أ. دوكر: دور الثقافة الشعبية ومتاعبها
بقلم أ. دوكر
"ما الساحرُ غير مُنظَرٍ ممارس" (أوبي ـ وان كينوبي)
في الدراسة المعاصرة للثقافة الشعبية يتم التسليم بضياع "ثقافة الشعب المشتركة" واستبدالها بثقافة جماهيرية متشظية، أي أن المقاومة تكون هنا بين الفرد والمجتمع، ولعل ما يشغلنا اليوم هو وصف ثقافة المستهلك. فما الإنجازات السياسية التي حققتها الثقافة الشعبية إذا علمنا بخاطبها الديمقراطي؟ ما الذي حققته الحقول المعرفية الأكاديمية القليلة المهتمة حقاً بدراسة الشعبي، والتي تؤكد بأن عامة الشعب هم جزء من الصراع السياسي وبأن الحياة اليومية هي مُبدعة بطرق ما كانت لتتحقق في السابق إلا في ميدان الفنون الجميلة وأوساط المجتمع الراقية؟
كان أحد أهداف الدراسات الثقافية هو إبراز ثقافة عامة الناس التي لقيت إهمالاً كبيراً بدلاً من التركيز على الثقافة النخبوية للفنانين. ولأن الشعب في المجتمع الصناعي المتأخر هو من المستهلكين، أدى ذلك في النهاية إلى إهمال تام لإمكانيات الإنتاج الشعبي للثقافة. ولعل واحداً من أبرز الأمثلة على ذلك نجده في مقال جون فسك "فهم الثقافة الشعبية" (1990)؛ إذ يتناول فيه الاستعمال الشعبي للنصوص التي تقدمها صناعة الثقافة بمجملها. وهنا تكون حرية المضطهَدين ـ (لأن الثقافة الشعبية هي ثقافة المضطهَدين) ـ هي حرية قراءة وتأويل وإنتاج المعاني الشعبية من داخل المادة التي تقدمها القوى المهيمنة (ويفيد فسك هنا من مقال ميشيل دي سيرتو"ممارسة الحياة اليومية"، بل يركز عليه جداً).
المشكلات التي تعاني منها هذه المقاربة تؤثر في الفورية السياسية لهذه النظرية كما تؤثر في منظورها؛ فالتركيز المطلق على استعمال النصوص الشعبية ينكر على الشعب أية إمكانية لتناول أي موضوع آخر عدا الموضوعات التي تخص المستهلك، والناس ببساطة ليس بمقدورهم الإتيان بشيء عدا القراءة واستخلاص المعاني لكن بغض النظر عن مدى التخريب أو المعارضة التي تكنه هذه القراءات والمعاني فإنها لا يمكن أن تضاهي الإنتاج الشعبي للثقافة، والذي أراهُ ممكناً. الثقافة الشعبية، باختصار، ثقافة المستهلكين هي بالدرجة الأساس لا المنتجين.
ويكون طابع الاستهلاك المهيمن (والذي يطلق عليه فسك تسمية "الإنتاج الثانوي") فردياً وخاصاً (وهو غالباً ما يصف الناس الذين يشاهدون التلفزيون في منازلهم)، وبذا تكون تأثيرات المقاومة الشعبية مقتصرة في النهاية على فضاء غرفة الجلوس. إن هذا التشظي الاجتماعي الذي يُعدّ سمة المجتمع الرأسمالي المتأخر أدى أيضاً إلى جعل القوى (الرأسمالية) المهيمنة هي التي تحتل ذلك الفضاء، ولا عجب أن رأينا فسك يردد، ولمرات عدة، الاستعارة التي أطلقها دي سيرتو على السوبر ماركت بوصفه فضاء الثقافة الشعبية. وهكذا يتم إنكار التدخلات الشعبية العامة، التي تكون مشابهة لإمكانات الإنتاج الشعبي. وهذا بدوره يسهم في الفصل بين مديات السياسة والترفيه (بوصفه جزءاً من صناعة الثقافة).
وفي السياق المعاصر تكون القوة المهيمنة متمثلة بشركة ترفيه ـ صناعي (ومعلومات عسكرية) إلا أن هذا النهج لا يكون المسؤول عن إضفاء عنصر الجمالية على السياسة لأن ذلك لا يحدث بالدرجة الأساس إلا من خلال الثقافة الشعبية. الموقف الذي أتبناه هنا في تحليل الثقافة الشعبية ينبع من هذا النقد الفاحص، وأنا أركز بالدرجة الأساس على مواضع المنافسة والمقاومة، لا بمعنى القراءات التدميرية للنصوص التي تنتجها صناعة الثقافة ووسائل الإعلام (لأن القراءة المجردة تكون غير فاعلة سياسياً)، بل بمعنى الإنتاج الشعبي للثقافة الشعبية، هذه المواضع التي تخص إنتاج المعارضة هي موجودة حقاً، وهناك الكثير من الجدل في حقل الدراسات الثقافية يرمي إلى التنظير بشأن المشكلات التي تتناولها هذه الممارسات. والمهم أنها لا تلقى تجاهلاً تاماً، بل أرى أن ثمة إجحاف في تقدير مكامن قوتها.
كان على سمات، أو بالأحرى متطلبات، مثل هذه الممارسات الخاصة بالثقافة الشعبية، والتي تتبع النقد المذكور آنفا، أن تعتمد الاختلاف، أو أن تلجأ بدلا من ذلك إلى الثقافة المهيمنة مادامت الفرضية التي تقول بأننا نناقش ثقافة المضطهَدين فاعلة. ولعل مثل هذه الممارسة تتضمن، بالضرورة، إنتاج الثقافة لكن على وفق مبادئ تنظيمية واقتصادية، وفي النهاية، سياسية مختلفة تماماً. أي بعبارة أخرى سيحاول أن يبرهن على وجود فضاءات عامة مستقلة نسبياً يتم فيها إنتاج ثقافة شعبية معارضة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق