يحيى القيسي *
ثقافات
المشهد البائس سياسياً في كثير من المدن العربية اليوم، والمنشغل عسكرياً أيضاً في معارك هنا وهناك، لا تجد له الأثر الكبير والتفاعل الحقيقي مع المثقف القابع في شرنقة عجيبة، أو يكتفي بالتعليقات الهامشية بمقال هنا أو هناك، أو بأحاديث جانبية في حانة أو مقهى، وربما فكر فقط بنشر صورة مكررة أو اجترار ما يقوله العوام على صفحته "الفيس بوك" .
ثمة معارك طاحنة مع قوى ظلامية تريد إرجاع المشهد الحضاري العربي إلى العصر الحجري، أو فرض رؤيتها المشوشة والضيقة عن الإسلام، ثمة ذبح من الوريد إلى الوريد، واغتصاب، وتدمير متواصل، وثمة أيضاً ضخ إعلامي، وتجييش في الخفاء لمثل هذه الفئات في المجتمع التي لا تحتفي بالحياة، ولا تنتصر للإنسانية، ولكن المثقف لا يزال صوته ضعيفاً أو على الأغلب لا صوت له .
فيما مضى كانت الأمة مثل الجسد الواحد تنشغل بقضها وقضيضها بمصاب أي دولة أخرى، وكان صوت المثقفين فيها عالياً، لكن هذا لم يعد يحدث فحتى في الدولة الواحدة نفسها لم يعد هناك نوع من التضامن أو الاتفاق على مسائل مصيرية، أو على فكر ناظم لحياة الناس على مستوى الدولة نفسها على الأقل، كما أن سلطة المثقف تلاشت تقريباً، وانقسم أغلب المثقفين بين حائر وخائر .
قسم كبير منهم فقد الأمل من الدولة نفسها ومن الناس أيضاً، وهذا القسم ذو خلفيات يسارية أو قومية على الأغلب وعانى الأمرين في سنوات شبابه، ولكنه فقد وهج المقاومة حتى لو طرق المحتل باب داره، فقد تم اقصاؤه وخذلانه في الوقت من "الجماهير"، وبالتالي غدا متلحفاً بماضيه التليد، لا يتجاوز خطابه أيام الستينات، وقسم آخر من النوع اللامبالي، وينتظر دائماً حلولاً سحرية لما يجري، ويتعامل مع نفسه كمثقف حرفي، أي يجيد التعامل مع الثقافة ومصطلحاتها ويعرف مساربها وأسرارها كمهنة تدر الدخل، وبالتالي يؤدي دوره في هذا الحقل بأقل الخسائر، ومن دون أن يكون له رأي حقيقي، وغالباً ما تكون كتاباته مائية أي لا طعم فيها ولا لون ولا رائحة ولا موقف أيضاً من أي شيء، وقسم ثالث غارق في تفاصيل أدبية أو فنية دقيقة، وغائب عما يجري حوله، وربما لا ينتبه للحريق المحيط ببيته إلا إذا وصل إليه فعلاً واكتوى بناره، فلا مانع عند هذا النوع الثالث من عقد ندوة عن تجنيس القصة القصيرة جداً، أو قضاء ساعات طويلة من الجدل في أن الرواية ديوان العرب أم الشعر؟ وما هي شرعية قصيدة النثر؟ وأصوات الطائرات من حوله تطغى على صوت مكبرات الصوت والنقاشات البيزنطية مع الكثير من القهوة والسجائر .
النوع الرابع قد يكون واحداً من هؤلاء لكنه يمتلك فروسيته، ولم يرهن ضميره للشيطان، وبالتالي يشارك في معركة التنوير بطريقته، ويعلو صوته دفاعاً عن الحق والمستضعفين، الحق الذي ليس بعده الا الضلال، وهو الذي ينتصر لمقصد الوجود البشري على الأرض أي إعمارها ونشر الخير وثقافة السلام في ربوعها، وعدم الاقصاء والتطرف ومحاكمة البشر لأفكارهم، وهؤلاء للأسف قلة، لكن صوتهم قد يكون مؤثراً، لأنهم يؤمنون بما يفعلون، ولأن طاقة النور في النهاية لها فرسانها، وينبغي أن تأخذ دورها طال الزمن أم قصر .
كان غوبلز وزير الثقافة الهتلري يقبض على مسدسه كلما سمع كلمة "مثقف"، ولو أتى في زماننا هذا وشاهد مثقفينا العرب لاكتفى بالقهقهة أو ربما البكاء على زمن ذهبي أصبح في طيات النسيان .
_______
*روائي وإعلامي أردني ورئيس تحرير ثقافات/عن الخليج الثقافي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق