همنجواي
في الحلة(5)
كتاب في حلقات
رزق
البزازين عــالمَعثرات
ومن
بين الصور الأخرى ، أن ذلك الأمر تزامن مع تصاعد وتيرة العداء والضغينة التي صار
يحملها المواطنون المسلمون تجاه إخوانهم من اليهود العراقيين المقيمين معهم على
ذات الثرى منذ أقدم العصور، والذين تشاركوا معهم في السراء والضراء وفي الأوقات
العصيبة كافة ، وكان وجود هذه الشريحة الفاعلة يشكل عصب الحياة الاقتصادية
والفكرية آنذاك ، لاسيما وأنه برز منهم عددٌ لا يُستهان به ممن خدم البلاد في
المجالات العلمية والفكرية والأدبية والفنية في بدايات إنشاء الدولة العراقية ،
وإزاء تصاعد وتيرة الضغوطات الشعبية ضدهم ، لم يجد هؤلاء أمامهم سبيلاً سوى
الانكفاء والتقوقع ثم ليحصل
(الفرهود) بعد ذلك ، وهو عمليات السلب
والنهب التي جرت لممتلكاتهم أمام أنظارهم وأنظار الحكومة التي تقاعست عن القيام
بواجبها ومسؤوليتها في توفير الحماية لمواطنيها ، فأضطر عددٌ من هؤلاء الى ترك
بيوتهم ومغادرة البلاد قبل أن تتطور الأمور الى ما لا يُحمد عقباه ، وقد عرض هؤلاء
حاجياتهم ومقتنياتهم النفيسة ليُصار الى بيعها في مزادات علنية أقيمت في منطقة
البتاويين القريبة، قبل أن تتخذ السلطات قرارها المتعسف الآخر الذي ينص على أنه لا
يُسمَح للعائلة اليهودية وكذلك الأفراد
الذين يقررون المغادرة بأن يحملوا معهم أكثر من 30 دولارا ، ولما كان غالبية
اليهود المغادرين هم من كبار تجار الشورجة ، فقد آثر هؤلاء أن يتخلوا عن أموالهم
لخدمهم وعمالهم من المسلمين ممن يضعون ثقتهم فيهم ، وبذلك فقد نشأت في بغداد وباقي
مدن العراق طائفةٌ جديدة من الأثرياء الذين هطلت عليهم النعمة من حيث لا يحتسبون
وتماشيا مع القول المأثور ؛ "ما رأيت نعمة موفورة إلا وبجانبها حقٌ
مضيّع" ! والمثل الشعبي الرائج ؛ رزق البزازين عالمعثرات !
صالح الفتلاوي
وثمة صورة أخرى
مازالت عالقة في ذهنه ، وهي صورة التاجر اليهودي المعروف صالح الفتلاوي الذي كان
يمتلك بيتاً فخماً جداً مبنياً وفق الطراز الإنكليزي ، فحين خرج ذات صباح بأناقته
المعهودة ، فإنه وجد بيته محاصراً بالمياه من كل جانب ، فظل وافقاً لبرهة من الوقت
، وقد بدت علامات الحيرة على وجهه ، ورآه الناس من المنطقة المجاورة وهو على هذه
الحال ، فتهامسوا فيما بينهم ثم نادوا عليه بأنهم سيرسلون له زورقاً يقلّه الى
مكان آمن يستطيع الذهاب منه الى متجره في الشورجة ، وبالفعل أرسلوا زورقاً يقوده
أحد الأشخاص ، وما أن صعد صالح فيه وصار في وسط المياه حتى أخذ سائقه يهزه بعنف
يميناً وشمالاً حتى انقلب بهما ، فتعالى
الضحك والصفير من لدن الناس الذين تآمروا على هذا المقلب القبيح وهم يرون كل أناقة وهندام صالح الفتلاوي وهي تُمرّغ هكذا .
ولم ينقض أكثرُ من شهر حتى حزم صالح الفتلاوي أمره
وقرر الرحيل هو وعائلته ، ولم تسمح له السلطات أن يصطحب معه سوى مبلغ ضئيل من
المال وبعض الملابس ، فاستولت أمانة العاصمة على بيته ومحتوياته ليتم تحويله الى
مدرسة ابتدائية مختلطة باسم (مدرسة الحرية)
، وكانت أول مدرسة مختلطة يتم افتتاحها في منطقة الكرادة ، كما أنها المدرسة
الأولى في العراق آنذاك التي تسمى بهذا الاسم الذي ظل هاجساً مستمراً للممسكين
بزمام السلطة بعد ذلك ، ثم ليتم تجييره على نطاق واسع لخدمة أهداف وأغراض قراصنة
السياسة والشعارات الطنانة التي لم تحصد منها البلاد ولا العباد سوى المزيد من الخيبات والمرارة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق