كتاب في حلقات
همنجواي في الحلة
3
أحمد الحلي
لا للتدخين
* وسط ظروف غير مواتية من الناحية الاجتماعية
والاقتصادية ، وبعد أن رأى مضار تفشي ظاهرة التدخين بين أوساط الناس ، قاد في العام 2000 والأعوام التي تلته حملة
شعواء ضد التدخين وأسس منظمة باسم (لا
للتدخين) وكان شعارها ؛ (السكائر من صنع الشيطان ، اسحقها .. اسحقها أيها الإنسان)
، وشرع بطبع بوسترات ملونة بهذا الاتجاه ، وقام بنفسه بإلصاقها فوق عدد من الواجهات المهمة بمدينة
الحلة ، وكان نتيجة هذه الحملة ان اقلع عشرات المدخنين عن التدخين .
ومن
أجل ذلك فقد شاعت في أوساط الناس عنه صورة المناوئ والخصم اللدود لظاهرة التدخين ،
وهناك عددٌ من الحكايات التي تم تداولها ، نختار من بينها ؛
1
* في أحد الأيام قبيل الاجتياح الأمريكي
للعراق في العام 2003 ، وبعد حوالي ثلاثة أيام من القرار المتعجل الذي اتخذه
النظام والقاضي إطلاق سراح جميع المعتقلين والمدانين بجرائم مختلفة ، وفيما هو
يجلس في مقعده داخل سيارة مزدحمة بالركاب تسير وسط العاصمة بغداد ، إذ وجد نفسه
يجلس قبالة شخص يدخن بشراهة ، اغتاظ في بادئ الأمر ، وحاول أن يكتم غضبه ، ثم
التمس من المدخن أن يطفئ سيجارته مدّعياً أنه مريض بالربو ، إلا أن المدخن لم يأبه
للأمر ، وواصل التدخين بلذة ونشوة أكثر من السابق ، فلم يجد من سبيل أمامه إلا أن
يُعلن عن سورة غضبه ، مادّاً يده الى حقيبته فاتحاً إياها بعنف قائلاً بصوته الأجش
المزمجر ؛ ها أنتم تجبروننا على العودة الى السجن ثانية بعد أن تم إخراجنا منه !
ساور الركاب إحساسٌ بأنهم بإزاء مجرم خطير،
وظنوه يحاول أن يستخرج سكيناً أو خنجراً ، فأصيبوا بالخوف والهلع، وأخذوا
يتوسلون إليه أن لا يفعل شيئاً ، أما بالنسبة الى الشخص المدخن ، فقد إنهار تماماً
، وأخرج علبة سجائره من جيبه وسحقها بقدمه عند أقدام ( أبي رياض) في محاولة
لاسترضائه وإطفاء سورة غضبه .
2
*إعتاد الناس أن يروه إبان مرحلة السبعينيات
والثمانينيات وهو يقود باص الركاب التابع لمصلحة نقل الركاب في مدينة الحلة ،
ناقلاً إياهم من مركز المحافظة الى النواحي والأقضية والقصبات التابعة للمدينة
وبالعكس ، وكان هو لا يتورع عن تطبيق قانونه الصارم بشأن التدخين في حافلته التي
كان يعتني بها اعتناءً شديداً ، وفي أحد الصباحات صادف أن شغل المقعدين اللذين
يقعان خلفه مباشرة أحدُ شيوخ العشائر وشخصٌ آخر كان بصحبته ، وما إن تحركت السيارة
مسافة قليلة حتى استخرج الشيخ علبة سجائره المطرزة بخيوط حريرية ملونة ، مقدماً
سيجارة لرفيقه ، وأخذ الاثنان يدخنان بنهم ولذة ، نظر الى سحب الدخان التي أخذت
تتشكل فوق رأسه فتراءت له على هيئة غيلان ووحوش تحاول الانقضاض عليه ، ألقى نظرة
في المرآة الى الشيخ الذي سمع به كثيراً ، فوجده أشبه بطائر (الفسيفس) حين ينفش ريشه استعداداً للتزاوج ، وساوره إحساس ٌ بأن هذا الشيخ ربما يظن أنه
جالس ٌ في هذه اللحظة في صدر مضيفه ، خفف من سرعة السيارة وخاطب الشيخ بصوت مسموع
؛ هل تسمح لي أيها الشيخ الموقر أن أطلب منك شيئاً ؟ انتبه هذا إليه ؛ نعم تفضل ،
وظن في بادئ الأمر أنه يطلب منه سيجارة ، فأستخرج علبة السجائر وناوله واحدة منها
، قال أبو رياض ؛ عذراً أيها الشيخ ، فأنا لا أدخن ، وأن الذي أرجوه منك هو أن تكف
عن التدخين أنت وصاحبك ! اغتاظ الشيخ للهجة الصارمة الآمرة التي يخاطبه بها هذا
السائق الحكومي الذي ربما لم يعرف سطوته جيداً
، قال له هازئاً ؛ ومن أين لك السلطة في منعي من التدخين ؟
ـ هذه حافلتي وإن تكن سيارة حكومية ، وأنا اعتدت
أن أطبق هنا قوانيني !
- وأنا
أقول لك بكل بساطة ؛ يؤسفني أنني لا أحترم قوانينك ، فما الذي بوسعك أن تفعله ؟
لم يفعل شيئاً ، وإنما قلل من سرعة الباص الذي كان
يقل موظفين يرومون الوصول الى دوائرهم في الوقت المحدد ، فتصايح هؤلاء ؛ ما الأمر
؟
قال أبو رياض مخاطباً الشيخ ؛
ـ ألا ترى ؟ إن هؤلاء سلاحي !
أصر الشيخ على موقفه وتملكته سورة الغضب ، عند هذه
النقطة ، أوقف صاحبنا السيارة تماماً وركنها الى جانب الطريق ، ظن باقي الركاب أن
ثمة عطلاً أصاب السيارة فظهر منهم التذمر والاستياء ، قال أبو رياض مخاطباً الجميع
؛ اطمئنوا فليس في السيارة سوى عطل واحد هو هذا الشخص الجالس خلفي ، والذي يُصر
على الاستمرار في تدخين سجائره المقيتة ، وفي هذه الحالة ، وكما تعرفون ، فلن أدع
السيارة تتحرك شبراً واحدا ً ما لم يكف هو تماماً عن التدخين ،
وبأسرع
من لمح البصر تحول غضب الركاب الى الشيخ الذي وجد نفسه في موقف لا يُحسَد عليه ،
هذا يصيح به ، وذاك ينهره ، وكاد أحدهم أن ينهال عليه بالضرب ، فتدخل في اللحظة
المناسبة ، قائلاً للشيخ بحزم ؛ والآن من فضلك أعطني علبة السجائر، فأعطاها إياه
وهو لم يَكدْ يُفيق بعدُ من ذهوله وارتباكه ، فأخرج السجائر منها وطرحها أرضاً
وأخذ يسحقها بحذائه ، ثم أعاد إليه العلبة الثمينة فارغة ، وإزاء هذا الموقف ، لم يجد الشيخ المغلوب على
أمره من سبيل أمامه للخروج من هذا المأزق
سوى أن قدم اعتذاره له ولباقي الركاب
مصرحاً أمام الجميع ، أنه ومنذ هذه اللحظة قرر التوقف عن التدخين ، رامياً العلبة
الفارغة الثمينة من نافذة الباص دونما أسف .
3
يذكر المقربون منه ، أنه عمد إلى استعمال طرائق
متعددة في مكافحة ظاهرة التدخين ، ولا سيما في حافلته هذه ، ومن ضمنها أنه أشاع لدى ركابه الذين
إعتاد أن يراهم كل يوم في رحلة ذهابهم وإيابهم الى دوائرهم الحكومية ، أن سيارته
تم تزويدها مؤخراً بجهاز الكتروني ياباني لدى خلاياه حساسية قوية من الدخان
المتصاعد من السجائر ، الأمر الذي يؤدي أن يبطئ الباص من سرعته تلقائياً ، وكان
الركاب يتساءلون فيما بينهم بين مصدّق ومكذب ؛ هل حقاً يوجد هكذا جهاز ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق