قصة قصيرة
اقتضى حضوركم!
عادل كامل
اقترب الغراب من النمر كثيرا ً وهمس في أذنه بصوت خفيض جدا ً، انه اقتضى حضوره إلى مكتب مكافحة الضوضاء، في تمام الساعة التاسعة صباحا ً. ففكر النمر برهة وسأل الغراب:
ـ أي بعد ساعتين...؟
ـ تماما ً.
ولم يجد النمر لديه رغبة للاستفسار، أو معرفة الأسباب، ليس لأن التبليغ بحد ذاته غير قابل للنقاش، بل لأنه، منذ أسابيع، بل وأشهر، شعر أن أيامه بلغت ذروتها، وقد كتم الأمر، ليمضي الوقت وحيدا ، بعد أن اتخذ قرارا ً بتجنب التفكير، وما شابه، كالتذكر، والاستعادة.
خفض رأسه وتركه يستقر فوق الأرض، بانتظار مرور الوقت. فلم ينشغل بالنظر ابعد من قضبان قفصه، بل وكف حتى عن النظر في الفضاء المحيط به، وقد ضاق، غير آسف انه قد يكون ارتكب هفوة، أو زل لسانه بكلمة، أو أبدى رأيا ً، أو حزن، أو لم يتناول طعامه بحسب المواعيد المقررة، أو لأي سبب آخر من الأسباب....، فهو ـ دار بباله ـ ليس لديه ما يعترض عليه، أو يؤيده، لا ما يحتج عليه ولا ما يدعوه له، الأمر الذي جعله يفكر بان احد أحفاده جادله في أمر لم يخطر بباله منذ ولادته في الغابة، قبل أكثر من نصف قرن، فقد سأله هل حقا ً إن وجودهم في الحديقة، أو في أية حديقة أخرى، يماثل عدمه؟ فتساءل الجد بشرود:
ـ لم افهم...؟
فقال حفيده له ما دمت الغابة قد سلبت منهم، وتم الاستيلاء عليها، فان وجودها وعدمه ينتهيان نهاية واحدة.
اقترب حفيده منه:
ـ أنا سمعت ما قاله الغراب...؟
فرد بلا مبالاة:
ـ ربما سيتاح لي.....، هناك، قول ما ... لم ... اقله!
وسكت. لأنه لم يجد أية ضرورة لأشغال ذهن حفيده بما أراد الاعتراف به، فقال الآخر:
ـ يبدو لي انك لا ترغب أن أشاركك همومك، أو ربما مازالت تعتقد بأنني لم انضج بعد!
رفع النمر رأسه قليلا ً:
ـ المشكلة يا ولدي هي ذاتها التي كانت قد وجدت قبل وجودنا...، وأنا الآن أود أن استمتع بتنفس ما تبقى من الهواء، رغم انه أصبح خانقا ً، بل وضارا ً.
ـ المشكلة كامنة في الهواء إذا ً...؟
ـ ليست في الهواء أو في الماء أو في هذه الأقفاص...، بل لأنه إن كانت هناك مشكلة أو لم تكن فان أحدا ً لا يستطيع أن يذهب ابعد منها!
ـ آ ....، عدت إلى السؤال الذي أخبرتني بإهماله...، لماذا مكثنا نستبسل بالبقاء على ما نحن عليه، حد الموت؟ وأنا سألتك: كل وسائل التقدم متوفرة، من الهواء إلى الماء، ومن الأرض إلى الغابات، ومن المعادن إلى النار....، إلى المخلوقات المتنوعة المهارات...، ومع ذلك نمضي حياتنا نكافح حد الهلاك من اجل الحفاظ على أقفاصنا، زرائبنا، حظائرنا، جحورنا، ومستنقعاتنا.....؟
ـ وماذا قلت لك ...؟
ـ قلت لي: أغلق فمك، فأنت مازالت صبيا ً.
ابتسم الجد:
ـ والآن اكرر: لا تدع فمك يعمل بمعزل عن ....
ضحك الحفيد:
ـ ولكنك تعرف إننا لا نمتلك شيئا ً آخر غير هذه الأفواه....، وغير هذه الأصوات، فأما ننبح أو نعوي، وأما نجأر أو ننعب أو ننهق...!
ـ لا ....، فهناك ...ما ...
وأشار إلى رأسه، متابعا ً:
ـ اعرف ... اعرف، ولكني فكرت إننا لا نستخدم إلا نسبة ضئيلة مما في هذه الرؤوس....، فانا سبق وسألت نفسي: لماذا وجدت هذه العقول....، وماذا لو عملنا درجة إضافية بها...، وما الذي يحصل لو عملنا بما تمتلك من إمكانيات متوفرة فيها...؟
ـ آ .....، صحيح، كأنها كانت تعمل، في يوم ما، مائة بالمائة! ثم حصل التدهور...، وإلا ما معنى إننا لا ندعها تعمل بطاقتها ...؟
ـ لا أعرف..!
فكر الجد بصوت مسموع:
ـ أنا أيضا ً أضعت حياتي في هذه السفاسف، والهمهمات، والدندنات، والأسئلة!
ـ آ ...، يا جدي، تكلم...، أود الاستماع إليك ...، وأنت ...تتحرر... من ... الخوف.
ربما لأنه شعر انه لم يعد لديه ما يخشاه، أو يتوقعه، أو ينتظره، تابع مع مسحة من المرح، واللامبالاة الكدرة:
ـ اقترب مني ..
اقترب:
ـ ليس لدي ّ ما أبوح به لك...، عدا، كيف تنجو....، ففي الغابة كان أسلافك، لملايين السنين، عرفوا كيف يتخلصوا من المطاردين، والصيادين، والأشرار.....، فقاوموا الإبادة، والاجتثاث...، ولكن الأمر اختلف ـ في هذه الحديقة ـ تماما ً، فبعد أن نهبوا غاباتنا، واستولوا على أراضينا، ومواردنا، ووضعونا في هذه الأقفاص، فليس لدينا ما نفعله، عدا تعلم طرق أخرى للدفاع عن النفس!
ـ وهذا ما يفعله الأشرار أيضا ً...، أسرونا، وها هم يكللون نصرهم بالحفاظ علينا من الاندثار، ومن الزوال!
ـ لا اعرف!
مرت دقيقة صمت، فسأل الحفيد جده:
ـ أظنك كنت تريد أن توصيني....، ثم، تراجعت، وقلت لي: حذار أن تفتح فمك، وتعوي!
ـ ربما الأصوات مثال على ما ستؤول إليه المقدمات!
ـ زوال هذه الحديقة؟
ـ بل وزوال السماء ذاتها، بمجراتها، ونجومها، وكواكبها، لتتخذ هيئات أخرى غير هذه التي ظهرت في زمننا....!
ـ ما الحكمة من ذلك؟
ـ هذا ما كنت أود أن أخبرك به: فكر أن لا تفكر! ففي هذه الحديقة، ما أن تفكر، حتى يستدعوك....
ـ آ ....، ولهذا استدعوك، يا جدي العزيز...؟
ـ حتى هذه اللحظات، اجهل السبب...، ولكن ماداموا استدعوني، فالأمر لا يدعوا إلى التشاؤم...، والقنوط، والجزع....! وإلا لكان مصيري انتهى....، كمصير جدتك! وليمة للعاطلين عن العمل!
رفع الحفيد صوته:
ـ ألا ترى إن المعضلة تكمن هنا...؟
ـ لا تشغل رأسك...، فكما قلت لك: فكر أن لا تفكر، من اجل خلاصك. فان لم تنج، أكلوك، ومحوك من هذا الحديقة!
ضحك الحفيد:
ـ وأنت أمضيت حياتك لا تفكر إلا بالنجاة...، ثم، هذه هي النهاية، لم تنج!
ـ هذا ما جعلني أغلق فمي: فمادامت الطرق كلها تحافظ على المعادلة ذاتها فان عقلي يبقى منشغلا ً بـ: لماذا لا يعمل مائة بالمائة..؟
ـ قبل قليل قلت لي: أمضيت حياتك كي لا يعمل هذا العقل إلا وكأنه أدى واجبه! وها أنت تقول العكس...؟
ـ لم اقل العكس....، بل تساءلت لماذا لدينا عقول أفضل منا، اقصد العقول التي تأبى العمل.. ؟
ـ تقصد: لماذا لا ندعها تعمل بما تمتلك من قدرات حقيقية للعمل...؟
ـ هذه هي المعضلة.
ـ لا ...، أنا اختلف معك، يا جدي، فالمعضلة لا تكمن هنا ...
ـ أسكت! لا تجدف....، الم أخبرك: تعلم فن أن تبدو لا تفهم شيئا ً. الم أخبرك: مع الأغبياء كن أشدهم غباء ً ومع الأذكياء اخف حتى فمك! فإذا كان الصمت من ذهب فان الكلام ليس سوى تراب!
ـ آ ....، كي امضي عمري وأنا لا انتظر إلا من يستدعيني قبيل الموت...؟
ـ هذا إذا سمحوا لك أن تحافظ على صمتك!
ـ آ ...، ربما استدعوك لأنك تكلمت؟
ـ بل ولم أفكر حتى بصمت!
ـ ربما وشى بك احدهم؟
ـ أنا لم اعد أشكل خطرا ً على احد، ولا حتى على نفسي...، فمن ذا يوشي بكائن فائض...؟
ـ ربما أصابعك، أو لسانك، أو ذيلك..؟ فأنت امتنعت عن أداء دورك في السيرك، ولم تعد تلعب مع اللاعبين...؟
ـ أنا هرمت ...، وأصبحت هزأة...، فلماذا أوشي بنفسي، وافضحها...، ثم ما الذي اكسبه من هذه الوشاية؟
ـ مادمت لم تمت، فأنت مشبوه؟
ـ اعرف...، في هذه الدنيا، غير مسموح لك ...، أو بالأحرى...، لا اعرف....، ربما وجدت هكذا ....، مسموح لك أن تحلم، أو أن تتوهم انك تحلم، لكن غير مسموح لك إلا أن تتوهم وهمك كأنه هو وحده ضد الوهم! فالضفادع ولدت كي تهلك في مستنقعها، مثل هذا الغراب الذي يعمل في مكتب مكافحة الضوضاء...
ـ لا تحزن يا جدي، فلن ادعهم يؤذوك...
ضحك الجد:
ـ إلا إذا عملت في إمرة احد الذئاب، أو الكلاب، أو مع بنات أوى...
ـ بل سأعمل مع البعوض، والقمل، والبرغوث...
ـ ماذا قلت...؟
ـ فهؤلاء...، يا جدي، هم أعداء العاطلين عن العمل، لان عملهم هو امتصاص دمائهم...، مثلما يشكلون تهديدا ً أبديا ً لهم، فهم وحدهم يقدرون على إعلان التمرد، والعصيان، والثورة....!
ـ الثورة...؟ يا مجنون...، وكل أسلحة الدنيا لديهم، مع الثروات، والموارد، والشاشات، والمراوغات...، فلم يبقوا لنا إلا أن نولد لنموت...، ونموت لنولد، ولكن من اجلهم!
ـ آ ....، مع أن عقولهم لا تعمل إلا بنسبة ضئيلة، حتى الحمير لديها أدمغة تعمل أفضل منهم!
ـ وهذه معضلة أخرى...، فماذا لو عملت عقولهم درجة أخرى....، فأنهم سيستولون على السماوات وعلى ما هو ابعد منها!
ـ آ .....، الآن فهمت لماذا أمضيت حياتك مع جدتي في ركن قصي، بعيد، لا يراك احد ولا ترى أحدا ً منهم....
ـ وهذه هي الحصيلة...، لم أغلق فمي، لأنني لم امتعض!
ـ ولكنك لم تفتح فمك، ولم تدع عقلك يعمل، مكتفيا ً بالرقص!
ـ ومتى رقصت يا ابن....؟
ـ مع جدتي...، أنا رأيتك، رقصت معها...، وتكلمت معها، قبل أن يتم اختطافها، ويذهبون بها أسيرة، ثم، أصبحت وليمة للعاطلين عن العمل.
هز الجد رأسه، وهو يشاهد الغراب يقترب منهما:
ـ آن لك ... أن تغادر.
نظر الجد بأسى في محيا حفيده:
ـ هكذا العمر ذهب ومعه ماضيه، ومعه مستقبله أيضا ً!
همس الحفيد في أذن جده:
ـ لن ندعهم يؤذوك...، فالثورة قادمة!
سمع الجد الغراب يخاطبه:
ـ تكفي عقوبة الموت...، فلا تضاعفها؟
ضحك الجد:
ـ وماذا بعد الموت...؟
رد الغراب بصوت جاف:
ـ لولا ما بعد الموت لعم الخراب هذه الأرض وفسدت حدائقها!
فسأل الحفيد الغراب:
ـ من خولك أن تهدد جدي...، وتفزعه؟
ـ أنا لم اهدده، ولم انذره، ولم أفزعه...، بل أخبرته بما سيحصل له.
خاطب الجد حفيده:
ـ لا علاقة للسيد الغراب بما حصل...، وبما يحصل، فلا احد يستطيع أن يحدد من المسؤول...
في صالة المؤسسة العامة لمكافحة الضوضاء، طلب من النمر الجلوس، فقد أمره جرذ بذلك، واخبره بضرورة أن لا يفتح فمه، وألا يتذمر، أو يحزن، وان لا يظهر خوفا ً أو أسى على محياه، فالقضية جد عادية، وستنتهي حال إجراء التحقيق فيها. فهز النمر رأسه، وراح يراقب بصمت تام: دخل ثور....، ولم يخرج. ودخلت ظبية، هي الأخرى، لم تغادر. فقرر النمر الامتناع عن التفكير، مكتفيا ً بالمراقبة، كأنه يشاهد فلما ً أو برنامجا ً وثائقيا ً. فدخل تمساح ولكنه لم يتأخر كثيرا ً ليخرج يتلوى مثل أفعى، أعقبه دب، ولم يمكث إلا قليلا ً، ليخرج بجناحين شفافين، فصاح الجرد بصوت غاضب:
ـ أين أنت أيها الكلب!
نظر النمر إلى الخلف، فلم ير إلا أتانا ً جاثمة بجواره، تصدر عنها رائحة روث، فقال لها:
ـ ربما قصدك؟
ـ لا اعرف...، فانا حمارة بنت حمار وصولا ً إلى جدي الأعظم ....، كلنا ولدنا بطاعة مديرنا ...، والولاء له....، وسنموت بأوامره أيضا ً.
هز رأسه:
ـ نحن ولدنا نمورا ً...، وهؤلاء ولدوا حشرات، وسواهم ديدانا ً تزحف، وأخرى تحّوم، وهناك من لم يولد بعد....، وهناك من لن يرى النور أبدا ً، مع انه مذكور في سجلات الوفيات والولادة، وليس في سجلات الولادة والوفيات!
اندهشت الأتان:
ـ هل هناك من لم يمت بعد...؟
فكر مع نفسه، قد يكون تفوه بكلمة محرمة، ضارة، أو تجاوز حدود المسموح به...، فهو لا يتذكر ـ حتى عندما اجبروه على مشاهدة كيف تم افتراس زوجته أمام ناظريه ـ انه نبس ببنت شفة أو صدرت عنه إشارة، بل قال لنفسه: إن لم تمت اليوم فلن يتأخر موتها كثيرا ً....، وأضاف بصمت تام: ولكنني لم اصفق، ولم ابتهج!
قالت الأتان:
ـ المشكلة إن كل ما نفعله لا يرضي سيدنا المدير....، وقائدنا الخالد....؟
ـ ولن يرضى...، لأن المعضلة خارج نطاق صلاحياته..!
ـ اعرف...، قسما ً بالفصول، والعناصر، والخرافات، والحقائق....، اعرف ذلك، لأنني لو كنت ولدت لبؤة لكان مصيري أكثر تعاسة!
ضحك النمر:
ـ وماذا لو كنت ولدت ديناصورا ً ...؟
ـ لكانوا وضعوني في المتحف!
ـ هذه هي اللعبة...؛ أنا قلت لحفيدي: لو كنت ولدت حمامة فمن يخلصك من مخالب الصقور...، أو من بنادق الأشرار....، أو من الأفاعي؟
ـ آ ....، لو كنت ولدت دغلا ً، أو شجرة، أو شوكا ً...
ـ سيان...، فلكل طريدة مطارد....، ولكل قوي أقوى منه...، ولكل منتصر خيبة، فالهزيمة وحدها هي المؤجلة!
ـ ماذا قلت...؟
ـ آ ...، آسف، أنا لم افتح فمي أبدا ً، المشكلة إن بعضا ً من خلايا هذا الرأس تعمل بوقاحة!
صاح الجرذ بصوت حاد، وغاضب جدا ً:
ـ يا حمارة، يا فأرة...، الم تسمعيني؟
ـ لا!
ـ أترغبين أن أرسلك إلى المحرقة، أم إلى الذئاب، أترغبين أن أرسلك إلى السرداب أم إلى الضباع...، أم أعيدك إلى مستنقعك...؟
ـ وماذا افعل في المستنقع؟
ـ كي تصبحين وليمة للتماسيح!
ـ ما يقرره سيدنا المدير هو الصواب!
اقترب الجرذ منها كثيرا ً:
ـ لن أخلصك بالموت وأسعدك به...!
ـ ماذا فعلت...، سيدي، وأنا أتان حملت أثقالكم طوال الزمن...، كي أعاقب بما هو اشد من الموت؟
ـ سأعاقبك بالرحمة....، سأرسلك إلى حظيرة الخيول..
ـ ستعيدني كي أمارس أقدم مهنة عرفتها حدائقنا؛ البغاء...، آ ...، وسأصبح مومسا ً، جميل منك أيها الجرذ أن ترحمنا...، لا أن ترسلنا إلى الزرافات، أو إلى الكلاب!
فسألها بشرود:
ـ أراك سعيدة؟
ضحكت الأتان:
ـ اليوم رأيت ما لم أره طوال حياتي...، رأيت تمساحا ً يخرج من الماء ويجامع إحدى الزائرات عند ضفة البركة....
ـ ولم يفترسها؟
ـ لا ....، بل رأيته منتشيا ً مسرورا ً وهو يمسك بها من الأعلى إلى الأسفل...، وعندما قذف صرح بلذّة صرخة أفزعت سكان المستنقع أجمعين!
ـ آ ....، سنستدعيه، فهذا يعد خروجا ً على العدالة، والدستور، والقانون...
قالت الأتان:
ـ ما هو ذنب المسكين...، الذنب هو ذنب السيدة التي كشفت عن مفاتنها، وأغوته...، لأنها كانت قد فعلت ذلك مع احد الدلافين، ثم مع كبير التماسيح، حتى إنها تأوهت وباحت بالرموز المقدسة! فقال لها التمساح: لا فائدة من ذكر هذه الأسماء، خارج نطاق العبادة. فهمست في أذنه: اسكت، وماذا فعلنا...؟
دار بخلد النمر العجوز: ويطلبون مني أن أغلق فمي وهو الباب الوحيد الذي وجد ليبقى مشرعا ً.
ضحك الجرذ وسأله:
ـ فمك هذا لم يعد بابا ً...، بل صار شقا ً غير قابل للغلق، وصار حفرة من المستحيل ردمها!
قهقه النمر:
ـ حتى أنت تخاف من الكلمات...، بعد أن صارت عتيقة، بالية، ولم تعد صالحة حتى للبهائم!
ـ وماذا لدينا سواها؟
لم يجب. ابتعد النمر قليلا ً، فخاطب الجرذ الأتان:
ـ أنا غير مسؤول عن مصيرك...، اخرجي منبوذة حتى نهاية أيامك في هذه الحديقة!
تضرعت:
ـ ماذا فعلت كي تلعنني أيها السيد المحترم؟
ـ لا تدعيني أتراجع ...، فلو غضبت، تعرفين ماذا سيحصل؟
ـ لا... أرجوك، لا تغضب، أرجوك، لكن دعني اخرج من غير لعنة.
ـ وأين اذهب بها....؟
ـ دعها تذهب مع الريح.
وحدق الجرذ في عيني النمر:
ـ أيها الهرم....، المخرب! يا من يستخدم أقدم الأدوات في آخر العصور...؟
ـ عدنا إلى الأصوات...، إلى النباح والعواء والنعيب والنقيق....، فانا لم ادع فمي ينطق بكلمة.
ـ حتى لو صمت، فكلماتك التي لم تنطق بها تفضحك!
ـ أين هي الفضيحة؟
ـ آ ....، يا لك من نمر وديع! مثل حمل، بل مثل حمامة، إن لم تكن مثل بلبل!
ـ لا تؤذيني...، سيدي، فانا لست حملا ً، ولا حمامة، لست بلبلا ً ولا عصفور ً...، فانا ولدت كي اقهر مخالبي، وأنيابي، واخمد النيران المتأججة في أعماقي...!
ـ اعرف...، ولكنك لا تكف عن النظر في الشمس؟!
ـ اجل، فعندما لا أجد من اشتكي عنده، وأسأله، ارفع رأسي، وأحدق في الشمس...
ـ ماذا تقول لها...؟
ـ أقول... أي...، قلت ... قلت...
نهقت الأتان بصوت رقيق مشوب بالخوف:
ـ اخبره...، فالنجاة في الصدق!
أجاب النمر متلعثما ً:
ـ بعد وقائع الحرب الأخيرة، التي جرت بيننا، في هذه الحديقة، بعد أن افترس الضعيف الأكثر ضعفا ً، وبعد حفلات التنكيل بالصغار، والإناث، والشيوخ، وبعد ...، وبعد حفلات الاغتصاب، والتعذيب، ورمي الجثث في المستنقعات، والبرك، وبعد طمرها، ودفنها في المناطق المجهولة، أو تركها تتعفن في العراء، وفوق تلال المزابل، والنفايات.... وبعد...، وبعد طرد الأبرياء من حفرهم وجحورهم وزرائبهم وأقفاصهم، وحرق منازلهم عليهم، وهدمها فوق رؤوسهم....، وبعد اغتيال أكثرنا حكمة، وعقلا ً، ووداعة...، وبعد ....
ـ وبعد ...ماذا...، أيها الشرير العنيد...؟
ـ رفعت رأسي ونظرت في السماء...، فرأيت الشمس...
ـ نعرف...، لدينا معلومات في غاية الدقة، ولكن ماذا قلت لها...؟
ـ قلت لك: لولاك....، أكان يحصل هذا كله؟!
ـ لا....، لا تزور...، وتموه، من اجل خداعي!
ـ قلت لها: لولا أشعتك البهية، الذهبية، ولولا ... نورك...، وحرارتك، ودفأك، وطهرك، ونقاوتك، وصفاء طويتك....، لولا هذا كله الذي ....
ـ لا تسكت.
وخاطبت الأتان النمر بتضرع:
ـ قل الصدق....، فقد تخفف العقوبة...، وقد تحصل على المؤبد...!
همس النمر في أذنها:
ـ اقسم لك لولا هذا الصدق...، لكانت المصيبة اخف وطأة علينا!
صرخ الجرذ وهو يرتجف:
ـ اخبرني ماذا قلت للشمس....، قبل أن أرسلك إليها!
أجاب بصوت ناعم:
ـ سيدي، أنا اعرف أن القرار قد صدر بحقي قبل استدعائي، بل وقبل ولادتي.....، ولكن تريث...، فانتم لن تقدروا على تدمير دولة البعوض، ولا إمبراطورية البرغوث، ولا ارض النمل، فهناك الديدان العنيدة التي تحول اصلب المعادن إلى غبار....، وهناك الحشرات التي تلتهم أعظم الغابات وتساويها مع التراب....، وهناك...، ذلك القابع في الزمن...، في لغزه، الذي سيبقى يذهب ابعد من زمنك، ومن زمني، ومن الزمن نفسه!
ـ ما الذي يكمن في الزمن، أيها .....، المخبول؟
ـ الذي لا تستطيع أن تغلق فمه!
ـ ولكنه لا يتكلم...؟
تضرعت الأتان للنمر بصوت حزين:
ـ اخبره بماذا بحت....، ألا تراه يرتجف، ويرتعد....، وينز عرقا ً ...؟
صرخ الجرذ في وجه الأتان:
ـ يا حمارة...، أنا لا ارتجف، ولست خائفا ً، ولا أنز عرقا ً مرا ً....، فانا اعرف إن الزمن سيذهب...ويزول.
فسألته الأتان بقلق:
ـ وتزول حديقتنا أيضا ً...؟
قال النمر يخاطب الجرذ:
ـ أنا بحت للشمس: لولاك.....، هل كنا سمعنا هذه الضوضاء، ولولاك...، هل كنا استنشقنا هذا العفن، ورأينا هذا .....، الخراب؟
ابتعدت الأتان عنه، تبحث عن الباب:
ـ سيدي يا كبير الحكماء، أيها الجرذ الوقور، لقد تجاوز السيد النمر المحرمات، والآثام، والكبائر كلها!
ضحك الجرذ وهو يخاطب الأتان:
ـ أنا أمضيت ملايين السنين أحاكم الخارجين على القانون...، كي انتظر من يوجه لي تهمة الخروج هذه ضدي.....! أيها الأحمق، لولا العفن، لولا هذا العفن الغالي، الثمين، النادر، لما رأينا أمنا الشمس العظمى ...، ولولا هذا الزمن لما كنا أدركنا سر ديمومة هذا الذي يذهب ابعد من زواله....
ـ سيدي، أنا لم أشتمك، لم ألعنك، لم أوبخك، ولم انبس ببنت شفة سوء ضد مقامك الكريم.
فصرخ الجرذ بصوت مذعور:
ـ أنت شتمت ولعنت ووبخت من كان السبب ....
صاحت الأتان:
ـ انه ـ سيدي الموقر ـ ذهب ابعد من المحرمات، وابعد من ارتكاب الخطيئة...
ضحك الجرذ:
ـ لن يقدر!
قال النمر بنشوة:
ـ ها أنت تعلمت الحكمة....، فما عليك إلا أن تعمل بها.
ـ لكنك اقترفت الإثم الذي لا غفران له؟
ـ لو كنت تعلمت الحكمة حقا ً...، لعرفت، انه لا معنى للغفران لو لم يمح إثم هذه الضوضاء....، وخطيئة هذه الكلمات! فما قبل وجود الشمس، وما بعد غيابها، شبيه بما قبل الزمن، وما بعده، فهو يماثل هذا الكون قبل أن توجد فيه مثل هذه الحديقة، ولا يختلف كثيرا ً بعد غيابها. المهم، يا سعادة الجرذ المحترم، أن تعمل بالحكمة التي عليك أن تتعلمها، كي لا تستدعينا، وترسلنا إلى الموت، لأن ما قبل الموت، شبيه بما بعده، لا ضوضاء تدلك عليك، ولا كلمات تقودك إلى إغلاق بابه!
26/5/2015
اقتضى حضوركم!
عادل كامل
اقترب الغراب من النمر كثيرا ً وهمس في أذنه بصوت خفيض جدا ً، انه اقتضى حضوره إلى مكتب مكافحة الضوضاء، في تمام الساعة التاسعة صباحا ً. ففكر النمر برهة وسأل الغراب:
ـ أي بعد ساعتين...؟
ـ تماما ً.
ولم يجد النمر لديه رغبة للاستفسار، أو معرفة الأسباب، ليس لأن التبليغ بحد ذاته غير قابل للنقاش، بل لأنه، منذ أسابيع، بل وأشهر، شعر أن أيامه بلغت ذروتها، وقد كتم الأمر، ليمضي الوقت وحيدا ، بعد أن اتخذ قرارا ً بتجنب التفكير، وما شابه، كالتذكر، والاستعادة.
خفض رأسه وتركه يستقر فوق الأرض، بانتظار مرور الوقت. فلم ينشغل بالنظر ابعد من قضبان قفصه، بل وكف حتى عن النظر في الفضاء المحيط به، وقد ضاق، غير آسف انه قد يكون ارتكب هفوة، أو زل لسانه بكلمة، أو أبدى رأيا ً، أو حزن، أو لم يتناول طعامه بحسب المواعيد المقررة، أو لأي سبب آخر من الأسباب....، فهو ـ دار بباله ـ ليس لديه ما يعترض عليه، أو يؤيده، لا ما يحتج عليه ولا ما يدعوه له، الأمر الذي جعله يفكر بان احد أحفاده جادله في أمر لم يخطر بباله منذ ولادته في الغابة، قبل أكثر من نصف قرن، فقد سأله هل حقا ً إن وجودهم في الحديقة، أو في أية حديقة أخرى، يماثل عدمه؟ فتساءل الجد بشرود:
ـ لم افهم...؟
فقال حفيده له ما دمت الغابة قد سلبت منهم، وتم الاستيلاء عليها، فان وجودها وعدمه ينتهيان نهاية واحدة.
اقترب حفيده منه:
ـ أنا سمعت ما قاله الغراب...؟
فرد بلا مبالاة:
ـ ربما سيتاح لي.....، هناك، قول ما ... لم ... اقله!
وسكت. لأنه لم يجد أية ضرورة لأشغال ذهن حفيده بما أراد الاعتراف به، فقال الآخر:
ـ يبدو لي انك لا ترغب أن أشاركك همومك، أو ربما مازالت تعتقد بأنني لم انضج بعد!
رفع النمر رأسه قليلا ً:
ـ المشكلة يا ولدي هي ذاتها التي كانت قد وجدت قبل وجودنا...، وأنا الآن أود أن استمتع بتنفس ما تبقى من الهواء، رغم انه أصبح خانقا ً، بل وضارا ً.
ـ المشكلة كامنة في الهواء إذا ً...؟
ـ ليست في الهواء أو في الماء أو في هذه الأقفاص...، بل لأنه إن كانت هناك مشكلة أو لم تكن فان أحدا ً لا يستطيع أن يذهب ابعد منها!
ـ آ ....، عدت إلى السؤال الذي أخبرتني بإهماله...، لماذا مكثنا نستبسل بالبقاء على ما نحن عليه، حد الموت؟ وأنا سألتك: كل وسائل التقدم متوفرة، من الهواء إلى الماء، ومن الأرض إلى الغابات، ومن المعادن إلى النار....، إلى المخلوقات المتنوعة المهارات...، ومع ذلك نمضي حياتنا نكافح حد الهلاك من اجل الحفاظ على أقفاصنا، زرائبنا، حظائرنا، جحورنا، ومستنقعاتنا.....؟
ـ وماذا قلت لك ...؟
ـ قلت لي: أغلق فمك، فأنت مازالت صبيا ً.
ابتسم الجد:
ـ والآن اكرر: لا تدع فمك يعمل بمعزل عن ....
ضحك الحفيد:
ـ ولكنك تعرف إننا لا نمتلك شيئا ً آخر غير هذه الأفواه....، وغير هذه الأصوات، فأما ننبح أو نعوي، وأما نجأر أو ننعب أو ننهق...!
ـ لا ....، فهناك ...ما ...
وأشار إلى رأسه، متابعا ً:
ـ اعرف ... اعرف، ولكني فكرت إننا لا نستخدم إلا نسبة ضئيلة مما في هذه الرؤوس....، فانا سبق وسألت نفسي: لماذا وجدت هذه العقول....، وماذا لو عملنا درجة إضافية بها...، وما الذي يحصل لو عملنا بما تمتلك من إمكانيات متوفرة فيها...؟
ـ آ .....، صحيح، كأنها كانت تعمل، في يوم ما، مائة بالمائة! ثم حصل التدهور...، وإلا ما معنى إننا لا ندعها تعمل بطاقتها ...؟
ـ لا أعرف..!
فكر الجد بصوت مسموع:
ـ أنا أيضا ً أضعت حياتي في هذه السفاسف، والهمهمات، والدندنات، والأسئلة!
ـ آ ...، يا جدي، تكلم...، أود الاستماع إليك ...، وأنت ...تتحرر... من ... الخوف.
ربما لأنه شعر انه لم يعد لديه ما يخشاه، أو يتوقعه، أو ينتظره، تابع مع مسحة من المرح، واللامبالاة الكدرة:
ـ اقترب مني ..
اقترب:
ـ ليس لدي ّ ما أبوح به لك...، عدا، كيف تنجو....، ففي الغابة كان أسلافك، لملايين السنين، عرفوا كيف يتخلصوا من المطاردين، والصيادين، والأشرار.....، فقاوموا الإبادة، والاجتثاث...، ولكن الأمر اختلف ـ في هذه الحديقة ـ تماما ً، فبعد أن نهبوا غاباتنا، واستولوا على أراضينا، ومواردنا، ووضعونا في هذه الأقفاص، فليس لدينا ما نفعله، عدا تعلم طرق أخرى للدفاع عن النفس!
ـ وهذا ما يفعله الأشرار أيضا ً...، أسرونا، وها هم يكللون نصرهم بالحفاظ علينا من الاندثار، ومن الزوال!
ـ لا اعرف!
مرت دقيقة صمت، فسأل الحفيد جده:
ـ أظنك كنت تريد أن توصيني....، ثم، تراجعت، وقلت لي: حذار أن تفتح فمك، وتعوي!
ـ ربما الأصوات مثال على ما ستؤول إليه المقدمات!
ـ زوال هذه الحديقة؟
ـ بل وزوال السماء ذاتها، بمجراتها، ونجومها، وكواكبها، لتتخذ هيئات أخرى غير هذه التي ظهرت في زمننا....!
ـ ما الحكمة من ذلك؟
ـ هذا ما كنت أود أن أخبرك به: فكر أن لا تفكر! ففي هذه الحديقة، ما أن تفكر، حتى يستدعوك....
ـ آ ....، ولهذا استدعوك، يا جدي العزيز...؟
ـ حتى هذه اللحظات، اجهل السبب...، ولكن ماداموا استدعوني، فالأمر لا يدعوا إلى التشاؤم...، والقنوط، والجزع....! وإلا لكان مصيري انتهى....، كمصير جدتك! وليمة للعاطلين عن العمل!
رفع الحفيد صوته:
ـ ألا ترى إن المعضلة تكمن هنا...؟
ـ لا تشغل رأسك...، فكما قلت لك: فكر أن لا تفكر، من اجل خلاصك. فان لم تنج، أكلوك، ومحوك من هذا الحديقة!
ضحك الحفيد:
ـ وأنت أمضيت حياتك لا تفكر إلا بالنجاة...، ثم، هذه هي النهاية، لم تنج!
ـ هذا ما جعلني أغلق فمي: فمادامت الطرق كلها تحافظ على المعادلة ذاتها فان عقلي يبقى منشغلا ً بـ: لماذا لا يعمل مائة بالمائة..؟
ـ قبل قليل قلت لي: أمضيت حياتك كي لا يعمل هذا العقل إلا وكأنه أدى واجبه! وها أنت تقول العكس...؟
ـ لم اقل العكس....، بل تساءلت لماذا لدينا عقول أفضل منا، اقصد العقول التي تأبى العمل.. ؟
ـ تقصد: لماذا لا ندعها تعمل بما تمتلك من قدرات حقيقية للعمل...؟
ـ هذه هي المعضلة.
ـ لا ...، أنا اختلف معك، يا جدي، فالمعضلة لا تكمن هنا ...
ـ أسكت! لا تجدف....، الم أخبرك: تعلم فن أن تبدو لا تفهم شيئا ً. الم أخبرك: مع الأغبياء كن أشدهم غباء ً ومع الأذكياء اخف حتى فمك! فإذا كان الصمت من ذهب فان الكلام ليس سوى تراب!
ـ آ ....، كي امضي عمري وأنا لا انتظر إلا من يستدعيني قبيل الموت...؟
ـ هذا إذا سمحوا لك أن تحافظ على صمتك!
ـ آ ...، ربما استدعوك لأنك تكلمت؟
ـ بل ولم أفكر حتى بصمت!
ـ ربما وشى بك احدهم؟
ـ أنا لم اعد أشكل خطرا ً على احد، ولا حتى على نفسي...، فمن ذا يوشي بكائن فائض...؟
ـ ربما أصابعك، أو لسانك، أو ذيلك..؟ فأنت امتنعت عن أداء دورك في السيرك، ولم تعد تلعب مع اللاعبين...؟
ـ أنا هرمت ...، وأصبحت هزأة...، فلماذا أوشي بنفسي، وافضحها...، ثم ما الذي اكسبه من هذه الوشاية؟
ـ مادمت لم تمت، فأنت مشبوه؟
ـ اعرف...، في هذه الدنيا، غير مسموح لك ...، أو بالأحرى...، لا اعرف....، ربما وجدت هكذا ....، مسموح لك أن تحلم، أو أن تتوهم انك تحلم، لكن غير مسموح لك إلا أن تتوهم وهمك كأنه هو وحده ضد الوهم! فالضفادع ولدت كي تهلك في مستنقعها، مثل هذا الغراب الذي يعمل في مكتب مكافحة الضوضاء...
ـ لا تحزن يا جدي، فلن ادعهم يؤذوك...
ضحك الجد:
ـ إلا إذا عملت في إمرة احد الذئاب، أو الكلاب، أو مع بنات أوى...
ـ بل سأعمل مع البعوض، والقمل، والبرغوث...
ـ ماذا قلت...؟
ـ فهؤلاء...، يا جدي، هم أعداء العاطلين عن العمل، لان عملهم هو امتصاص دمائهم...، مثلما يشكلون تهديدا ً أبديا ً لهم، فهم وحدهم يقدرون على إعلان التمرد، والعصيان، والثورة....!
ـ الثورة...؟ يا مجنون...، وكل أسلحة الدنيا لديهم، مع الثروات، والموارد، والشاشات، والمراوغات...، فلم يبقوا لنا إلا أن نولد لنموت...، ونموت لنولد، ولكن من اجلهم!
ـ آ ....، مع أن عقولهم لا تعمل إلا بنسبة ضئيلة، حتى الحمير لديها أدمغة تعمل أفضل منهم!
ـ وهذه معضلة أخرى...، فماذا لو عملت عقولهم درجة أخرى....، فأنهم سيستولون على السماوات وعلى ما هو ابعد منها!
ـ آ .....، الآن فهمت لماذا أمضيت حياتك مع جدتي في ركن قصي، بعيد، لا يراك احد ولا ترى أحدا ً منهم....
ـ وهذه هي الحصيلة...، لم أغلق فمي، لأنني لم امتعض!
ـ ولكنك لم تفتح فمك، ولم تدع عقلك يعمل، مكتفيا ً بالرقص!
ـ ومتى رقصت يا ابن....؟
ـ مع جدتي...، أنا رأيتك، رقصت معها...، وتكلمت معها، قبل أن يتم اختطافها، ويذهبون بها أسيرة، ثم، أصبحت وليمة للعاطلين عن العمل.
هز الجد رأسه، وهو يشاهد الغراب يقترب منهما:
ـ آن لك ... أن تغادر.
نظر الجد بأسى في محيا حفيده:
ـ هكذا العمر ذهب ومعه ماضيه، ومعه مستقبله أيضا ً!
همس الحفيد في أذن جده:
ـ لن ندعهم يؤذوك...، فالثورة قادمة!
سمع الجد الغراب يخاطبه:
ـ تكفي عقوبة الموت...، فلا تضاعفها؟
ضحك الجد:
ـ وماذا بعد الموت...؟
رد الغراب بصوت جاف:
ـ لولا ما بعد الموت لعم الخراب هذه الأرض وفسدت حدائقها!
فسأل الحفيد الغراب:
ـ من خولك أن تهدد جدي...، وتفزعه؟
ـ أنا لم اهدده، ولم انذره، ولم أفزعه...، بل أخبرته بما سيحصل له.
خاطب الجد حفيده:
ـ لا علاقة للسيد الغراب بما حصل...، وبما يحصل، فلا احد يستطيع أن يحدد من المسؤول...
في صالة المؤسسة العامة لمكافحة الضوضاء، طلب من النمر الجلوس، فقد أمره جرذ بذلك، واخبره بضرورة أن لا يفتح فمه، وألا يتذمر، أو يحزن، وان لا يظهر خوفا ً أو أسى على محياه، فالقضية جد عادية، وستنتهي حال إجراء التحقيق فيها. فهز النمر رأسه، وراح يراقب بصمت تام: دخل ثور....، ولم يخرج. ودخلت ظبية، هي الأخرى، لم تغادر. فقرر النمر الامتناع عن التفكير، مكتفيا ً بالمراقبة، كأنه يشاهد فلما ً أو برنامجا ً وثائقيا ً. فدخل تمساح ولكنه لم يتأخر كثيرا ً ليخرج يتلوى مثل أفعى، أعقبه دب، ولم يمكث إلا قليلا ً، ليخرج بجناحين شفافين، فصاح الجرد بصوت غاضب:
ـ أين أنت أيها الكلب!
نظر النمر إلى الخلف، فلم ير إلا أتانا ً جاثمة بجواره، تصدر عنها رائحة روث، فقال لها:
ـ ربما قصدك؟
ـ لا اعرف...، فانا حمارة بنت حمار وصولا ً إلى جدي الأعظم ....، كلنا ولدنا بطاعة مديرنا ...، والولاء له....، وسنموت بأوامره أيضا ً.
هز رأسه:
ـ نحن ولدنا نمورا ً...، وهؤلاء ولدوا حشرات، وسواهم ديدانا ً تزحف، وأخرى تحّوم، وهناك من لم يولد بعد....، وهناك من لن يرى النور أبدا ً، مع انه مذكور في سجلات الوفيات والولادة، وليس في سجلات الولادة والوفيات!
اندهشت الأتان:
ـ هل هناك من لم يمت بعد...؟
فكر مع نفسه، قد يكون تفوه بكلمة محرمة، ضارة، أو تجاوز حدود المسموح به...، فهو لا يتذكر ـ حتى عندما اجبروه على مشاهدة كيف تم افتراس زوجته أمام ناظريه ـ انه نبس ببنت شفة أو صدرت عنه إشارة، بل قال لنفسه: إن لم تمت اليوم فلن يتأخر موتها كثيرا ً....، وأضاف بصمت تام: ولكنني لم اصفق، ولم ابتهج!
قالت الأتان:
ـ المشكلة إن كل ما نفعله لا يرضي سيدنا المدير....، وقائدنا الخالد....؟
ـ ولن يرضى...، لأن المعضلة خارج نطاق صلاحياته..!
ـ اعرف...، قسما ً بالفصول، والعناصر، والخرافات، والحقائق....، اعرف ذلك، لأنني لو كنت ولدت لبؤة لكان مصيري أكثر تعاسة!
ضحك النمر:
ـ وماذا لو كنت ولدت ديناصورا ً ...؟
ـ لكانوا وضعوني في المتحف!
ـ هذه هي اللعبة...؛ أنا قلت لحفيدي: لو كنت ولدت حمامة فمن يخلصك من مخالب الصقور...، أو من بنادق الأشرار....، أو من الأفاعي؟
ـ آ ....، لو كنت ولدت دغلا ً، أو شجرة، أو شوكا ً...
ـ سيان...، فلكل طريدة مطارد....، ولكل قوي أقوى منه...، ولكل منتصر خيبة، فالهزيمة وحدها هي المؤجلة!
ـ ماذا قلت...؟
ـ آ ...، آسف، أنا لم افتح فمي أبدا ً، المشكلة إن بعضا ً من خلايا هذا الرأس تعمل بوقاحة!
صاح الجرذ بصوت حاد، وغاضب جدا ً:
ـ يا حمارة، يا فأرة...، الم تسمعيني؟
ـ لا!
ـ أترغبين أن أرسلك إلى المحرقة، أم إلى الذئاب، أترغبين أن أرسلك إلى السرداب أم إلى الضباع...، أم أعيدك إلى مستنقعك...؟
ـ وماذا افعل في المستنقع؟
ـ كي تصبحين وليمة للتماسيح!
ـ ما يقرره سيدنا المدير هو الصواب!
اقترب الجرذ منها كثيرا ً:
ـ لن أخلصك بالموت وأسعدك به...!
ـ ماذا فعلت...، سيدي، وأنا أتان حملت أثقالكم طوال الزمن...، كي أعاقب بما هو اشد من الموت؟
ـ سأعاقبك بالرحمة....، سأرسلك إلى حظيرة الخيول..
ـ ستعيدني كي أمارس أقدم مهنة عرفتها حدائقنا؛ البغاء...، آ ...، وسأصبح مومسا ً، جميل منك أيها الجرذ أن ترحمنا...، لا أن ترسلنا إلى الزرافات، أو إلى الكلاب!
فسألها بشرود:
ـ أراك سعيدة؟
ضحكت الأتان:
ـ اليوم رأيت ما لم أره طوال حياتي...، رأيت تمساحا ً يخرج من الماء ويجامع إحدى الزائرات عند ضفة البركة....
ـ ولم يفترسها؟
ـ لا ....، بل رأيته منتشيا ً مسرورا ً وهو يمسك بها من الأعلى إلى الأسفل...، وعندما قذف صرح بلذّة صرخة أفزعت سكان المستنقع أجمعين!
ـ آ ....، سنستدعيه، فهذا يعد خروجا ً على العدالة، والدستور، والقانون...
قالت الأتان:
ـ ما هو ذنب المسكين...، الذنب هو ذنب السيدة التي كشفت عن مفاتنها، وأغوته...، لأنها كانت قد فعلت ذلك مع احد الدلافين، ثم مع كبير التماسيح، حتى إنها تأوهت وباحت بالرموز المقدسة! فقال لها التمساح: لا فائدة من ذكر هذه الأسماء، خارج نطاق العبادة. فهمست في أذنه: اسكت، وماذا فعلنا...؟
دار بخلد النمر العجوز: ويطلبون مني أن أغلق فمي وهو الباب الوحيد الذي وجد ليبقى مشرعا ً.
ضحك الجرذ وسأله:
ـ فمك هذا لم يعد بابا ً...، بل صار شقا ً غير قابل للغلق، وصار حفرة من المستحيل ردمها!
قهقه النمر:
ـ حتى أنت تخاف من الكلمات...، بعد أن صارت عتيقة، بالية، ولم تعد صالحة حتى للبهائم!
ـ وماذا لدينا سواها؟
لم يجب. ابتعد النمر قليلا ً، فخاطب الجرذ الأتان:
ـ أنا غير مسؤول عن مصيرك...، اخرجي منبوذة حتى نهاية أيامك في هذه الحديقة!
تضرعت:
ـ ماذا فعلت كي تلعنني أيها السيد المحترم؟
ـ لا تدعيني أتراجع ...، فلو غضبت، تعرفين ماذا سيحصل؟
ـ لا... أرجوك، لا تغضب، أرجوك، لكن دعني اخرج من غير لعنة.
ـ وأين اذهب بها....؟
ـ دعها تذهب مع الريح.
وحدق الجرذ في عيني النمر:
ـ أيها الهرم....، المخرب! يا من يستخدم أقدم الأدوات في آخر العصور...؟
ـ عدنا إلى الأصوات...، إلى النباح والعواء والنعيب والنقيق....، فانا لم ادع فمي ينطق بكلمة.
ـ حتى لو صمت، فكلماتك التي لم تنطق بها تفضحك!
ـ أين هي الفضيحة؟
ـ آ ....، يا لك من نمر وديع! مثل حمل، بل مثل حمامة، إن لم تكن مثل بلبل!
ـ لا تؤذيني...، سيدي، فانا لست حملا ً، ولا حمامة، لست بلبلا ً ولا عصفور ً...، فانا ولدت كي اقهر مخالبي، وأنيابي، واخمد النيران المتأججة في أعماقي...!
ـ اعرف...، ولكنك لا تكف عن النظر في الشمس؟!
ـ اجل، فعندما لا أجد من اشتكي عنده، وأسأله، ارفع رأسي، وأحدق في الشمس...
ـ ماذا تقول لها...؟
ـ أقول... أي...، قلت ... قلت...
نهقت الأتان بصوت رقيق مشوب بالخوف:
ـ اخبره...، فالنجاة في الصدق!
أجاب النمر متلعثما ً:
ـ بعد وقائع الحرب الأخيرة، التي جرت بيننا، في هذه الحديقة، بعد أن افترس الضعيف الأكثر ضعفا ً، وبعد حفلات التنكيل بالصغار، والإناث، والشيوخ، وبعد ...، وبعد حفلات الاغتصاب، والتعذيب، ورمي الجثث في المستنقعات، والبرك، وبعد طمرها، ودفنها في المناطق المجهولة، أو تركها تتعفن في العراء، وفوق تلال المزابل، والنفايات.... وبعد...، وبعد طرد الأبرياء من حفرهم وجحورهم وزرائبهم وأقفاصهم، وحرق منازلهم عليهم، وهدمها فوق رؤوسهم....، وبعد اغتيال أكثرنا حكمة، وعقلا ً، ووداعة...، وبعد ....
ـ وبعد ...ماذا...، أيها الشرير العنيد...؟
ـ رفعت رأسي ونظرت في السماء...، فرأيت الشمس...
ـ نعرف...، لدينا معلومات في غاية الدقة، ولكن ماذا قلت لها...؟
ـ قلت لك: لولاك....، أكان يحصل هذا كله؟!
ـ لا....، لا تزور...، وتموه، من اجل خداعي!
ـ قلت لها: لولا أشعتك البهية، الذهبية، ولولا ... نورك...، وحرارتك، ودفأك، وطهرك، ونقاوتك، وصفاء طويتك....، لولا هذا كله الذي ....
ـ لا تسكت.
وخاطبت الأتان النمر بتضرع:
ـ قل الصدق....، فقد تخفف العقوبة...، وقد تحصل على المؤبد...!
همس النمر في أذنها:
ـ اقسم لك لولا هذا الصدق...، لكانت المصيبة اخف وطأة علينا!
صرخ الجرذ وهو يرتجف:
ـ اخبرني ماذا قلت للشمس....، قبل أن أرسلك إليها!
أجاب بصوت ناعم:
ـ سيدي، أنا اعرف أن القرار قد صدر بحقي قبل استدعائي، بل وقبل ولادتي.....، ولكن تريث...، فانتم لن تقدروا على تدمير دولة البعوض، ولا إمبراطورية البرغوث، ولا ارض النمل، فهناك الديدان العنيدة التي تحول اصلب المعادن إلى غبار....، وهناك الحشرات التي تلتهم أعظم الغابات وتساويها مع التراب....، وهناك...، ذلك القابع في الزمن...، في لغزه، الذي سيبقى يذهب ابعد من زمنك، ومن زمني، ومن الزمن نفسه!
ـ ما الذي يكمن في الزمن، أيها .....، المخبول؟
ـ الذي لا تستطيع أن تغلق فمه!
ـ ولكنه لا يتكلم...؟
تضرعت الأتان للنمر بصوت حزين:
ـ اخبره بماذا بحت....، ألا تراه يرتجف، ويرتعد....، وينز عرقا ً ...؟
صرخ الجرذ في وجه الأتان:
ـ يا حمارة...، أنا لا ارتجف، ولست خائفا ً، ولا أنز عرقا ً مرا ً....، فانا اعرف إن الزمن سيذهب...ويزول.
فسألته الأتان بقلق:
ـ وتزول حديقتنا أيضا ً...؟
قال النمر يخاطب الجرذ:
ـ أنا بحت للشمس: لولاك.....، هل كنا سمعنا هذه الضوضاء، ولولاك...، هل كنا استنشقنا هذا العفن، ورأينا هذا .....، الخراب؟
ابتعدت الأتان عنه، تبحث عن الباب:
ـ سيدي يا كبير الحكماء، أيها الجرذ الوقور، لقد تجاوز السيد النمر المحرمات، والآثام، والكبائر كلها!
ضحك الجرذ وهو يخاطب الأتان:
ـ أنا أمضيت ملايين السنين أحاكم الخارجين على القانون...، كي انتظر من يوجه لي تهمة الخروج هذه ضدي.....! أيها الأحمق، لولا العفن، لولا هذا العفن الغالي، الثمين، النادر، لما رأينا أمنا الشمس العظمى ...، ولولا هذا الزمن لما كنا أدركنا سر ديمومة هذا الذي يذهب ابعد من زواله....
ـ سيدي، أنا لم أشتمك، لم ألعنك، لم أوبخك، ولم انبس ببنت شفة سوء ضد مقامك الكريم.
فصرخ الجرذ بصوت مذعور:
ـ أنت شتمت ولعنت ووبخت من كان السبب ....
صاحت الأتان:
ـ انه ـ سيدي الموقر ـ ذهب ابعد من المحرمات، وابعد من ارتكاب الخطيئة...
ضحك الجرذ:
ـ لن يقدر!
قال النمر بنشوة:
ـ ها أنت تعلمت الحكمة....، فما عليك إلا أن تعمل بها.
ـ لكنك اقترفت الإثم الذي لا غفران له؟
ـ لو كنت تعلمت الحكمة حقا ً...، لعرفت، انه لا معنى للغفران لو لم يمح إثم هذه الضوضاء....، وخطيئة هذه الكلمات! فما قبل وجود الشمس، وما بعد غيابها، شبيه بما قبل الزمن، وما بعده، فهو يماثل هذا الكون قبل أن توجد فيه مثل هذه الحديقة، ولا يختلف كثيرا ً بعد غيابها. المهم، يا سعادة الجرذ المحترم، أن تعمل بالحكمة التي عليك أن تتعلمها، كي لا تستدعينا، وترسلنا إلى الموت، لأن ما قبل الموت، شبيه بما بعده، لا ضوضاء تدلك عليك، ولا كلمات تقودك إلى إغلاق بابه!
26/5/2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق