حسين الموزاني
الثقافة والهوية الوطنية
مقدمة لكتاب يصدر قريبا عن منشورات الجمل
حسين الموزاني
عندما وصلت إلى بيروت في الثامن من أيلول عام 1978 لم أكن أعلم قطّ بأنّ رحلتي هذه، أو إقامتي خارج العراق ستستغرق أكثر من ثلاثين عاماً، فأيّ رحلة هذه وأي بلاد تلك التي غادرتها بلا رجعة، ولا أمل في الرجوع! وأودّ أن أوضح هنا بأنني تآلفت مع منفاي منذ زمن بعيد ورضيت به داراً وبديلاً لوطني، واقتنعت بأنني بتّ الآن يتيم الوطن، بعد أن كنت يتيم الأب فحسب. فأنا الذي لا وطن له، بعد أن سلبه منيّ أبناء وطني عنوةً، وليس قوات الاحتلال. وأقول هذا الكلام لكي تتضح الأمور منذ البداية، لأنني رجل معروف بصراحتي، ولم يعد هنا ما يستأهل الإخفاء بعد أن أصبحت الأسرار والنوايا كلّها مكشوفة. وكما عودتنا أغانينا التي كنّا نسخر منها في سنوات شبابنا فإن الغريب يكون أكثر رحمة عادةً من الأهل، فالأهل هم عادةً من يحرم ويظلم ويرتكب الجرم بحقّ أقرب الناس إليه. وأرغب أيضاً وقبل أنّ أدخل في صلب الموضوع، وهو التعرّض إلى ما كنت أحلم به وأنشده من بلدي وما آل إليه وضعه في الوقت الراهن، أرغب في التأكيد على أنّ ما يشهده العراق حالياً هو ليس أكثر من تنويع جزئيّ، لكنه سيء لنظام صدّام البعثي المقبور، وأعوانه الذين مازالوا يقررون مصير البلاد، سواءً عن طريق الإرهاب أو المشاركة "بفضلةِ" الحكم التي تركها المحتل لأعوانه ومسانديه. وأقول هذا الكلام عن دراية وليس تعنتاً أو ضغينةً على أحد، مثلما قد يظنّ البعض. إذ أنني، شأني شأن الكثير من المنفيين، وجدت في التاريخ العراقي ملاذاً كبيراً، وفسحةً للتأمل. فعلمني هذا التاريخ بأنّ صدّام حسين هو الرمز المنطقي الدقيق لطبيعة الحكم والحاكم في العراق، وأنّ ما نراه في التاريخ وما نراه اليوم في الحاضر ما هو إلا تنويع أو "تجلّ" صداميّ لهذا الرمز الثابت منذ نشوء الدولة الإسلامية في العراق قبل ألف وأربعمئة عام.
وبهذا المعنى فإن ليس هناك فرق جوهريّ بين الأنظمة الإسلامية التي حكمت العراق ونظام صدّام حسين الذي حكم العراق بحدّ السيف، بل ليس هناك فرق حتى في تحقيق الأغراض والمنافع المادية. ويكفي أن نلقى نظرة قصيرة إلى مطلع التاريخ الإسلامي لنكتشف بأنّ حاكماً عراقياً اشتهر بالعدالة وهو عليّ بن أبي طالب لم يشذّ إطلاقاً عن اتباع سياسة المهادنة وإقصاء الخصوم المنافسين ومحاربتهم وحتى إبادتهم بلا رحمة. ومنذ أوّل انقلاب إسلامي حدث في سقيفة بني ساعدة والذي أخضع فيه "البعثيون الأوائل" من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وأضرابهم، أخضعوا المتمرّد عليّ على القبول بالأمر الواقع، فرضي صاغراً حتى آل إليه الحكم، ليعمل السيف بخصومه السياسيين. ويذكر لنا الرواة بأن الناس بايعوا أبا بكر ليخلف محمّد النبي، واستثبتوا للبيعة، ولم يتخلّف إلا عليّ والزبير بن العوّام، و"اخترطَ الزبير سيفه وقال : لا أغمده حتّى يُبايُع عليٌّ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقال عمر : خُذُوا سيف الزبير، فاضربوا به الحجر. قال فانطلق إليهم عمر، فجاء بهما [أي عليّاً والزبير] تبعاً، وقال لتبايعانِ وأنتما طائعان، أو لتبايعانِ وأنتما كارهان! فبايعا"، (الطبري جـ3 ص 203.(
وكلّ ما قيل لنا من أساطير عن اختلاف طبيعة عليّ بن طالب عن غيره من الحكّام العراقيين هو محض افتراء لا غرض له سوى تسفيه عقول الناس وابتزازهم واستغلالهم وسرقة أموالهم، وبالأخص الفقراء منهم، لأنّ ليس هناك أكثر استعداداً للتضحية من الناس الفقراء، وكذلك ليس هناك أسهل من استغلالهم.
وشاءت "الصدفة" أو الضغينة أن يقتل الزبير بن العوّام هذا في موقعة "الجمل" إلى جانب عشرة آلاف قتيل آخر، نصفهم من أصحاب عليّ والنصف الآخر من أصحاب عائشة بنت أبي بكر. ومع ذلك فقد أقام عليّ الصلاة على القتلى من خصومه لأنه رأى فيهم الكثير من العبّاد المجتهدين ومن أبطال المسلمين وأحبارهم، وندب موتاهم، تماماً مثلما كان يفعل صدّام حسين بعد كلّ مجزرة يرتكبها هو وأعضاء حزبه. وقد جاهر عليّ بن أبي طالب شخصيّاً بعدائه السافر للعراقيين عندما قال: لقد ملئتم قلبي قيحاً يا أهل العراق! لأنه أراد أن يجعلهم طوع يديه، فلم يرضخوا له فصار يحاربهم ويؤكد هذا الرأي عدد القتلى في المجازر التي وقعت في عهده هذه الحقيقة مثل موقعتي "النهر" و"عين التمر" وحرب "صفيّن".
ولم يختلف الأمر كثيراً مع الحاكم الإغريقيّ المستبّد الإسكندر المقدوني الذي أعرب علناً عن كراهيته للعراقيين واستعان بمرشده الروحيّ، الفيلسوف أرسطو، لكي يضع له ولهم حلاً، وإلا فإنه فسيقطف رؤوسهم فرداً فرداً.. بيد أنّ أرسطو أعاده إلى صوابه بالقول إنّ قطف الرؤوس لن ينفع شيئاً، لأنها ستنمو من جديد ما دامت التربة مهيأةً لذلك، وإنّه لا يرى حلاّ سوى المزاوجة والمصاهرة بين الجنود الإغريق والنساء العراقيات. ومن يشكك في هذه الحقائق البديهية فما عليه إلا أن يلقى نظرة على الواقع العراقيّ الراهن أو طبيعة الحكم في إيران، حيث استولى غلاة "التشيّع وحبّ الإمام عليّ" على مقاليد الحكم ليظهروا حقدهم على البشرية جمعاء ويحولوا الدين إلى أيديولوجية دموية وذات صبغة فارسية عنصرية تعتاش على القتل والحرب والدسيسة والاغتيال السياسي.
فهل تغيّر شيء في طبيعة الحاكم السياسي العراقي منذ فجر التاريخ، والشقّ الإسلامي منه خاصةً، وإلى يومنا هذا؟
يمكن الإجابة عن ذلك بنعم، لأنّ الكثير من الأمور تغيّرت نحو الأسوأ في الواقع، وأصبحت أشدّ خطراً أكثر مما كانت عليه في زمن عليّ بن طالب الذي صارت جرائم الطغمة الحاكمة في إيران ترتكب باسمه. ونرى هذه الظاهرة المقيتة تنشر في العراق حالياً، وطننا الأم، الذي استباحه المعممون الشيعة والسنة على السواء، ليلتحق بهم المعممون الأكراد الذين لا يقلّون خبثاً وطمعاً وتعطشاً للانتقام عن الساسة الآخرين. لكن الغريب في أمر العمامة الشيعية الجديدة التي تدعي حبّ الإمام علي وآل بيت النبيّ والتمسّك بعدالتهم والتحلّي بأخلاقهم وزهدهم هو أنها أجادت اللعب على الحبال الإيرانية والأمريكية على السواء، ما يعدّ في العرف الفقهيّ السياسيّ بدعةً عجيبة؛ هذا إذا ما استثنينا ممالأة وزير آخر خلفاء بني العبّاس المستعصم، ابن العلقمي، للاحتلال المغولي لعاصمة الخلافة العبّاسية بغدادَ.
وإذا ما تأملنا جيّداً حاكماً عراقياً معاصراً حظي إلى حد بعيد بتعاطف العراقيين وحبّهم ونعني به الزعيم عبد الكريم قاسم والذي يعدّ من حيث أصوله العرقية والدينية حاكماً عراقياً مثالياً، فسنجد بأنه بدأ حكمه بمجزرة قصر الزهور الرهيبة التي لا تختلف مبدئياً عن مجزرة كربلاء، لأنها كانت تهدف إلى القضاء النهائي على العائلة المالكة وقطع نسلها مثلما فعلت موقعة كربلاء بذريّة النبيّ محمّد. ووقع في فترة حكمة التي لم تتجاوز الأربعة أعوام ونصف العام حدثان دمويان هما واقعة الموصل المتمثلة بحركة الشوّاف ومجزرة كركوك الدموية. إذن حتّى هذا الحاكم "العادل" الطيّب القلب لم يتورع عن استخدام أساليب التصفية والإبادة الجماعية التي عرف بها الحكام العراقي منذ فجر الإسلام. و من مفارقات الدهر هو أنّ الإمام عليّ قتل وهو يصليّ في المسجد الأعظم وفي صبيحة يوم الجمعة، وقتل عبد الكريم قاسم صائماً في شهر رمضان بعد أن تعرّض للإهانة الشديدة، وأعدم صدّام حسين في أوّل أيّام "عيد الأضحى“. ولعلّ هذه الأحداث تبدو وكأنها جاءت بمحض الصدفة، ولم يكن مخططاً لها، وهذا خطأ في تقديريّ، إنما يعود ذلك بالدرجة الأولى إلى طبيعة الصراع على السلطة السياسية وإلى أسلوب الحكم الشرقي الاستبدادي الذي يرفع راية الإسلام وسيفه لتصفية الخصوم السياسيين.
ومن الخطأ كذلك الاعتقاد بأن المرء يتعلّم من التاريخ، فليس هناك في الواقع من يستلهم العبر من التاريخ، إنما فقط عبر تجاربه وآلامه ونكباته الشخصية، وإلا لاستفادت الطغمة المعممة "الحاكمة" التي نصبّها الاحتلال لتقوم بذبح أبناء البلد وتهجير من بقي منهم ونهب ثرواتهم وتمزيق وطنهم دون أن يطرف لها جفن، نعم، لاستفادت من تجارب الطغاة السابقين من صدّام وأمثاله!
وبالطبع أنني لم أتعرض إلى هذه النماذج من الحكّام السياسيين لغرض الطعن بهم، لأنني غير مهتم بأمرهم، وما يمهني في المقام الأول هو مصلحة العراقيين المحكومين، أي أبناء الشعب البسطاء الذين كانت مصالحهم تُخضع بالقوّة إلى مصلحة الحاكم المستبد. وقد سارت الأمور على المنوال منذ أربعة عشر قرناً وكأننا مازلنا نحيا في زمن أبي بكر وعثمان وعمر وعليّ مجسدين بشخصيّة صدام والخميني وأضرابهما. وليس هناك من حاكم رحيم يجعل مصلحة العراقيين فوق مصلحته فيفضل الاستقالة والاعتزال على استخدام العنف لتثبيت أركان الحكم. وفي هذا السياق فنحن لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إنّ التاريخ السياسي العراقي شهد حكاماً متنورين، وإن كان عددهم قليلاً، حاولوا أن يكونوا عادلين فنجح بعضهم وفشل البعض الآخر.
لكنّ نموذج الخليفة المأمون أو داوود باشا أو حتى عبد الكريم قاسم، المعتدل نوعاً ما، أو النزيه ماديّاً على الأقل إذا ما قارناه بالحكّام العراقيين الجدد من أصحاب العمائم، نعم، إنّ هذا النموذج يصبح شائعاً، بل إننا بقينا على حالنا إلى يومنا هذا، خاضعين إلى قوانين الخليفة المتوكل على حدّ قول المفكّر المصري نصر حامد أبو زيد.
والآن أعود إلى صلب الموضوع وهو تلك الأحلام الصبيانية البريئة التي حملتها، ومازلت أحمل الكثير منها، عن بلدي وأهلي ومدينتي بغداد ومعالمها الثقافية التي اندثرت. ومنذ تلك اللحظة التي غادرت فيها بلدي للمرّة الأولى متوجهاً إلى بيروت التي كانت قد تخطت للتو الحقبة الأعنف من الحرب الأهلية، انتابني إحساس غريب وهو أن رحلتي ربما ستكون طويلة، ولم أتوقع قطّ بأنها ستدوم ستةً ثلاثين عاماً، أضحى فيها بلدي أطلالاً وحطاماً. وكان الهاجس الذي تمكن منّي هو أنني لم استطع أن أفعل شيئاً لوطني سوى أن أحيي ذكراه دائماً مثلما أحيي ذكرى والدي الذي غادر الحياة عندما كنت صبيّاً صغيراً. ولم يدر في ذهني يوماً بأنني كنت أحمل كلّ هذا الحبّ لبلدي الذي يتّمني مرتين، مرّة بفقدان أبي وأخرى بفقدانه هو الأبّ الأكبر. وربما أعانني هذا الحبّ على الاستمرار ومواصلة العمل والكتابة، فتغلبت على جميع الصعوبات التي واجهتني، وبت مؤمناً بان الحبّ يجعل الإنسان فتياً وقويّاً أبد الدهر. فضلاً عن أنّ الحبّ نفسه لا يكلّف شيئاً سوى دحر الضغينة في الأعماق وقطع السبيل على التفكير الخبيث حتى في خلايا الدماغ. وإن كنت أردد أحياناً تلك العبارة التي تنسب إلى كارل ماركس ومفادها أن التفكير عملية مقدسة حتّى لو دارت في ذهن قاطع طريق، لكنني قطعت الطريق فعلاً على أفكار الانتقام والتشفيّ والأحقاد، بما في ذلك الأحقاد الشخصية. وأقمت علاقة طردية مع بلدي الذي أصبحت أوضاعه في تتدهور باستمرار بعد أن تسلّم صدّام حسين مقاليد الحكم. وترسخت قناعتي بأنني إذا كنت أحسب أفضل من صدام وأضرابه فلا يكفي أن أكون أفضل منه قليلاً أو كثيراً، بل يجب أن أكون مغايراً له في كلّ شيء، فليس هناك صحّة في الحياة الخاطئة، على حدّ تعبير الفيلسوف الألماني "تيودور أدورنو“. فعليّ إذن أن أبحث في ذهني عن الخطأ، وإذا ما قبضت على نفسي متلبساً بفكرة انتقامية فإنني أسارع فوراً إلى معالجتها واجتثاثها من الجذور. وصحيح أنني لست قديساً ولا طهرانياً، لكنني كنت ومازلت عراقيّاً معارضاً ومعزولاً، وسأضع صفاتي الأخلاقية كلّها موضع الشكّ إن فكرت في الطريقة ذاتها التي فكّر فيها صدّام والساسة العراقيون كلّهم. وعلى العكس من ذلك فقد كان حبّي لبلدي وأهلي وأبناء شعبي يتضاعف يوماً بعد آخر وصار يمدني بالقوّة والأمل كما لو أنني كنت المسؤول الأخلاقي الوحيد عن حاضره ومستقبله. وكما أنني أخترت أشدّ الطرق صعوبةً وأكثرها بعداً عن التأثير السريع، وهو طريق الأدب والفنّ. لذلك حاولت أن أجعل من الأدب معادلاً موضوعياً لبلدي المدَمّر والمغيّب، دون أن أعمد إلى استخدام الأدب السياسي المباشر، إنما تمسكت طوال الوقت بالمقومات الجمالية والفنيّة للعمل الإبداعي، فألقيت على كاهلي مهمة تعويض فقدان الوطن عن طريق الإبداع، إلى جانب مهمة المراقبة الحثيثة للذات ونوازعها واستطراداتها.
وعلى الرغم من أنني أصبت الآن بحالة كبيرة من اليأس، لكنني لا أود أن ينسحب ذلك آلياً على الآخرين، لأنني مقتنع تماماً بأنّ التغيير الإيجابي لا يصنعه إلا القلائل، أمّا الكارثة فيساهم في صنعها الكثيرون. فضلاً عن أن ثمار التغيير الإيجابية لا يجنيها من غرسها، إنما الآخرون دائماً، المنتفعون والانتهازيون، كيفما اتفق وضعهم وخلقهم. وهذا لا يعنني بأنني كنت أسعى دائماً إلى خلق نخبة ثقافية تتمايز عن الآخرين، بل لأنني كنت واثقاً من أن التغيير الإيجابي المنشود لا يصنعه إلا القلائل. فكلّ مبدع هو في نهاية المطاف مساهم إيجابي في عملية التغيير، وكلّ تغيير بلا إبداع هو تغيير سلبي لا محالة. لذا كنت أشعر بسعادة غامرة كلّما سمعت بإنجاز قدمه عراقي، أو عراقية، بل كنت أشعر بالفخر والاعتزاز وكأنني أنا الذي صنعت هذا الإنجاز. فهذه المنجزات والإبداعات هي التي تمدني بالقوّة والصلابة الروحية التي أقاوم بها مخاطر المنفى. ويحضرني هنا مقطع للشاعر الألمانيّ، التشيكيّ المولد، راينر ماريا ريلكه والذي جاء فيه: "يا لهذا العالم الذي نشيده، فينهار، ثم نشيّده ثانيةً فننهارُ نحن". والعراق بالنسبة لي هو ذلك الإرث الإنساني التاريخيّ الكبير الذي أصبح ملكاً للإنسانية جمعاء وجزءاً من خزينها الثقافي والحضاري. وكم قرأت عن كتّاب عالميين تأثروا بالأدب والثقافة العراقيين. وليس هناك بلد على حدّ علمي، اقترن اسمه بالثقافة والحضارة الإنسانيتين مثل العراق. ووفقاً لذلك فإن انتمائي إلى هذا البلد هو انتماء ثقافيّ بالدرجة الأولى، وليس انتماءً دينياً أو سياسياً، لأن الدين لا وطن له ولا شعب ولا حدود. إذن لا فرق دينياً بين الناس، وليس هناك مسلم صيني وهندي وعراقي ومغربي وأمريكي، إنما هناك مواطن صينيّ وهنديّ وعراقيّ ومغربيّ، وهذا الصفة هي صفة ثقافية وليست دينية وطائفية وعرقية، فأنا على سبيل المثال عراقي بالمفهوم التاريخيّ والجغرافيّ الثقافيّ، وليس بالمفهوم الدينيّ، ولهذا السبب فإنّ تأثري وإيماني بالنصوص السومرية والأكدية والبابلية والآشورية هو أكثر من إيماني بالكتب السماوية جميعها.
فهويتي هوية ثقافية، وهي النسيج الجامع لكلّ أطياف المجتمع العراقي وطوائفه. فليس هناك وطن اسمه العراق دون الثقافة العراقية الضاربة في أعماق التاريخ. فهذا البلد أقيم أصلاً على أسس ثقافية، وأيّ حرف أو تحريف لهذه الأسس، أو دكّها من قبل أي طرف أو جهة، يعني موت العراق فعلاً. ومع ذلك نرى أن معظم العراقيين غافلون عن هذه الحقيقة البسيطة، على الرغم من المآسي العديدة التي شهدها العديد من مبدعيه، وفي مقدمتهم معروف عبد الغني الرصافي الذي انتهى به المطاف في دار متواضعة بمحلة الأعظمية حيث وفاته، بعد أن قطعت عنه حكومة نوري السعيد الراتب التقاعدي الذي بلغ ثلاثين ديناراً بعدما أخذ يهاجم نوري السعيد وسلطة الاحتلال الإنجليزي، الأمر الذي اضطره إلى بيع السجائر في المقهى الذي كان يرتاده. وكذلك الأمر مع بدر شاكر السيّاب الذي أصبحت مأساته كابوساً أبدياً يقضّ مضاجع العراقيين، وانتهاءً برحيل خيرة الكتّاب والفنانين والشعراء العراقيين، والعرب أيضاً، منفيين ومعوزين، وقد أسقطت عن بعضهم الجنسية العراقية - وكأن العراق بطاقة هوية يمنحها الطاغية لمن يشاء - ومنهم بلند الحيدري ومحمّد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي وشمران الياسري ورافع الناصري ومنذر حلمي وعوني كرومي وشريف الربيعي وتحرير السماوي ونازك الملائكة وسركون بولص وكمال سبتي والأبّ يوسف سعيد وجان دمّو وأنور الغسّاني وهادي العلوي وغائب طعمة فرمان ونجيب المانع وصالح كاظم وسلمان شكر وغيرهم. ويعود هذا الإجحاف والتنكّر للمبدعين إلى عدم إدراك أهمية الثقافة في تربية الشعب وتنمية قدراته العقلية والنفسية، واعتبار المثقّف شخصاً غريب الأطوار، طفيلياً أو متقلباً، وربما معقّد اجتماعيّاً. ولعلّ بعض هذه الصفات تنطبق على بعض المثقفين العراقيين، لكنها لا تبرر بالتأكيد سياسة القطيعة والنكران التي تعرض لها هؤلاء الكتّاب والفنانين. ومما لا شكّ فيه أيضاً هو أن أمزجة المثقفين العراقيين المتقلبة وولائهم المتغير ومعاداة بعضهم البعض ترجع إلى عملية التكيّف مع طبيعة بعض أطياف الشعب العراقي المتقلبة وأنظمته الفاسدة منذ نشوئه مجدداً في زمن الاستعمار البريطاني الأوّل.
وكنت أحلم في عراق جديد، منيع وقويّ من حيث المبدأ، لكن قوته يجب أن يكون مصدرها الشعب المتفتح والمتعلّم، وتكون الحريّة عمادها والتنوّع العرقيّ والثقافي رافدها المتجدد والدائم. وكنت أحلم في عراق ثريّ ماديّاً وروحيّاً، يوظّف أمواله من أجل ضمان مستقبل أبنائه وبناته، ولا يجعل منهم متسولين مشردين مثلما فعلت الأنظمة الأخيرة المتعاقبة، ولاسيما النظام الإسلامي الحالي الذي لا يختلف قيد أنملة عن نظام القاعدة أو طالبان، إن لم يكن أسوأ منهما. وكنت أحلم في إتاحة الحريّات العامة، بل بأكبر قدر ممكن من الحريّات الفرديّة، لكي تتفتح مواهب العراقيين المقموعة والمصادرة. وحلمت أيضاً في نظام ديمقراطي برلمانيّ يقوم على خدمة المواطنين قولاً وفعلاً، وليس على دستور وعلم كسيحين طائفيين، من صنع الجهلة المعممين وتحت وصاية الاحتلال. ونحن لدينا تجارب واسعة في هذا الميدان وقديمة قدم العراق نفسه. لكننا نكتفي هنا بما كتبه الشاعر معروف عبد الغني الرصافي في "الرسالة العراقية" عن انحطاط أخلاق الساسة العراقيين ولامبالاتهم وعمالتهم للأجنبي قائلاً:"إنّك إذا اطلعت على هذه الحديقة العراقية رأيتها مملوءة بالأشواك التي بينها شيء يسير من الأزهار. ذلك لأنّ الحديقة كانت في بدء الأمر من غرس يد الإنكليز في أيّام الاحتلال. ولمّا كان فساد الأخلاق متفشياً في العراق أيضاً بالوراثة من الدولة البائدة وكانت المصلحة الاحتلالية تقتضي غرس هذه الحديثة على أي وجه كان، غرسها قادة الجيش المحتل ولم يراعوا في غرسها إلا مصلحتهم؛ فانتقوا أزهاراً هي بالنسبة إلى مصلحة البلاد لم تكن إلا أشواكاً. ثمّ جاءت الثورة العراقية، فألفوا بعدها حكومة عراقية ووسعوا هذه الحديقة ذات الأزهار الإنكليزية فانقلبت أزهارها الإنكليزية إلى أشواك عراقية" (الرسالة العراقية، منشورات الجمل، ص٥٩(
ويبدو أنّ من الصعب الآن تقويم الأسس الخاطئة التي أقيم عليها العراق الحديث بلداً ودولةً ونظاماً في مطلع العشرينات من القرن الماضي. لاسيما بعد انهيار مقومات الحياة كلّها، وذلك على الرغم من جميع الطاقات والثروات الطبيعية والبشرية والمساحة الجغرافية الهائلة التي وهبت لهذا البلد وبسخاء تام، والتي أساء الساسة ورجال الدين - وبعض من المثقفين حتّى - استغلالها والاستفادة منها. وبذلك أخفق العراق تماماً في التحوّل من بلد وليد إلى دولة حديثة وذات ثقافة حرّة ورصينة.
كاتب عراقي، برلين
halmozany@gmail.com
الثقافة والهوية الوطنية
مقدمة لكتاب يصدر قريبا عن منشورات الجمل
حسين الموزاني
عندما وصلت إلى بيروت في الثامن من أيلول عام 1978 لم أكن أعلم قطّ بأنّ رحلتي هذه، أو إقامتي خارج العراق ستستغرق أكثر من ثلاثين عاماً، فأيّ رحلة هذه وأي بلاد تلك التي غادرتها بلا رجعة، ولا أمل في الرجوع! وأودّ أن أوضح هنا بأنني تآلفت مع منفاي منذ زمن بعيد ورضيت به داراً وبديلاً لوطني، واقتنعت بأنني بتّ الآن يتيم الوطن، بعد أن كنت يتيم الأب فحسب. فأنا الذي لا وطن له، بعد أن سلبه منيّ أبناء وطني عنوةً، وليس قوات الاحتلال. وأقول هذا الكلام لكي تتضح الأمور منذ البداية، لأنني رجل معروف بصراحتي، ولم يعد هنا ما يستأهل الإخفاء بعد أن أصبحت الأسرار والنوايا كلّها مكشوفة. وكما عودتنا أغانينا التي كنّا نسخر منها في سنوات شبابنا فإن الغريب يكون أكثر رحمة عادةً من الأهل، فالأهل هم عادةً من يحرم ويظلم ويرتكب الجرم بحقّ أقرب الناس إليه. وأرغب أيضاً وقبل أنّ أدخل في صلب الموضوع، وهو التعرّض إلى ما كنت أحلم به وأنشده من بلدي وما آل إليه وضعه في الوقت الراهن، أرغب في التأكيد على أنّ ما يشهده العراق حالياً هو ليس أكثر من تنويع جزئيّ، لكنه سيء لنظام صدّام البعثي المقبور، وأعوانه الذين مازالوا يقررون مصير البلاد، سواءً عن طريق الإرهاب أو المشاركة "بفضلةِ" الحكم التي تركها المحتل لأعوانه ومسانديه. وأقول هذا الكلام عن دراية وليس تعنتاً أو ضغينةً على أحد، مثلما قد يظنّ البعض. إذ أنني، شأني شأن الكثير من المنفيين، وجدت في التاريخ العراقي ملاذاً كبيراً، وفسحةً للتأمل. فعلمني هذا التاريخ بأنّ صدّام حسين هو الرمز المنطقي الدقيق لطبيعة الحكم والحاكم في العراق، وأنّ ما نراه في التاريخ وما نراه اليوم في الحاضر ما هو إلا تنويع أو "تجلّ" صداميّ لهذا الرمز الثابت منذ نشوء الدولة الإسلامية في العراق قبل ألف وأربعمئة عام.
وبهذا المعنى فإن ليس هناك فرق جوهريّ بين الأنظمة الإسلامية التي حكمت العراق ونظام صدّام حسين الذي حكم العراق بحدّ السيف، بل ليس هناك فرق حتى في تحقيق الأغراض والمنافع المادية. ويكفي أن نلقى نظرة قصيرة إلى مطلع التاريخ الإسلامي لنكتشف بأنّ حاكماً عراقياً اشتهر بالعدالة وهو عليّ بن أبي طالب لم يشذّ إطلاقاً عن اتباع سياسة المهادنة وإقصاء الخصوم المنافسين ومحاربتهم وحتى إبادتهم بلا رحمة. ومنذ أوّل انقلاب إسلامي حدث في سقيفة بني ساعدة والذي أخضع فيه "البعثيون الأوائل" من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وأضرابهم، أخضعوا المتمرّد عليّ على القبول بالأمر الواقع، فرضي صاغراً حتى آل إليه الحكم، ليعمل السيف بخصومه السياسيين. ويذكر لنا الرواة بأن الناس بايعوا أبا بكر ليخلف محمّد النبي، واستثبتوا للبيعة، ولم يتخلّف إلا عليّ والزبير بن العوّام، و"اخترطَ الزبير سيفه وقال : لا أغمده حتّى يُبايُع عليٌّ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقال عمر : خُذُوا سيف الزبير، فاضربوا به الحجر. قال فانطلق إليهم عمر، فجاء بهما [أي عليّاً والزبير] تبعاً، وقال لتبايعانِ وأنتما طائعان، أو لتبايعانِ وأنتما كارهان! فبايعا"، (الطبري جـ3 ص 203.(
وكلّ ما قيل لنا من أساطير عن اختلاف طبيعة عليّ بن طالب عن غيره من الحكّام العراقيين هو محض افتراء لا غرض له سوى تسفيه عقول الناس وابتزازهم واستغلالهم وسرقة أموالهم، وبالأخص الفقراء منهم، لأنّ ليس هناك أكثر استعداداً للتضحية من الناس الفقراء، وكذلك ليس هناك أسهل من استغلالهم.
وشاءت "الصدفة" أو الضغينة أن يقتل الزبير بن العوّام هذا في موقعة "الجمل" إلى جانب عشرة آلاف قتيل آخر، نصفهم من أصحاب عليّ والنصف الآخر من أصحاب عائشة بنت أبي بكر. ومع ذلك فقد أقام عليّ الصلاة على القتلى من خصومه لأنه رأى فيهم الكثير من العبّاد المجتهدين ومن أبطال المسلمين وأحبارهم، وندب موتاهم، تماماً مثلما كان يفعل صدّام حسين بعد كلّ مجزرة يرتكبها هو وأعضاء حزبه. وقد جاهر عليّ بن أبي طالب شخصيّاً بعدائه السافر للعراقيين عندما قال: لقد ملئتم قلبي قيحاً يا أهل العراق! لأنه أراد أن يجعلهم طوع يديه، فلم يرضخوا له فصار يحاربهم ويؤكد هذا الرأي عدد القتلى في المجازر التي وقعت في عهده هذه الحقيقة مثل موقعتي "النهر" و"عين التمر" وحرب "صفيّن".
ولم يختلف الأمر كثيراً مع الحاكم الإغريقيّ المستبّد الإسكندر المقدوني الذي أعرب علناً عن كراهيته للعراقيين واستعان بمرشده الروحيّ، الفيلسوف أرسطو، لكي يضع له ولهم حلاً، وإلا فإنه فسيقطف رؤوسهم فرداً فرداً.. بيد أنّ أرسطو أعاده إلى صوابه بالقول إنّ قطف الرؤوس لن ينفع شيئاً، لأنها ستنمو من جديد ما دامت التربة مهيأةً لذلك، وإنّه لا يرى حلاّ سوى المزاوجة والمصاهرة بين الجنود الإغريق والنساء العراقيات. ومن يشكك في هذه الحقائق البديهية فما عليه إلا أن يلقى نظرة على الواقع العراقيّ الراهن أو طبيعة الحكم في إيران، حيث استولى غلاة "التشيّع وحبّ الإمام عليّ" على مقاليد الحكم ليظهروا حقدهم على البشرية جمعاء ويحولوا الدين إلى أيديولوجية دموية وذات صبغة فارسية عنصرية تعتاش على القتل والحرب والدسيسة والاغتيال السياسي.
فهل تغيّر شيء في طبيعة الحاكم السياسي العراقي منذ فجر التاريخ، والشقّ الإسلامي منه خاصةً، وإلى يومنا هذا؟
يمكن الإجابة عن ذلك بنعم، لأنّ الكثير من الأمور تغيّرت نحو الأسوأ في الواقع، وأصبحت أشدّ خطراً أكثر مما كانت عليه في زمن عليّ بن طالب الذي صارت جرائم الطغمة الحاكمة في إيران ترتكب باسمه. ونرى هذه الظاهرة المقيتة تنشر في العراق حالياً، وطننا الأم، الذي استباحه المعممون الشيعة والسنة على السواء، ليلتحق بهم المعممون الأكراد الذين لا يقلّون خبثاً وطمعاً وتعطشاً للانتقام عن الساسة الآخرين. لكن الغريب في أمر العمامة الشيعية الجديدة التي تدعي حبّ الإمام علي وآل بيت النبيّ والتمسّك بعدالتهم والتحلّي بأخلاقهم وزهدهم هو أنها أجادت اللعب على الحبال الإيرانية والأمريكية على السواء، ما يعدّ في العرف الفقهيّ السياسيّ بدعةً عجيبة؛ هذا إذا ما استثنينا ممالأة وزير آخر خلفاء بني العبّاس المستعصم، ابن العلقمي، للاحتلال المغولي لعاصمة الخلافة العبّاسية بغدادَ.
وإذا ما تأملنا جيّداً حاكماً عراقياً معاصراً حظي إلى حد بعيد بتعاطف العراقيين وحبّهم ونعني به الزعيم عبد الكريم قاسم والذي يعدّ من حيث أصوله العرقية والدينية حاكماً عراقياً مثالياً، فسنجد بأنه بدأ حكمه بمجزرة قصر الزهور الرهيبة التي لا تختلف مبدئياً عن مجزرة كربلاء، لأنها كانت تهدف إلى القضاء النهائي على العائلة المالكة وقطع نسلها مثلما فعلت موقعة كربلاء بذريّة النبيّ محمّد. ووقع في فترة حكمة التي لم تتجاوز الأربعة أعوام ونصف العام حدثان دمويان هما واقعة الموصل المتمثلة بحركة الشوّاف ومجزرة كركوك الدموية. إذن حتّى هذا الحاكم "العادل" الطيّب القلب لم يتورع عن استخدام أساليب التصفية والإبادة الجماعية التي عرف بها الحكام العراقي منذ فجر الإسلام. و من مفارقات الدهر هو أنّ الإمام عليّ قتل وهو يصليّ في المسجد الأعظم وفي صبيحة يوم الجمعة، وقتل عبد الكريم قاسم صائماً في شهر رمضان بعد أن تعرّض للإهانة الشديدة، وأعدم صدّام حسين في أوّل أيّام "عيد الأضحى“. ولعلّ هذه الأحداث تبدو وكأنها جاءت بمحض الصدفة، ولم يكن مخططاً لها، وهذا خطأ في تقديريّ، إنما يعود ذلك بالدرجة الأولى إلى طبيعة الصراع على السلطة السياسية وإلى أسلوب الحكم الشرقي الاستبدادي الذي يرفع راية الإسلام وسيفه لتصفية الخصوم السياسيين.
ومن الخطأ كذلك الاعتقاد بأن المرء يتعلّم من التاريخ، فليس هناك في الواقع من يستلهم العبر من التاريخ، إنما فقط عبر تجاربه وآلامه ونكباته الشخصية، وإلا لاستفادت الطغمة المعممة "الحاكمة" التي نصبّها الاحتلال لتقوم بذبح أبناء البلد وتهجير من بقي منهم ونهب ثرواتهم وتمزيق وطنهم دون أن يطرف لها جفن، نعم، لاستفادت من تجارب الطغاة السابقين من صدّام وأمثاله!
وبالطبع أنني لم أتعرض إلى هذه النماذج من الحكّام السياسيين لغرض الطعن بهم، لأنني غير مهتم بأمرهم، وما يمهني في المقام الأول هو مصلحة العراقيين المحكومين، أي أبناء الشعب البسطاء الذين كانت مصالحهم تُخضع بالقوّة إلى مصلحة الحاكم المستبد. وقد سارت الأمور على المنوال منذ أربعة عشر قرناً وكأننا مازلنا نحيا في زمن أبي بكر وعثمان وعمر وعليّ مجسدين بشخصيّة صدام والخميني وأضرابهما. وليس هناك من حاكم رحيم يجعل مصلحة العراقيين فوق مصلحته فيفضل الاستقالة والاعتزال على استخدام العنف لتثبيت أركان الحكم. وفي هذا السياق فنحن لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إنّ التاريخ السياسي العراقي شهد حكاماً متنورين، وإن كان عددهم قليلاً، حاولوا أن يكونوا عادلين فنجح بعضهم وفشل البعض الآخر.
لكنّ نموذج الخليفة المأمون أو داوود باشا أو حتى عبد الكريم قاسم، المعتدل نوعاً ما، أو النزيه ماديّاً على الأقل إذا ما قارناه بالحكّام العراقيين الجدد من أصحاب العمائم، نعم، إنّ هذا النموذج يصبح شائعاً، بل إننا بقينا على حالنا إلى يومنا هذا، خاضعين إلى قوانين الخليفة المتوكل على حدّ قول المفكّر المصري نصر حامد أبو زيد.
والآن أعود إلى صلب الموضوع وهو تلك الأحلام الصبيانية البريئة التي حملتها، ومازلت أحمل الكثير منها، عن بلدي وأهلي ومدينتي بغداد ومعالمها الثقافية التي اندثرت. ومنذ تلك اللحظة التي غادرت فيها بلدي للمرّة الأولى متوجهاً إلى بيروت التي كانت قد تخطت للتو الحقبة الأعنف من الحرب الأهلية، انتابني إحساس غريب وهو أن رحلتي ربما ستكون طويلة، ولم أتوقع قطّ بأنها ستدوم ستةً ثلاثين عاماً، أضحى فيها بلدي أطلالاً وحطاماً. وكان الهاجس الذي تمكن منّي هو أنني لم استطع أن أفعل شيئاً لوطني سوى أن أحيي ذكراه دائماً مثلما أحيي ذكرى والدي الذي غادر الحياة عندما كنت صبيّاً صغيراً. ولم يدر في ذهني يوماً بأنني كنت أحمل كلّ هذا الحبّ لبلدي الذي يتّمني مرتين، مرّة بفقدان أبي وأخرى بفقدانه هو الأبّ الأكبر. وربما أعانني هذا الحبّ على الاستمرار ومواصلة العمل والكتابة، فتغلبت على جميع الصعوبات التي واجهتني، وبت مؤمناً بان الحبّ يجعل الإنسان فتياً وقويّاً أبد الدهر. فضلاً عن أنّ الحبّ نفسه لا يكلّف شيئاً سوى دحر الضغينة في الأعماق وقطع السبيل على التفكير الخبيث حتى في خلايا الدماغ. وإن كنت أردد أحياناً تلك العبارة التي تنسب إلى كارل ماركس ومفادها أن التفكير عملية مقدسة حتّى لو دارت في ذهن قاطع طريق، لكنني قطعت الطريق فعلاً على أفكار الانتقام والتشفيّ والأحقاد، بما في ذلك الأحقاد الشخصية. وأقمت علاقة طردية مع بلدي الذي أصبحت أوضاعه في تتدهور باستمرار بعد أن تسلّم صدّام حسين مقاليد الحكم. وترسخت قناعتي بأنني إذا كنت أحسب أفضل من صدام وأضرابه فلا يكفي أن أكون أفضل منه قليلاً أو كثيراً، بل يجب أن أكون مغايراً له في كلّ شيء، فليس هناك صحّة في الحياة الخاطئة، على حدّ تعبير الفيلسوف الألماني "تيودور أدورنو“. فعليّ إذن أن أبحث في ذهني عن الخطأ، وإذا ما قبضت على نفسي متلبساً بفكرة انتقامية فإنني أسارع فوراً إلى معالجتها واجتثاثها من الجذور. وصحيح أنني لست قديساً ولا طهرانياً، لكنني كنت ومازلت عراقيّاً معارضاً ومعزولاً، وسأضع صفاتي الأخلاقية كلّها موضع الشكّ إن فكرت في الطريقة ذاتها التي فكّر فيها صدّام والساسة العراقيون كلّهم. وعلى العكس من ذلك فقد كان حبّي لبلدي وأهلي وأبناء شعبي يتضاعف يوماً بعد آخر وصار يمدني بالقوّة والأمل كما لو أنني كنت المسؤول الأخلاقي الوحيد عن حاضره ومستقبله. وكما أنني أخترت أشدّ الطرق صعوبةً وأكثرها بعداً عن التأثير السريع، وهو طريق الأدب والفنّ. لذلك حاولت أن أجعل من الأدب معادلاً موضوعياً لبلدي المدَمّر والمغيّب، دون أن أعمد إلى استخدام الأدب السياسي المباشر، إنما تمسكت طوال الوقت بالمقومات الجمالية والفنيّة للعمل الإبداعي، فألقيت على كاهلي مهمة تعويض فقدان الوطن عن طريق الإبداع، إلى جانب مهمة المراقبة الحثيثة للذات ونوازعها واستطراداتها.
وعلى الرغم من أنني أصبت الآن بحالة كبيرة من اليأس، لكنني لا أود أن ينسحب ذلك آلياً على الآخرين، لأنني مقتنع تماماً بأنّ التغيير الإيجابي لا يصنعه إلا القلائل، أمّا الكارثة فيساهم في صنعها الكثيرون. فضلاً عن أن ثمار التغيير الإيجابية لا يجنيها من غرسها، إنما الآخرون دائماً، المنتفعون والانتهازيون، كيفما اتفق وضعهم وخلقهم. وهذا لا يعنني بأنني كنت أسعى دائماً إلى خلق نخبة ثقافية تتمايز عن الآخرين، بل لأنني كنت واثقاً من أن التغيير الإيجابي المنشود لا يصنعه إلا القلائل. فكلّ مبدع هو في نهاية المطاف مساهم إيجابي في عملية التغيير، وكلّ تغيير بلا إبداع هو تغيير سلبي لا محالة. لذا كنت أشعر بسعادة غامرة كلّما سمعت بإنجاز قدمه عراقي، أو عراقية، بل كنت أشعر بالفخر والاعتزاز وكأنني أنا الذي صنعت هذا الإنجاز. فهذه المنجزات والإبداعات هي التي تمدني بالقوّة والصلابة الروحية التي أقاوم بها مخاطر المنفى. ويحضرني هنا مقطع للشاعر الألمانيّ، التشيكيّ المولد، راينر ماريا ريلكه والذي جاء فيه: "يا لهذا العالم الذي نشيده، فينهار، ثم نشيّده ثانيةً فننهارُ نحن". والعراق بالنسبة لي هو ذلك الإرث الإنساني التاريخيّ الكبير الذي أصبح ملكاً للإنسانية جمعاء وجزءاً من خزينها الثقافي والحضاري. وكم قرأت عن كتّاب عالميين تأثروا بالأدب والثقافة العراقيين. وليس هناك بلد على حدّ علمي، اقترن اسمه بالثقافة والحضارة الإنسانيتين مثل العراق. ووفقاً لذلك فإن انتمائي إلى هذا البلد هو انتماء ثقافيّ بالدرجة الأولى، وليس انتماءً دينياً أو سياسياً، لأن الدين لا وطن له ولا شعب ولا حدود. إذن لا فرق دينياً بين الناس، وليس هناك مسلم صيني وهندي وعراقي ومغربي وأمريكي، إنما هناك مواطن صينيّ وهنديّ وعراقيّ ومغربيّ، وهذا الصفة هي صفة ثقافية وليست دينية وطائفية وعرقية، فأنا على سبيل المثال عراقي بالمفهوم التاريخيّ والجغرافيّ الثقافيّ، وليس بالمفهوم الدينيّ، ولهذا السبب فإنّ تأثري وإيماني بالنصوص السومرية والأكدية والبابلية والآشورية هو أكثر من إيماني بالكتب السماوية جميعها.
فهويتي هوية ثقافية، وهي النسيج الجامع لكلّ أطياف المجتمع العراقي وطوائفه. فليس هناك وطن اسمه العراق دون الثقافة العراقية الضاربة في أعماق التاريخ. فهذا البلد أقيم أصلاً على أسس ثقافية، وأيّ حرف أو تحريف لهذه الأسس، أو دكّها من قبل أي طرف أو جهة، يعني موت العراق فعلاً. ومع ذلك نرى أن معظم العراقيين غافلون عن هذه الحقيقة البسيطة، على الرغم من المآسي العديدة التي شهدها العديد من مبدعيه، وفي مقدمتهم معروف عبد الغني الرصافي الذي انتهى به المطاف في دار متواضعة بمحلة الأعظمية حيث وفاته، بعد أن قطعت عنه حكومة نوري السعيد الراتب التقاعدي الذي بلغ ثلاثين ديناراً بعدما أخذ يهاجم نوري السعيد وسلطة الاحتلال الإنجليزي، الأمر الذي اضطره إلى بيع السجائر في المقهى الذي كان يرتاده. وكذلك الأمر مع بدر شاكر السيّاب الذي أصبحت مأساته كابوساً أبدياً يقضّ مضاجع العراقيين، وانتهاءً برحيل خيرة الكتّاب والفنانين والشعراء العراقيين، والعرب أيضاً، منفيين ومعوزين، وقد أسقطت عن بعضهم الجنسية العراقية - وكأن العراق بطاقة هوية يمنحها الطاغية لمن يشاء - ومنهم بلند الحيدري ومحمّد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي وشمران الياسري ورافع الناصري ومنذر حلمي وعوني كرومي وشريف الربيعي وتحرير السماوي ونازك الملائكة وسركون بولص وكمال سبتي والأبّ يوسف سعيد وجان دمّو وأنور الغسّاني وهادي العلوي وغائب طعمة فرمان ونجيب المانع وصالح كاظم وسلمان شكر وغيرهم. ويعود هذا الإجحاف والتنكّر للمبدعين إلى عدم إدراك أهمية الثقافة في تربية الشعب وتنمية قدراته العقلية والنفسية، واعتبار المثقّف شخصاً غريب الأطوار، طفيلياً أو متقلباً، وربما معقّد اجتماعيّاً. ولعلّ بعض هذه الصفات تنطبق على بعض المثقفين العراقيين، لكنها لا تبرر بالتأكيد سياسة القطيعة والنكران التي تعرض لها هؤلاء الكتّاب والفنانين. ومما لا شكّ فيه أيضاً هو أن أمزجة المثقفين العراقيين المتقلبة وولائهم المتغير ومعاداة بعضهم البعض ترجع إلى عملية التكيّف مع طبيعة بعض أطياف الشعب العراقي المتقلبة وأنظمته الفاسدة منذ نشوئه مجدداً في زمن الاستعمار البريطاني الأوّل.
وكنت أحلم في عراق جديد، منيع وقويّ من حيث المبدأ، لكن قوته يجب أن يكون مصدرها الشعب المتفتح والمتعلّم، وتكون الحريّة عمادها والتنوّع العرقيّ والثقافي رافدها المتجدد والدائم. وكنت أحلم في عراق ثريّ ماديّاً وروحيّاً، يوظّف أمواله من أجل ضمان مستقبل أبنائه وبناته، ولا يجعل منهم متسولين مشردين مثلما فعلت الأنظمة الأخيرة المتعاقبة، ولاسيما النظام الإسلامي الحالي الذي لا يختلف قيد أنملة عن نظام القاعدة أو طالبان، إن لم يكن أسوأ منهما. وكنت أحلم في إتاحة الحريّات العامة، بل بأكبر قدر ممكن من الحريّات الفرديّة، لكي تتفتح مواهب العراقيين المقموعة والمصادرة. وحلمت أيضاً في نظام ديمقراطي برلمانيّ يقوم على خدمة المواطنين قولاً وفعلاً، وليس على دستور وعلم كسيحين طائفيين، من صنع الجهلة المعممين وتحت وصاية الاحتلال. ونحن لدينا تجارب واسعة في هذا الميدان وقديمة قدم العراق نفسه. لكننا نكتفي هنا بما كتبه الشاعر معروف عبد الغني الرصافي في "الرسالة العراقية" عن انحطاط أخلاق الساسة العراقيين ولامبالاتهم وعمالتهم للأجنبي قائلاً:"إنّك إذا اطلعت على هذه الحديقة العراقية رأيتها مملوءة بالأشواك التي بينها شيء يسير من الأزهار. ذلك لأنّ الحديقة كانت في بدء الأمر من غرس يد الإنكليز في أيّام الاحتلال. ولمّا كان فساد الأخلاق متفشياً في العراق أيضاً بالوراثة من الدولة البائدة وكانت المصلحة الاحتلالية تقتضي غرس هذه الحديثة على أي وجه كان، غرسها قادة الجيش المحتل ولم يراعوا في غرسها إلا مصلحتهم؛ فانتقوا أزهاراً هي بالنسبة إلى مصلحة البلاد لم تكن إلا أشواكاً. ثمّ جاءت الثورة العراقية، فألفوا بعدها حكومة عراقية ووسعوا هذه الحديقة ذات الأزهار الإنكليزية فانقلبت أزهارها الإنكليزية إلى أشواك عراقية" (الرسالة العراقية، منشورات الجمل، ص٥٩(
ويبدو أنّ من الصعب الآن تقويم الأسس الخاطئة التي أقيم عليها العراق الحديث بلداً ودولةً ونظاماً في مطلع العشرينات من القرن الماضي. لاسيما بعد انهيار مقومات الحياة كلّها، وذلك على الرغم من جميع الطاقات والثروات الطبيعية والبشرية والمساحة الجغرافية الهائلة التي وهبت لهذا البلد وبسخاء تام، والتي أساء الساسة ورجال الدين - وبعض من المثقفين حتّى - استغلالها والاستفادة منها. وبذلك أخفق العراق تماماً في التحوّل من بلد وليد إلى دولة حديثة وذات ثقافة حرّة ورصينة.
كاتب عراقي، برلين
halmozany@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق