همنجواي في الحلة (7)
كتاب في حلقات
عاصمة البلابل
تعد مدينة خانقين التي تبعد حوالي 150 كم إلى شمال شرق مدينة بغداد واحدة من أهم محطات الاستراحة والاستجمام في العراق ، نظراً لوفرة بساتين الفاكهة فيها والمناظر الخلابة واعتدال مناخها ، كما ان هذه المدينة هي عاصمة البلابل بامتياز أو هكذا كنت أسمّيها ، حيث كانت أعداد البلابل بالملايين ، أو هكذا خُيّل إليّ ، وكان تغريدُها لا ينقطع وخاصة حين تبدأ أشعة الشمس بمصافحة وجه الحقول ، بنهر الوند الذي يخترق وسطها ، لاسيّما وأن هذا النهر مليء بالأسماك ، وكنت اقضي أياماً طويلة في الصيد على ضفّتيه ، بالإضافة إلى ذلك كان مصفى الوند والمدينة المصغّرة المشيدة بالقرب منه قد أقامهما الانكليز في أربعينيات القرن الماضي ، وتم تخصيص عدد من الدور للموظفين والمهندسين الانكليز آنذاك ، وهناك كانت تسكن عائلة أخي ، حيث كنت أذهب إليهم بصورة منتظمة ، وغالباً ما يساورني شعور بأن هذا المكان هو الجنة أو على الأقل هو قطعة منها ، ذلك ان كافة بيوت الحي مرتبة ومنظمة تنظيماً هندسياً ينم عن حضارة وذوق رفيع ، حيث أن كل بيت مجهّز بأنابيب الغاز وموقد للتدفئة وفق الطراز الانكليزي ، والغريب في الأمر ان هذه المدينة التي رحل عنها موظفوها الانكليز إبان ثورة 14 تموز عام 1958 قد تم هدمُها بالكامل بعد الحرب العراقية الإيرانية التي اندلع أوارها في العام 1980 لتستمر لمدة ثماني سنوات احترق فيها الأخضر واليابس وأدت إلى تقهقر العراق في الميادين كافة ، في حين كانت الأمم الأخرى كتلك الواقعة في جنوب شرق آسيا تغذ الخطى في هذه المرحلة بالذات لبناء دول ذات طابع عصري ومنتجة صناعياً وبتكلفة اقل بكثير من تكلفة حربنا الجنونية الباهظة ، وعلى أية حال وقع المحظور ووقع الفأس على الرأس كما يقولون ، وقد ورد من السلطات العليا ببغداد أمر بهدم هذه المدينة الصغيرة أو الحُلم كما كانت تتجسّد لي ، وتم تفكيك مصفى الوند الذي يقع بالقرب منها ، بحجة ان هذا المصفى واقع تحت مرمى المدافع الإيرانية ، وإذا كان هذا الكلام ينطبق على المصفى ، فما ذنب بيوت هذه المدينة ، ان يصار الى هدمها وتحويلها إلى أنقاض ، وقد تبين لنا فيما بعد ان إزالة هذه المدينة من الوجود كان أمراً قد دبر بليل ، وانه كان بدوافع سياسية ، إذ ان عدداً كبيراً من سكنتها كانت لديهم ميول سياسية أخرى ، وقد توفرت لدي قرائن عديدة مماثلة في ، أقدمت فيها السلطات على إزالة أماكن بعينها بحجج ما انزل الله بها من سلطان .
صائد مواد احتياطية !
لم يقتصر ما كانت تخرجه سنارته من الماء على الأسماك والسلاحف وأفاعي الماء ، وانما تعدتها الى أشياء وحاجيات أخرى هي جزء من ذاكرة النهر وما يمور به من أسرار وخفايا ، ففي إحدى المرات علق (الشص) على ضفاف نهر الحلة بشيء ثقيل ، فاستخرجه بعد عناء فإذا به مكواة قديمة الطراز مما كان يعمل على الفحم ، وفي أعقاب غزو الكويت راحت السنارة تستخرج متعلقات الحرب كالبصاطيل وأقنعة الوقاية من الغازات الكيمياوية وفي إحدى المرات استخرجت هيكلاً كاملاً لرشاشة أحادية ، ولعل أطرف ما يتذكره أن سنارته علقت إبان فترة الحصار بـ(جاملغ) أيمن لسيارة نوع مسكوفج ، فركنه الى جانبه واستمر بعملية الصيد ، وبعد قليل توقف احد السائقين بسيارته ، سائلاً إياه عن الثمن الذي يطلبه لهذا الجاملغ ، فرد ضاحكاً ؛ خذه مجاناً ، فانا لست بائع أدوات احتياطية .
وبعد أسبوع تقريباً ، إذا بنفس السائق يتوقف مستفسراً عما إذا كان قد استخرج الجاملغ الأيسر !
طائر الدراج
اعتاد أن يصف طائر (الدرّاج) بأنه طائر ذو لحم شهي إلا انه مراوغ ماكر وعصي على الاقتناص ، ومع ذلك فانهم فطنوا إلى نقاط ضعفه ، كالأوقات التي تتطارح فيها الغرام والتي تشغلها عما حولها من أخطار ومكائد ، وكذلك انبهارها بضوء مصباح السيارة عندما يحل الظلام ، فيقترب منه مبهوراً ، وعند ذلك نستطيع الإمساك به بسهولة ، وما زالت تتراءى أمام عينيه واقعة طريفة غير معقولة مع هذا الطائر ، ففي إحدى المرات أصابوا واحداً ببندقية صيد ، فأمسكوا به وأسرعوا إلى قطع رأسه خشية ان ينفق ، فأخذ جسده المقطوع الرأس يرفرف في الدغل القريب وحين جاؤوا لأخذه لم يجدوه ، وفتشوا عنه في الأمكنة القريبة ولكن دون جدوى ، فعلّق على ذلك قائلاً ؛ ان هذا جزء من مهارة الروغان التي يتصف بها هذا الطائر !
كتاب في حلقات
عاصمة البلابل
تعد مدينة خانقين التي تبعد حوالي 150 كم إلى شمال شرق مدينة بغداد واحدة من أهم محطات الاستراحة والاستجمام في العراق ، نظراً لوفرة بساتين الفاكهة فيها والمناظر الخلابة واعتدال مناخها ، كما ان هذه المدينة هي عاصمة البلابل بامتياز أو هكذا كنت أسمّيها ، حيث كانت أعداد البلابل بالملايين ، أو هكذا خُيّل إليّ ، وكان تغريدُها لا ينقطع وخاصة حين تبدأ أشعة الشمس بمصافحة وجه الحقول ، بنهر الوند الذي يخترق وسطها ، لاسيّما وأن هذا النهر مليء بالأسماك ، وكنت اقضي أياماً طويلة في الصيد على ضفّتيه ، بالإضافة إلى ذلك كان مصفى الوند والمدينة المصغّرة المشيدة بالقرب منه قد أقامهما الانكليز في أربعينيات القرن الماضي ، وتم تخصيص عدد من الدور للموظفين والمهندسين الانكليز آنذاك ، وهناك كانت تسكن عائلة أخي ، حيث كنت أذهب إليهم بصورة منتظمة ، وغالباً ما يساورني شعور بأن هذا المكان هو الجنة أو على الأقل هو قطعة منها ، ذلك ان كافة بيوت الحي مرتبة ومنظمة تنظيماً هندسياً ينم عن حضارة وذوق رفيع ، حيث أن كل بيت مجهّز بأنابيب الغاز وموقد للتدفئة وفق الطراز الانكليزي ، والغريب في الأمر ان هذه المدينة التي رحل عنها موظفوها الانكليز إبان ثورة 14 تموز عام 1958 قد تم هدمُها بالكامل بعد الحرب العراقية الإيرانية التي اندلع أوارها في العام 1980 لتستمر لمدة ثماني سنوات احترق فيها الأخضر واليابس وأدت إلى تقهقر العراق في الميادين كافة ، في حين كانت الأمم الأخرى كتلك الواقعة في جنوب شرق آسيا تغذ الخطى في هذه المرحلة بالذات لبناء دول ذات طابع عصري ومنتجة صناعياً وبتكلفة اقل بكثير من تكلفة حربنا الجنونية الباهظة ، وعلى أية حال وقع المحظور ووقع الفأس على الرأس كما يقولون ، وقد ورد من السلطات العليا ببغداد أمر بهدم هذه المدينة الصغيرة أو الحُلم كما كانت تتجسّد لي ، وتم تفكيك مصفى الوند الذي يقع بالقرب منها ، بحجة ان هذا المصفى واقع تحت مرمى المدافع الإيرانية ، وإذا كان هذا الكلام ينطبق على المصفى ، فما ذنب بيوت هذه المدينة ، ان يصار الى هدمها وتحويلها إلى أنقاض ، وقد تبين لنا فيما بعد ان إزالة هذه المدينة من الوجود كان أمراً قد دبر بليل ، وانه كان بدوافع سياسية ، إذ ان عدداً كبيراً من سكنتها كانت لديهم ميول سياسية أخرى ، وقد توفرت لدي قرائن عديدة مماثلة في ، أقدمت فيها السلطات على إزالة أماكن بعينها بحجج ما انزل الله بها من سلطان .
صائد مواد احتياطية !
لم يقتصر ما كانت تخرجه سنارته من الماء على الأسماك والسلاحف وأفاعي الماء ، وانما تعدتها الى أشياء وحاجيات أخرى هي جزء من ذاكرة النهر وما يمور به من أسرار وخفايا ، ففي إحدى المرات علق (الشص) على ضفاف نهر الحلة بشيء ثقيل ، فاستخرجه بعد عناء فإذا به مكواة قديمة الطراز مما كان يعمل على الفحم ، وفي أعقاب غزو الكويت راحت السنارة تستخرج متعلقات الحرب كالبصاطيل وأقنعة الوقاية من الغازات الكيمياوية وفي إحدى المرات استخرجت هيكلاً كاملاً لرشاشة أحادية ، ولعل أطرف ما يتذكره أن سنارته علقت إبان فترة الحصار بـ(جاملغ) أيمن لسيارة نوع مسكوفج ، فركنه الى جانبه واستمر بعملية الصيد ، وبعد قليل توقف احد السائقين بسيارته ، سائلاً إياه عن الثمن الذي يطلبه لهذا الجاملغ ، فرد ضاحكاً ؛ خذه مجاناً ، فانا لست بائع أدوات احتياطية .
وبعد أسبوع تقريباً ، إذا بنفس السائق يتوقف مستفسراً عما إذا كان قد استخرج الجاملغ الأيسر !
طائر الدراج
اعتاد أن يصف طائر (الدرّاج) بأنه طائر ذو لحم شهي إلا انه مراوغ ماكر وعصي على الاقتناص ، ومع ذلك فانهم فطنوا إلى نقاط ضعفه ، كالأوقات التي تتطارح فيها الغرام والتي تشغلها عما حولها من أخطار ومكائد ، وكذلك انبهارها بضوء مصباح السيارة عندما يحل الظلام ، فيقترب منه مبهوراً ، وعند ذلك نستطيع الإمساك به بسهولة ، وما زالت تتراءى أمام عينيه واقعة طريفة غير معقولة مع هذا الطائر ، ففي إحدى المرات أصابوا واحداً ببندقية صيد ، فأمسكوا به وأسرعوا إلى قطع رأسه خشية ان ينفق ، فأخذ جسده المقطوع الرأس يرفرف في الدغل القريب وحين جاؤوا لأخذه لم يجدوه ، وفتشوا عنه في الأمكنة القريبة ولكن دون جدوى ، فعلّق على ذلك قائلاً ؛ ان هذا جزء من مهارة الروغان التي يتصف بها هذا الطائر !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق