همنجواي في الحلة (15)
كتاب في حلقات
أحمد الحلي
سمك مسكوف على مشارف القصر الجمهوري
عُرف عن شبان منطقة الكرادة في ذلك الوقت ، أنهم كانوا شباناً متطلعين إلى
كل ما هو جديد في عالم الموضة والملابس مع احتفاظهم وتمسكهم بالقيم الاجتماعية
التي درج عليها آباؤهم وتلقفوها منهم ، كما عرف عنهم حبهم وولعهم بتزجية أوقات
فراغهم ولا سيما في العصر بالتنزه على ضفاف نهر دجلة المحاذية لبيوتهم ، وقد اعتاد
بعضهم على امتطاء زورق والتوجه به إلى منتصف النهر أو قريباً من الضفة الأخرى التي
جرى تشييد القصر الملكي الجديد وملحقاته فيها ، إلا أن قيام ثورة 14 تموز عام 1958
جعل تسمية القصر الملكي تتحول إلى القصر الجمهوري ، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن عبد
الكريم قاسم لم يتخذه مقراً له وإنما كان مستقرّه الدائم في وزارة الدفاع ، حيث
جعل القصر مكاناً خاصاً للتشريفات واستقبال زوّاره ، في إحدى المرات وبالتحديد في
أواسط ثمانينيات القرن الماضي ، انزلق بزورقه إلى وسط نهر دجلة ، ولما صار في
منتصف الشط أخذت تضرب انفه رائحة السمك المسكوف القادمة من الجهة المقابلة ، وقد كانت من القوة والنفاذ بحيث أنها تملكت
مشاعره وبعد أن جال ببصره رأى ضبّاطاً برتب عسكرية وهم يقومون بعملية الشواء، فرمى
مرساته وأوقف زورقه قبالتهم وهو يتلمّض في سره ، ومضى وقت قليل فإذا به يسمع
أصواتاً تناديه ، فانتبه ورآهم يشيرون إليه أن يرفع مرساته ويتجه إليهم ، ففعل ،
وبعد أن وصل إليهم ، عرف أنهم كانوا منتشين بفعل الخمرة الراقية التي يحتسونها ،
وأدرك انه يقف إزاء ضبّاط كبار من المؤكد أن بعضهم قادة للفرق والفيالق العسكرية
أو الأجهزة الأمنية في مدينة بغداد ، إلا انه تمالك نفسه وقرر المضي بالمغامرة
قدماً ، كان أول سؤال يوجه إليه بطريقة مازحة ؛ لماذا نراك متوقفاً قبالتنا وتنظر
إلينا ؟ أجاب على الفور ، عذراً أيها السادة ، فانا فنان تشكيلي وأي منظر طبيعي
جميل يستهويني ، وكان السؤال التالي ؛ من أين أنت ، قال ؛ من منطقة الكرادة وبيتنا
هناك وأشار إلى الجهة المقابلة ، سأله احدهم مشككاً ؛ إن كنت فنان تشكيلي حقاً فهل
تعرف الفنان نوري الراوي ؟ أجاب السائل وأعطى تفاصيل دقيقة عن الفنان ، سأله
الضابط ذاته عن الفنان رافع الناصري فأجاب
صاحبنا بان رافع صديقه وكانا معاً يدرسان في الابتدائية والمتوسطة ثم اخذ يتكلم
وفق ما تسعفه ذاكرته المتقدة بشأن الفن والفنانين ، إلا أن سؤالاً أخيراً بقي في
جعبة السائل ؛ إن كنت فناناً حقاً وتسحر مخيلتك المناظر الطبيعية فلماذا لم تصطحب
معك عُدة الرسم المعتادة ، أجابهم بثقة ؛ هنا يكمن سر اختلافي عن الآخرين ، فانا
ارسم لوحتي بعد أن أعود إلى البيت بناءً
على ما يظل عالقاً بذاكرتي ، لاسيما وأنا أرى في ذلك نوعاً من التحدي ، وعند هذه
النقطة اسقط في يد السائل ، ودعوه إلى المشاركة في لذتهم وتناول السمك المسكوف معهم
، وصعد إلى زورقه ووعدهم بأنه سيرسل إليهم اللوحة بعد أن ينتهي منها ، بعدها ودعهم
وعاد من حيث أتى ، فوجد أصدقاءه يجلسون في ذات المكان من الشاطئ ، وقد انتهوا للتو
من تناول (الهبيط) وهو نوع من تشريب اللحم ، واعتذروا له لكونهم قد أتوا على نصيبه
من الطعام ، فقال لهم بصدر رحب ؛ هنيئاً ومريئاً لكم ، قال احدهم ؛ ولماذا نراك
منشرح الصدر هكذا ، وأين كنت ؟ أجاب ؛ كنت آكل السمك المسكوف هناك مع قادة القوات
المسلحة ، حيث بمقدوركم أن تروا بقايا لدخان ما يزال تتصاعد !!
مقلب
عرف والدي بين أوساط الناس في محلته بدماثة خلقه وطيبته واستعداده لتقديم
المساعدة للآخرين ، إلا انه عرف أيضاً بولعه بتدبير المقالب مع الآخرين ، حتى وان
جاء بعضها ثقيلاً ، ففي إحدى المرات ، والوقت كان خلال سني الحرب العالمية الثانية
، حيث شحت المواد الغذائية ولا سيما الأساسية كالرز والطحين والسكر والشاي ، الأمر
الذي أدى بالحكومة آنذاك أن تتخذ قراراً باعتماد نظام البطاقة التموينية الذي تعرف
إليه العراقيون ثانية في أعقاب غزو صدام للكويت ، وما نجم عن ذلك من الحصار
الاقتصادي القاسي الذي تم فرضه على العراق .
شاهد أبي عن بعد وهو يوقف سيارته نوع بيكب . حشداً كبيراً من أهالي المحلة
تجمعوا أمام احد الدكاكين ، ولما استفسر عن الأمر اخبره احدهم بان الناس يقفون منذ
ساعات في هذا الطابور الطويل على أمل أن يستلموا حصصهم التموينية المقررة ، اطرق
ملياً ، ثم هداه تفكيره إلى مخرج ، قاد سيارته باتجاه الحشد وتوقف بالقرب منهم
ونزل من السيارة ، وصاح بأعلى صوته ؛ يا لكم من حمقى ومغفلين ، انتم تقفون هنا
تنتظرون الماء الذي يتساقط من ناگوط الحِب
بينما أهالي المناطق المجاورة يهرعون الآن إلى مكان سقوط إحدى طائرات التموين
الانكليزية الضخمة التي سقطت بحمولتها
عالبرة أي في الكرادة خارج ، وهم الآن منهمكون بالاستيلاء على جزء من
الغنيمة السماوية ، فصاح الجميع ؛ وكيف عرفت ذلك ؟ قال ، ها إني قد عدت للتو من
ذلك الطريق وشاهدت الواقعة بأم عيني وأخذت حصتي من الغنيمة ، فتحمس الجميع وهرولوا
إلى بيوتهم جالبين معهم الأكياس والأواني وأبناءهم واتجهوا صوب المكان الذي أشار
إليه .
أسرع أبي إلى استخراج البطاقة
التموينية الخاصة بعائلتنا ، وذهب إلى الدكان ليستلم منه المواد الغذائية بكل
سهولة ويسر ، ولم يمض وقت قصير حتى عاد الحشد المغرر بهم من رحلتهم الشاقة وتجمعوا
أمام منزلنا على شكل مظاهرة صغيرة غاضبة ، فخرج إليهم ، فتكلم احدهم بحدة ؛ لابد
انك كنت تضحك علينا حين دبرت لنا هذه (الداوركيسه)* ، فأجابهم وكأنه ينتظر ذلك
منهم ؛ وما ذنبي أنا إذا كنتم مغفلين هكذا إلى هذا الحد ، وكيف تعقلون أن طياراً
انكليزياً يمكن أن يدع طيارته تسقط في غير المعسكرات التابعة لهم وما أكثرها ؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق