الأحد، 12 أكتوبر 2014

قصة قصيرة أجنحة مهيضة-أحمد الحلي

قصة قصيرة

أجنحة مهيضة

أحمد الحلي

مهداة إلى الصديق عصام البياتي


أطل الصباحُ على إحدى الدجاجات وهي تلتهم طعامها اللذيذ المعتاد في الحقل الكبير جنباً إلى جنب مع مجموعة كبيرة من أفراد جنسها ، وهي اعتادت أن تنظر إلى الأمور والأشياء المحيطة بها من ذات الزاوية ؛ كمية الغذاء المقدم لها في أوقات محددة بدقة ، الرعاية والاعتناء ذاتهما من قبل العامل الموكل إليه هذا القيام بهذا العمل الروتيني ...
بيد أن هذه الدجاجة ، ولسبب ما غير مفهوم ، أخذت تنتابها مشاعر مبهمة فيها شيءٌ من التوجس والحيرة  بل والريبة أيضاً عن المكان الجديد الذين تذهب إليه قريناتها الأكبر سناً بعدة أسابيع ، حيث كانوا يأتون على حين غرة ، محدثين جلبة وضوضاء  تصدّع الرأس مصطحبين معهم عدداً كبيراً من الأقفاص ، ليشرعوا بحشرها فيها بطريقة أبسط ما يقال عنها إنها تفتقد إلى اللياقة وحسن المعاملة .
وعلى أية حال ، فهي ، شأنها في ذلك شأن أفراد جنسها ، لم تكن ممن تتملكهم المشاعر السوداوية إزاء ما يجري من حولها ، ولا ترغب بأن يعكر صفوها شيء .
هذه الدجاجة ، بدأت تطرأ على تفكيرها مشاعرُ وأحاسيس جديدة ، وجدت نفسها تنظر إلى السماء ، هذه المساحة الشاسعة الزرقاء الممتدة ، كانت تحدق فيها وكأنها تراها للمرة الأولى ، وجدت نفسها سعيدة باكتشاف هذا العالم الجديد ، من بين ما لاحظته ؛ مجموعات سابحة من الطيور وهي تطير بمستويات متعددة وأخرى تطير فرادى بسرعة أو بتمهل ، أمعنت التفكير ملياً في هذه المسألة ، وجدت أن الفضاء الذي تسبح فيه هذه الطيور لم يكن بعيداً عنها ، كانت تحس به قريباً جداً من وجدانها وكينونتها .
فجأة طرأ على تفكيرها السؤال ؛ لمَ هي بمعية هذا الحشد الكبير من رفيقاتها يتوجب ويتحتم عليهن العيش أسيرات لهذا الحقل وما تحيط به من أمور مريبة ، بينما آفاقٌ أخرى مذهلة يمكن أن تكون بانتظارها ، ألقت نظرة إلى جناحيها وريشها بزهو واختبرت قوتهما بحركة مألوفة ، إنهما قويان كفاية لينطلقا بها بعيداً ، أخفت سرها مع نفسها خوفاً من  انكشاف أمرها بانتظار فرصة سانحة .
على مقربة ، وضمن ذات المساحة ، كان صاحب الحقل لا يعوزه شيء وجه ممتليء بشاربين كثين وجسم ضخم بمنكبين عريضين ، كل شيء تقريباً كان متاحاً له ، الممكنات المادية والحياتية كانت طوع أمره ، فمنذ وقت مبكر علمته دروس  الحياة القاسية أن يرى في الفقر والفاقة فشلاً في اختبار الحياة ، لذا فهو قد وضع ، ومنذ البداية لنفسه هدفاً محدداً يتمثل في اختراق حاجز الفقر الذي كانت تعاني منه عائلته قبل زواجه ، ليصل إلى مرحلة الغنى والثراء مهما كلفه هذا الهدف من تضحيات ومشقات ، وكان له ما أراد .
بيد أنه ، وعلى غير عادته ، وجد نفسه في الآونة الأخيرة وقد راحت تداعب مخيلته بعض الأفكار والرؤى التي لم يعتد عليها من قبل ، فقبل مدة يسيرة أتيح له أن يتعرف من خلال أحد أصدقائه على أحد الشعراء ، فأخذ هذا يتردد عليه في مكتبه بين الحين والآخر ، وكان هو ، لا يبخل بالترحيب بضيفه الجديد ، وبصفة خاصة حين لا يكون هناك ثمة عمل وكشوفات حساب وأرقام .. واجداً في قربه منه نوعاً من السلوى والتعويض بل وحتى الفضول ، كان يتعجب أن لا يرى إمارات الفقر والعوز البادية على هيئته وملامحه متمكنة من روحه وعنفوانه ، كان بوسعه أن يرى الشعاع الخفي الذي ينطلق من عيني ضيفه والحيوية الغامضة المنطلقة عبر نبرة صوته الذي ينطلق على شكل جمل وكلمات لم تألفها لغته أو لغة أقرانه ذات الحواف الرتيبة الخشنة ، ومن أجل ذلك فقد أخذت تعكر صفو أيامه نوباتٌ مقلقة من التفكير والأرق ، أحس أن شيئاً ما بدأ بالتسرب داخل روحه ، وهكذا وجد نفسه يستفيق فجأة على عالم آسر لم يكن يعيره اهتماماً والتفاتاً في السابق ، بل وغالباً ما كان يسخر منه لعدم جدواه المادية ، حيث كانت  هذه "الجدوى" تشكل لدية المعيار الأساسي لكل ما يدور حوله أو ما يتوجب عليه عمله ، كان يرى أي اهتمام إضافي لا يدر فائدة مادية هو مضيعة للوقت ، وهو " هلاكات * " من نوع ما ، وبناءً على الوضع الجديد الذي طرأ عليه واكتسحه  ، فإنه أخذ يستزيد من زيارة أدباء وشعراء آخرين ، بالإضافة إلى أنه لم تكن لتفوته فرصة الذهاب إلى مقر اتحاد الأدباء للاستمتاع بالأماسي الثقافية المتنوعة والالتقاء بأكبر عدد من الأدباء الذين أصبح ينظر إليهم وكأنهم كائنات خرافية قادمة من كواكب أخرى ....
 فكّر مع نفسه ، وقرر أن يصبح أديباً أسوة بالآخرين مهما كلفه الأمر ، وأخذ يستعرض في ذهنه  المجال الذي سيختاره ، وإن كان بطبيعة الحال يفضل أن يكون شاعراً ، ثم  أخذ يستعرض عدداً من عناوين الكتب التي سيقوم بتأليفها ، ً ، إلا أنه وبعد عدة محاولات ركيكة أصابه الإحباط  و اكتشف  أن الشعر ليس ميدانه المناسب  ، فقرر أن يختار ميداناً آخر ، حيث فهم من  بعضهم أن فن كتابة الرواية هو الفن الأرحب والأكثر ديناميكية بين سائر الفنون الإبداعية في عصرنا الراهن ، بل أنه الأكثر " جدوى"  بينها إذا ما أتيح للروائي النجاح والانتشار ،  وضمن إطار هذا التوجه  ، نصحه أحد معارفه الجدد من الأدباء أن يستزيد من قراءة كتب بعينها ، وأعد له قائمة طويلة ضمت كتباً فلسفية وتاريخية وروايات مشهورة  ودواوين شعر ، وفي رحلته الأولى لإحدى المكتبات المتخصصة ببيع الكتب القديمة وجد أن المبالغ التي يتوجب عليه دفعها باهظة نوعاً ما ، وأخيراً وجد ضالته بأن أرشده أحدهم إلى المكتبة العامة التي بمقدوره أن يستعير منها على سبيل الاستعارة الخارجية  ما يشاء ، غير أنه وبعد عدة محاولات مع أحد الكتب وجد أن عملية القراءة شاقة ومضنية ، فكّر في الأمر مع نفسه وأخيراً اهتدى إلى حل  يتمثل في أن يتجنب القراءة واستنزاف وقته الثمين ، وفي مقابل ذلك أن يكثف حضوره إلى أماسي اتحاد الأدباء والتجمعات الثقافية التي تعقد في مدينته بين حين وآخر ، بالإضافة إلى ذلك يقوم بتوفير المناخ الملائم في مكتبه بالذات لغرض استدعاء عدد  محدود من الأدباء منتقى بعناية ، فيتم عقد جلسات يتحدثون فيها عن الشأن الثقافي ، فيحصل على رصيد جيد من الثقافة والإلمام عن طريق المرويات الشفاهية ، في أحد الأيام حضر إلى مكتبه أربعة أدباء كبار مرموقين  قدموا إلى مدينته من العاصمة بغداد لغرض إقامة أمسية ثقافية ، وقبيل عقد الأمسية استدعاهم إلى مكتبه بعد أن أقلهم بسيارته الفارهة للقيام بجولة ترفيهية إلى عدد من المعالم الأثرية والعمرانية فيها ، وبينما كان الحاضرون منهمكين بمناقشاتهم الحامية الوطيس حول النظريات النقدية الحديثة ؛ البنيوية والتفكيكية والسيميائية وما إلى ذلك  ، فجأة  انتبهوا إلى حدوث جلبة عند مدخل المكتب ، ثم ليجدوا امرأة مسنة يعرفها  تقتحم المكان وهي تحمل بيدها دجاجة ، لتقول له ؛  "دخيلك دختور ، هاي دجاجتنه صارلهه يومين معوشه ، بلچن تشوفلهه چاره " ، انعقد لسانه لهول المفاجأة والصدمة ، وأخيراً انتبه لنفسه ليقول بما يشبه العزاء وتأنيب الذات ؛ "آني ما يصير براسي خير ما طول الدجاج ورايه" !   
وفي خضم حمى  المسير في هذا الطريق الشائك ، وجد أنه من المحتم عليه أيضاً أن يتعلم فنوناً أخرى ذات صلة بالثقافة والأدب ، من بينها الموسيقى ، واعتاد أن يحضر  بين فينة وأخرى إلى أحد المكاتب لتعليم أصول الموسيقى ، وأصر هو منذ البداية  أن يتعلم السلم الموسيقي ، إلا أنه في كل مرة يطلب فيها معلمه منه أن يردد معه الصيغة ؛  دو - ري - مي - فا - صول - لا - سي  ،
كان لا يتبادر إلى ذهنه سوى  ؛ قو- قي- قا - قوق -قا - قي ... !!
ومهما يكن من أمر ، فقد كانت الرؤى والأخيلة السعيدة تتفتح أمام عينيه كأنها شلال  سحري متدفق ، وفي الأيام التي يتحتم فيها عليه أن يبيت في حقله الكائن بإحدى ضواحي المدينة ، كان بوسع عينيه حين يستفيق صباحاً أن تريا السماء وهي تحشد بطيور مختلفة وهي تعبر صفحتها على مستويات مختلفة ، في تلك الأثناء كانت تجتاحه رغبة عارمة بالطيران معها ....






[1] هلاكات  ؛ مصطلح  يستخدم بكثرة من قبل أصحاب حقول الدواجن يشيرون فيه إلى الأمراض التي تتعرض لها الدواجن فتؤدي إلى هلاكها بالجملة .

ليست هناك تعليقات: