الجمعة، 8 مايو 2015

تاريخ التفكير الديني والاجتماعي في الإسلام الأول-بقلم إبراهيم الحيدري



المستشرق الألماني يوسف فان إس:
تاريخ التفكير الديني والاجتماعي في الإسلام الأول



بقلم إبراهيم الحيدري





فتح فان اس طريقا جديدا امام الباحثين للتحري العلمي عن قضايا ما زالت لم تطرح وتمارس وتنفذ


في موسوعته العلمية الشاملة "علم الكلام والمجتمع" يبحث شيخ المستشرقين الالمان فان إس في تاريخ التفكير الديني والاجتماعي والسياسي في القرنين الثاني والثالث للهجرة ويطرح مجموعة من المفاهيم والمواضيع والاطروحات المثيرة للجدل حول العلاقة الجدلية بين اللاهوت والمجتمع. مراجعة إبراهيم الحيدري

ارتبط علم الكلام (Theologie) منذ نشأته الاولى بمشاكل المجتمع المتعدد الثقافات. فبالرغم من انه يبحث في ذات الله، إلا انه لم يكن مجرد تأمل تجريدي لعلماء الكلام يقف بمنأى عن كل ما يحدث في المجتمع من صراعات اجتماعية واقتصادية وسياسية، ذلك ان علماء الكلام هم افراد في المجتمع يتأثرون ويؤثرون فيه ويكتسبون مكانتهم وهيبتهم الدينية من خلال تلك الصراعات، بالرغم من انهم يزعمون انهم يقفون فوق المجتمع بفضل علومهم القدسية.

ان تقديم عرض موجز لهذه الموسوعة العلمية الشاملة التي صدرت في ستة اجزاء ضخمة في تساؤلاتها العديدة ومفارقاتها الفائقة الدقة وكذلك في منهجيتها الابستمولوجية والانثرو-سوسيولوجية، امر ليس بهين، محاولين، قدر الإمكان، التعرض لأهم المواضيع والقضايا التي تناولها بالبحث والتقصي والنقد.

تاريخ العلاقة بين الإنسان والله

يتضمن الجزء الاول من الكتاب اسس العقيدة الدينية واركان الاسلام الاساسية وانتصاراته وتشكيل الوعي الاسلامي والهوية ورموزها. ويتضمن الجزء الثاني انتشار الاسلام في العراق ومصر والشام. اما الجزء الثالث فيبحث في وحدة الفكر الاسلامي وازدهار علم الكلام.

ويعالج الجزء الرابع تطور الفكر العقلاني –التنويري لدى المعتزلة، وازمة المعتزلة ونهاية المنهج الجدلي. كما يتضمن الجزء الخامس على نصوص من فكر المعتزلة والشيعة والمتصوفة. اما الجزء السادس فيبحث في تلامذة النظام والعلاف واشكالية خلق القرآن.

ان تشكيل الوعي الاجتماعي والهوية الدينية بمختلف رموزها، وبخاصة العلاقة بين الانسان والله وبين الفرد والجماعة وبين العقيدة والمسؤولية وكذلك تشكيل صورة الرسول من خلال القرآن والسنة، لم تحدث مرة واحدة، وانما تطورت مع الاحداث التي رافقت انتشار الاسلام في الامصار المختلفة.

وقد ارتبطت هذه التطورات بوحدة الامة ووحدة الفكر الاسلامي واثرت بدورها على تطور علم الكلام وازدهاره في البصرة ثم في بغداد، مثلما اثرت على تطور المعارف والعلوم، وانتجت انثروبولوجيا اسلامية كما عند ابن هذيل العلاف.

الفكر المعتزلي أول حركة عقلانية في الاسلام

لقد مثل الاعتزال حركة تنويرية طرحت افكارا بالغة الاهمية في تحديد العلاقة بين الله والانسان والنظرة المتطورة الى طبائع الاشياء، حيث نظر المعتزلة الى الانسان بوصفه كائنا حرا ومسؤولا عن افعاله، والى الكون باعتباره وحدة متناسقة من العلاقات والقوانين التي تربط بين اجزائها، وهو ما يمثل جوهر الاعتزال.

والحقيقة، فان ثمة اهمية فائقة للعصور الاسلامية الاولى التي مثلت مجتمعا في بداية تكونه ووحدته وبداية انفتاحه على الآخر، الذي استطاع تأسيس حركة فلسفية قدمت خدمات جليلة لمعنى الوجود وولدت فكرا متنوع الموضوعات لم يرتبط بالبديهيات ولم يستطع الفكر الذي تلاه ان يرتقي اليه ابدا.

ويعود ذلك الى استعداد المجتمع الاسلامي الاول نفسه الى ان يستمع الى ما يقوله علماء الكلام وان يتقبله برحابة صدر وان يجعله محورا ليس لتشكيل الحياة الاجتماعية اليومية فحسب بل وربطه بما هو اجتماعي واقتصادي وسياسي، بحيث امتد علم الكلام من ديوان الخليفة الى العامة من الناس وشمل مواضيع متعددة ومختلفة، من الاجور والعمل حتى العائلة والجنس.

وكما يقول فان إس، يمكن فهم" اللاهوت" بمعنى الكلام عن امور دينية ودنيوية. وبمعنى آخر عن الواقع الاجتماعي بكل ما فيه من اختلاف وتناقض. وبالرغم من ان كلا من اللاهوت والمجتمع ما زالا يبحثان، في تلك المرحلة، عن هويتهما وخصوصيتهما، فان الاسلام "الاول" من منظور متأخر لم يتغير كثيرا.

دور المثقفين

من هذه الرؤية السوسيولوجية انطلق فان إس في اطروحاته المختلفة لدراسة الاسلام ومراكزه الدينية وتطور العقيدة والفرق والمدارس الفقهية في جميع الامصار الاسلامية التي اعتبرها دوائر حضارية تتداخل بعضها مع البعض الاخر وتتمحور في مراكز حضارية.

بغداد، مثلا استقطبت العلماء والادباء والشعراء من جميع المراكز الحضارية الاخرى لاجراء المناظرات الفكرية التي تحولت الى تقليد ثقافي قام على التسامح والحوار، والتي ساعد على تنشيط الحركة الثقافية والعلمية وفجر اشكاليات تأويلية نقدية فيما يخص حقيقة التراث وقادت الى قيام المدارس والجامعات – كدار الحكمة والمستنصرية وغيرها.

كما بحث فان إس في دور المثقفين في نشأة علم الكلام منذ الخلافة الاموية حتى نهاية القرن الثالث للهجرة حيث دخل الاعتزال آخر مراحله المدرسية، لتبدأ مرحلة هامة اخرى في تاريخ علم الكلام وهوعلم الحديث، وما دعي بـ "البحوث".

غير ان فان إس يشير الى ان جميع ما يرتبط بالقرن الاول للهجرة من احاديث كان يدخلها الشك لاختلاف الاراء حولها، ولذلك يكون من الصعب اصدار حكم، واذا صدر اي حكم فهو غير دقيق. ولذلك كان من اهدافه تحقيق ما ارتبط منها بالكتابات الاولى التي تقع بين علم الكلام والحديث، خصوصا اذا عرفنا بان جمع الحديث جاء بشروح شحيحة جدا، وهو ما يدفع المرء الى ان يكون شديد الحذر ونقديا.

استخدام السيرة الذاتية

ومن الناحية المنهجية، لا يتجه فان إس الى التساؤل عن الاشياء ذاتها، بقدر ما يتجه نحو "السيرة الجماعية " للفاعلين الاجتماعيين. كما يستخدم "السيرة الذاتية" ايضا لمعرفة دور واهمية الحركات الدينية والاجتماعية والسياسية التي قامت منذ بداية تكوين الفرق الاسلامية.

هذه المنهجية الابستمولوجية من الممكن مقارنتها بمنهج البحث الاكاديمي الذي بات يطبق في الدراسات الاسلامية الحديثة في الجامعات الالمانية، الذي يستخدم المنهج الانثرو- سوسيولوجي.

هذه بعض القضايا التي يطرحها فان إس للبحث، التي اعطاها ابعادا اجتماعية استثنائية بفضل ثقلها السوسيولوجي، ومحاولاته لتفكيك اشكال "التقليدية" التي خلعت عليها اسدال التقديس زورا وبهتانا، والتي تشكل احدى اهم المهام الملحة في الدراسات الاسلامية الحديثة.

وكما يقول محمد أركون، لقد فتح فان اس طريقا جديدا امام الباحثين للتحري العلمي عن قضايا ما زالت لم تطرح وتمارس وتنفذ، رغم ان المسلمين مازالوا يعيشونها ويعبرون عنها في حياتهم اليومية بنحو او آخر.

ان هذه الموسوعة الجادة تكشف عن قضايا فكرية وفلسفية ذات دلالات دينية واجتماعية وتضع امام المهتمين بالفكر العربي – الاسلامي نموذجا رصينا في البحث العلمي الذي نحن بامس الحاجة اليه.

Josef van Ess: Theologie und Gesellschaft im 2. und 3. Jahrhundert Hidschra، Band 1-6، Berlin New York، 1991-1997.




ليست هناك تعليقات: