الأربعاء، 29 أكتوبر 2014

المبدع والمدّعي- *يحيى القيسي


المبدع والمدّعي


*يحيى القيسي
لو بحثنا في كل مؤسسة تعنى بالإبداع ونشره في مجال الأدب والفنون لوجدنا العجب العجاب، أتحدث هنا بشكل عام عن بلادنا العربية، حيث اختلاط المفاهيم، وانتماء من لا علاقة له بالأمر إلى أهل الاختصاص والمبدعين من غير أن يجد له رادعاً، ولا من يسهم في الغربلة قبل "وقوع الفأس بالرأس" وتسرب المدّعين إلى صفوف المبدعين، إذ إن القائمين على الأمر يكادون أيضاً ينتمون إلى صفة المتسللين إلى هذا الفرع الإبداعي أو ذاك، ولهذا يمكن أن تجد في بلد من عشرة ملايين نسمة ألف شاعر، كلهم يطلقون على أنفسهم هذه الصفة وحتى تفرز القمح من الزوان تحتاج إلى دهر أو يزيد، ولو جمعنا عدد أعضاء رابطة الكتّاب في الأردن مثلا مع اتحاد الكتاب، ورابطة الفنانين، ورابطة التشكيليين، والأساتذة الجامعيين وأعضاء الفرق الفنية، والجمعيات والملتقيات الثقافية الأخرى المنتشرة في شتى أنحاء المملكة لوجدنا أنّ لدينا أكثر من خمسين ألف عضو يفترض أن يكونوا مثقفين فاعلين، هاجسهم دعم الإبداع الحقيقي هذا إضافة إلى أعضاء الأحزاب وبعض رجال الدين المتنورين وأولئك المستقلين والزاهدين بالتجمعات، وهذا عدد كبير لو قدّر له أن يسهم بشكل حقيقي في بناء المجتمع المدني، وتغيير البنية الاجتماعية إلى الأفضل عبر الإشارة إلى العيوب وعوامل الهدم والتعرية التي تطالها ونقدها، وإعطاء دفقة من الثقافة الجادة بديلاً للثقافة الاستهلاكية الهشة لأصبحنا في حال مختلفة اليوم .
وبالطبع فإن معايير الإبداع تزيد وتقل، فليس الكلّ سواء بالمستوى نفسه، لكن من غير المعقول مثلاً أن ينتمي للفنانين التشكيليين من لا يجيد غير صبغ الجدران وقطع الأثاث، ولا للممثلين من هو من المجاميع (الكومبارس) الذي مرّ بالصدفة من الشارع أثناء التصوير، ولا للشعراء من كتب خاطرة على الفيس بوك، ولا للمطربين من يمتلك صوتاً مشروخاً لا يصلح حتى لبيع الخضار على العربات .
وأي متتبع لمثل هذه الظاهرة ستكون له تفسيرات كثيرة لمثل هذه الاختراقات التي أصبح فيها المدعي هو السائد والمبدع هو الاستثناء، فأول التحليلات سهولة القبول في مثل هذه التجمعات، أي ان شروط العضوية ميسرة، وخصوصا في الدول ذات الطابع الحزبي، فإنّ تسريب أعداد كثيرة من "الأصوات" الانتخابية والجماعات السياسية الضاغطة تحت مسمى "عضو عامل" في هذه الرابطة أو تلك مسألة عادية، وأذكر في زيارتي الأولى لبغداد نهاية الثمانينيات أني رأيت رجلاً نشيط الحركة ويبدو مسؤولاً في اتحاد الأدباء والكتّاب هناك، ولا أرغب بالطبع في تسميته، فربما لا يعني لأحد الكثير اليوم، وحين سألت عن صفته الإبداعية أي هل هو قاص أو شاعر أو روائي أو باحث لم أجد أي جواب يشفي الغليل، فقد كان كما فهمت لاحقاً شاعراً من الدرجة العشرين وحزبيا من الدرجة الأولى، وهذا ما شفع له .
أما التحليل الثاني لاختلاط الأدعياء بالمبدعين فهو عدم وجود جماعات جادة ضاغطة من المبدعين الحقيقيين، لا بل إن بعضهم أسهم بشكل واضح في إدخال هؤلاء إلى العضوية ومنحها لهم بشكل ميسر لكي يظهر جانبه المتفوق عليهم إبداعياً، وعلى ذمة أحدهم قد نخسر الكتاب لكن سنربح القراء على الأقل، ويبدو أن هذا الأمر غير دقيق أيضاً، فهؤلاء غالباً لا يقرأون ولا يكتبون إنما هم عالة على غيرهم، وأعجب من أنهم أصبحوا في الإدارات الثقافية لروابط الفنانين والتشكيليين والأدباء من دون أن يرف لهم جفن من حياء أو تراجع، لا بل إنهم غالباً ما يتعرضون إلى الهجاء في الصحف، أو حتى المباشر لكي يدفعهم ذلك للاستقالة وترك الأمر لأهله ولكن دون جدوى .
في النهاية لن تصنع من الحمير غزلاناً، ولا من الحديد ذهباً، ولا من المدعين شعراء حتى لو هلل لهم الإعلام وحفتهم جنيات الإلهام .
________
*روائي ومؤسس ثقافات/الخليج




ليست هناك تعليقات: