كتاب في حلقات
همنجواي في الحلة(8)
مرسوم رئاسي
أحمد الحلي
من بين الأمور التي اهتم بها ، تربية البلابل وما يزال
يتذكر احدها والذي أعطاه اسماً هو (حيدر) فكان يصطحب معه هذا البلبل أينما ذهب ، وفي إحدى المرات
غفل حيدر عن نفسه قليلاً فهجم عليه قط كان متربصاً به ، فحزن كثيراً لفقده وقرر
منذ تلك اللحظة ان يقلع عن تربية البلابل ، إلاّ ان ذلك لم يمنعه من أن يقوم
بتربية إحدى القطط الشامية ذات الفراء الناعم الجميل ، وأطلق عليها تسمية (ميسون) ، وكانت على
درجة عالية من الكياسة والتهذيب واللياقة ، حتى انه كان يعتبرها جزءاً من أسرته ،
إلا انه فوجئ ذات يوم ان مجلس قيادة الثورة يصدر مرسوما يقضي بإبادة القطط والكلاب
السائبة ، وان على الذين لديهم حيوانات أليفة في بيوتهم ان يذهبوا بها الى دوائر
البيطرة القريبة ليُصار إلى حقنها بالمصل الخاص ضد انتشار الأوبئة ، وبدلاً من أن
يعطوها المصل زرقوها بحقنة قاتلة ، الأمر الذي أدى ان يدخل في شجار عنيف مع موظفي
الدائرة ، ليخرج بعدها حاملاً جثمان (ميسون) ، ثم ليقوم بدفنها وفق مراسيم خاصة .
الحبيس
العاشق
منذ وقتٍ مبكّر ، وجد
نفسه يعشق الطيور المغرّدة ، ولا سيّما البلابل ، التي كان يشعر بنشوة ما بعدها
نشوة وهو يصغي إلى تغريدها منطلقاً من أشجار حديقة بيتهم في الكرّادة ، أو من
حدائق البيوت المجاورة ، وحين كان يستولي على اهتمامه شيء ، فإنه كان يتقصّى كافة
المعلومات المتوفرة عنه ، من خلال قراءة الكتب المتخصصة ، وكذلك سؤال الأشخاص
الذين لديهم خبرة ودراية بهذا الأمر ، وعلى سبيل المثال حصل على معلومة ذات قيمة
عززت لديه احترامه واهتمامه بالبلابل ، فقد قال له أحد القرويين ، إن البلابل
تختلف كلياً عن باقي الطيور ، وهي تعشق الحرية بشكل غريب ، إذْ أنها الطيور
الوحيدة لا تتزاوج قط وهي داخل أقفاصها حتى لا تورث العبودية لصغارها ، وعلى أية
حال ، وكما يتذكر ، فقد اقتنى في إحدى المرات بلبلاً من النوع الذي يعيش في محافظة
ديالى ، وهو نوع مميز بشهادة العارفين ، وكانت النصيحة الثمينة المقدّمة لمن يريد
أن يقتني أحد البلابل ، وهذا الأمر ينطبق كذلك على الطيور المغرّدة الأخرى ولا
سيّما الكناريات ، هو أن يعمد الشخص إلى وضع البلبل بمفرده في القفص ، فيكون ذلك
دافعاً وحافزاً له لكي يغرّد ويجوّد في تغريده ، ربما من أجل أن تسمع البلابل
الأخرى نداءه ، أو أن تغريده في مثل هذه الحالة يكون كغناء سجينٍ يرثي نفسه ، على
ما آلت إليه أموره ، وفي إحدى الصباحات سمع تغريدة أخرى شجية صادرة من بلبلٍ آخر ، خرج إلى الطارمة حيث
كان القفص معلّقاً ، فوجد بلبلاً آخر ،
فهم أنها أنثى ، لأن الطائر الذي لديه كان ذكراً ، وظلا يتناجيان ويغردان ، غير
آبهيْن لشيء من حولهما ، وقد استهواه هذا المشهد الفريد وطرب له ، وبعد مضي أكثر
من أسبوع على هذا الحب الجارف بين الطائرين انتبه إلى أنه يضع نفسه في موضع القاسي
الذي لا يرحم ، فقرر أن يطلق سراح البلبل
، وهذا ما حصل ، فطارا معاً وحلّقا بعيداً ....
محرر
البلابل
كان الحصار الاقتصادي
يشدد الخناق على حياة الناس ، وكان من العسير على الكثيرين الحصول على النقود
الكافية لكي ينفق على عائلته أو نفسه ، وقد أدى ذلك في الكثير من الأحيان إلى تفكك
عرى العلاقات الاجتماعية ، بل وامتد ذلك إلى الروابط العائلية أيضاً ، فلم يعد
الأخ يهتم أو يأبه بأخيه ، أو حتى الأب بأبنائه من حيث توفير المستلزمات الإضافية
أو الكمالية بما في ذلك الملابس وبعض الحاجيات الصغيرة ، وفي أحد الأيام ، وبطريقة
ما وجد نفسه يحصل على بعض المال ، وبينما كان يتجول ، كعادته في سوق الطيور ، رأى
شاباً قروياً يجلس جانباً وبجانبه قفصٌ كبيرٌ
يحتشد بمجموعة كبيرة من البلابل ، وكما يبدو فإن هذا القروي قد نصب لها
فخاً واصطادها في القرية التي جاء منها ، لاحظ أن أصحاب محلات بيع الطيور المغردة
لم يأبهوا له ، أو هم أظهروا له ذلك ، من أجل أن يتطرق إليه اليأس من الحصول على
المبلغ المناسب ، فيبيعهم البلابل بالسعر الذي يحددونه هم لا هو ، انتظر قليلاً ،
ثم اقترب منه ، وسأله عن عدد البلابل في قفصه ، قال الشاب ؛ إنها أربعة وثلاثون ، سأله
عن السعر الذي يريده ثمناً لها ؟ فكّر الفتى قليلاً ، ثم قال ؛ إنه يريد خمسمائة
دينار ثمناً لها ، وبعد أخذ ورد معه ، وافق القروي على مبلغ 200 دينار ، وسلّمه
المبلغ ، قال القروي ؛ ولكن كيف ستأخذها ، هل تريد أن تشتري القفص أيضاً ، أم هل
ترغب بشراء قفص جديد ؟ أخبره أنه لن يحتاج إلى أي قفصٍ لها ، وطلب منه أن يمهله
بعض الوقت ريثما ينتهي الأمر ، وطلب منه أن يمضيا معاً إلى حيث حافة النهر القريبة
، وهناك فتح باب القفص وسط ذهول واستغراب
القروي ، فأسرعت البلابل بالخروج والطيران بعيداً ، وأخيراً لم يتبق سوى بلبل واحد
، وخرج أيضاً وراقبه أبو رياض منتشياً ، ولم يتعجّب من أن هذا الطائر الأخير لم
يشأ أن يهرب بذات الطريقة المتعجّلة التي هرب بها رفاقه ، بل رآه يحلق بتمهل ، ثم
ليحط على أحد أسلاك الكهرباء فوقهما ، ثم ليطلق تغريدة آسرة أخيرة قبل أن يحلّق عالياً ، فهم منها أنه يزجي
إليه الشكر والعرفان نيابة عن رفاقه ورفيقاته البلابل ، التي يبدو أنها نسيت أن
تقوم بهذا الواجب ، وهي في حمى الهرب من الأسر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق