قصة قصيرة
موكب سعادة المدير
عادل كامل
أفاق الفهد مذعورا ً، اثر سماعة أصوات عالية، فسأل جاره:
ـ ما الذي حدث...؟
ـ يقولون إن السيد المدير يقوم بجولة تفقدية...، وربما سيمر بجناحنا.
ـ آ .....
تراجع إلى الخلف، للعودة إلى مغارته، لكن الآخر مكث يناديه:
ـ لا جدوى من الاختباء، والتستر...، والتواري عن الأنظار، ولا جدوى من ترك الأمور تجري وكأنها لا تعنينا، ولا تعنيك أنت تحديدا ً، أيها الجار العزيز...!
هز الفهد رأسه بارتباك:
ـ ولكن بماذا نخبر سعادة المدير...، وهل سيصغي إلينا...، وأنت تسمع الجميع يهتفون، ويهللون، ويزعقون، وينشدون مرحبين بزيارته الميمونة...؟
وأغلق فمه، فقال الآخر:
ـ أنا أتكلم من أجلك، فلو مكثت متواريا ً، بعيدا ً عن الأنظار، والمراقبة، والرصد....، فسيعتقدون بأنك مازالت تنوي الهرب...، أو ...
ـ أنا لم انو الفرار، والكل عرف ذلك...، فلقد حسمت الأمر: فانا سأرجع إلى المكان الذي خرجت منه، فما الجدوى من البحث عن قبر آخر...؟
ـ إذا ً لا تفضح نفسك، ولا تثر غبارا ً ...، فعندما لا تقف معنا وترحب بمقدمه فسيظنون انك تعمل كما تعمل الديدان في الحفر المظلمة! تنخر وتنخر بصمت حتى ما أن تلامس الريح جدرانها حتى تتهاوى!
ـ يا جاري العجوز...، الكل يعلم إنني أصبحت فائضا ً عن الدنيا، مثلما الدنيا أصبحت فائضة علي ّ. فلا أنا اعرف ماذا تريد، ولا هي تريد أن تقول لي شيئا ً.
ـ أيها الجار العزيز، وأنت في نهاية أيامك، تعصف بك العلل، وجسدك مصاب بالوهن، والضعف، وبصرك كليل، وسمعك وحده مازال حادا ً...، أنا لم اطلب منك أن تستقبله...، بالترحيب، والتصفيق، والزغاريد، والأناشيد...، بل أن تقف معنا لتطرد عن نفسك الشبهات!
ـ ولكني أقف في مركزها؟
ـ لا يراك احد وأنت تقف معنا في هذا المركز، بينما ستكون مرئيا ً في غيابك!
ـ يا جاري...، مهما فعلت: فانا مشبوه! فان صرت معهم سيقولون انظر ها هو تنازل عن كبرياءه، وإن لم افعل فإنهم بانتظار أن اركّع، كما يفعلون بالكلاب....!
ـ وأنا، يا جاري، مثلك لم احصل من هذه الدنيا على شيء يذكر....، فدعنا نمضي شيخوختنا بهدوء، وسلام، وهذا كل ما في الأمر.
ارتفعت الأصوات، مرحبة بالمدير، فقال الفهد لنفسه؛ ما شأني...، لكنه قرر أن يتقدم خطوة نحو الأمام، مبتعدا ً عن مغارته، لإثبات وجوده، فقال جاره يخاطبه:
ـ دعنا نتقدم خطوة أخرى ...،لأن سيادته سيمر، وربما سيستمع إلى شكاوانا...
ـ آ ...، هذا ما كنت أخشاه.
مرت بقرة يتبعها ثور، ومر ديك تجري خلفه دجاجاته، فقال الفهد لنفسه: لا احد امشي خلفه، ولا احد يمشي خلفي!
فاخبره جاره القط الأسود:
ـ تقصد لا احد يسمعك، ولم تعد تجد من تتكلم معه...؟
لم يصدم، بل اعترف بان المعضلة باتت غير قابلة للحل:
ـ ليس لأنهم يسعون لمعالجتها، بل، على العكس، إنهم يسعون إلى حلها، وبهذا باتت الحلول مستحيلة!
ـ أية معضلة...؟
ـ حتى أنت، لم تعد تفكر بها، وبوجودها.
وأردف متابعا ً:
ـ فالجميع غير معني بما كان قد شغلنا أيام زمان....، في شبابنا.
ـ آ ...، أيها الفهد الحزين، ما الجدوى من إضاعة الوقت بالبحث عن حلول لمشكلة لا وجود لها، في الأصل....، ألم ْ تخبرني ذات مرة بان المشكلة القابلة للحل شبيهة بالتي لا يمكن حلها، فكلاهما لا يقدمان ولا يؤخران في ديمومة هذا الذي يذهب ابعد من الجميع...؟
ـ كان ذلك منذ زمن بعيد....، أما الآن، فها أنت تخرجني من جحري كي أرى هذه الحشود الكبيرة، ترقص، وتهتف، وتنشد، وتزعق، وتلهو، وتصرخ باستقبال سعادته ....؟
فقال القط الأسود:
ـ الم تكن أيام السرداب شديدة البرودة، وحالكة الظلمات...، وأنت قلت لي: دع الشمس تتمتع برؤية آثامها!
مر قطيع الذئاب يقوده حمار ابيض، وآخر للثيران يقوده جرذ، اقتربا من الفهد:
ـ حسنا ً... فعلت! لا تكترث، اخبر مديرنا بما يشغلك!
فقال للجرذ من غير تفكير:
ـ لم يعد لدي ّ ما يشغلني! لقد كنا نعيش في البرية، والصحارى، فالقوا القبض علينا، وقالوا لنا: لا ظلم بعد اليوم!
ضحك الجرذ وخاطب الثيران والذئاب:
ـ هذا هو صديقي في السرداب، كم كان صلبا ً، وعنيدا ً!
وقال للفهد:
ـ وهذا القطيع الذي تراه أمامك، هو فصيل من حرسي الخاص!
قال القط الأسود للجرذ:
ـ سيدي...، قال الفهد لك بوضوح إن الرفاهية تعني توفر إرادة التغيير...، وقال لك مادامت إرادة التغيير لا تتقاطع مع عدمها، فان الانشغال بالتغيير سيغدو لهوا ً أو عبثا ً أو وزرا ً على كاهل أصحابه...؟
ـ جميل.
وقال الجرذ للذئاب والثيران:
ـ لا تكمن قوته هذا القط الأسود في مخالبه، ولا في لونه المخيف، المشع فزعا ً، ولا في سرعة جريه التي فاقت سرعة الغزلان والنمور ...، بل في رأسه!
ـ آ ...، كم أنا ممتن لك...، سيدي.
ضحك الفهد:
ـ عندما كنا نظن إن لنا رؤوسا ً...؟
فخاطبه الجرذ:
ـ مازالت الحرية تشغلك، أيها المسكين؟
ـ لا، لا، لا....،ولا القيود!
رد القط الأسود:
ـ انه على صواب...، فمادامت مصائرنا معدة لنا، كمصائر الديدان والحشرات والقوارض والخنافس والعناكب....، فان تمرد الأسود والضباع والتماسيح يغدو بلا معنى ...، لكن مادامت اللعبة لا تلعب إلا بوصفها لعبة...، فان من لم يشترك فيها لا يفقد دوره أبدا ً!
هز الجرذ رأسه وقال للذئاب والثيران:
ـ لنتقدم....
وخاطب الفهد:
ـ تستطيع العودة إلى الصحراء التي انزعوها منك!
ضحك الفهد:
ـ وهل تركوا شبرا ً منها لنا، وهل تركوا لنا ثقبا ً للاختباء، والدفن!
غادروا.
فسأل القط الأسود الفهد:
ـ هل فهمت شيئا ً...؟
ـ نعم!
ـ ماذا فهمت...؟
ـ إن الهواء غير الصالح للتنفس، كالماء، والغذاء...، لم يعد معضلة، لأننا جميعا ً، بعد اجتثاثنا من بريتنا، ومن غاباتنا، ومن ودياننا، سنمضي ما تبقى من أعمارنا هنا داخل هذه الأقفاص!
ـ هل نرجع إلى مغاراتنا ونردم فتحاتها...؟
ـ سيان...، لكن هل هكذا يتم الاستقبال...، ألا تتذكر الأزمنة السابقة ...؟
ـ اخبرني، سيدي، ماذا باستطاعة النعاج، والضفادع، وبنات أوى، والأسماك، والخنافس، والبرغوث، والبعوض...، غير أن يتشبثوا بمواقعهم وألا يطردوا، ويهجروا، ويشردوا....، في المنافي، والقفار...؟
ـ حقا ً لا توجد مشكلة، عندما أصبحنا جميعا ً أسرى!
ضحك وقال متندرا ً:
ـ كأنك اكتشفت الزمن؟!
ـ بل أكثر.
ـ لم افهم...؟
ـ نحن أسرى هذا الوهم الذي صار اصلب من اشد المعادن صلابة. أسرى سراب، ونوادر حريات، ومخاوف عقاب، وغياب عقول...، فمادمنا لم نستطع أن نمشي فوق الوحل، فها أنت ترى استحالة وجود قوة تمنع أن يغطينا هذا الوحل!
ـ عدنا إلى أزمنة الظلمات، والكهوف...
همس الفهد:
ـ أخشى أن نفقدها...، ونصبح كالبرغوث والبعوض والخفافيش والصراصير لا عمل لنا غير الهتاف، والاستغاثة، وطلب الغفران...!
قال القط الأسود:
ـ أحيانا ً أسأل نفسي: لولا هذا المدير...، هذا الزعيم....، لكانوا أعادونا إلى السراديب، أو أرسلونا إلى المحرقة؟
ـ لا ....، لم ـ ولن يفعلوا ذلك ...، لأن اللعبة تتطلب وجودنا!
ـ بهذا العدد ....يولدون بالقوة ويرحلون بأقوى منها، فلا ناقة لهم بولادتهم، ولا بعير يتركون من بعد موتهم...؟!
ـ كهذا العدد الكبير من المبتهجين، والمصفقين، والمغفلين ..
ـ آ ...، فهمت، فان لم تكن مغفلا ً بإرادتك، بوعيك، بعقلك، فلن تكون مغفلا ً إلا بالسليقة!
مر بعير يمشي خلفه فيل، وخلفهما بنات أوى، ومن ثم مر سرب من القطا، والحمامات، والنسور، والسلاحف،..
فضحك القط الأسود:
ـ كل من نجا من الطوفان، جاء يقدم الشكر، والطاعة، والولاء...، والنذور.
ارتفعت الأصوات مرحبة تدوي باقتراب موكب سعادة السيد المدير، فسمع الفهد صقرا ً يخاطب بومه:
ـ جيد...، فقد يفكر بزيارة مغارتنا؟
قال القط للفهد:
ـ الكل رآك....، والكل قال: ها هو معنا!
ـ وماذا لو كنت مكثت في مغارتي....، ما الذي يحدث؟
ـ سيقولون: غاب الفهد!
ـ وما الفارق...، إن شاركتهم أو لم أشاركهم، إن خرجت أو لم اخرج...، إن كنت معهم أو كنت ضدهم....، فالنتيجة واحدة!
ـ أغلق فمك...، أرجوك، إنها ليست واحدة، فقد يراك المدير وقد يستدعيك ويستمع إليك!
ضحك الفهد:
ـ سيدي، ليس للسيد المدير صلاحيات تذكر...، فلو فكر بالإصلاح، لفعل...، وشرع في التنفيذ....، كي يعاقب!
ـ لا تذهب بعيدا ً في ... الظن..!
ـ ليس ظنا ً، وإلا لماذا لم يفعل..؟
ـ دعنا ننتظر.
ومر حصان يمشي خلف زرافة:
ـ ها لو ...
رد الفهد:
ـ مرحبا ً.
وشاهد الأسد يمشي خلف لبؤته، فقالت اللبؤة تحدث الأسد:
ـ ها هو السيد الفهد...، على قيد الحياة، لم تجر تصفيته، كما لم يهرب.
فقال الفهد لهما:
ـ لقد تم إطلاق سراحي، منذ زمن بعيد...، وأنا الآن أعيش بكامل حريتي في هذه المغارة.
هز الأسد رأسه:
ـ أنت تعيش في المغارة....، وأنا أعيش في القفص!
ـ لا تكترث....، فالبرية أصبحت من الماضي، عتيقة، مضى زمنها، عجوز وقد هرمت مفاتنها!
وأردف بنشوة لم يخفها:
ـ ثم ماذا جنينا منها غير الذي تعرفه....، احدنا يفترس الآخر...، واحدنا يهرب من الآخر...، واحدنا يتربص بالأخر ...، فأما أن تفترس الأقل قوة، وأما أن يفترسك الأشد منك مكرا ً!
ضحكت اللبؤة:
ـ أنت على حق...، فالسلام الذي نتمتع به، هنا، لا يختلف كثيرا ً عن فوضى الماضي ورعبه، فكلاهما ينتهيان نهاية واحدة. وهذا هو رأي حكماء الأسود!
قال القط الأسود للبؤة:
ـ حتى أنت...؟
ـ ما شأنك أنت...، فانا لم أروض بعد!
وارتفعت الأصوات آتية من وراء الأشجار، ومن الممرات، ومن ضفاف الأنهار، والجداول الخلفية، ومن الكهوف، والمستنقعات، ومن وراء المرتفعات، والأسوار، والحيطان العالية...، مدوّية. فقال الحصان للأسد:
ـ هذه هي الشفافية، سيدي، لا تختلف كثيرا عن عمل الأنظمة التي تشتغل كما تشتغل الساعة!
أجاب الفهد جاره:
ـ الم اقل لك: دعني أفطس في حفرتي...؟
ـ أسكت....، فالذبذبات قد تفضحنا. فأنت تعرف كيف أصبحوا يفككون مشفرات صمتنا، وكل ما ننوي أن نتفوه به، أو نعمله!
ـ يا جاري...، كل ما في الأمر لن انتظر مزيدا ً من الوقت... فدعني أعود إلى المكان الوحيد الذي أجد نفسي فيه محميا ً، وكأنني عدت نطفة!
فسألت اللبؤة الفهد:
ـ متى يظهر، يبزغ، يطل علينا.....، سيادته؟
رد الأسد عليها:
ـ ما شأنك، يا لبؤتي الغالية، إن ظهر أو لم يظهر، إن بزغ أو غاب، إن أتي أو ذهب...، المهم إننا نؤدي ما علينا بهذا الاستعداد لاستقبال فخامته...، مع هذه الملايين، الملايين، الملايين ...!
فسأل القط الأسود الأسد:
ـ ما هي أخبار السيرك، سيدي...؟
ـ أي سيرك...؟
ـ سيركنا....، الذي تترأسه؟
ـ آ .....، إنهم يعيدون النظر فيه...، فالقرود لديها مشكلات...، والفيلة تعاني من هوس البدانة، والضفادع لا تريد الاندماج بالبعوض، والنمور تعاني من الخمول، والبرغوث ينوي الاستقلال عن حديقتنا، والنسور عجّزت، والديناصورات مربكة أن تظهر من غير رهبتها القديمة...، فأي سيرك تتحدث عنه...، ثم انه غدا يتقاطع مع أعراف أسلافنا، واجددنا العظام.
ـ صحيح، آسف، سيدي، أخذتني الغفلة.
وأضاف القط يسأل الأسد بصوت خفيض:
ـ آ ...، ما هي مشكلة القرود...؟
ـ يقول زعيمها إن زمن الرفاهية قد يفضي إلى الخراب...، بل وأكد ذلك بدلالة إن الرفاهية ليست غاية، ذلك لأنه لا توجد غايات من غير وسائل، ومادامت الوسائل باطلة فكيف يتسنى عزل الشوائب عن نهاياتها...؛ فهو يرى مادام الأصل قد انبثق عن جرثومة العفن الأولى فان عصر الرفاهية هذا لا يقدر أن يتلافى خاتمته الكامنة في المقدمات!
ـ آ ...، أنا أيضا ً قلت لنفسي: كم أنت بدين! فهناك إفراط في الوزن، وثقل في التفكير، ووهن في الذاكرة، وتراخي في ....
صاحت اللبؤة:
ـ اجل، اجل، اجل... فالوقت كله يمضيه في النوم، ويتخيل انه يستمتع بماضيه.
ـ آ ...
تابع الأسد بنشوة:
ـ ومتى احلم إذا لم تدعوني ارقد...، واستعيد زمني الغابر الجميل...؟
عادت موجة من التصفيق تدوي عاليا ً، تبعتها موجة زغاريد، وثمة أناشيد أعقبتها حزمة أناشيد...، فهمس الفهد في أذن الأسد بحذر:
ـ اسمع...، هذا هو رغاء الإبل، يتبعه ثغاء النعاج، ممتزجا ًبنهيق الحمير، وصهيل الخيول، مع نغمات لشحيح البغال، وخوار الثيران، وبغام الظباء ..
فهمس الأسد:
ـ وها هو عواء الذئاب، ونباح الكلاب، وزقاء الديكة، وضغاء السنانير، وهدير الفحول، وصفير النسور، وصوصأة الجراء، وقوقأة الدجاج، ونعيب الغربان والبوم، مخلوطا ً بنزيب ذكور الظباء، وكشكشة الأفاعي وهي تحك جلدها بالأرض، مع فحيحها وهو يخرج من أفواهها كأنها في احتفال أو في عيد!
فقالت اللبؤة للأسد:
ـ أغلق فمك...، فقد نطرد من القفص!
ذلك لأنه تذكر سنوات السرداب التي أمضاها مع الفهد، فهمس في أذنه شارد الذهن:
ـ انظر....، ماذا فعلت الأقفاص بنا؟ كنا نظن إن البرية هي حريتنا، وقد سلبت منا، وها نحن نراها جحيما ً، وكنا نستبسل في تحطيم قضبان أقفاصنا وها نحن نعمل من اجل ديمومتها!
ضحك الفهد:
ـ بل قل العكس: ماذا فعلنا بها؟ فبدل أن تبقى المعادن طليقة في الأرض قيدناها، وجعلناها طوع إرادتنا!
ـ غريب...، كأنك لم تعد تؤمن بشيء.....؟
ـ ولم اعد أؤمن باللاشيء...؟
ابتعد الفهد خطوات عن الطريق العام، نحو مغارته، مع القط الأسود، اثر مرور جحافل من القوات الضاربة، ومن النمل الآلي، مع اسراب من الغربان والحيتان الطائرة:
ـ ماذا يفعلون...؟
ـ يمهدون الطريق ....، ويتأكدون من سلامته.
فكر الفهد: للآسف... لم اعد أرى ما يحدث أمامي. معترضا ً: على م َ الأسف....، بدل الشعور بالمسرة. لكن أصابعه قالت له:
ـ لا تغامر...، ولا تدع فمك يعمل كما تعمل بعض البراكين!
ـ ليس لدي ّ ما اخسره، أجدادي قالوا: الذي لا يمتلك شيئا ً لا يخاف من اللصوص، ولا من القتلة!
ـ مع ذلك...، فالماء هو الماء، والهواء هو الهواء.
مر دب يغني بصوت ناعم:
ـ من الجبل إلى الوادي، ومن الوادي إلى التلال، ومن القفص إلى المحرقة!
فضحك الفهد:
ـ ومن الرماد إلى الحديقة!
ـ آ.....، أيها الرفيق، فرصة سعيدة أن أراك...!
ـ أنا أكثر سعادة! هل مازلت على قيد الحياة...؟
ـ لا! وأنت...؟ فالأمور حسمت، يا سيدي، فالذي سيأتي مضى منذ زمن بعيد!
ـ ماذا تقول...؟
ـ لقد اعتقونا....، وسمحوا لنا أن نحلم، حتى إننا، سنرى السيد المدير نفسه!
ـ في الحلم ...؟
ـ طبعا ً، طبعا ً ....، وإلا ماذا كنا فعلنا...؟
ـ صحيح .... غير انتظار مرور موكب سعادته إلى الأبد...، هل أتى، هل مر....؟
ـ لقد مر....! الم تره...؟
ـ مر ....، متى...؟
ـ كنت اعتقد انك رأيته..
ـ لا...
فسأل الفهد جاره القط الأسود:
ـ هل مر موكب سيادته...؟
ـ منذ دهر!
وسأل اللبؤة، بصوت مذعور:
ـ هل مر حقا ً...؟
ـ أنا لا استطيع التكلم إن لم يأذن لي سيدي الأسد....
أجابها الأسد:
ـ آ ...، ماذا فعلت بك الشفافية؟
فصرخ الفهد في وجه الأسد:
ـ لا تشتم بذرتك، ومأواك، ومدفنك! ولكن اجبني: هل مر موكب سعادة المدير حقا ً...؟
لم يجب. وساد الصمت برهة امتدت ...، فهمس الفهد يخاطب أصابعه:
ـ دوّني...!
ردت:
ـ قبل قليل طلبت مني أن أبعثر الأصوات...، والآن تطلب مني أن اجمعها...؟
ـ سيان....، يا أصابعي، فانا اجهل من يعاقب من...؟
أجاب القط الأسود وهو ينسحب إلى مغارته:
ـ آن لك يا جاري أن تمحو ما حدث لنا في هذا النهار...
لم يقدر الفهد أن يمنع نفسه من الضحك حد التمرغ بالتراب:
ـ وسيأتي الليل، لكن من ذا باستطاعته أن يطرد كوابيس النهار؟!
19/5/2015
موكب سعادة المدير
عادل كامل
أفاق الفهد مذعورا ً، اثر سماعة أصوات عالية، فسأل جاره:
ـ ما الذي حدث...؟
ـ يقولون إن السيد المدير يقوم بجولة تفقدية...، وربما سيمر بجناحنا.
ـ آ .....
تراجع إلى الخلف، للعودة إلى مغارته، لكن الآخر مكث يناديه:
ـ لا جدوى من الاختباء، والتستر...، والتواري عن الأنظار، ولا جدوى من ترك الأمور تجري وكأنها لا تعنينا، ولا تعنيك أنت تحديدا ً، أيها الجار العزيز...!
هز الفهد رأسه بارتباك:
ـ ولكن بماذا نخبر سعادة المدير...، وهل سيصغي إلينا...، وأنت تسمع الجميع يهتفون، ويهللون، ويزعقون، وينشدون مرحبين بزيارته الميمونة...؟
وأغلق فمه، فقال الآخر:
ـ أنا أتكلم من أجلك، فلو مكثت متواريا ً، بعيدا ً عن الأنظار، والمراقبة، والرصد....، فسيعتقدون بأنك مازالت تنوي الهرب...، أو ...
ـ أنا لم انو الفرار، والكل عرف ذلك...، فلقد حسمت الأمر: فانا سأرجع إلى المكان الذي خرجت منه، فما الجدوى من البحث عن قبر آخر...؟
ـ إذا ً لا تفضح نفسك، ولا تثر غبارا ً ...، فعندما لا تقف معنا وترحب بمقدمه فسيظنون انك تعمل كما تعمل الديدان في الحفر المظلمة! تنخر وتنخر بصمت حتى ما أن تلامس الريح جدرانها حتى تتهاوى!
ـ يا جاري العجوز...، الكل يعلم إنني أصبحت فائضا ً عن الدنيا، مثلما الدنيا أصبحت فائضة علي ّ. فلا أنا اعرف ماذا تريد، ولا هي تريد أن تقول لي شيئا ً.
ـ أيها الجار العزيز، وأنت في نهاية أيامك، تعصف بك العلل، وجسدك مصاب بالوهن، والضعف، وبصرك كليل، وسمعك وحده مازال حادا ً...، أنا لم اطلب منك أن تستقبله...، بالترحيب، والتصفيق، والزغاريد، والأناشيد...، بل أن تقف معنا لتطرد عن نفسك الشبهات!
ـ ولكني أقف في مركزها؟
ـ لا يراك احد وأنت تقف معنا في هذا المركز، بينما ستكون مرئيا ً في غيابك!
ـ يا جاري...، مهما فعلت: فانا مشبوه! فان صرت معهم سيقولون انظر ها هو تنازل عن كبرياءه، وإن لم افعل فإنهم بانتظار أن اركّع، كما يفعلون بالكلاب....!
ـ وأنا، يا جاري، مثلك لم احصل من هذه الدنيا على شيء يذكر....، فدعنا نمضي شيخوختنا بهدوء، وسلام، وهذا كل ما في الأمر.
ارتفعت الأصوات، مرحبة بالمدير، فقال الفهد لنفسه؛ ما شأني...، لكنه قرر أن يتقدم خطوة نحو الأمام، مبتعدا ً عن مغارته، لإثبات وجوده، فقال جاره يخاطبه:
ـ دعنا نتقدم خطوة أخرى ...،لأن سيادته سيمر، وربما سيستمع إلى شكاوانا...
ـ آ ...، هذا ما كنت أخشاه.
مرت بقرة يتبعها ثور، ومر ديك تجري خلفه دجاجاته، فقال الفهد لنفسه: لا احد امشي خلفه، ولا احد يمشي خلفي!
فاخبره جاره القط الأسود:
ـ تقصد لا احد يسمعك، ولم تعد تجد من تتكلم معه...؟
لم يصدم، بل اعترف بان المعضلة باتت غير قابلة للحل:
ـ ليس لأنهم يسعون لمعالجتها، بل، على العكس، إنهم يسعون إلى حلها، وبهذا باتت الحلول مستحيلة!
ـ أية معضلة...؟
ـ حتى أنت، لم تعد تفكر بها، وبوجودها.
وأردف متابعا ً:
ـ فالجميع غير معني بما كان قد شغلنا أيام زمان....، في شبابنا.
ـ آ ...، أيها الفهد الحزين، ما الجدوى من إضاعة الوقت بالبحث عن حلول لمشكلة لا وجود لها، في الأصل....، ألم ْ تخبرني ذات مرة بان المشكلة القابلة للحل شبيهة بالتي لا يمكن حلها، فكلاهما لا يقدمان ولا يؤخران في ديمومة هذا الذي يذهب ابعد من الجميع...؟
ـ كان ذلك منذ زمن بعيد....، أما الآن، فها أنت تخرجني من جحري كي أرى هذه الحشود الكبيرة، ترقص، وتهتف، وتنشد، وتزعق، وتلهو، وتصرخ باستقبال سعادته ....؟
فقال القط الأسود:
ـ الم تكن أيام السرداب شديدة البرودة، وحالكة الظلمات...، وأنت قلت لي: دع الشمس تتمتع برؤية آثامها!
مر قطيع الذئاب يقوده حمار ابيض، وآخر للثيران يقوده جرذ، اقتربا من الفهد:
ـ حسنا ً... فعلت! لا تكترث، اخبر مديرنا بما يشغلك!
فقال للجرذ من غير تفكير:
ـ لم يعد لدي ّ ما يشغلني! لقد كنا نعيش في البرية، والصحارى، فالقوا القبض علينا، وقالوا لنا: لا ظلم بعد اليوم!
ضحك الجرذ وخاطب الثيران والذئاب:
ـ هذا هو صديقي في السرداب، كم كان صلبا ً، وعنيدا ً!
وقال للفهد:
ـ وهذا القطيع الذي تراه أمامك، هو فصيل من حرسي الخاص!
قال القط الأسود للجرذ:
ـ سيدي...، قال الفهد لك بوضوح إن الرفاهية تعني توفر إرادة التغيير...، وقال لك مادامت إرادة التغيير لا تتقاطع مع عدمها، فان الانشغال بالتغيير سيغدو لهوا ً أو عبثا ً أو وزرا ً على كاهل أصحابه...؟
ـ جميل.
وقال الجرذ للذئاب والثيران:
ـ لا تكمن قوته هذا القط الأسود في مخالبه، ولا في لونه المخيف، المشع فزعا ً، ولا في سرعة جريه التي فاقت سرعة الغزلان والنمور ...، بل في رأسه!
ـ آ ...، كم أنا ممتن لك...، سيدي.
ضحك الفهد:
ـ عندما كنا نظن إن لنا رؤوسا ً...؟
فخاطبه الجرذ:
ـ مازالت الحرية تشغلك، أيها المسكين؟
ـ لا، لا، لا....،ولا القيود!
رد القط الأسود:
ـ انه على صواب...، فمادامت مصائرنا معدة لنا، كمصائر الديدان والحشرات والقوارض والخنافس والعناكب....، فان تمرد الأسود والضباع والتماسيح يغدو بلا معنى ...، لكن مادامت اللعبة لا تلعب إلا بوصفها لعبة...، فان من لم يشترك فيها لا يفقد دوره أبدا ً!
هز الجرذ رأسه وقال للذئاب والثيران:
ـ لنتقدم....
وخاطب الفهد:
ـ تستطيع العودة إلى الصحراء التي انزعوها منك!
ضحك الفهد:
ـ وهل تركوا شبرا ً منها لنا، وهل تركوا لنا ثقبا ً للاختباء، والدفن!
غادروا.
فسأل القط الأسود الفهد:
ـ هل فهمت شيئا ً...؟
ـ نعم!
ـ ماذا فهمت...؟
ـ إن الهواء غير الصالح للتنفس، كالماء، والغذاء...، لم يعد معضلة، لأننا جميعا ً، بعد اجتثاثنا من بريتنا، ومن غاباتنا، ومن ودياننا، سنمضي ما تبقى من أعمارنا هنا داخل هذه الأقفاص!
ـ هل نرجع إلى مغاراتنا ونردم فتحاتها...؟
ـ سيان...، لكن هل هكذا يتم الاستقبال...، ألا تتذكر الأزمنة السابقة ...؟
ـ اخبرني، سيدي، ماذا باستطاعة النعاج، والضفادع، وبنات أوى، والأسماك، والخنافس، والبرغوث، والبعوض...، غير أن يتشبثوا بمواقعهم وألا يطردوا، ويهجروا، ويشردوا....، في المنافي، والقفار...؟
ـ حقا ً لا توجد مشكلة، عندما أصبحنا جميعا ً أسرى!
ضحك وقال متندرا ً:
ـ كأنك اكتشفت الزمن؟!
ـ بل أكثر.
ـ لم افهم...؟
ـ نحن أسرى هذا الوهم الذي صار اصلب من اشد المعادن صلابة. أسرى سراب، ونوادر حريات، ومخاوف عقاب، وغياب عقول...، فمادمنا لم نستطع أن نمشي فوق الوحل، فها أنت ترى استحالة وجود قوة تمنع أن يغطينا هذا الوحل!
ـ عدنا إلى أزمنة الظلمات، والكهوف...
همس الفهد:
ـ أخشى أن نفقدها...، ونصبح كالبرغوث والبعوض والخفافيش والصراصير لا عمل لنا غير الهتاف، والاستغاثة، وطلب الغفران...!
قال القط الأسود:
ـ أحيانا ً أسأل نفسي: لولا هذا المدير...، هذا الزعيم....، لكانوا أعادونا إلى السراديب، أو أرسلونا إلى المحرقة؟
ـ لا ....، لم ـ ولن يفعلوا ذلك ...، لأن اللعبة تتطلب وجودنا!
ـ بهذا العدد ....يولدون بالقوة ويرحلون بأقوى منها، فلا ناقة لهم بولادتهم، ولا بعير يتركون من بعد موتهم...؟!
ـ كهذا العدد الكبير من المبتهجين، والمصفقين، والمغفلين ..
ـ آ ...، فهمت، فان لم تكن مغفلا ً بإرادتك، بوعيك، بعقلك، فلن تكون مغفلا ً إلا بالسليقة!
مر بعير يمشي خلفه فيل، وخلفهما بنات أوى، ومن ثم مر سرب من القطا، والحمامات، والنسور، والسلاحف،..
فضحك القط الأسود:
ـ كل من نجا من الطوفان، جاء يقدم الشكر، والطاعة، والولاء...، والنذور.
ارتفعت الأصوات مرحبة تدوي باقتراب موكب سعادة السيد المدير، فسمع الفهد صقرا ً يخاطب بومه:
ـ جيد...، فقد يفكر بزيارة مغارتنا؟
قال القط للفهد:
ـ الكل رآك....، والكل قال: ها هو معنا!
ـ وماذا لو كنت مكثت في مغارتي....، ما الذي يحدث؟
ـ سيقولون: غاب الفهد!
ـ وما الفارق...، إن شاركتهم أو لم أشاركهم، إن خرجت أو لم اخرج...، إن كنت معهم أو كنت ضدهم....، فالنتيجة واحدة!
ـ أغلق فمك...، أرجوك، إنها ليست واحدة، فقد يراك المدير وقد يستدعيك ويستمع إليك!
ضحك الفهد:
ـ سيدي، ليس للسيد المدير صلاحيات تذكر...، فلو فكر بالإصلاح، لفعل...، وشرع في التنفيذ....، كي يعاقب!
ـ لا تذهب بعيدا ً في ... الظن..!
ـ ليس ظنا ً، وإلا لماذا لم يفعل..؟
ـ دعنا ننتظر.
ومر حصان يمشي خلف زرافة:
ـ ها لو ...
رد الفهد:
ـ مرحبا ً.
وشاهد الأسد يمشي خلف لبؤته، فقالت اللبؤة تحدث الأسد:
ـ ها هو السيد الفهد...، على قيد الحياة، لم تجر تصفيته، كما لم يهرب.
فقال الفهد لهما:
ـ لقد تم إطلاق سراحي، منذ زمن بعيد...، وأنا الآن أعيش بكامل حريتي في هذه المغارة.
هز الأسد رأسه:
ـ أنت تعيش في المغارة....، وأنا أعيش في القفص!
ـ لا تكترث....، فالبرية أصبحت من الماضي، عتيقة، مضى زمنها، عجوز وقد هرمت مفاتنها!
وأردف بنشوة لم يخفها:
ـ ثم ماذا جنينا منها غير الذي تعرفه....، احدنا يفترس الآخر...، واحدنا يهرب من الآخر...، واحدنا يتربص بالأخر ...، فأما أن تفترس الأقل قوة، وأما أن يفترسك الأشد منك مكرا ً!
ضحكت اللبؤة:
ـ أنت على حق...، فالسلام الذي نتمتع به، هنا، لا يختلف كثيرا ً عن فوضى الماضي ورعبه، فكلاهما ينتهيان نهاية واحدة. وهذا هو رأي حكماء الأسود!
قال القط الأسود للبؤة:
ـ حتى أنت...؟
ـ ما شأنك أنت...، فانا لم أروض بعد!
وارتفعت الأصوات آتية من وراء الأشجار، ومن الممرات، ومن ضفاف الأنهار، والجداول الخلفية، ومن الكهوف، والمستنقعات، ومن وراء المرتفعات، والأسوار، والحيطان العالية...، مدوّية. فقال الحصان للأسد:
ـ هذه هي الشفافية، سيدي، لا تختلف كثيرا عن عمل الأنظمة التي تشتغل كما تشتغل الساعة!
أجاب الفهد جاره:
ـ الم اقل لك: دعني أفطس في حفرتي...؟
ـ أسكت....، فالذبذبات قد تفضحنا. فأنت تعرف كيف أصبحوا يفككون مشفرات صمتنا، وكل ما ننوي أن نتفوه به، أو نعمله!
ـ يا جاري...، كل ما في الأمر لن انتظر مزيدا ً من الوقت... فدعني أعود إلى المكان الوحيد الذي أجد نفسي فيه محميا ً، وكأنني عدت نطفة!
فسألت اللبؤة الفهد:
ـ متى يظهر، يبزغ، يطل علينا.....، سيادته؟
رد الأسد عليها:
ـ ما شأنك، يا لبؤتي الغالية، إن ظهر أو لم يظهر، إن بزغ أو غاب، إن أتي أو ذهب...، المهم إننا نؤدي ما علينا بهذا الاستعداد لاستقبال فخامته...، مع هذه الملايين، الملايين، الملايين ...!
فسأل القط الأسود الأسد:
ـ ما هي أخبار السيرك، سيدي...؟
ـ أي سيرك...؟
ـ سيركنا....، الذي تترأسه؟
ـ آ .....، إنهم يعيدون النظر فيه...، فالقرود لديها مشكلات...، والفيلة تعاني من هوس البدانة، والضفادع لا تريد الاندماج بالبعوض، والنمور تعاني من الخمول، والبرغوث ينوي الاستقلال عن حديقتنا، والنسور عجّزت، والديناصورات مربكة أن تظهر من غير رهبتها القديمة...، فأي سيرك تتحدث عنه...، ثم انه غدا يتقاطع مع أعراف أسلافنا، واجددنا العظام.
ـ صحيح، آسف، سيدي، أخذتني الغفلة.
وأضاف القط يسأل الأسد بصوت خفيض:
ـ آ ...، ما هي مشكلة القرود...؟
ـ يقول زعيمها إن زمن الرفاهية قد يفضي إلى الخراب...، بل وأكد ذلك بدلالة إن الرفاهية ليست غاية، ذلك لأنه لا توجد غايات من غير وسائل، ومادامت الوسائل باطلة فكيف يتسنى عزل الشوائب عن نهاياتها...؛ فهو يرى مادام الأصل قد انبثق عن جرثومة العفن الأولى فان عصر الرفاهية هذا لا يقدر أن يتلافى خاتمته الكامنة في المقدمات!
ـ آ ...، أنا أيضا ً قلت لنفسي: كم أنت بدين! فهناك إفراط في الوزن، وثقل في التفكير، ووهن في الذاكرة، وتراخي في ....
صاحت اللبؤة:
ـ اجل، اجل، اجل... فالوقت كله يمضيه في النوم، ويتخيل انه يستمتع بماضيه.
ـ آ ...
تابع الأسد بنشوة:
ـ ومتى احلم إذا لم تدعوني ارقد...، واستعيد زمني الغابر الجميل...؟
عادت موجة من التصفيق تدوي عاليا ً، تبعتها موجة زغاريد، وثمة أناشيد أعقبتها حزمة أناشيد...، فهمس الفهد في أذن الأسد بحذر:
ـ اسمع...، هذا هو رغاء الإبل، يتبعه ثغاء النعاج، ممتزجا ًبنهيق الحمير، وصهيل الخيول، مع نغمات لشحيح البغال، وخوار الثيران، وبغام الظباء ..
فهمس الأسد:
ـ وها هو عواء الذئاب، ونباح الكلاب، وزقاء الديكة، وضغاء السنانير، وهدير الفحول، وصفير النسور، وصوصأة الجراء، وقوقأة الدجاج، ونعيب الغربان والبوم، مخلوطا ً بنزيب ذكور الظباء، وكشكشة الأفاعي وهي تحك جلدها بالأرض، مع فحيحها وهو يخرج من أفواهها كأنها في احتفال أو في عيد!
فقالت اللبؤة للأسد:
ـ أغلق فمك...، فقد نطرد من القفص!
ذلك لأنه تذكر سنوات السرداب التي أمضاها مع الفهد، فهمس في أذنه شارد الذهن:
ـ انظر....، ماذا فعلت الأقفاص بنا؟ كنا نظن إن البرية هي حريتنا، وقد سلبت منا، وها نحن نراها جحيما ً، وكنا نستبسل في تحطيم قضبان أقفاصنا وها نحن نعمل من اجل ديمومتها!
ضحك الفهد:
ـ بل قل العكس: ماذا فعلنا بها؟ فبدل أن تبقى المعادن طليقة في الأرض قيدناها، وجعلناها طوع إرادتنا!
ـ غريب...، كأنك لم تعد تؤمن بشيء.....؟
ـ ولم اعد أؤمن باللاشيء...؟
ابتعد الفهد خطوات عن الطريق العام، نحو مغارته، مع القط الأسود، اثر مرور جحافل من القوات الضاربة، ومن النمل الآلي، مع اسراب من الغربان والحيتان الطائرة:
ـ ماذا يفعلون...؟
ـ يمهدون الطريق ....، ويتأكدون من سلامته.
فكر الفهد: للآسف... لم اعد أرى ما يحدث أمامي. معترضا ً: على م َ الأسف....، بدل الشعور بالمسرة. لكن أصابعه قالت له:
ـ لا تغامر...، ولا تدع فمك يعمل كما تعمل بعض البراكين!
ـ ليس لدي ّ ما اخسره، أجدادي قالوا: الذي لا يمتلك شيئا ً لا يخاف من اللصوص، ولا من القتلة!
ـ مع ذلك...، فالماء هو الماء، والهواء هو الهواء.
مر دب يغني بصوت ناعم:
ـ من الجبل إلى الوادي، ومن الوادي إلى التلال، ومن القفص إلى المحرقة!
فضحك الفهد:
ـ ومن الرماد إلى الحديقة!
ـ آ.....، أيها الرفيق، فرصة سعيدة أن أراك...!
ـ أنا أكثر سعادة! هل مازلت على قيد الحياة...؟
ـ لا! وأنت...؟ فالأمور حسمت، يا سيدي، فالذي سيأتي مضى منذ زمن بعيد!
ـ ماذا تقول...؟
ـ لقد اعتقونا....، وسمحوا لنا أن نحلم، حتى إننا، سنرى السيد المدير نفسه!
ـ في الحلم ...؟
ـ طبعا ً، طبعا ً ....، وإلا ماذا كنا فعلنا...؟
ـ صحيح .... غير انتظار مرور موكب سعادته إلى الأبد...، هل أتى، هل مر....؟
ـ لقد مر....! الم تره...؟
ـ مر ....، متى...؟
ـ كنت اعتقد انك رأيته..
ـ لا...
فسأل الفهد جاره القط الأسود:
ـ هل مر موكب سيادته...؟
ـ منذ دهر!
وسأل اللبؤة، بصوت مذعور:
ـ هل مر حقا ً...؟
ـ أنا لا استطيع التكلم إن لم يأذن لي سيدي الأسد....
أجابها الأسد:
ـ آ ...، ماذا فعلت بك الشفافية؟
فصرخ الفهد في وجه الأسد:
ـ لا تشتم بذرتك، ومأواك، ومدفنك! ولكن اجبني: هل مر موكب سعادة المدير حقا ً...؟
لم يجب. وساد الصمت برهة امتدت ...، فهمس الفهد يخاطب أصابعه:
ـ دوّني...!
ردت:
ـ قبل قليل طلبت مني أن أبعثر الأصوات...، والآن تطلب مني أن اجمعها...؟
ـ سيان....، يا أصابعي، فانا اجهل من يعاقب من...؟
أجاب القط الأسود وهو ينسحب إلى مغارته:
ـ آن لك يا جاري أن تمحو ما حدث لنا في هذا النهار...
لم يقدر الفهد أن يمنع نفسه من الضحك حد التمرغ بالتراب:
ـ وسيأتي الليل، لكن من ذا باستطاعته أن يطرد كوابيس النهار؟!
19/5/2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق