الخميس، 23 أكتوبر 2014

خطاب الجسد في التشكيل العراقي المعاصر أطياف وطقوس وبشر د. شوقي الموسوي -



خطاب الجسد في التشكيل العراقي المعاصر
أطياف وطقوس وبشر
                                                                    د. شوقي الموسوي






     احتلت علامة الجسد في العصور الشرقية القديمة ، مكانة متميزة ، حاضرة في الفن والحياة ، فأغلب الاشكال الآدمية المنفذة – الجسد الانثوي على وجه الخصوص -  في فنون الفخار او النحت آنذاك ، كانت بمثابة خطاب بصري  مُحمل بالرمزية ، خاضع للتأويل والجدلية .. فالاجساد قد تحولت من شكلها الواقعي الطبيعي الى الايقوني ومنه الى اشكال رمزية مجردة الى حدٍ ما ؛ على اعتبار ان مفهوم الجسد كوجود متعدد الدلالات  قد تمرحل من الايقنة والنمذجة الى الترميز والتجريد ، وفق عمليات التسطيح والتركيب التي يتجاوز بها الجسد حدوده الطبيعية (الموضوعية) الى الثقافية وصولاً الى الجوهرية ؛ بوصف ان الجسد حاول في كل مرة ان يترجم الوعي الثقافي ، لتحقيق الآثر المعرفي على ذهن التلقي ، ليصبح في النهاية الرمز المقدس الاول والاسمى في عالم الصورة قديماً وحديثاً .
جغرافية التعبير والتجنيس :  



     أصبح خطاب الجسد في الفكر الحديث يحتل موقعاً مركزياً باعتباره  كياناً متعدد الدلالات تتراوح ابعاده الدلالية بين الواقعية والرمزية والتعبيرية وصولاً الى التجريدية ، ضم قيم ووظائف يكون محورها تعاببر الجسد التي أصبحت فيما بعد بمثابة رسائل اتصالية تتجاوز حدودها الطبيعية المباشرة لصالح مضامينها الخصبة . وفي حدود  تاريخنا التشكيلي المعاصر في العراق ، نجد هنالك الكثير من النتاجات الفنية في النحت والرسم والخزف والعمارة قد شهدت  مع الفنانين ( جواد سليم – فائق حسن – أكرم شكري – عطا صبري..) تنوعاً في الطروحات الفنية ، المحتفلة بالثقافات المتجاورة والتي تحيد بذاتية الفنان بعدم الاكتفاء بتحليل الواقع العياني وإعادة صياغته ، وإنما البدء بإنتاج تكوينات خاضعة للتأويل منفتحة على الآخر ،تتجدد بتجدد فعل القراءة في رحلة البحث عن الأعماق .
التراث والمعاصرة :
     فالفنان جواد سليم  نجدهُ قد استعان بدلالات الخط ـ المنحني على وجه الخصوص ـ والذي يؤلف مع العناصر الأخرى ، تكوينات دائرية ممتلئة بطاقات حركية كامنة فيها ، ذي أبعاد ذهنية متمفصلة بالبنية الزمانية للمشهد الفني ..، كما في رائعته النحتية نصب الحرية    .. عندما  كثـّف فيها العديد من العلامات والرموز الفلكلورية والحضارية وفق بناء درامي رصين .
ثقافة تمارس طقوس :



     ونلاحظ ان الثقافة منذُ خمسينيات القرن الماضي  قد مارست طقوسها في الفن بعد ان حاولت إلى حدٍ ما ، لحظة  ارتباط الثقافة بالكتابة ، القضاء على خرافة الأشباح ، فمن خلال العلم والعمل الفكري المتواصل ، يعمق الفنان العراقي كيانه الروحي بالثقافة ، ليتسامى بالوجود إلى مناطق المثال ، لتمتد العلاقة الجدلية ما بين الجسد كمقولة والفن كثقافة ، إلى جوهر الحضارة كما في اعمال الفنانين العراقيين (فائق حسن– شاكر حسن ال سعيد – سعد شاكر – جميل حمودي – حافظ الدروبي – كاظم حيدر – ليلى العطار ..) ، التي  ارتكزت على  طروحات الفكر الفلسفي والجمالي والتي تـُحيل صورة الجسد إلى لغة تسبح في فضاء ممتليء بالعلامات والإحالات المقدسة .
      بعيداً عن الايقنة (القشور) :  
    ان التراث هو صورة الروح والجوهر وهو المعنى الكامن خلف المجهول ..، وهو الطيف المتجسد بالروح ، والتي يُحاول من خلالها الفنان العراقي أن يمنح أشكاله المعاصرة بعداً حضارياً ، اسطورياً  كما في نتاجات الفنانين (محمد غني حكمت - خالد الجادر- اسماعيل فتاح الترك..) ، ليتجهوا الفنانين نحو أسرار الرموز والإحالات المشفـّرة بالممارسات الإيمائية للجسد ... حيث اتجه الفن العراقي منذ ستينيات القرن الماضي باتجاه المفاهيم والأفكار ، بعيداً عن الأقنعة الجاهزة ..، وخاصةً عندما انتبه الفنان إلى التراث الممتليء بالإشارات المثالية المعمقة كما في تكوينات الفنان " شاكر حسن آل سعيد " الذي توصل من خلال بحثه عن الاصالة إلى دراسة البيئة والتراث من خلال الجدران واللقى الاثارية في العراق ..، فضلاً عن الفنان فائق حسن والفنان حافظ الدروبي وتكويناتهم الجسدية القريبة من الواقعية والمحملة بخطاب الثقافة .. فضلاً عن ألاجساد الانثوية في رسوم الفنان إسماعيل الشيخلي والفنان محمد عارف التي نجدها مهتمة بشكل واضح في موضوعة الجسد الانثوي ومفرداتهم (الوجه المدور – العيون الواسعة – الازياء ذات السواد ..) وغيرهم من الفنانين أمثال (نوري الراوي - ضياء العزاوي – صالح الجميعي .. )  الذين جسّدوا رؤاهم التأملية في أسلوب معاصر ؛ كون الجسد قد تمسك بالانساق والعلاقات التكوينية في الفن المعاصر المحتفلة بالمضامين على حساب الايقون .
جيل الاحتفال بالمرموز :      
      مرورا بسبعينيات القرن العشرين .. تواجدت العديد من التجارب التشكيلية التي تناولت موضوعة الجسد كدلالة حضارية اسطورية رمزية فضلا عن الدلالة الايقونية ..منذ رسومات الفنانين (محمد مهر الدين - عادل كامل – عامر العبيدي- علاء بشير ..) ، عندما إشتغلوا على موضوعة الجسد الانثوي اللذين أحالوه الى رمز اسطوري ممتليء بمناخات وطقوس روحانية ذات طابع مثيولوجي ، يكاد يكون مثالي  نحو محاكاة الجوهر بعيداً عن آليات السرد المباشر ، للتزوّد بالمعنى المخفي (الطيف) القابع وراء المرئي في مناطق الصمت .
موت المؤلف ورحلة البحث عن الهوية:
         ومرورا بتجارب فناني الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي نجد خطاب الجسد قد اختلف لكون الفنان العراقي قد استلهم من طروحات الحداثة وما بعد الحداثة الفكرية ، تطبيقات – خاصة التفكيكية ونظرية التلقي – أثارت مشكلة (( موت الإنسان )) ، التي شكلت – التطبيقات – تدمير للمراكز الثابتة والايديولوجيات الوضعية وبؤر المعاني المرتبطة بها ..؛ ولكون التفكيكيين – أمثال دريدا - قد ابتغوا من ذلك ، تأسيس خطاب جديد يقوم على أنقاظ خطاب الحداثة ؛ اذ يكون موت الإنسان المُعلن هنا ، موت شكل إنسان وليس الإنسان ، وخاصة في تجارب الفنانين العراقيين نهايات القرن الماضي (فاخر محمد- هناء مال الله- ماهر السامرائي- عبدالسادة عبد الصاحب - عاصم عبد الامير – حسام عبد المحسن – سلام عمر – ضياء الخزاعي – عامر خليل – كريم سيفو – شنيار عبدالله - أوانيس بدراوس..) التي احتفلت بالشكل المفتوح واللعب الحر والى الأدائية الفردية والغياب ، فضلاً عن سيادة الدال والأثر وعدم ثبات المعنى ، فلا شيء تحت  القشرة سوى القشرة ولا شيء تحت التجربة سوى التجربة .
تقويض المراكز وبؤر المعاني :    
     من خلال محاولات الفنان العراقي المعاصر – الثمانيني – في جعل الدال استدعاء للأشكال كدوال عائمة ومنزلقة - على حد تعبير (لاكان) – جعلت المتلقي القاريء ، يلتجيء في كل قراءة إلى مخزونه اللاشعوري ، بحثاً عن حالات تقبل التأويل ، أي تمكنه من ان يفهم الخطاب البدائي المفتوح ، من دون الاستعانة بالمؤرخ ، لينتج من خلالها تحرير الدال لإحداث الاثر في ذاته، بعيداً عما يُريده الآخر ... ووصولاً الى الفنانين التسعينيين (كاظم نوير- عبدالكريم السعدون- شداد عبد القهار- مكي عمران – محمد الكناني - زينب عبد الكريم- عبد الامير علوان – سيروان باران - شوقي الموسوي- هايدي الاوسي – عبد الكريم السعدون– فاضل نعمة– محمد علي جحالي - طه وهيب –عاتكة الخزرجي ..) الذين حاولوا خرق قوانين الجسد (اللعبة التصويرية) ، عن طريق تقويض المراكز الدلالية وبؤر المعاني ، من خلال تسطير لمجموعة من آليات الإدراك الحدسي التي يرتضيها اللعب ، والقاضية بإحالة الدال إلى دوال ، مع تغييب مقصود للمدلول ، مما يؤدي إلى تعدد القراءات وتشظي الدلالة ، فضلاُ عن انتشار المعنى للتأويل في ككل قراءة .
تعرية الجسد :
     صور الفنان التسعيني (حسني أبو المعالي - سيروان باران – نادية محمد – فادية محمد..) في أكثر نماذجهم أجساد متداخلة ومتقابلة . بعضها بلارأس . تتواجد على مساحة بيضاء دائرية تقف عليها الاجساد كانها في رقصة ما. من أجل الوصول إلى منطقة بينية ، تربط بيننا وبين طفولتنا البكرية ، لتأسيس خطاب وزمن جديدين ، متداخلين مع أزمنة  البكر تحتفل بعمليات التعرية والتسطيح والتحديث لاجساده الانثوية على وجه الخصوص ، مثلما تتعرى عشتار لحظة نزولها الى مملكة العالم السفلي في الفكر العراقي القديم .هنا استذكر مقولة الفنان الرائع استاذنا " شاكر حسن آل سعيد " عندما قال : ان التعرّي او التعرية بمثابة حفريات آثارية  ، تزيل المظاهر المتراكمة للطبقات الآثارية ، من أجل الكشف عن الهوية  حيث شكلت الاجساد الانثوية سمة متسيدة في أغلب أعماله الاخيرة ، مرتفعاً بها على المظاهر الطبيعية الى مستويات العاطفة لتسجيل احدى مظاهر السعادة والامل والوطن .
الجسد خطاب الذاكرة :
    صور الفنان التسعيني (عبد الكريم السعدون –اسعد الصغير – محمد الكناني - صفاء السعدون - عاتكة الخزرجي ..) مشاهد عديدة لاجساد  بلارؤوس تحلق في فضاءات العمل الفني . فقد حاولوا الفنانين ان يتأملوا الجسد وعلاقته بالخطاب الفني داخل الزمن الجديد ، المُقترح ، وفق العلاقة الجدلية بين المُعلن والمخفي ، الظاهر والباطن (( وجود باطن يُغلف الباطن )) ليُذكرنا بتأملات "ميرلو بونتي " الحدسية التي تشتغل في العلاقة بين الكلمة والصوت ، عندما أكد بوجود صمت يُغلف الكلمة بعد أن لاحظ ان الكلمة قد غلفت الصمت ..؛ على اعتبار إن التسعيني لا يُريد أن يُقدم الجسد كثقافة بوصفه قناعاً خالياً من المضامين الروحية ، المؤجلة بسبب غياب المعايير ، والأخلاقيات البعيدة عن آبار الصدق القديم ؟!! بل بوصفه خطابا ذاتياً، يتخذ من الذهني انطلاقة جمالية ، لبناء خطاب العصر الجديد ، عصر الحروب ، بعد ان عانت في الأمس أسطورة اسمها الصمت !!.
   الجسد وواقعية التعبير :
    رسم بعض الفنانين التسعينيين  خطواتهم الاولى لرؤيتهم التصويرية في الفن ، متخذين من الواقعية النقدية ، انطلاقة أبدية نحو الوجود ، جاعلين موضوع الجسد له صلة بالأفكار الجديدة ، المُستلهمة من مرآة الواقع المعاصر.. فأعمال الرسام " عبد الأمير علوان والرسام ماجد شاليار، نجدها تصور العالم الواقعي (الجسد) ، كمرايا للزمن ، على وفق رؤية بانورامية شاملة للخطاب الواحد ، تنتج تكوينات وجودية متشحة بألوان الأرض والسماء والإنسان ، تبعث فينا شعوراً  بالحياة .. على اعتبار ان الرسم  طريقة للوجود على حد تعبير بولوك وثانيا للتعبير عن عمق افكاره ورؤيته الفنية وفق المكان المتخيل وليس المكان الموضوعي ؛كونه يصب اهتمامه في مطابقة تخيلاته وليس مطابقة الاصول .
    رنين وحياة وجسد :                                                        
      تستحضر تجارب الفن العراقي الثمانيني والتسعيني طقوساً من الحضارة  بأسلوب بانورامي ..؛ إذ نجد هنالك تحاوراً وتجاور ما بين المرئي واللامرئي يُنشط ذاكرة البكر ، للإفصاح عن الجوهر .. هذه التجارب بشكل عام وفي رسوم الفنانين (مكي عمران –محمد علي جحالي – كريم الوالي ..) بشكل خاص ، تستعين إلى حدٍ ما بآليات التشكيل الحداثوي المُناهض للايقون ، من أجل إخصاب عملية التلقي التي تستنطق المسكوت عنه (الطيف) داخل العملية النقدية ، فقد اشتغل على بنية الأساطير كمنقب في حضارة الذاكرة والهوية ، لتجعل مفرداته (( الجسد الأسطوري – النخلة – الأقنعة – الزقورة ...))  للتركيز على النسق كرغبة بالتمعن فيما وراء النتاج الفني ، بغية فهم ما يشكل ذلك النتاج من أطياف (اللامرئي) .
بمثابة خاتمة :
ان خطاب مابعد الحرب قد ساق تجارب الجيل التسعيني ، بفعل قناعاته الأخلاقية والتصويرية ، إلى اتخاذ موقف  جمالي ، يبحث عن حقيقة الجسد بعيداً عن القشور ، باتجاه الأعماق ؛ كونه قد تمرد على الواقع الذي اعتبره مظهراً  مزيفاً ، يخفي حقائقه وراء أقنعته المؤدلجة بالظلام ، ليصبح التعبير في النهاية كالموسيقى التي تخفي خفاياها عبر العصور . ان خطاب الجسد لدى الفنان العراقي المعاصر ، قد أصبح بمثابة نقطة تحول وارتكاز رياضي في الفن المعاصر، تجعل من ألذات والخيال وجوداً حقيقياً يمتلك جوهر المرئيات قبل الولوج في تمظهراتها الجزئية ...؛ لان فكرة المرئي – على حد تعبير غوغان – هي التي تجعل الجسد ملائماً للرسم والذاكرة لاتحتفظ بكل التفاصيل الجزئية ، بل ما يُثير الروح والقلب فقط .

ليست هناك تعليقات: