...، فانا في الأصل ...
وفكر الذئب العجوز مع نفسه، بأنه كان يتكلم في أمر لا علاقة له بما كان يتحدث عنه الآخر، لأن الآخر قال له:
ـ فهنا أنت تراني فقدت السيطرة ...
فسأل نفسه بصوت مسموع:
ـ ما الذي حدث....؟
وخاطبه:
ـ كأنك تتحدث عن أمر محدد...؟
رد الآخر:
ـ الم تر إنني اجري من غير ذنب!
ـ آ ....، صحيح...، ومن غير ساق!
فقال الآخر بصوت متردد:
ـ بل حتى انفي تخلى عني ...، فانا الآن امشي خلفه!
فسأل الذئب نفسه: وأنا امشي خلف من ...؟
أرسل نظرات قلقة متابعا ً أصابعه وقد ابتعدت كثيرا ً عنه:
ـ آ ....، انظر ...، إنها انفصلت عني.
لم يجب الآخر. فراح يصغي إلى انفه:
ـ منذ سنوات وأنت تعاملني بإهمال وعدم اكتراث حتى انك أصبحت تستنشق الهواء وكأنك تخليت عني...
ـ ماذا تقول...؟
قال انفه:
ـ آن لي أن أخبرك بما عزمت عليه...
قال يخاطب انفه بخوف:
ـ أنت تذكرني بقصة روسية قديمة ...
ـ اسمع، لا مجال للهذار....، فانا سأتبع خطوات نابك الذي تركته يفر من فمك...، بعد ان تخليت عن القواطع ...
ـ آ ...
عندما بحث عن جاره وجده اختفى. فترك رأسه يستقر فوق صخرة وهو يرى ذنبه يبتعد عنه:
ـ وأنت أيضا ً...؟
ـ سأقوم بنزهة صباحية ...، ثم انك لم تعد تستخدمني..
اعتذر الذنب له:
ـ هذا صحيح...ن فلم تعد لديك فائدة.
ـ إذا ً لا تغضب علي ّ.
ـ ولماذا اغضب...؟
لم يعد يرى الأشكال والصور والألوان إلا هالات متداخلة النهايات، تبتعد وتقترب منه، وعندما لمح ساقه اليسار تمشي خلف ساقه اليمين كاد يعترض، لكن أذنه التي لم يستخدمها، همست له:
ـ دعهما! لا تعترض...، وهل كانت لك إرادة على أصابعك ...؟
حرك رأسه قليلا ً، وهو يراقب شيئا ً شبيها ً بالحبال يتلوى فوق الأرض...، يبتعد عنه، حتى صدم وهو يرى كرات تتدحرج من حوله. فقال له لسانه:
ـ تبدو الأوامر صدرت لها ...
ـ أين معدتي؟
لم يجد وسيلة يتلمس بها جسده، باستثناء نظرات سمحت له أن يراقب أعضاء جسده تخرج الواحدة بعد الأخرى. فمر قنفذ بجواره ثم تبعه آخر:
ـ إلى أين...؟
أجاب القنفذ الثاني:
ـ امشي خلف شبحي!
ـ هو شبحك أم أنت شبحه...؟
ـ ما الاختلاف ...، المهم إن احدنا لا ينوي الانفصال عن الآخر! فأنت تعرف إن الحديقة إذا تقسمت ذهب مصيرها إلى الحضيض، مثل هذا الكون إن لم يكن وحدة متماسكة فانه لن يغدو أكثر من كوابيس لا رابط يربطها!
قال لسانه يخاطب القنفذ الأول:
ـ كأنك تنوي الهرب...؟
ـ ما شأنك أنت...، انتبه لمعدتك، وأمعائك، ومخرجك!
نظر الذئب فشاهد حلقة تتمايل مبتعدة عنه:
ـ وأنت...، يا مخرجي، ماذا تفعل...؟
أجاب:
ـ أنا أنفذ أوامر قلبك؟
قال القلب:
ـ أنا غير مسؤول عن ذلك...، صحيح، كنت أغط في نوم عميق، ولكنني لم آذن له بالمغادرة..
صرخ المخرج:
ـ سيدي، أنت تكذب! فأنت نظرت إلي ّ كعضو تالف!
ـ آ ....، ولكن هذا لا يسمح لك باتهامي بالكذب، ولا بهذا التصرف المشين، أم انك لم تعد تستحي، فرحت تفعل ما تشاء...؟
ـ ها، وتعترض علي ّ...؟
ـ كنت لا أود الاعتراض...، ولكن اخبرني من أين أتبرز...؟
ـ آ ....، هذه مشكلتك أنت، وليس مشكلتي..
فدار بخلد الذئب انه لم يغادر حفرته منذ زمن بعيد، ولم يتناول طعاما ً، وما ذاق قطرة ماء، بل اكتفى ـ إبان مرضه ـ بتنفس الهواء، والقيام بجولات سياحية عبر ساعات النوم الطويلة. ذهب مرات قليلة إلى بركة الحديقة الخلفية، ثم زار أجنحة الثيران، والنعاج، ومر بمغارات بنات أوى، والجرذان، من غير مشاكل تذكر.
ـ اسمع...
انتبه إلى الصوت:
ـ لم تبق إلا أنت يا لساني...، أيها السليط...، غير المهذب!
ـ أنا آخر من يتخلى عنك...، فانا أحذرك وأقول لك إن عقلك الأسفل الذي ينوي الهرب....
تساءل الذئب: وماذا افعل وأنا من غير أدوات للعمل....
رد ما تبقى من دماغه الأعلى:
ـ حذار من الطبقة الوسطى...، فهي ترى انك جمدت عملها، بعد أن دفنت الطبقة السفلى، وانك تنوي الالتحاق بماضيك!
ـ ها...، وهل لدي ّ ماض ٍ ...؟
ـ أنا معك ...، مع انك لا تمتلك شيئا ً يذكر، فلا تدع القلب يخلعك، ويغادرك...!
وجد انه تحول إلى كائن لا حافات له. فلم يعد يذكر متى فقد جلده.
فشاهد بقرة نحيلة تتبعها أخرى ويمشي خلفهما ثور اسود، وشاهد مجموعة من الزرافات تحوّم في البعيد، مثل طيور، فدار بباله انه طالما رأى مثل هذه المشاهد، في اليقظة، أو عبر أحلامه، من غير منغصات أو الم.
ـ تعبت!
فقال له لسانه:
ـ حذار أن تفقد عقلك؟
ـ آ ....، أصبح لساني يتحدث مع لساني باستقلالية تامة...!
ـ هذا هو ذنبك، سيدي.
فقال الذئب بصون واهن:
ـ لم يعد لدي ذنب.
ـ أنا لم اقصد ذيلك...، بل ذنبك!
ـ لا ....، منذ أسرونا ووضعونا في هذه الأقفاص لم اعد امتلك ما افعله...، فهل أنا مسؤول عن الخطيئة التي لم ارتكبها...؟
ـ سيدي، أنها هي الوحيدة التي لا غفران لها! فلو كنت أذنبت، لهان الأمر، أما ما تخفيه، فهذه علامة مثيرة للظنون، والشبهات!
ليحس، في شروده، إن الجاذبة قد بلغت درجة الحياد: مثل الزمن وقد تخلى عن الحركة.
ـ ماذا قلت...؟
رد دماغه الأعلى:
ـ أنا أدركت هذا قبل حصوله بقرون طويلة، وقلت: عندما تكتمل الحركة يتحرر الزمن من ذاته. وأنا هو من قال: إنها حتمية تغوينا بمظاهرها الخداعة!
ـ أي أنا أصبحت كأنني لم أولد...؟
ـ بل وكأنك لن تموت أبدا ً!
حاول أن يتحسس نبضات الدماغ وومضاته وصلتها باللسان والقلب ...، فعجز عن التحكم بها بعد أن شاهد بصره يتجمع في مثلث أعلاه يلامس الأرض وقاعدته إلى الأعلى!
ـ بمعنى إن هذا كله يحدث بمعزل عن إرادتي....، انفي غادرني قبل أن اشعر بالظمأ، وذيلي راح يلهو بمعزل عن أسناني، دماغي الأسفل تخلى عن الأوسط، وانسلخ عن جلدي، لا اسمع، ولا قدرة لدي ّ على تحديد الاتجاهات، الزمن هرب من البرد، وأشعة الشمس تبتعد تاركة الفراغات تتقلص.
لمح لسانه يقوم بحركة:
ـ لا ....، أرجوك....، إلا أنت....، أيها العضو المراوغ..!
فقال لسانه له:
ـ ليس لديك أفعال...، فماذا تفعل بأقوالك؟
تجمد، وبدت المشاهد متداخلة، ليس لها نهايات محددة، تتقلص تارة، وتتسع تارة أخرى:
ـ لم اعد أنا هو الذي كنت عليه....، فأجزاء جسدي استقلت، انفصلت، وراحت ترقص لهذا التفكيك!
ـ لا...، أنا لم أتخل عنك بعد...
ـ من أنت...؟
ـ لو كنت اعرف من أنا لتخليت عنك!
ولم يتبق من رأسه إلا الإحساس ذاته بأنه تحول إلى ذرات منفصلة ومتباعدة بعضها عن البعض الآخر:
ـ والآن اخبرني ماذا افعل....؟
لم يجد من يرد عليه:
ـ ولكني لم ارتكب إثما ً، فلماذا أعاقب...؟
ـ وهل كنت تقدر على ارتكاب الإثم ولم ترتكبه...؟
ـ كنت استطيع أن ...
ـ جرب.
فهجم بما تبقى لديه من قوة على الفراغات التي اتسعت فجواتها وتحولت إلى أثير.
ـ اسمع...، أنا ذيلك عدت إليك!
ـ وماذا افعل بك...، أنا ابحث عن عقلي؟
ـ لا تحزن...، فلو كان لديك عقل لكنت حافظت عليه...، أما الآن فانظر ماذا حل بك...؟
ـ كأنك تطلب مني أن أولد مرة ثانية...؟
ـ اجل!
ـ لا ...، لن ارتكب هذه الحماقة مادمت استطيع الامتناع عنها.
ـ سترتكبها! بل وستتضرع لارتكابها.
ـ ماذا تقصد...؟
ـ اقصد انك ستدافع عن كيانك...!
ـ غريب....، لا كيان لدي ّ وتطلب مني أن أدافع عنه...؟
ـ ها أنت تدافع عن ...
ـ وهل أدافع عن انف أمضى الوقت كله يستنشق رائحة الطرائد....، أم عن عين أمضت حياتها ترصد العدو، أم عن أنياب تتشهى لحم الفرائس، أم عن قلب أعمى.....، أم عن أصابع فرضت هيمنتها علي ّ حتى أصبحت عبدا ً من عبيدها...؟
ـ ها أنت تعترف انك تخليت عنها!
ـ هل أنا هو من تخلى عنها، أم هي التي تخلت عني...، فانا لم اعد إلا وهما ً مهمته اختراع الأوهام الأقل نفعا ً....! فأي دور علي ّ أن أؤديه....، وأنا اعرف تماما ً استحالة ذلك...؟
ـ اختر قناعا ً...
ـ أنا اخترت نفسي وفشلت! فماذا افعل بباقي الأقنعة...؟
ـ كي تبحث عن نفسك...
ـ أرجوك ....، أخبرتك بكل ما اعرف...، فهل تنوي أن تعاقبني بما لا اعرف...؟
ـ اجل!
ـ لن أدافع عن نفسي...، مادمت أنت هو من يحاكمني...؟
ـ آ ....، أنت تبحث عن العدالة إذا ً...؟
ـ لم أتفوه بهذا الطلب، ولم يخطر ببالي....، فالعدالة لديك!
ـ تقصد إنني أنا هو من قسمك، ونثرك، وحولك إلى أجزاء متباعدة، متصارعة، وأنا هو من فكك جسدك، ومرغك عقلك بالوحل...؟
ـ أنا لم اتهمك...، ولم اتهم سواك أيضا ً، فماذا تريد مني...، وأنا اغطس في قاع الوحل...؟
ـ أن تنتظر طريدة! فما أن تمسك بها، حتى تستعيد أجزاء جسدك عملها!
ـ ولكني أخبرتك بأنني ـ أنا ـ هو من أصبح طريدة!
ـ لا توهمنا أيها الماكر....، فالذي يرتكبون أبشع الآثام هم وحدهم الذين يرتدون أقنعة الملائكة.!
ـ ومتى استبدلت وجهي بوجه آخر...؟
ـ لم يبق لي معك كلام.
ـ أين ستذهب ...، وتتركني؟
ـ ستلتحق بي، وستتبع خطاي...، فها هو انفك يعود إليك، مثل جلدك، وها هي أصابعك ترجع لتؤدي عملها، ها هو قلبك الأعمى ينبض، ومخرجك عاد إلى موقعه، فافرح أيها الكاتم على أسرار بذرتك الأولى!
ـ ما أعظم هذه الغابة...!
ـ لا تتندر...!
ـ وهل لدي ّ قدرة على التندر...، أيها الكائن الغامض، بعد أن انتزعت مني كل ما تريد...، ولم تترك لي حتى ذريعة للوهم! حقا ً يا لها من حياة أما تمشي فوق وحلها، وأما أن يمشي وحلها عليها!
12/5/2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق