إنهم يصنعون بشراً
احمد الحلي
كنتُ
انظر ، وجرّاء الأحوال الاقتصادية المريرة التي مررنا بها إبان فترة الحصار
الاقتصادي ، إلى حياة العزّاب من أصدقائي بحسد ، وكنت أرى في العزوبية إغواء ما
وفلسفة حياة ، وأن من اختار سلوك هذا النهج لا بد وأنه يحمل في داخله حكمة ما ،
كان أحد هؤلاء صديقاً مقرّباً مني ، وكان
هو محسوباً على فئة الأدباء والكتّاب ، وطالما استأنست بآرائه السديدة في قضايا
كثيرة ، خاصة في ما يتعلّق بالثقافة والفكر ، في أحدى المرّات أسرّ إليَّ أنه قرر
أن يتخلّى عن عزوبيته قريباً ، وأنه ما
عاد مقتنعاً بأفكاره وتبريراته التي كان أصدقاؤه العزّاب يتلقّفونها عنه ، ويردّون
بها سهام الآخرين تجاههم ، قلتُ له ؛ هل لك أن تبيّن لي ؟ قال ؛ نعم ، بالأمس حضر
إليّ أحد أصدقائي من العزاب ، ودار بيننا الحوار التالي ؛
- لقد
سئمتُ من العزوبية ، ما الذي أفدناه منها ؟
- ألا
ترى معي أن العزوبية تتيح لنا أفقاً أرحب للحرية وتجنّبنا الوقوع في شظف العيش
مثلما حصل ويحصل لآخرين ؟
- ولكن
، ما الذي يستطيع المرء تحقيقه من خلال العزوبية ؟
بل وحتى بالنسبة لك ، هل تعتقد أنك بإصرارك على
العزوبية قد حققتَ شيئاً ؟
- نعم ،
أنا أفتخر أنني حققت شيئاً ، واستخرج من درج مكتبه كتاباً صغيراً هو ديوانه الشعري
البكر الذي جهد طويلاً من أجل إخراجه وترتيبه ، وكان طبعه على حسابه الخاص قبل
بضعة أشهر .
- أعلم
أن ديوانك الشعري هذا يحمل أهمية ما ، لا سيما وأن عدداً من نقّادنا وكتّابنا
المهمين قد أثنوا عليه ، ولكن ، هل هذا يكفي ؟
وهل يُشبع نهم المرء إلى ما هو أفضل وأكثر حيوية ، بالنسبة لي أنا لا أعتقد
ذلك ، أنتَ تتحدث عن ديوانك الشعري بوصفه منجزاً تعتد به ، وهذا من حقكَ ، بينما أقل المتزوجين شأناً وأبعدهم عن الثقافة
وعوالم الفكر يحققون منجزاتٍ أكثر أهمية بكثير من منجزك ؛ إنهم يصنعون بشراً !
طيورٌ ولكنْ
أتيح له
من خلال حضوره إحدى الندوات الثقافية أن يتعرّف على مثقف متأنق بشدة يمتلك حقلاً
للدواجن . وبعد عدة لقاءات أصبحا صديقين حميمين ، ولكنه بعد مرور مدة من الوقت
اكتشف مدى خواء وهشاشة هذا الكائن ...
وفيما
يلي تدوين لخلاصة انطباعاته بشأنه ، ولكن عبر حكاية فنطازية ...
أطل
الصباحُ على إحدى الدجاجات وهي تلتهم طعامها المعتاد في الحقل الكبير جنباً إلى
جنب مع مجموعة كبيرة من أفراد جنسها ، وهي اعتادت أن تنظر إلى الأمور والأشياء
المحيطة بها من ذات الزاوية ؛ كمية الغذاء ووفرة الماء المقدم لها في أوقات محددة
بدقة ، ذات الرعاية والاعتناء من قبل العامل الموكل إليه هذا العمل
بيد أن
هذه الدجاجة تحديداً ، ولسبب غير مفهوم ، أخذت تنتابها مشاعر مبهمة فيها شيءٌ من
التوجس والحيرة عن المكان الجديد الذين تذهب إليه قريناتها الأكبر سناً بعدة أسابيع
، حيث كانوا يأتون في مواعيد محددة ، مصطحبين معهم عدداً كبيراً من الأقفاص ،
ليشرعوا بحشرها فيها بطريقة أبسط ما يقال عنها إنها تفتقد إلى اللياقة وحسن
المعاملة .
وعلى
أية حال ، فهي ، شأنها في ذلك شأن أفراد جنسها ، لم تكن ممن تتملكهم المشاعر
السوداوية إزاء ما يجري من حولها ، ولا ترغب بأن يعكر صفوها شيء .
هذه
الدجاجة ، بدأت تطرأ على تفكيرها مشاعرُ وأحاسيس جديدة ، وجدت نفسها تنظر إلى
السماء ، هذه المساحة الشاسعة الزرقاء الممتدة ، كانت تحدق فيها وكأنها تراها
للمرة الأولى ، وجدت نفسها سعيدة باكتشاف هذا العالم الجديد ، من بين ما لاحظته ؛
مجموعات سابحة من الطيور وهي تطير بمستويات متعددة وأخرى تطير فرادى بسرعة أو
بتمهل ، أمعنت التفكير ملياً في هذه المسألة ، وجدت أن الفضاء الذي تسبح فيه هذه
الطيور لم يكن بعيداً عنها ، كانت تحس به قريباً جداً من وجدانها وكينونتها .
فجأة
طرأ على تفكيرها السؤال ؛ لمَ هي بمعية هذا الحشد الكبير من رفيقاتها يتوجب ويتحتم
عليهن العيش أسيرات لهذا الحقل وما تحيط به من أمور مريبة ، بينما آفاقٌ أخرى
مذهلة يمكن أن تكون بانتظارها ، ألقت نظرة إلى جناحيها وريشها بزهو واختبرت قوتهما
بحركة مألوفة ، إنهما قويان كفاية لينطلقا بها بعيداً ، أخفت سرها مع نفسها خوفاً
من انكشاف أمرها بانتظار فرصة سانحة .
على
مقربة ، وضمن ذات المساحة ، كان صاحب الحقل لا يعوزه شيء وجه ممتلئ بشاربين كثين
وجسم ضخم بمنكبين عريضين ، كل شيء تقريباً كان متاحاً له ، الممكنات المادية والحياتية
كانت طوع أمره ، فمنذ وقت مبكر علمته دروس
الحياة القاسية أن يرى في الفقر والفاقة فشلاً في اختبار الحياة ، لذا فهو
قد وضع ، ومنذ البداية لنفسه هدفاً محدداً يتمثل في اختراق حاجز الفقر الذي كانت
تعاني منه عائلته قبل زواجه ، ليصل إلى مرحلة الغنى والثراء مهما كلفه هذا الهدف
من تضحيات ومشقات ، وكان له ما أراد .
بيد أنه
، وعلى غير عادته ، وجد نفسه في الآونة الأخيرة وقد راحت تداعب مخيلته بعض الأفكار
والرؤى التي لم يعتد عليها من قبل ، فقبل مدة يسيرة أتيح له أن يتعرف من خلال أحد
أصدقائه على أحد الشعراء ، فأخذ هذا يتردد عليه في مكتبه بين الحين والآخر ، وكان
هو ، لا يبخل بالترحيب بضيفه الجديد ، وبصفة خاصة حين لا يكون هناك ثمة عمل
وكشوفات حساب وأرقام .. واجداً في قربه منه نوعاً من السلوى والتعويض بل وحتى
الفضول ، كان يتعجب أن لا يرى إمارات الفقر والعوز البادية على هيئته وملامحه
متمكنة من روحه وعنفوانه ، كان بوسعه أن يرى الشعاع الخفي الذي ينطلق من عيني ضيفه
والحيوية الغامضة المنطلقة عبر نبرة صوته الذي ينطلق على شكل جمل وكلمات لم تألفها
لغته أو لغة أقرانه ذات الحواف الخشنة ، ومن أجل ذلك فقد أخذت تعكر صفو أيامه نوباتٌ
مقلقة من التفكير والأرق ، أحس أن شيئاً ما بدأ بالتسرب داخل روحه ، وهكذا وجد
نفسه يستفيق فجأة على عالم آسر لم يكن يعيره اهتماماً والتفاتاً في السابق ، فأخذ
يستزيد من زيارة أدباء وشعراء آخرين ، بالإضافة إلى أنه لم يكن لتفوته فرصة الذهاب
إلى مقر اتحاد الأدباء للاستمتاع بالأماسي الثقافية المتنوعة والالتقاء بأكبر عدد
من الأدباء الذين أصبح ينظر إليهم وكأنهم كائنات خرافية قادمة من كواكب أخرى ..
وضمن
إطار هذا التوجه وجد أنه من المحتم عليه أن يتعلم فنوناً أخرى ذات صلة بالثقافة
والأدب ، من بينها الموسيقى ، واجداً نفسه ، بين فينة وأخرى في أحد المكاتب لتعليم
أصول الموسيقى ، وأصر هو منذ البداية أن
يتعلم السلم الموسيقي ، إلا أنه في كل مرة يطلب فيها معلمه منه أن يردد معه ؛ دو - ري - مي - فا - صول - لا - سي ،
سرعان
ما يتبادر إلى ذهنه ؛ قو- قي- قا - قوق -قا - قي ... !!
ومهما
يكن من أمر ، فقد كانت الرؤى والأخيلة السعيدة تتفتح أمام عينيه كأنها شلال متدفق
، وفي الأيام التي يتحتم فيها عليه أن يبيت في حقله الكائن بإحدى ضواحي المدينة ،
كان بوسع عينيه حين يستفيق صباحاً أن تريا السماء وهي تحشد بطيور مختلفة وهي تعبر
صفحتها على مستويات مختلفة ، في تلك الأثناء كانت تجتاحه رغبة عارمة بالطيران معها
....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق