قصة قصيرة
المصيدة
عادل كامل
شاهد ـ عبر شاشة الحديقة ـ أسدا ً يفترس ثورا ً بريا ً، ففكر أن يعترض، لدي مدير الجناح، بضرورة منع عرض الأفلام المحرضة على الكراهية، والعنف، لكنه استدرك، أن مسؤول الجناح سيخبر الإدارة، بخلاف ذلك، وبضرورة عرضها مادامت تعمل على إدانة العهد البائد. ومادامت هذه الأفلام تأجج الغضب، والتوتر، وتعمل على إشاعة الفوضى، والتمرد.
ولا يتذكر الثور كيف انتهى الفلم، فقد عرضوا فلما ً يوضح دفاعات القرود ضد الغزاة، فقال لنفسه، ما شأني. بانتظار مشاهدة فلم يروي حكاية حمامة أضربت عن الطعام، بعد أن فقدت شريكها.
نهض، ومازالت مشاهد الافتراس تستفزه درجة انه وجد نفسه وسط قطيع النعاج، بدل أن يذهب إلى زريبة الأبقار، أو حتى إلى حظيرة الخيول والحمير، قال الكبش الذي استقبله بحفاوة:
ـ زيارة سعيدة..، أيها الأب ..
انتبه لنفسه: ما الذي افعله هنا ...؟ وبدأ بالتراجع. صاح الكبش:
ـ إلى أين...، فلم نصدق حضورك...، كي تغادر...؟
ـ سأعود.
ليعود ويجلس فوق العشب، يتأمل مشاهد جديدة. كانت المعركة تجري بالسلاح الأبيض، داخل الخنادق، والسماء تمطر، محدقا ً في بساطيل الجنود، تغطس في الوحل، ثم تتداخل الأجساد، بعضها بالبعض الآخر، فقال: ما شأني!
لم تكن المشاهد ملونة، دار بخلده، فهي قديمة. لأنه لمح البساطيل بلون غامق، والغيوم، هي الأخرى لا تختلف إلا بالدرجة عن باقي الأشكال، والصور..
أرسل نظره إلى الأجنحة، عامة، وتخيل أقسام الحديقة، وزرائبها، بركها، وباقي أقسامها، ولم يسترع انتباهه الحدود العازلة بين الأنواع، والفصائل، بل ولم يأبه لوجود القضبان، والمشبكات، والحواجز....، إنما شعر انه لا يقوى على الحركة، وان خدرا ً ما بدأ يتسلل إلى جسده، فيمنعه من التراجع، أو التقدم.
رفع رأسه قليلا ً ولمح الأسد، في الشاشة، يقوم بحركات استعراضية، ويخاطب الثور. أصغى. كان الصوت خفيضا ً، مما اضطره للاقتراب، فسمع الأسد يقول للثور:
ـ دعنا نتصالح!
فقال الثور:
ـ ومن يشهد على هذه المصالحة...، بعد أن أصبحت وحيدا ً بين مخالبك وأنيابك...، ولا احد معي من أفراد القطيع...؟
ـ أنا اشهد! ألا تثق بوعدي...؟
لم يجب. فقال الأسد:
ـ لن افترسك...، وسأدعك ترحل...، هل اتفقنا...؟
ـ غريب...، أنا لا اصدق!
همس الأسد في اذن الثور: أصغ إلي ّ جيدا ً....، لقد رأيت كابوسا ً مروعا ً قبل ان ...، امسك بك...!
ـ هل كان ملونا ً؟
ـ بل ولم أر فيه إلا عاصفة هوجاء، خالية من الأصوات، اقتلعت الغابة، ودمرتها، ومحتنا من الوجود...، ثم رأيتكم تزحفون علينا من الجهات كلها....، والبعض منكم كان يهبط من السماء بأجنحة بيضاء مع المطر ...؟
ـ نحن لا نفعل ذلك، سيدي.
ـ في الكابوس...
وسأل الأسد الثور:
ـ ولأنك كنت ضحيت بحياتك من اجل سلامة أبناء عشيرتك...، ولم تهرب...، فمن يضمن إن القطيع لن يشن هجوما ً مدمرا ً ضدنا ....، ثأرا ً لك ...، وحماية لأبنائكم وأحفادكم من الأذى والانقراض....؟
ـ آ ...، فهمت.
ـ جيد.
دوى انفجار هز ارض الحديقة بأسرها. فانقطع التيار الكهربائي، فقال الثور لنفسه، حقا ً إنها قصة غريبة...، مصالحة تجري في العراء...، بين أسد طليق، وثور أسير...، للأسف...
لكزه الكبش من الخلف، ففز الثور مذعورا ً:
ـ لم ترجع إلى زريبتك؟
أجاب الثور:
ـ انتظر إصلاح التيار الكهربائي ... لأرى نهاية المصالحة!
ـ أية مصالحة؟
ـ آ ....، أرجوك، عد إلى نعاجك وتمتع بليلة خالية من الضوضاء...، فانا أفكر بإجراء مصالحة ...
ـ مع من....؟
ـ مع هذا الأسد القابع خلف القضبان...؟
ـ آ .....، حسبت انك ستتصالح مع نفسك أولا ً...؟
ـ يبدو انك تتمتع بروح الدعابة، أم أصبحت شفافا ً...؟
لم يدعه يكمل:
ـ لقد سمعت احد الخطباء يهاجم الأشرار من البشر هجوما ً لاذعا ً حتى وصفهم بالنعاج!
ـ جيد...، ولم يصفهم بالثيران؟
ـ لا...، يا سيدي، فانا نفسي طالما حلمت ان أمي ولدتني مثلك...، كي ادخل أسفار التاريخ، وحكايات الجان، وأفلام رعاة البقر...!
ـ أقترب..
ـ ها أنا اقترب...
كم أنت مرح، فضلا ً عن اتزان عقلك!
ـ سيدي، ومن قال ان لدي ّ عقل...؟
ـ قبل قليل كنت تحتج على مقارنة الأشرار من الناس بالنعاج..
ـ آ .....، دعك من التذكر....، دعنا نتسلى!
فقال له الثور:
ـ أنا هربت من الزريبة لأنهم سيرسلونني غدا ً إلى الأبدية!
ـ يا للعيد! مبروك!
ـ يا نعجة؟
ـ سيدي، أنا ذكر....، أنا كبش...، أم لم تعد تميز بينهما، أم أصبت بعمى الإدراك؟
ـ يا أنثى....!
ـ اقسم لك أنا أصبحت جدا ً ولي حشد من الأبناء، والأحفاد...، بل وأحفادي أصبحوا أجدادا ً، وجميع من تراهم هم من نطفتي، وينحدرون مني...!
ـ يا لسعادة قطيع النعاج!
ـ حتى أنت ...؟
ـ اسمع...، قلت لك: سأذبح! أي، غدا ً، سيكون يوما ً فاصلا ً بين وجودي وعدمه!
ـ سيدي...
ـ أصبحت تفكر وكأنك تخيلت نفسك ثورا ً سماويا ً...؟
ـ اقترب...، اقترب.
وهمس بصوت يخلو من الكلمات:
ـ بالفعل أنا هو هذا الذي قرأت عنه في الأساطير....
ـ آووووووه...، الآن، فهمت، فهناك معضلة إذا ً...؟
ـ لا...، لا توجد معضلة، توجد نذالة؟
ـ آسف ...، تعرف إنني عشت سنوات طويلة مع النعاج حتى لم اعد....
ـ واضح.....، لا تعتذر!
عاد التيار الكهربائي، وعادت الشاشة تبث برامجها:
ـ دعنا نكمل نهاية الحكاية..
ضحك الكبش:
ـ هذه صور من المعركة...!
ـ آ ...، نعم، انظر...، الأقدام تزحف، تدك الأرض، الانفجاريات...، الطائرات تقصف....، الدخان ينتشر، الغيوم تتقدم...، انظر...، البساطيل تغطس في الوحل...!
همس الكبش بخوف:
ـ أغبياء!
ـ كيف عرفت...؟
ـ القصاب قال لي ذلك!
بشرود سأله:
ـ ماذا قال لك...؟
ـ قال إن الحرب لم تبق من النعاج إلا هذا العدد الضئيل....، فلولا هذه الحرب لكنا حافظنا على قطيعنا من الإبادة...، ومن الاجتثاث...!
ـ وأنت صدقت القصاب...؟
ـ لا! لم أصدقه، لكنه قال إنهم خسروا الكثير من البشر لأسباب غبية...، فبدل أن يتصالحوا ويعمروا ويعملوا معا ً حولوا حياتهم إلى ساحة حرب طاحنة وراح احدهم يفتك بالآخر من اجل إن .....، يهزم الجميع!
ضحك الثور وهو يشاهد عبر الشاشة: عاصفة حمراء تغطي ارض المعركة. قال الكبش هامسا ً من غير كلمات:
ـ لأن القصاب اخبرني بأنه استبدل رأسه برأس نعجة!
ـ آ...وووو...ه، ولم يستبدله برأس ثور...؟
ـ لا...، لأنه لم يبق من الثيران أحدا ً لم يرسل لإحراز النصر، إلا سيادتك!
ـ أخرس! الم اطلب منك أن ترجع إلى نعاجك ولا تقلقني...، فهذا هو آخر ليل لي أرى فيه الدنيا!
ـ لا تحزن...، سيدي، تنتظرك أزمنة سعيدة، حيث الظلمات ستكون شفافة!
ـ كيف عرفت؟
ـ إدارة الحديقة أعلنت ان كل من ولد، هنا، لن يذهب إلى الجحيم!
لوي الثور عنقه، مبتعدا ً عن الكبش ونعاجه، مع انه مازال يستعيد صور الحرب، ويصغي إلى أصوات البساطيل تغطس في الوحل!
ووقف يتأمل القفص الكبير، حتى خاله بلا نهاية. فقال للأسد:
ـ أنا كرموني بالطابق الأرضي! وباقي الطوابق وزعت بحسب الوزن!
تخيلها عمارة شاهقة، فعّدل الأسد عبارته وقال:
ـ إنها ناطحة سحاب تليق بالمواليد الجدد...، والآن، أراك مكفهر كأنك خسرت الحرب ...، مع إنها انتهت منذ زمن بعيد!
ـ لا أنا لم اخسرها...، ولكني لم اكسبها.
ـ آ ...، تذكرت حكايتنا في البرية، والمصالحة ...، فقد كان عملا ً استثنائيا ً....، مع ان عشيرتك هاجمتنا وأنزلت فينا الهزيمة!
ـ عشيرتي...؟
ـ لقد تعاونت مع الصيادين الأشرار...، وتم اجتثاثنا من الغابات، ومن البراري...
ـ ولان ما الذي تريده مني...؟
ـ كلما أريده هو العودة إلى شروط المصالحة...
ـ أنا لم اخل بها...، مع انه لم يبق لي من الحياة إلا ساعات هذا الليل...!
ـ هل سيرسلونك إلى جبهات الموت...؟
ـ تستطيع القول: لا تريث في الأمر....، فالجيوش ـ هي الأخرى ـ تزحف على بطونها!
ـ هناك النعاج، الماعز، الزرافات، الأرانب، والخنازير ...؟
ـ لا ...، جنودنا يفضلون لحم الثيران!
حزن الأسد، وتمتم مع نفسه بصوت مسموع:
ـ كنت آمل ان تقدم لي يد المساعدة وتعمل على إرسالي إلى السيرك ....
قال الثور من غير تفكير:
ـ لن ترسل إلى الحرب، بل ستهرم هنا، داخل قفصك، وتتعفن! ولن تبول عليك الثعالب!
ـ اسكت!
ـ ماذا قلت كي اسكت...؟
ـ ذكرت سيدنا المدير...!
ـ لا تكترث ....، الإشاعات كثيرة وقد اختلطت الأوراق ولم يعد من يكترث لها...
فقال الأسد بصوت ناعم:
ـ لدي ّ فكرة ...؛ سأنقذك فيها....، أو .... ادعهم يتريثون في إرسال لحمك إلى جبهات القتال!
شرد ذهن الثور وراح يصغي:
ـ ان تتبرع بجلدك للأبطال البواسل....، فمادمنا جميعا ً أوفياء لحديقتنا...، فانك تستطيع ان تقدم درسا ً في القيم، والمعايير الوطنية.
ـ أتبرع بجلدي...؟
ـ ليس الآن....، بل بعد تبلغ حجما ً كبيرا ً...، حيث جلدك يصلح لصناعة اكبر عدد من البساطيل، ذات المواصفات الخاصة! فأنت تعرف كم تشتهر حديقتنا بجلود ثيرانها الأصيلة؟
ـ فكرة جيدة! وماذا عن لحمي....، فهم اليوم يعيشون أزمة اقتصادية خانقة وندرة في العملات بعد انخفاض أسعار البترول...؟
ـ المسألة بسيطة فأنت ستتحدث عن أهمية الجلود وليس عن اللحم المتوفر...، لدى الخراف والنعاج والحمير...
ـ آ .....، يا لها من فكرة عبقرية...، لكن ماذا افعل للقصاب الذي سيأتي مع يزوغ الفجر...؟
ـ اسمع...، ما عليك إلا ان تستخدم قوتك في تحطيم باب هذا القفص اللعين...، فاخرج وأتربص به حتى إذا ما جاء فجرا ً حتى امسك به...، واعقد معه مصالحة!
ـ ضدي...؟
ـ لا ...، بل من أجلك...؟
ـ من يضمن....، فانا، يا سيدي، سأموت، ولم أر مخلوقا ً عمل عملا ً يستحق الذكر! عدا الوشاية، والغدر، والنهب، والتزوير، والتشهير ...
ـ دعك من الظن...، فالمستقبل ليس وهما ً..
ـ كما ترغب..، سيدي.
وجاء الكبش مسرعا ً وهو في حالة ذعر:
ـ ماذا حدث...؟
ـ القصاب ...، القصاب سيدي، القصاب يبحث عنك؟
فقال الثور للأسد:
ـ هيا، جاء دورك...، كما وعدتني.
صاح الأسد في الثور:
ـ دعنا نهرب...
صاح الكبش بالثور:
ـ تريث...، انه لم يأت لذبحك....، بل جاء لتساعده على الهرب!
ـ أساعده ...، وماذا افعل من اجله...؟
قال الكبش:
ـ يمكنك ان تخفيه في رحم واحدة من البقرات السمان!
ـ وماذا لو بحثوا عنه ولم يجدوه...؟
ـ ما شأننا...، الحديقة كبيرة، وقد يكون لاذ بالفرار هربا ً من الخدمة العسكرية....؟
قال الأسد:
ـ الفكرة جيدة..
صاح الكبش وهو يحدق في شاشة التلفاز:
ـ يا للرعب....، انظروا ....، السماء اكفهرت ...، ولا أمل لنا بالنجاة...؟
لاذ الجميع محتمين بقفص الأسد بعد ان عدلوا القضبان. كانت السماء تمطر حمما ً وتتساقط الحجارة حمراء متوهجة فوق الأجنحة، والبحيرات، والزرائب، والكهوف...
وقف القصاب بباب القفص وصاح:
ـ أين انتم.....، أيها الأبطال الميامين.....؟
مد الثور رأسه هامسا ً:
ـ لا تتهور ...، فأنت أول المتخاذلين...
ـ من ...؟
ـ أنا الثور السماوي الذي حطم رؤوس أجدادك!
ـ آ ...، أيها الثور اللعين...، آن لي ان استدعي الأرانب...؟
ـ ولماذا الأرانب...؟
ـ كي تشعر بالخجل...، وتحس بالحياء!
ـ ولكنك ستوزع لحمي....، وجلدي ستصنع منه أحذية ...، وإنا مازالت في مقتبل العمر...
ـ سأخصيك!
ـ لقد تم أخصائي ...، مع السيد الأسد...، ومع هذا الكبش الذي اختبأ في جحر الجرذان!
انهالت الحجارة، والشظايا، وامتلأت السماء بالنار، وارتفعت أعمدة الدخان.
صاح الكبش:
ـ الحديقة تحترق!
صرخ القصاب:
ـ أنا لا اصدق هذا .....، فالحمم مازالت تتدفق من الشاشة!
ـ بل وتأتي من وراء الأسوار ...، فلم تعد هناك شاشة، ولا حديقة!
همس الثور في أذن الأسد:
ـ دعنا نجري مصالحة...، هيا ادعوا القصاب إلى عقد جلسة طارئة...
ـ أين هو القصاب ...، أنا لا أراه ....، لقد التهمته نيران المحرقة!
ـ آ .....، انظر....، لقد ظهرت الأشباح!
ـ دعنا نحتمي بالحفر، وبالمغارات...
ـ لا فائدة...، فالأرض تحترق، والحجارة تذوب، والتراب تحول إلى لهب...
ـ آ ...، دعونا نستنجد....، ونطلب الغفران.
وظهر شبح القصاب يلوّح بالسكين، فسأل الثور الأسد:
ـ ماذا سنفعل...؟
صرخ الأسد في وجه القصاب:
ـ هل تبحث عنا...؟
ـ من انتم...؟
ـ لو كنت تعرف من نحن ...، لعرفت من تكون...؟
ـ اختلطت ...، اقسم لكم اختلطت علينا الحقائق بالأوهام، فانا لم اعد أميز بين البلبل والكركدن، ولا بين الأفعى وبين السمكة....!
حدق الثور في عيني الأسد:
ـ ماذا تفعل...؟
ـ اجري مصالحة!
ـ لم تبق من لحمي شيئا ً للجنود البواسل....!
فقال الأسد للقصاب:
ـ لم اترك لك حتى الجلد!
احكم القصاب إغلاق باب القفص، وراح يقهقه:
ـ وقعتم في المصيدة، أيها الأغبياء!
وخاطب الأسد:
ـ أما أنت ...، فلن تخرج من عرينك هذا إلى الأبد!
5/5/2015
المصيدة
عادل كامل
شاهد ـ عبر شاشة الحديقة ـ أسدا ً يفترس ثورا ً بريا ً، ففكر أن يعترض، لدي مدير الجناح، بضرورة منع عرض الأفلام المحرضة على الكراهية، والعنف، لكنه استدرك، أن مسؤول الجناح سيخبر الإدارة، بخلاف ذلك، وبضرورة عرضها مادامت تعمل على إدانة العهد البائد. ومادامت هذه الأفلام تأجج الغضب، والتوتر، وتعمل على إشاعة الفوضى، والتمرد.
ولا يتذكر الثور كيف انتهى الفلم، فقد عرضوا فلما ً يوضح دفاعات القرود ضد الغزاة، فقال لنفسه، ما شأني. بانتظار مشاهدة فلم يروي حكاية حمامة أضربت عن الطعام، بعد أن فقدت شريكها.
نهض، ومازالت مشاهد الافتراس تستفزه درجة انه وجد نفسه وسط قطيع النعاج، بدل أن يذهب إلى زريبة الأبقار، أو حتى إلى حظيرة الخيول والحمير، قال الكبش الذي استقبله بحفاوة:
ـ زيارة سعيدة..، أيها الأب ..
انتبه لنفسه: ما الذي افعله هنا ...؟ وبدأ بالتراجع. صاح الكبش:
ـ إلى أين...، فلم نصدق حضورك...، كي تغادر...؟
ـ سأعود.
ليعود ويجلس فوق العشب، يتأمل مشاهد جديدة. كانت المعركة تجري بالسلاح الأبيض، داخل الخنادق، والسماء تمطر، محدقا ً في بساطيل الجنود، تغطس في الوحل، ثم تتداخل الأجساد، بعضها بالبعض الآخر، فقال: ما شأني!
لم تكن المشاهد ملونة، دار بخلده، فهي قديمة. لأنه لمح البساطيل بلون غامق، والغيوم، هي الأخرى لا تختلف إلا بالدرجة عن باقي الأشكال، والصور..
أرسل نظره إلى الأجنحة، عامة، وتخيل أقسام الحديقة، وزرائبها، بركها، وباقي أقسامها، ولم يسترع انتباهه الحدود العازلة بين الأنواع، والفصائل، بل ولم يأبه لوجود القضبان، والمشبكات، والحواجز....، إنما شعر انه لا يقوى على الحركة، وان خدرا ً ما بدأ يتسلل إلى جسده، فيمنعه من التراجع، أو التقدم.
رفع رأسه قليلا ً ولمح الأسد، في الشاشة، يقوم بحركات استعراضية، ويخاطب الثور. أصغى. كان الصوت خفيضا ً، مما اضطره للاقتراب، فسمع الأسد يقول للثور:
ـ دعنا نتصالح!
فقال الثور:
ـ ومن يشهد على هذه المصالحة...، بعد أن أصبحت وحيدا ً بين مخالبك وأنيابك...، ولا احد معي من أفراد القطيع...؟
ـ أنا اشهد! ألا تثق بوعدي...؟
لم يجب. فقال الأسد:
ـ لن افترسك...، وسأدعك ترحل...، هل اتفقنا...؟
ـ غريب...، أنا لا اصدق!
همس الأسد في اذن الثور: أصغ إلي ّ جيدا ً....، لقد رأيت كابوسا ً مروعا ً قبل ان ...، امسك بك...!
ـ هل كان ملونا ً؟
ـ بل ولم أر فيه إلا عاصفة هوجاء، خالية من الأصوات، اقتلعت الغابة، ودمرتها، ومحتنا من الوجود...، ثم رأيتكم تزحفون علينا من الجهات كلها....، والبعض منكم كان يهبط من السماء بأجنحة بيضاء مع المطر ...؟
ـ نحن لا نفعل ذلك، سيدي.
ـ في الكابوس...
وسأل الأسد الثور:
ـ ولأنك كنت ضحيت بحياتك من اجل سلامة أبناء عشيرتك...، ولم تهرب...، فمن يضمن إن القطيع لن يشن هجوما ً مدمرا ً ضدنا ....، ثأرا ً لك ...، وحماية لأبنائكم وأحفادكم من الأذى والانقراض....؟
ـ آ ...، فهمت.
ـ جيد.
دوى انفجار هز ارض الحديقة بأسرها. فانقطع التيار الكهربائي، فقال الثور لنفسه، حقا ً إنها قصة غريبة...، مصالحة تجري في العراء...، بين أسد طليق، وثور أسير...، للأسف...
لكزه الكبش من الخلف، ففز الثور مذعورا ً:
ـ لم ترجع إلى زريبتك؟
أجاب الثور:
ـ انتظر إصلاح التيار الكهربائي ... لأرى نهاية المصالحة!
ـ أية مصالحة؟
ـ آ ....، أرجوك، عد إلى نعاجك وتمتع بليلة خالية من الضوضاء...، فانا أفكر بإجراء مصالحة ...
ـ مع من....؟
ـ مع هذا الأسد القابع خلف القضبان...؟
ـ آ .....، حسبت انك ستتصالح مع نفسك أولا ً...؟
ـ يبدو انك تتمتع بروح الدعابة، أم أصبحت شفافا ً...؟
لم يدعه يكمل:
ـ لقد سمعت احد الخطباء يهاجم الأشرار من البشر هجوما ً لاذعا ً حتى وصفهم بالنعاج!
ـ جيد...، ولم يصفهم بالثيران؟
ـ لا...، يا سيدي، فانا نفسي طالما حلمت ان أمي ولدتني مثلك...، كي ادخل أسفار التاريخ، وحكايات الجان، وأفلام رعاة البقر...!
ـ أقترب..
ـ ها أنا اقترب...
كم أنت مرح، فضلا ً عن اتزان عقلك!
ـ سيدي، ومن قال ان لدي ّ عقل...؟
ـ قبل قليل كنت تحتج على مقارنة الأشرار من الناس بالنعاج..
ـ آ .....، دعك من التذكر....، دعنا نتسلى!
فقال له الثور:
ـ أنا هربت من الزريبة لأنهم سيرسلونني غدا ً إلى الأبدية!
ـ يا للعيد! مبروك!
ـ يا نعجة؟
ـ سيدي، أنا ذكر....، أنا كبش...، أم لم تعد تميز بينهما، أم أصبت بعمى الإدراك؟
ـ يا أنثى....!
ـ اقسم لك أنا أصبحت جدا ً ولي حشد من الأبناء، والأحفاد...، بل وأحفادي أصبحوا أجدادا ً، وجميع من تراهم هم من نطفتي، وينحدرون مني...!
ـ يا لسعادة قطيع النعاج!
ـ حتى أنت ...؟
ـ اسمع...، قلت لك: سأذبح! أي، غدا ً، سيكون يوما ً فاصلا ً بين وجودي وعدمه!
ـ سيدي...
ـ أصبحت تفكر وكأنك تخيلت نفسك ثورا ً سماويا ً...؟
ـ اقترب...، اقترب.
وهمس بصوت يخلو من الكلمات:
ـ بالفعل أنا هو هذا الذي قرأت عنه في الأساطير....
ـ آووووووه...، الآن، فهمت، فهناك معضلة إذا ً...؟
ـ لا...، لا توجد معضلة، توجد نذالة؟
ـ آسف ...، تعرف إنني عشت سنوات طويلة مع النعاج حتى لم اعد....
ـ واضح.....، لا تعتذر!
عاد التيار الكهربائي، وعادت الشاشة تبث برامجها:
ـ دعنا نكمل نهاية الحكاية..
ضحك الكبش:
ـ هذه صور من المعركة...!
ـ آ ...، نعم، انظر...، الأقدام تزحف، تدك الأرض، الانفجاريات...، الطائرات تقصف....، الدخان ينتشر، الغيوم تتقدم...، انظر...، البساطيل تغطس في الوحل...!
همس الكبش بخوف:
ـ أغبياء!
ـ كيف عرفت...؟
ـ القصاب قال لي ذلك!
بشرود سأله:
ـ ماذا قال لك...؟
ـ قال إن الحرب لم تبق من النعاج إلا هذا العدد الضئيل....، فلولا هذه الحرب لكنا حافظنا على قطيعنا من الإبادة...، ومن الاجتثاث...!
ـ وأنت صدقت القصاب...؟
ـ لا! لم أصدقه، لكنه قال إنهم خسروا الكثير من البشر لأسباب غبية...، فبدل أن يتصالحوا ويعمروا ويعملوا معا ً حولوا حياتهم إلى ساحة حرب طاحنة وراح احدهم يفتك بالآخر من اجل إن .....، يهزم الجميع!
ضحك الثور وهو يشاهد عبر الشاشة: عاصفة حمراء تغطي ارض المعركة. قال الكبش هامسا ً من غير كلمات:
ـ لأن القصاب اخبرني بأنه استبدل رأسه برأس نعجة!
ـ آ...وووو...ه، ولم يستبدله برأس ثور...؟
ـ لا...، لأنه لم يبق من الثيران أحدا ً لم يرسل لإحراز النصر، إلا سيادتك!
ـ أخرس! الم اطلب منك أن ترجع إلى نعاجك ولا تقلقني...، فهذا هو آخر ليل لي أرى فيه الدنيا!
ـ لا تحزن...، سيدي، تنتظرك أزمنة سعيدة، حيث الظلمات ستكون شفافة!
ـ كيف عرفت؟
ـ إدارة الحديقة أعلنت ان كل من ولد، هنا، لن يذهب إلى الجحيم!
لوي الثور عنقه، مبتعدا ً عن الكبش ونعاجه، مع انه مازال يستعيد صور الحرب، ويصغي إلى أصوات البساطيل تغطس في الوحل!
ووقف يتأمل القفص الكبير، حتى خاله بلا نهاية. فقال للأسد:
ـ أنا كرموني بالطابق الأرضي! وباقي الطوابق وزعت بحسب الوزن!
تخيلها عمارة شاهقة، فعّدل الأسد عبارته وقال:
ـ إنها ناطحة سحاب تليق بالمواليد الجدد...، والآن، أراك مكفهر كأنك خسرت الحرب ...، مع إنها انتهت منذ زمن بعيد!
ـ لا أنا لم اخسرها...، ولكني لم اكسبها.
ـ آ ...، تذكرت حكايتنا في البرية، والمصالحة ...، فقد كان عملا ً استثنائيا ً....، مع ان عشيرتك هاجمتنا وأنزلت فينا الهزيمة!
ـ عشيرتي...؟
ـ لقد تعاونت مع الصيادين الأشرار...، وتم اجتثاثنا من الغابات، ومن البراري...
ـ ولان ما الذي تريده مني...؟
ـ كلما أريده هو العودة إلى شروط المصالحة...
ـ أنا لم اخل بها...، مع انه لم يبق لي من الحياة إلا ساعات هذا الليل...!
ـ هل سيرسلونك إلى جبهات الموت...؟
ـ تستطيع القول: لا تريث في الأمر....، فالجيوش ـ هي الأخرى ـ تزحف على بطونها!
ـ هناك النعاج، الماعز، الزرافات، الأرانب، والخنازير ...؟
ـ لا ...، جنودنا يفضلون لحم الثيران!
حزن الأسد، وتمتم مع نفسه بصوت مسموع:
ـ كنت آمل ان تقدم لي يد المساعدة وتعمل على إرسالي إلى السيرك ....
قال الثور من غير تفكير:
ـ لن ترسل إلى الحرب، بل ستهرم هنا، داخل قفصك، وتتعفن! ولن تبول عليك الثعالب!
ـ اسكت!
ـ ماذا قلت كي اسكت...؟
ـ ذكرت سيدنا المدير...!
ـ لا تكترث ....، الإشاعات كثيرة وقد اختلطت الأوراق ولم يعد من يكترث لها...
فقال الأسد بصوت ناعم:
ـ لدي ّ فكرة ...؛ سأنقذك فيها....، أو .... ادعهم يتريثون في إرسال لحمك إلى جبهات القتال!
شرد ذهن الثور وراح يصغي:
ـ ان تتبرع بجلدك للأبطال البواسل....، فمادمنا جميعا ً أوفياء لحديقتنا...، فانك تستطيع ان تقدم درسا ً في القيم، والمعايير الوطنية.
ـ أتبرع بجلدي...؟
ـ ليس الآن....، بل بعد تبلغ حجما ً كبيرا ً...، حيث جلدك يصلح لصناعة اكبر عدد من البساطيل، ذات المواصفات الخاصة! فأنت تعرف كم تشتهر حديقتنا بجلود ثيرانها الأصيلة؟
ـ فكرة جيدة! وماذا عن لحمي....، فهم اليوم يعيشون أزمة اقتصادية خانقة وندرة في العملات بعد انخفاض أسعار البترول...؟
ـ المسألة بسيطة فأنت ستتحدث عن أهمية الجلود وليس عن اللحم المتوفر...، لدى الخراف والنعاج والحمير...
ـ آ .....، يا لها من فكرة عبقرية...، لكن ماذا افعل للقصاب الذي سيأتي مع يزوغ الفجر...؟
ـ اسمع...، ما عليك إلا ان تستخدم قوتك في تحطيم باب هذا القفص اللعين...، فاخرج وأتربص به حتى إذا ما جاء فجرا ً حتى امسك به...، واعقد معه مصالحة!
ـ ضدي...؟
ـ لا ...، بل من أجلك...؟
ـ من يضمن....، فانا، يا سيدي، سأموت، ولم أر مخلوقا ً عمل عملا ً يستحق الذكر! عدا الوشاية، والغدر، والنهب، والتزوير، والتشهير ...
ـ دعك من الظن...، فالمستقبل ليس وهما ً..
ـ كما ترغب..، سيدي.
وجاء الكبش مسرعا ً وهو في حالة ذعر:
ـ ماذا حدث...؟
ـ القصاب ...، القصاب سيدي، القصاب يبحث عنك؟
فقال الثور للأسد:
ـ هيا، جاء دورك...، كما وعدتني.
صاح الأسد في الثور:
ـ دعنا نهرب...
صاح الكبش بالثور:
ـ تريث...، انه لم يأت لذبحك....، بل جاء لتساعده على الهرب!
ـ أساعده ...، وماذا افعل من اجله...؟
قال الكبش:
ـ يمكنك ان تخفيه في رحم واحدة من البقرات السمان!
ـ وماذا لو بحثوا عنه ولم يجدوه...؟
ـ ما شأننا...، الحديقة كبيرة، وقد يكون لاذ بالفرار هربا ً من الخدمة العسكرية....؟
قال الأسد:
ـ الفكرة جيدة..
صاح الكبش وهو يحدق في شاشة التلفاز:
ـ يا للرعب....، انظروا ....، السماء اكفهرت ...، ولا أمل لنا بالنجاة...؟
لاذ الجميع محتمين بقفص الأسد بعد ان عدلوا القضبان. كانت السماء تمطر حمما ً وتتساقط الحجارة حمراء متوهجة فوق الأجنحة، والبحيرات، والزرائب، والكهوف...
وقف القصاب بباب القفص وصاح:
ـ أين انتم.....، أيها الأبطال الميامين.....؟
مد الثور رأسه هامسا ً:
ـ لا تتهور ...، فأنت أول المتخاذلين...
ـ من ...؟
ـ أنا الثور السماوي الذي حطم رؤوس أجدادك!
ـ آ ...، أيها الثور اللعين...، آن لي ان استدعي الأرانب...؟
ـ ولماذا الأرانب...؟
ـ كي تشعر بالخجل...، وتحس بالحياء!
ـ ولكنك ستوزع لحمي....، وجلدي ستصنع منه أحذية ...، وإنا مازالت في مقتبل العمر...
ـ سأخصيك!
ـ لقد تم أخصائي ...، مع السيد الأسد...، ومع هذا الكبش الذي اختبأ في جحر الجرذان!
انهالت الحجارة، والشظايا، وامتلأت السماء بالنار، وارتفعت أعمدة الدخان.
صاح الكبش:
ـ الحديقة تحترق!
صرخ القصاب:
ـ أنا لا اصدق هذا .....، فالحمم مازالت تتدفق من الشاشة!
ـ بل وتأتي من وراء الأسوار ...، فلم تعد هناك شاشة، ولا حديقة!
همس الثور في أذن الأسد:
ـ دعنا نجري مصالحة...، هيا ادعوا القصاب إلى عقد جلسة طارئة...
ـ أين هو القصاب ...، أنا لا أراه ....، لقد التهمته نيران المحرقة!
ـ آ .....، انظر....، لقد ظهرت الأشباح!
ـ دعنا نحتمي بالحفر، وبالمغارات...
ـ لا فائدة...، فالأرض تحترق، والحجارة تذوب، والتراب تحول إلى لهب...
ـ آ ...، دعونا نستنجد....، ونطلب الغفران.
وظهر شبح القصاب يلوّح بالسكين، فسأل الثور الأسد:
ـ ماذا سنفعل...؟
صرخ الأسد في وجه القصاب:
ـ هل تبحث عنا...؟
ـ من انتم...؟
ـ لو كنت تعرف من نحن ...، لعرفت من تكون...؟
ـ اختلطت ...، اقسم لكم اختلطت علينا الحقائق بالأوهام، فانا لم اعد أميز بين البلبل والكركدن، ولا بين الأفعى وبين السمكة....!
حدق الثور في عيني الأسد:
ـ ماذا تفعل...؟
ـ اجري مصالحة!
ـ لم تبق من لحمي شيئا ً للجنود البواسل....!
فقال الأسد للقصاب:
ـ لم اترك لك حتى الجلد!
احكم القصاب إغلاق باب القفص، وراح يقهقه:
ـ وقعتم في المصيدة، أيها الأغبياء!
وخاطب الأسد:
ـ أما أنت ...، فلن تخرج من عرينك هذا إلى الأبد!
5/5/2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق