الأحد، 13 يوليو 2014

همنجواي في الحلة (9)- أحمد الحلي

كتاب في حلقات

همنجواي في الحلة (9)


                    أحمد الحلي

نداء الأمومة
اعتاد الناس في العراق أبان فترة الحصار ان يبتدعوا وسائل وأساليب  غير معهودة للصمود أمام شبح الجوع وخواء المعدة الذي بات يتهدد حياة الملايين ، وإزاء ذلك جلب في احد الأيام دجاجة ، وفي ذهنه مشروع لتربية الدواجن في حديقة منزله ، ليستفيد من بيضها ولحومها ، وبعد أن نفد بيض الدجاجة وأصبحت " كُركه " حسب التعبير الدارج ، جلب لها عشر بيضات ملقحة من السوق ووضعها في قُنِّها* ، وما إن مضى الوقت اللازم لتفقيس البيض حتى أخذت الكتاكيت تطل برؤوسها الصغيرة ، إلا ان فرحته وعائلته لم تدم كثيراً ، فقد التهم الموت الفراخ واحداً تلو الآخر : واتى عليها جميعاً ، وتكرر الأمر في المرة الثانية والثالثة والرابعة وأخيراً قررت العائلة نقل قفص الدجاج إلى إحدى زوايا سطح الدار حتى لا تبصر أعينهم تكرار وقوع المأساة ، وبعد انقضاء المدة اعتادت العائلة على مشهد رؤية الأب وهو يصعد إلى السطح ثم لينزل وبيده واحد أو اثنان من الكتاكيت الميتة كان الجميع مدركين في التالي انه لم يتبق سوى بيضة واحدة يوشك كتكوتها أن يرى النور لفترة وجيزة ، صعد ابو رياض في اليوم التالي ونزل من دون ان تحمل يده أي شيء ، فاستفسروا منه هل رميته من فوق أجابهم ، كلا، فما يزال قرب أمه حياً ، ويساورني إحساس أن هذا الصغير سيعيش هذه المرة ، فاستفهموا منه وكيف عرفت ذلك ؟ أجابهم ؛ رأيت عجباً ، إذ أبصرت أمه وهي تذودني بشراسة عنه ، ثم رأيتها ترفع رأسها إلى السماء وتقوقئ بطريقة غريبة لم أعهدها في الدواجن من قبل فهمت منها إنها تطلب من خالقها ان يستبقي لها هذا الكتكوت الأخير استجابة لنداء الأمومة التي يبدو إنها لم تذقها قط ، وبالفعل عاش الصغير .
_________________________
* قُن الدجاجة ؛ بيتها  .

كيس طحين

في أحد الأيام وخلال فترة الحصار ، وجهت الدائرة الحكومية التي يعمل فيها بوصفه سائقاً ، وجهته للذهاب بسيارته (البيكب) إلى بلدة المحاويل الواقعة إلى الشمال من مدينة الحلة بحوالي 20 كم لجلب بعض المستلزمات من مخزنها هناك ، وفي طريق الذهاب استوقف احد الأشخاص الواقفين على قارعة الطريق أبا رياض ، فتوقف ، فطلب هذا منه أن يقطر له سيارته العاطلة إلى بلدة المحاويل ، وفي ذهنه أن الـ (بيكب) سيارة شخصية ، وافق على قطر السيارة مقابل مبلغ (10) آلاف دينار ، وفي اليوم التالي ، فوجئ بمدير دائرته يستدعيه على عجل ليقول له بلهجة صارمة موبخة لقد رأيتك بالأمس وأنا ذاهب إلى بغداد وأنت تقطر بسيارة الدائرة إحدى السيارات المدنية العاطلة : فأنكر ذلك بشدة مشدداً على انه لم يسحب أي سيارة ، فأصر المدير ؛
ولكني رأيتك بأم عينيَّ هاتين .
فأجاب بذات الإصرار مبيناً انه لم يكن يسحب أيّ سيارة وإنما كيس طحين !      

شكر ومحمود
اقترب فرّاش الدائرة منه ، وسلمه مظروفاً ، وطلب منه أن يفتحه ، وبعد أن فتحه ، وجد فيه كتاب شكر وتقدير موجّه من مدير الدائرة إليه لحرصه وتفانيه في عمله رغم الظروف الصعبة والرواتب الشحيحة التي لا تفي بأبسط متطلبات الحياة ، وبدلاً من أن يفرح ، اغتاظ كثيراً فتوجه من فوره إلى غرفة المدير ، ليلقي على طاولته كتاب الشكر ، قائلاً له ؛ أنا لست في حاجة لكتاب الشكر هذا ، فقال له المدير ؛ ولم ذلك ؟ قال ، واستخرج من جيبه هوية أحواله المدنية ووضعها أمام عينيه فوق طاولته ؛ تأمل جيداً في اسميْ أبي وجدي ، إنهما شكر ومحمود ، فهم المدير المغزى ، فاستبدل كتاب الشكر بمكافأة مالية !

لوحة

أصيب في السنوات الأخيرة بضعف في بصره ، وبعد أن ذهب إلى أحد أطباء العيون أخبره هذا بعد أن فحصه بعناية ، أن الأمر يتطلب إجراء عملية جراحية ، من أجل (زرع عدسة) بحسب مسمياتهم . 
وفي الموعد المحدد ذهب إلى طبيبه ، وتم إجراء العملية ، وخلال مكوثه في البيت وانتظارا لرفع الخيط ، اتصل هاتفياً بأحد أصدقائه من الفنانين التشكيليين ، وكلفه بتنفيذ لوحة وأعطاه فكرة  تفصيلية عن المفردات التي يرغب في أن تتضمنها اللوحة ، وعندما حل موعد الذهاب إلى عيادة الطبيب ، تأبط اللوحة بعد أن غلفها بعناية ، رحب به طبيبه وطلب منه أن يضطجع على الكرسي المخصص ، إلا أنه قال له ؛ ليس قبل أن تشاهد هذه اللوحة ، و أخذا يرفعان عنها الغلاف .
ألقى الطبيب نظرة على موضوع اللوحة الذي لم يفهم منه شيئا للوهلة الأولى ؛ فقد رأى اللوحة مرسومة وفق الأسلوب التجريدي ، إلا أنه استطاع أن يميز شكلاً على هيئة عين ولكن بجناحين يطيران في الفضاء الفسيح ، وثمة تحتهما أجزاء من الخيط المتساقط ، وأخيراً استطاعت عيناه أن تقرآ عبارة مكتوبة بخط مموّه تقول ؛
فك الخيط يا دكتوري 
خلي يطير عصفوري
فرح الطبيب بهذه الهدية النادرة وأسرع فعلّقها في صدر عيادته .



ليست هناك تعليقات: