في التشكيل العربي المعاصر
في تجارب د. علي الخالد الكرافيكية
النص وذاكرة المشاهد
عادل كامل
* تضادات التماثل والاختلاف :
إلى أي حد نجحت فلسفات ما بعد ــ الحداثة ، ان تدفع بالنص خارج ذاتية الصانع ، وتجعل من الاخير ، موتا ــ أو قطيعة ..؟ والى أي حد ، في سياق ما بعد التقنية ، يأتي النص الفني ، بمعزل عن مخيال ـ وحواس الفنان ؟ ان الكرافيكي السوري ، د. خالد سليم الخالد ، لا يغامر بالانحياز الى فلسفة ما قبل ـ موت ـ الإنسان ، أو بعده ، في سياق برامج عولمة تسندها مظاهر صورية ـ وعملية لا تحصى ، ولكنه ، في نصوصه الطباعية ، يضعنا في بنية أقدم النصوص الفنية : آثار التخطيطات فوق جدران الكهوف ن وتميل عشتار ، والأختام ، والتشفيرات الموازية لتقاليد الفنان القديم . ان علي الخالد لا يغامر بالحفاظ على باثات نصوص تجدد مأزقها فحسب ن بل تضع الإدراك الفني ، بموازاة التأمل ، والرصد .. فأعماله الطباعية تأتي خلاصة تدريبات طويلة أفضت الى ضرب من التركيب ، والاختزال .. فالتشفير لا يمثل إلا نهاية عمل تقنيات الآلة ، مع بقاء الحساسية تشتغل شغلها عبر الأزمنة . ففن الكرافيك لا ينتمي الى عصر محدد ، حتى على صعيد الحرفة ؛ انه يلتزم خفايا عمل نظام النبض ، والإيقاع ، وعمل الحريات في سياق نظامها .. كي تتشكل بنية ذاتية ولكن بمواصفات عصر لم تعد للإنسان فيه إلا مراقبات وتنفيذات تقنن الغايات ولا تفسح للتعبير ، إلا مكانة الحذف . ان الفنان د . علي الخالد يشتغل داخل شغل تقنيات الطباعة ، يشتغل للامساك بما هو غير قابل للرصد ، والتحديد ، والمعرفة .. بيد انه يذهب حيث أكثر الموضوعات خفاء ً تبدو قد تشكلت عبر التراكم والحذف ، داخل النص ، حيث صار النص يولد سلاسل تدريبات تتوازن مع المخفيات المعلنة : دوائر وأقواس وحروف وإشارات .. تعمل على تقويض حالات السكون ، أو جماليات الرؤية الأحادية ! وهل ثمة جماليات للثوابت ..؟ ان نصوص الفنان الكرافيكية تستمد ديناميتها بتحاورها حد التوحد مع موضوعات الزمن / الطيف : هذا المتحرك عبر فضاءات كوكبية . فليس ثمة موضوعات للسرد ، أو قابلة للتأطير إلا كمنطلق للتوسع ، مع خواص الفن العامة ، وفي حدود إمكانية فن الكرافيك تحديدا ً .
* التراكم ــ اشتغالات المخفي
لو لم تمتلك أقدم البصمات وأقدم الرسومات ، تلك التي ولدت متضمنة خفاياها ، وأسباب ظهورها ، لكف الماضي ان يكون مستقبلا ،، عبر الحاضر الرائي وكثافة وجوده ــ ألعلاماتي ــ لغدا فن الرسم ، والكرافيك في مسارات تحولاته ، لا يؤدي إلا دورا يمكن الاستغناء عنه . لم يكن الفن لغة ، أو معان قابعة في القاع ؛ انه لغة نفسه ، وهو ما يريد ان يرسله كي يمتد بمغزى موته المنبعث . فالتكرار الحاصل على صعيد المأزق ، يرسخ ، دينامية الاتصال . فالتكرار يكف ان يكون استنساخا ً . انه إلغاء . فالمأزق لا يتشكل بالأحلام ذاتها التي تعيد المخيلة افتراضاتها ، وإنما ، بما هو متحد بالمحركات وأشكالها المحورة . أليست هي أول حداثة تؤشر للفجوة بين الجدار والقلب ..؟ لأن النص سيتحدث ـ بما فيه ـ عن كيانه المنفصل . انه نص القطيعة عن مكوناته حد ان الظاهر ، صار يولد متتاليا ته . ولكن هذا لا يدحض ان الإشكال مكث دافعا ـ ومحركا في كل الأشكال ـ والبنية الفنية . ان ألواح علي الخالد تحمل موضوعات مكثت تمتلك قدرتها على الانبعاث . انه هذا الذي ناره مازالت كامنة في الرماد . فالمحركات تجد أشكالها بما يمتلكه الرسام من رهافة تبلغ حد الوجد الصوفي.. فالأشكال تكاد ، في حدودها ، تتكون مندمجة : المشهد الكلي للأجزاء المندمجة .. أما التفاصيل فأنها حروف تكوّن عبارات الكتاب / النص . لأن محركات الفنان كامنة في هذا الترابط بين [1 ] عالم يزداد تراكما [ 2 ] وتقنيات تنوع رؤية ما تم رؤيته [ 3 ] مع حساسية تجاور / تحاور آليات التنصيص ، والخبرة الكلية للقلب والبصر والخلايا . فالرسام لا يرى . انه يصنع مرايا ترى الآخر الذي يمدها بقدرة التوغل في جدلية الأبعاد . فلم يعد الجدل الهيجلي ــ وما قبله منذ الديانات الفارسية والهندية والشرقية المثنوية ــ إلا مفتاحا لما بعد الجدل ، وليس لـ ( ما بعد ) موت الفن / الإنسان . هذه الشرعية لحضور أبعاد ترى ما لم ير ، تمنح عمل وسائل الاتصال ، طاقات مستحدثة أو مصنّعة . ثمة أبعاد توّلد فعل التراكم ، بمرور الأزمنة ، الذي نسف أحادية الأساطير ونظامها التكراري ، دخلت الفضاءات بما تمتلك – موضوعيا ً- لجعل الذات لا تكف من التوغل في مساحاتها غير الساكنة . د . علي الخالد درس فن العصور السابقة ، وتوقف عند عصر النهضة ، والمدارس الغربية المعاصرة ، يجعل نصه بعدا ً ـ يتضمن المغامرة : انه يذهب ابعد من المعنى ، وابعد من السطح ، حيث الحقب ، الأزمنة ، والمحن ، كلها تشكل تحويرات التقانة .
فمع تطور الكهف الى ناطحات سحاب ، والمحراث الى آلات عملاقة ، تكون التقنية قد كفت ان تكون كهفا ً أو محراثا ً . إنها ، منذ بدأت تفكر ــ التقنية / الحاسوب ــ ذاتيا ً ، راحت ، في المراقبة ، تراقب مداها المحدق ، والمتدحرج ، حيث التوغل عميقا في المجهول . ان التقنية لا تنفصل عن ذات شذبت حد إعادة صياغة أقدم الأسئلة . ليس ( لماذا ) .. بل : كيف يغدو النوع نوعا قادرا ً على بناء كثافات تتوازن فيها الأزمنة .. والثقافات .. والغايات .
نصوص الفنان السوري ، تشترك ، مع عدد آخر م الرسامين العرب ، بالدق على لوح خالٍ إلا من تراكمات تتراكم حد إنها لا تقول إلا ما تخفيه : محنة موجودات في وجود يتبعثر . أليس الدحض ، منذ ربع قرن ، لا يرغب إلا بعيد يختفي فيه الإنسان ..؟ بيد ان اشكاليته ، لن تمكث بما هي عليه ، عندما تجد دحضا موضوعيا ينقلها من حد الى حدود مندمجة في أبعاد تجعل الأسئلة وقد صارت ترى كل الذي كان يقع خلف المرآة . ومن الصعب ان أدوّن – إن لم نتأمل أعماله الغزيرة – وقبلها شخصيته النادرة توقدا يدمج فيها تصادمات المناهج واللامعاني واللااسباب وتفكيكات الضؤ وعمل ترليونات جينات أجزاء الخلية الواحدة ، كي أوضح ان النص الكرافيكي يتمتع بعلاقة مع هذا التوغل داخل اتساع اللاحافات ، وفي كل الذي يكف ان يكون له وجود في الوجود .
يوضح هذا الرصد ، رصد الفنان لـ [ 1 ] تراكمات تتعاقب ، تمحو أشكالها ، ولا تتخلى عن أسرارها وانكشافاتها وزولاتها ، عبر [ 2 ] منح الجدل ن نفيا يناسب سياقات الحلول المستحدثة ، لمآزق تتعاقب [ 3 ] مع انكشاف خلايا زمنية ، غير أسطورية أو قائمة على الخرافة والأحاديات ، وإنما ، في موضوعات تقود الى موضوعات عبر سلاسل الانقطاع ، والاندثار [4 ] حيث الرائي ، مع تطور التقانة ومجاورة كثافات الوقائع ، وتعددية الأزمنة والأدوات والمسافات والمجهولات ، يغدو مرئيا ورائيا أمام مصائر ليس لها إجابات ناجزة . انه يكرر – في نصوصه – كل الذي يخفيه البركان ، في الطبيعة ، ان آخرين ، بعد استقرار الرماد فوق الأرض ، لن تدهشهم إلا الأزهار وهي تنبت في اصلب الصخور قسوة .
*اختزال:
لا يفسر ظهور فنون الطباعة ، مدى تحول الوعي الى تطبيقات ، ومدى التطور الحاصل في وسائل إنجاز النص ألطباعي فحسب ، بل ، إن التراكم ذاته قد أدى لظهور لغة أكثر إخفاء ً لمرجعياتها . إن د . علي الخالد ، بثقافته النظرية ، يعيد قراءة أكثر العلاقات تداخلا ً : التراكم والاختزال .. هذا الضرب من الاختزال يتوخى ، في دينامية النص ، البوح بما كتم . لكن هل ثمة قول أخير ..؟ نصوص الطباع ، تنفي ، إنها لا تذهب الى العمق : ما هو ابعد من التحدي والاستجابة ، وابعد من نفي النفي .. فثمة ــ في الحاضر ــ مسافة مرئية لكنها تقع بين بعدين متحركين .. تجعل الفنان يتحرك داخل الحركة . فليس ثمة قضايا ناجزة إلا عبر امتدادها . انه يراقب ويحصي الاختلافات ، كما يتأمل أسرار تكرارات إيقاعية تبلغ حد التماثل ، ليدمجها ، بدينامية ، في إطار بنية حاملة لدوافعها ، وانفتاحها الهندسي . ان صوره تبدو للنظرة البكر ، إنها حاصل ترتيب وتجميع وتركيب ما لا يحصى من الأشكال الهندسية والعضوية .. والتراكم مسلمة .. بيد ان الفنان لا يحذف ، بمعنى الحذف الشكلي ، بل بمعنى الإخفاء . انه يخفي سلاسل الأصداء والمآزق والتكيفات ، حد ان الحذف ذاته يصير كثافة . مثل المسار الطويل الذي صار عليه الرمز ــ وصارت عليه العلامات . فنصوصه ، فنيا ً ، تقول الأقوال ـ أو التعبيرات ــ التي ما زالت تمتلك ــ تدفقها . إنها لا تعلن عن نقص الماضي ، خارج سره ، بل عن سره في نقص لا يردم ، نقص يماثل عدم قول القول التام . فالنص يصير مسرحاً لصمت أشكال لا تعزل فيها دالاتها عن مدلولاتها : ولا تبعد مكونات النصوص ، ودوافعها ، في مشهدها الكلي . فهو جمع مركب ومندمج لمصائر وتجارب وصبوات صهرها كي يبقى فن الكرافيك يؤكد انه لا يتكرر ، ولا يتماثل ، بل يختلف داخل مسار الأسرار التي بدأ منها : الخط المتعرج فوق جدار الكهف وفوق الأواني الفخارية .. إنها حساسية الحواس ـ عبر الأصابع ـ كأقدم وسائل للعمل التي حملت أثقال الرأس ــ وقد وضعت داخل إطار ـ أو مفهوم . فالفنان يحرص أن يجمع مراكزه داخل مركز النص : أشكال وعلامات وشفرات وحروف ورموز صورية كلها لا تحكي إلا الذي يحركها : إنها أشكال لا تغادر محركاتها ، عبر أزمنتها ، لكنها ، في الزمن المعاش ، تفتح شرخا ً ـ شقا ً ـ في الذاكرة : عصر كفت اللغات أن تقول إلا بذهابها نحو لغات مجاورة ، أخرى ، كي تكمل مسار لوعة الوعي ـ واشتغال الأصابع عبر الزمن . إن نصوص علي الخالد تعيد صياغة المخيال وقد تكشف عن فضاءات دفعت بالإطار وبالمفهوم ـ نحو فضاء الاتساع . انه لا يصور شواخص أزمنة ، أو خرائب حضارات ، إلا بما يحمله الأثر من مغادرة : حركة فعالة ، وتوقدات . انه ، يعمل بسر العمل ولا يترك للسر أن ينكشف ... فالدينامية لا تصبح ، بحسب ( عمانوئيل كانت ) الشيء في ذاته ـ إلا لأنها ـ في ديالكتيها البنيوي ، تظهر الذي يبقى في القاع . فالمعنى يغدو كل الذي ينبثق عبر معناه المضاف ، والمحذوف وغير القابل للحذف . فالحركة لا تستقل ـ في ذاتها ـ ولا تنفصل البنية عن متجاوراتها .. لأن مهارة الرسام لا تكف عن دراسة العلاقات : الحركات ، والبنيات ، داخل نظام يولد ، في هذا التفاعل أو ما فوقه ، مخفيات الطبّاع الأول . أن د. علي الخالد لا يستنسخ ، بل يشتغل كما يشتغل الرحم .. انه مشغول بالتتابع .. لأن كل ( ولادة ) هي تاريخ عنيد وطويل للموت . وهو تاريخ لا ينفي الموت القادم .. لكن ، تبقى ثمة مسافة لا تغيب ، مسافة الكثافة ن والحضور ، وكل ما هو تأمل فعّال في الوجود ، وغير منفصل أو مقطع .. مسافة يجعلها الاختزال ، في خطاب الفن ، لا تحقق اتساعها ، ولكننا لا نراها إلا في إطارها ، حيث يتدخل مخيال ، وأصابع ، وحساسية الرسام ، كي تجعلها مرئية ، ومراقبة : انه ينظم المعنى المولد لمصيره ، حيث يكف الموت ( المعنى ) إلا أن يكون قد حمل فضاء ً للتوق ، أو إضاءة وجيزة تسرد كل الذي يتستر وراء الأشكال ؛ وكل الذي صار ذاكرة ـ ومشفرات ـ لا تكف تمتد بكثافات أحلام توّلد خفاياها . انه ، على حد قول لباشلار : بمثابة فلسفة تختزل غنى لمختلف في فقر المتشابهات .
• الكلي ومظاهر الأجزاء ـ حول الأثر
يثبت فن د. علي الخالد ، الكرافيكي ، ان قواعد العمل الفني ، لا تنتمي الى طبيعة الأشياء ، ولكنها ليست ذاتية خالصة . ان هذا التوازن ، في معالجة العناصر ، يجعل عالمنا أمام مصائر تكمل خفايا مقدماتها . هل ثمة مضامين ملغية ، أم هي قيد الانبثاق ..؟ ما المخفي ، في وضوح نصوص الرسام : حساسية الصانع ، أم باثات الفن ؟ وأخيرا ً ، كما اشغل شاكر حسن أل سعيد على ( وقائع الأثر والمراقبة ) ، ما الذي يدل عليه الأثر ــ الذي صار نصا ً .. ؟ يسهم الفنان علي الخالد ، بقصد أو بدونه ، انه صار هو الذي يدوّن ما يراه ، منذ لم تعد الأصابع إلا طرفا ً خاصا بالوعي . فالكلي يسمح بالذهاب ، ابعد فابعد ، في الخفايا : ان الرسام لا يغادر حدود الأشكال الهندسية ، بعد ان دمج التشخيص بها . فموضوعات اغتراب الوعي ــ عن مساراته وامتداداته النفسية والاجتماعية ، جعل المشهد الجمالي يأخذ صيغة التعارض ، أو النقد . ثمة مشاهد لا تحتفل ، بل تتكون : إنها تتصادم ، وتتقاطع ، كي تقول الذي كان كامنا ً وراء فن التعبير . ثم جاء الإعلان : علامات للمقارنة : سماءات ومشاهد أرضية يتداخلان كانهما في حلم ؛ كابوس مصدع ، وحلم تغدو شفافيته طريقة تنفيذ ؛ وسيلة غدت غاية ، جاعلا ً ذاته أمام الاتساع ، تتلصص الوقائع . ان الإنسان لا يختفي ، ولكنه لا يظهر . فالنزعة ما بعد التعبيرية ن وما بعد التجريد الخالص ، تتوقف عند هذه النزعة : ان الفن يبوح بما سيبقى كامنا في مجموع العلاقات ، وليس في غاية أخيرة . والفنان ، في تنويعات أشكاله وعلاماته يدمج ، ولا يجد صعوبة في ذلك ، بين المتضادات : الهندسية والعضوية ، وبين الاتساعات ونقاط التلاشي . فالنص خلية كونية تم تفكيكها وجعلها تجد وثباتها عبر حساسية الفنان ــ وفنه : الطباعة بالحجر ، والزنك ، وبالمواد الأقل كلاسيكية ، الى جوار : ذات صاغتها القواعد والمفارقات . ان هذا البوح ، لا يغادر فضاء قرن كان التشكيل العربي قد بلغ فيه ذروته ( في الانغلاق ) : ان الحداثة لا تستقل ، ولا تنفصل ، عن حساسية لا تغادر وعيها ، ومرجعياتها . ففي مشهد التشكيل العربي المتماثل ، كمرآة ، ونقوش زخرفية ، ولذائذ أحادية ، لا يتوغل بل يتردد ، لا يغامر بل يمضي بعيدا في التبرج والتزيين ، نجد الفنان الخالد يقاوم صعوبات الحفر في الصمت المدفون . ان فنه يمسك بما وراء اللعب ـ والتقنيات ـ فهو لا يغادر خفايا جعلت الخارج مرسوما بنظام ضربات الداخل ، وعمل المخيال المحاصر ، والمنفي . انه لا يرثي ، ولا يمجد ، بل يفكك . انه لا يشهد كي يؤدي الفن دور الشاخص أو مآثر الأطلال ، ففي الخفايا ، ووراء المرئيات ، النبض الذي يكمل ، انبثاقا ته ، بقدر يناسب مكونات مآزق عصرنا : زيادة السكان ، وتقسيم مستند الى فعل التراكم ، وقرارات الحاسوب ، التلوث ، وموارد تنذر بالنفاد ، في عمق مشهد النزاع بين الارتداد من ناحية وبين وقائع التدحرج في المجهول من ناحية ثانية . ان فن علي الخالد ، له ـ مثل الوعي ـ استغاثات : انه يصوّر خصائص عصرنا كما يفعل الطباع : انه لا يستنجد إلا بوسائله في قهر انغلاق المديات . ففنه لا يتوخى ان يكون علامة استهلاك ، عبر مظاهر الموت والرفاهيات ، أو مراقبة قائمة على شرعية النقض ، بل يذهب ، حيث ثمة ما يقال ، في عالم تحكمه آليات بدأت بالإيقاع المبكر للتكرارات ، ولا تريد التسليم برضاها لحتميتها ، المحسوبة ، بل القول الذي لم يقل إلا ما أخفاه ، طوال أزمنة التدوين . ثمة أمل ، أو أمل مضاد لا يجعل المشهد أكثر انفتاحا ، أو اقل انغلاقا ، إلا بصفته لا يريد ان يغادر ، أو يصمت ، وإنما ـ هو ـ كلاهما ، مسافة بين حدين لا يلتقيان .
في تجارب د. علي الخالد الكرافيكية
النص وذاكرة المشاهد
عادل كامل
* تضادات التماثل والاختلاف :
إلى أي حد نجحت فلسفات ما بعد ــ الحداثة ، ان تدفع بالنص خارج ذاتية الصانع ، وتجعل من الاخير ، موتا ــ أو قطيعة ..؟ والى أي حد ، في سياق ما بعد التقنية ، يأتي النص الفني ، بمعزل عن مخيال ـ وحواس الفنان ؟ ان الكرافيكي السوري ، د. خالد سليم الخالد ، لا يغامر بالانحياز الى فلسفة ما قبل ـ موت ـ الإنسان ، أو بعده ، في سياق برامج عولمة تسندها مظاهر صورية ـ وعملية لا تحصى ، ولكنه ، في نصوصه الطباعية ، يضعنا في بنية أقدم النصوص الفنية : آثار التخطيطات فوق جدران الكهوف ن وتميل عشتار ، والأختام ، والتشفيرات الموازية لتقاليد الفنان القديم . ان علي الخالد لا يغامر بالحفاظ على باثات نصوص تجدد مأزقها فحسب ن بل تضع الإدراك الفني ، بموازاة التأمل ، والرصد .. فأعماله الطباعية تأتي خلاصة تدريبات طويلة أفضت الى ضرب من التركيب ، والاختزال .. فالتشفير لا يمثل إلا نهاية عمل تقنيات الآلة ، مع بقاء الحساسية تشتغل شغلها عبر الأزمنة . ففن الكرافيك لا ينتمي الى عصر محدد ، حتى على صعيد الحرفة ؛ انه يلتزم خفايا عمل نظام النبض ، والإيقاع ، وعمل الحريات في سياق نظامها .. كي تتشكل بنية ذاتية ولكن بمواصفات عصر لم تعد للإنسان فيه إلا مراقبات وتنفيذات تقنن الغايات ولا تفسح للتعبير ، إلا مكانة الحذف . ان الفنان د . علي الخالد يشتغل داخل شغل تقنيات الطباعة ، يشتغل للامساك بما هو غير قابل للرصد ، والتحديد ، والمعرفة .. بيد انه يذهب حيث أكثر الموضوعات خفاء ً تبدو قد تشكلت عبر التراكم والحذف ، داخل النص ، حيث صار النص يولد سلاسل تدريبات تتوازن مع المخفيات المعلنة : دوائر وأقواس وحروف وإشارات .. تعمل على تقويض حالات السكون ، أو جماليات الرؤية الأحادية ! وهل ثمة جماليات للثوابت ..؟ ان نصوص الفنان الكرافيكية تستمد ديناميتها بتحاورها حد التوحد مع موضوعات الزمن / الطيف : هذا المتحرك عبر فضاءات كوكبية . فليس ثمة موضوعات للسرد ، أو قابلة للتأطير إلا كمنطلق للتوسع ، مع خواص الفن العامة ، وفي حدود إمكانية فن الكرافيك تحديدا ً .
* التراكم ــ اشتغالات المخفي
لو لم تمتلك أقدم البصمات وأقدم الرسومات ، تلك التي ولدت متضمنة خفاياها ، وأسباب ظهورها ، لكف الماضي ان يكون مستقبلا ،، عبر الحاضر الرائي وكثافة وجوده ــ ألعلاماتي ــ لغدا فن الرسم ، والكرافيك في مسارات تحولاته ، لا يؤدي إلا دورا يمكن الاستغناء عنه . لم يكن الفن لغة ، أو معان قابعة في القاع ؛ انه لغة نفسه ، وهو ما يريد ان يرسله كي يمتد بمغزى موته المنبعث . فالتكرار الحاصل على صعيد المأزق ، يرسخ ، دينامية الاتصال . فالتكرار يكف ان يكون استنساخا ً . انه إلغاء . فالمأزق لا يتشكل بالأحلام ذاتها التي تعيد المخيلة افتراضاتها ، وإنما ، بما هو متحد بالمحركات وأشكالها المحورة . أليست هي أول حداثة تؤشر للفجوة بين الجدار والقلب ..؟ لأن النص سيتحدث ـ بما فيه ـ عن كيانه المنفصل . انه نص القطيعة عن مكوناته حد ان الظاهر ، صار يولد متتاليا ته . ولكن هذا لا يدحض ان الإشكال مكث دافعا ـ ومحركا في كل الأشكال ـ والبنية الفنية . ان ألواح علي الخالد تحمل موضوعات مكثت تمتلك قدرتها على الانبعاث . انه هذا الذي ناره مازالت كامنة في الرماد . فالمحركات تجد أشكالها بما يمتلكه الرسام من رهافة تبلغ حد الوجد الصوفي.. فالأشكال تكاد ، في حدودها ، تتكون مندمجة : المشهد الكلي للأجزاء المندمجة .. أما التفاصيل فأنها حروف تكوّن عبارات الكتاب / النص . لأن محركات الفنان كامنة في هذا الترابط بين [1 ] عالم يزداد تراكما [ 2 ] وتقنيات تنوع رؤية ما تم رؤيته [ 3 ] مع حساسية تجاور / تحاور آليات التنصيص ، والخبرة الكلية للقلب والبصر والخلايا . فالرسام لا يرى . انه يصنع مرايا ترى الآخر الذي يمدها بقدرة التوغل في جدلية الأبعاد . فلم يعد الجدل الهيجلي ــ وما قبله منذ الديانات الفارسية والهندية والشرقية المثنوية ــ إلا مفتاحا لما بعد الجدل ، وليس لـ ( ما بعد ) موت الفن / الإنسان . هذه الشرعية لحضور أبعاد ترى ما لم ير ، تمنح عمل وسائل الاتصال ، طاقات مستحدثة أو مصنّعة . ثمة أبعاد توّلد فعل التراكم ، بمرور الأزمنة ، الذي نسف أحادية الأساطير ونظامها التكراري ، دخلت الفضاءات بما تمتلك – موضوعيا ً- لجعل الذات لا تكف من التوغل في مساحاتها غير الساكنة . د . علي الخالد درس فن العصور السابقة ، وتوقف عند عصر النهضة ، والمدارس الغربية المعاصرة ، يجعل نصه بعدا ً ـ يتضمن المغامرة : انه يذهب ابعد من المعنى ، وابعد من السطح ، حيث الحقب ، الأزمنة ، والمحن ، كلها تشكل تحويرات التقانة .
فمع تطور الكهف الى ناطحات سحاب ، والمحراث الى آلات عملاقة ، تكون التقنية قد كفت ان تكون كهفا ً أو محراثا ً . إنها ، منذ بدأت تفكر ــ التقنية / الحاسوب ــ ذاتيا ً ، راحت ، في المراقبة ، تراقب مداها المحدق ، والمتدحرج ، حيث التوغل عميقا في المجهول . ان التقنية لا تنفصل عن ذات شذبت حد إعادة صياغة أقدم الأسئلة . ليس ( لماذا ) .. بل : كيف يغدو النوع نوعا قادرا ً على بناء كثافات تتوازن فيها الأزمنة .. والثقافات .. والغايات .
نصوص الفنان السوري ، تشترك ، مع عدد آخر م الرسامين العرب ، بالدق على لوح خالٍ إلا من تراكمات تتراكم حد إنها لا تقول إلا ما تخفيه : محنة موجودات في وجود يتبعثر . أليس الدحض ، منذ ربع قرن ، لا يرغب إلا بعيد يختفي فيه الإنسان ..؟ بيد ان اشكاليته ، لن تمكث بما هي عليه ، عندما تجد دحضا موضوعيا ينقلها من حد الى حدود مندمجة في أبعاد تجعل الأسئلة وقد صارت ترى كل الذي كان يقع خلف المرآة . ومن الصعب ان أدوّن – إن لم نتأمل أعماله الغزيرة – وقبلها شخصيته النادرة توقدا يدمج فيها تصادمات المناهج واللامعاني واللااسباب وتفكيكات الضؤ وعمل ترليونات جينات أجزاء الخلية الواحدة ، كي أوضح ان النص الكرافيكي يتمتع بعلاقة مع هذا التوغل داخل اتساع اللاحافات ، وفي كل الذي يكف ان يكون له وجود في الوجود .
يوضح هذا الرصد ، رصد الفنان لـ [ 1 ] تراكمات تتعاقب ، تمحو أشكالها ، ولا تتخلى عن أسرارها وانكشافاتها وزولاتها ، عبر [ 2 ] منح الجدل ن نفيا يناسب سياقات الحلول المستحدثة ، لمآزق تتعاقب [ 3 ] مع انكشاف خلايا زمنية ، غير أسطورية أو قائمة على الخرافة والأحاديات ، وإنما ، في موضوعات تقود الى موضوعات عبر سلاسل الانقطاع ، والاندثار [4 ] حيث الرائي ، مع تطور التقانة ومجاورة كثافات الوقائع ، وتعددية الأزمنة والأدوات والمسافات والمجهولات ، يغدو مرئيا ورائيا أمام مصائر ليس لها إجابات ناجزة . انه يكرر – في نصوصه – كل الذي يخفيه البركان ، في الطبيعة ، ان آخرين ، بعد استقرار الرماد فوق الأرض ، لن تدهشهم إلا الأزهار وهي تنبت في اصلب الصخور قسوة .
*اختزال:
لا يفسر ظهور فنون الطباعة ، مدى تحول الوعي الى تطبيقات ، ومدى التطور الحاصل في وسائل إنجاز النص ألطباعي فحسب ، بل ، إن التراكم ذاته قد أدى لظهور لغة أكثر إخفاء ً لمرجعياتها . إن د . علي الخالد ، بثقافته النظرية ، يعيد قراءة أكثر العلاقات تداخلا ً : التراكم والاختزال .. هذا الضرب من الاختزال يتوخى ، في دينامية النص ، البوح بما كتم . لكن هل ثمة قول أخير ..؟ نصوص الطباع ، تنفي ، إنها لا تذهب الى العمق : ما هو ابعد من التحدي والاستجابة ، وابعد من نفي النفي .. فثمة ــ في الحاضر ــ مسافة مرئية لكنها تقع بين بعدين متحركين .. تجعل الفنان يتحرك داخل الحركة . فليس ثمة قضايا ناجزة إلا عبر امتدادها . انه يراقب ويحصي الاختلافات ، كما يتأمل أسرار تكرارات إيقاعية تبلغ حد التماثل ، ليدمجها ، بدينامية ، في إطار بنية حاملة لدوافعها ، وانفتاحها الهندسي . ان صوره تبدو للنظرة البكر ، إنها حاصل ترتيب وتجميع وتركيب ما لا يحصى من الأشكال الهندسية والعضوية .. والتراكم مسلمة .. بيد ان الفنان لا يحذف ، بمعنى الحذف الشكلي ، بل بمعنى الإخفاء . انه يخفي سلاسل الأصداء والمآزق والتكيفات ، حد ان الحذف ذاته يصير كثافة . مثل المسار الطويل الذي صار عليه الرمز ــ وصارت عليه العلامات . فنصوصه ، فنيا ً ، تقول الأقوال ـ أو التعبيرات ــ التي ما زالت تمتلك ــ تدفقها . إنها لا تعلن عن نقص الماضي ، خارج سره ، بل عن سره في نقص لا يردم ، نقص يماثل عدم قول القول التام . فالنص يصير مسرحاً لصمت أشكال لا تعزل فيها دالاتها عن مدلولاتها : ولا تبعد مكونات النصوص ، ودوافعها ، في مشهدها الكلي . فهو جمع مركب ومندمج لمصائر وتجارب وصبوات صهرها كي يبقى فن الكرافيك يؤكد انه لا يتكرر ، ولا يتماثل ، بل يختلف داخل مسار الأسرار التي بدأ منها : الخط المتعرج فوق جدار الكهف وفوق الأواني الفخارية .. إنها حساسية الحواس ـ عبر الأصابع ـ كأقدم وسائل للعمل التي حملت أثقال الرأس ــ وقد وضعت داخل إطار ـ أو مفهوم . فالفنان يحرص أن يجمع مراكزه داخل مركز النص : أشكال وعلامات وشفرات وحروف ورموز صورية كلها لا تحكي إلا الذي يحركها : إنها أشكال لا تغادر محركاتها ، عبر أزمنتها ، لكنها ، في الزمن المعاش ، تفتح شرخا ً ـ شقا ً ـ في الذاكرة : عصر كفت اللغات أن تقول إلا بذهابها نحو لغات مجاورة ، أخرى ، كي تكمل مسار لوعة الوعي ـ واشتغال الأصابع عبر الزمن . إن نصوص علي الخالد تعيد صياغة المخيال وقد تكشف عن فضاءات دفعت بالإطار وبالمفهوم ـ نحو فضاء الاتساع . انه لا يصور شواخص أزمنة ، أو خرائب حضارات ، إلا بما يحمله الأثر من مغادرة : حركة فعالة ، وتوقدات . انه ، يعمل بسر العمل ولا يترك للسر أن ينكشف ... فالدينامية لا تصبح ، بحسب ( عمانوئيل كانت ) الشيء في ذاته ـ إلا لأنها ـ في ديالكتيها البنيوي ، تظهر الذي يبقى في القاع . فالمعنى يغدو كل الذي ينبثق عبر معناه المضاف ، والمحذوف وغير القابل للحذف . فالحركة لا تستقل ـ في ذاتها ـ ولا تنفصل البنية عن متجاوراتها .. لأن مهارة الرسام لا تكف عن دراسة العلاقات : الحركات ، والبنيات ، داخل نظام يولد ، في هذا التفاعل أو ما فوقه ، مخفيات الطبّاع الأول . أن د. علي الخالد لا يستنسخ ، بل يشتغل كما يشتغل الرحم .. انه مشغول بالتتابع .. لأن كل ( ولادة ) هي تاريخ عنيد وطويل للموت . وهو تاريخ لا ينفي الموت القادم .. لكن ، تبقى ثمة مسافة لا تغيب ، مسافة الكثافة ن والحضور ، وكل ما هو تأمل فعّال في الوجود ، وغير منفصل أو مقطع .. مسافة يجعلها الاختزال ، في خطاب الفن ، لا تحقق اتساعها ، ولكننا لا نراها إلا في إطارها ، حيث يتدخل مخيال ، وأصابع ، وحساسية الرسام ، كي تجعلها مرئية ، ومراقبة : انه ينظم المعنى المولد لمصيره ، حيث يكف الموت ( المعنى ) إلا أن يكون قد حمل فضاء ً للتوق ، أو إضاءة وجيزة تسرد كل الذي يتستر وراء الأشكال ؛ وكل الذي صار ذاكرة ـ ومشفرات ـ لا تكف تمتد بكثافات أحلام توّلد خفاياها . انه ، على حد قول لباشلار : بمثابة فلسفة تختزل غنى لمختلف في فقر المتشابهات .
• الكلي ومظاهر الأجزاء ـ حول الأثر
يثبت فن د. علي الخالد ، الكرافيكي ، ان قواعد العمل الفني ، لا تنتمي الى طبيعة الأشياء ، ولكنها ليست ذاتية خالصة . ان هذا التوازن ، في معالجة العناصر ، يجعل عالمنا أمام مصائر تكمل خفايا مقدماتها . هل ثمة مضامين ملغية ، أم هي قيد الانبثاق ..؟ ما المخفي ، في وضوح نصوص الرسام : حساسية الصانع ، أم باثات الفن ؟ وأخيرا ً ، كما اشغل شاكر حسن أل سعيد على ( وقائع الأثر والمراقبة ) ، ما الذي يدل عليه الأثر ــ الذي صار نصا ً .. ؟ يسهم الفنان علي الخالد ، بقصد أو بدونه ، انه صار هو الذي يدوّن ما يراه ، منذ لم تعد الأصابع إلا طرفا ً خاصا بالوعي . فالكلي يسمح بالذهاب ، ابعد فابعد ، في الخفايا : ان الرسام لا يغادر حدود الأشكال الهندسية ، بعد ان دمج التشخيص بها . فموضوعات اغتراب الوعي ــ عن مساراته وامتداداته النفسية والاجتماعية ، جعل المشهد الجمالي يأخذ صيغة التعارض ، أو النقد . ثمة مشاهد لا تحتفل ، بل تتكون : إنها تتصادم ، وتتقاطع ، كي تقول الذي كان كامنا ً وراء فن التعبير . ثم جاء الإعلان : علامات للمقارنة : سماءات ومشاهد أرضية يتداخلان كانهما في حلم ؛ كابوس مصدع ، وحلم تغدو شفافيته طريقة تنفيذ ؛ وسيلة غدت غاية ، جاعلا ً ذاته أمام الاتساع ، تتلصص الوقائع . ان الإنسان لا يختفي ، ولكنه لا يظهر . فالنزعة ما بعد التعبيرية ن وما بعد التجريد الخالص ، تتوقف عند هذه النزعة : ان الفن يبوح بما سيبقى كامنا في مجموع العلاقات ، وليس في غاية أخيرة . والفنان ، في تنويعات أشكاله وعلاماته يدمج ، ولا يجد صعوبة في ذلك ، بين المتضادات : الهندسية والعضوية ، وبين الاتساعات ونقاط التلاشي . فالنص خلية كونية تم تفكيكها وجعلها تجد وثباتها عبر حساسية الفنان ــ وفنه : الطباعة بالحجر ، والزنك ، وبالمواد الأقل كلاسيكية ، الى جوار : ذات صاغتها القواعد والمفارقات . ان هذا البوح ، لا يغادر فضاء قرن كان التشكيل العربي قد بلغ فيه ذروته ( في الانغلاق ) : ان الحداثة لا تستقل ، ولا تنفصل ، عن حساسية لا تغادر وعيها ، ومرجعياتها . ففي مشهد التشكيل العربي المتماثل ، كمرآة ، ونقوش زخرفية ، ولذائذ أحادية ، لا يتوغل بل يتردد ، لا يغامر بل يمضي بعيدا في التبرج والتزيين ، نجد الفنان الخالد يقاوم صعوبات الحفر في الصمت المدفون . ان فنه يمسك بما وراء اللعب ـ والتقنيات ـ فهو لا يغادر خفايا جعلت الخارج مرسوما بنظام ضربات الداخل ، وعمل المخيال المحاصر ، والمنفي . انه لا يرثي ، ولا يمجد ، بل يفكك . انه لا يشهد كي يؤدي الفن دور الشاخص أو مآثر الأطلال ، ففي الخفايا ، ووراء المرئيات ، النبض الذي يكمل ، انبثاقا ته ، بقدر يناسب مكونات مآزق عصرنا : زيادة السكان ، وتقسيم مستند الى فعل التراكم ، وقرارات الحاسوب ، التلوث ، وموارد تنذر بالنفاد ، في عمق مشهد النزاع بين الارتداد من ناحية وبين وقائع التدحرج في المجهول من ناحية ثانية . ان فن علي الخالد ، له ـ مثل الوعي ـ استغاثات : انه يصوّر خصائص عصرنا كما يفعل الطباع : انه لا يستنجد إلا بوسائله في قهر انغلاق المديات . ففنه لا يتوخى ان يكون علامة استهلاك ، عبر مظاهر الموت والرفاهيات ، أو مراقبة قائمة على شرعية النقض ، بل يذهب ، حيث ثمة ما يقال ، في عالم تحكمه آليات بدأت بالإيقاع المبكر للتكرارات ، ولا تريد التسليم برضاها لحتميتها ، المحسوبة ، بل القول الذي لم يقل إلا ما أخفاه ، طوال أزمنة التدوين . ثمة أمل ، أو أمل مضاد لا يجعل المشهد أكثر انفتاحا ، أو اقل انغلاقا ، إلا بصفته لا يريد ان يغادر ، أو يصمت ، وإنما ـ هو ـ كلاهما ، مسافة بين حدين لا يلتقيان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق