مرثية في مقبرة ريفية
حامد خضير الشمري
ترجمة لقصيدة الشاعر الانكليزي
توماس كري
مرثية في مقبرة ريفية / ترجمة: حامد خضير الشمري
ينعى جرسُ المساء النهارَ الآفل
ويتهادى القطيع الثاغي على المرج
ويشق الفلاح طريقه المضنى صوب البيت
ويترك العالم للظلام ولي
والآن يعتم المشهد الريفي الوامض أمام الأنظار
ويسود الهواءَ سكونٌ وقور
إلا حيث تحلق الخنفساء في طيرانها المتواني
ويهدهد رنين الجرس الحظائر النائية
وحيث تشكو البومة المكتئبة للقمر
من برجها الذي يكسوه اللبلاب
ممن يطوف قرب عريشها السري
ويزعج سلطانها القديم المنعزل
ويرقد أسلاف القرية البسطاء
تحت أشجار الدردار المتجهمة تلك وظل شجرة الصنوبر
حيث تتنهد الأرض الخضراء أكداسا متهرئة
ويهجع كل منهم في قبره الضيق إلى الأبد
لن يوقظهم من رقدتهم المتواضعة
نداءُ الصباح العابق الذي تحمله الأنسام
والسنونو وهو يزقزق من الحظيرة المبنية بالقش
وَزُقاء الديك الحاد أو البرق الرنان
لن يشعل لهم الموقد المتضرم
أو تبدي الزوجة المشغولة اهتمامها المسائي
ولن يهرع الأطفال ويلثغوا بعودة أبيهم
أو يتسلقوا ركبتيه ليقتسموا قبلة حميمة
غالبا ما استسلم الحصاد لمنجلهم
وشق محراثهم الأرض الصلدة
كم كانوا سعداء وهم يسوقون قطيعهم صوب الحقل
وكم انحنت الغابات تحت ضربتهم الصارمة !
على الطموح ألا يسخر من كدحهم المثمر
ومسراتهم المألوفة ومصيرهم الغامض
وعلى العظمة ألا تسمع بابتسامة مزدرية
سجل تاريخ الفقراء الوجيز البسيط.
ينتظر الساعة َ المحتومة َ على حد سواء
تبجحُ الأبهة ومظهر القوة
وكل ذلك الجمال وكل ما تعطيه تلك الثروة
وتفضي طرقُ المجد إلى القبر
وأنت أيها المتباهي لا تلق ِ اللوم عليهم
إن لم تقم الذكرى أنصابا على قبورهم
حيث يتناهى عبر الممشى الطويل والقبو المتآكل
نشيد الثناء المجلجل
أبوسع أصيص منقوش أو تمثال مفعم بالحيوية
أن يعيد النفـَس الهارب إلى مستقره ؟
وهل يستطيع صوت الشرف أن يحرض التراب
أو أن يريح التملق أذن الموت الباردة الكئيبة ؟
ربما ترقد في هذه البقعة المهملة
قلوب تأججت ذات يوم بالنار السماوية
وأيد هزت صولجان الإمبراطورية
وداعبت القيثارة الحية حد النشوة
لكن المعرفة لم تفتح أمام أعينهم صفحتها الرحيبة
التي أثرتـْها غنائم الزمن
وكبح الفقر المدقع البارد غضبهم النبيل
وجمد تيارَ الروح العبقري
كم من جوهرة شديدة النقاء هادئة
تضمها كهوف المحيط المظلمة التي لا يسبر غورها
وكم من زهرة تولد وتتفتح خفية
وتبدد عذوبتها على هواء الصحراء!
ربما يرقد هنا " هامبدن " قروي
صمد بقلب جريء ضد طاغية حقوله الصغير
أو " ملتن " صامت مغمور
أو " كرومويل " بريء من دم بلده
كان بوسعهم أن ينالوا استحسان النواب المنصتين
وازدراء تهديدات الألم والخراب
وأن ينثروا الوفرة فوق الأرض الباسمة
ويقرأوا تاريخهم في عيون الأمة .
لقد حرمهم قدرهم ولم يحدد
فضائلهم النامية فحسب بل دون جرائمهم
ومنعهم من خوض المجزرة إلى العرش
وغلـْق بوابات الرحمة بوجه البشر
ومن إخفاء الحقيقة الواعية الخانقة
وإطفاء حمرة الخجل البريء
وتكديس ضريح الترف والزهو
ببخور يؤججه لهيب ربات الفنون
ولم تعرف رغباتهم الوقورة الطواف بعيدا
عن كفاح الحشد الدنيء المجنون
وحافظوا على نهج حياتهم الصامت
على امتداد وادي الحياة البارد المنعزل
لكن نصبا تذكاريا لا يزال قائما عن قرب
ليحمي هذه العظام من المهانة
تزينه أشعار خرقاء وتمثال لا شكل له
يتوسل من العابرين تنهيدة وقورة
تهجت ربة الشعر الأمية أسماءهم وسنينهم
لتحل محل الشهرة والرثاء
ونثرت حولهم نصوصا مقدسة
تعلم القروي الصالح كيف يموت
فمن يسلم هذا الوجود السار القلق
فريسة للنسيان الأصم
ويترك تخوم النهار البهيج الدافئة
دون أن يلقي خلفه نظرة شوق تواقة؟
تركن الروح المحتضرة إلى صدر حنون
وتتطلب العين المغمضة بعض الدموع الورعة
وينادي صوت الطبيعة حتى من القبر
وتتضرم نيرانهم المألوفة حتى في رفاتنا
فإن حدث لك عرضا
يا من تروي في هذه الأبيات قصتهم الساذجة
أن استغرق فكرك في الموتى بلا تكريم
فإن روحا شقيقة ستسأل عن قدرك
قد يقول راع ٍ أشيب:
لقد رأيناه عند انبلاج الفجر
وهو يزيل الندى بخطاه العجلى
ليلاقي الشمس على المرج العالي
هناك أسفل شجرة الزان البعيدة المتمايلة
التي تضفر جذورها القديمة عاليا
كان يمد قامته المتوانية في الظهيرة
ويتأمل في الجدول الذي يتناهى خريره جنبه
ويهيم حينا جنب تلك الغابة وهو يبتسم بازدراء
ويتمتم تصوراته المتمردة
ويبدو في بعض الأحيان تعيسا حزينا قانطا كمن هجره أحبابه
أو أصابه الهم بالجنون أو ابتلاه حب يائس
افتقدته ذات يوم على التل المألوف
على امتداد المرج وقرب شجرته الأثيرة
جاء آخر ولم يكن جنب الجدول
أو في أعالي المرج أو جنب الغابة
وفي اليوم التالي رأيناه محمولا في موكب حزين
ترافقه الألحان الجنائزية ببطء على طريق الكنيسة
تقدم واقرأ ( فبوسعك أن تقرأ ) النشيد
المنقوش على الحجر أسفل شجرة الزعرور الهرمة تلك
* الشاهدة *
هنا يريح رأسَه على حضن الأرض
شابٌ لم تعرفه الثروة أو الشهرة
لم يعبس العلم الوسيم عند مولده المتواضع
واتخذته الكآبة حبيبا لها
واسعا كان سخاؤه وكانت روحه مخلصة
كافأته السماء بسخاء
لقد أعطى الحزن كل ما ملك : دمعة
وحاز من السماء كل ما تمنى : صديقا
لا تبحث عن فضائله لتكتشفها
أو تستخرج نقاط ضعفه من مستقرها المرعب
فهناك ترقد كلها على السواء في أمل مرتجف
على صدر أبيه وربه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق