الخميس، 30 أكتوبر 2014

حامد كعيد الجبوري - أوراقٌ مربدية !!!

في رواية فاضل العزاوي: "آخر الملائكة" حكاية شعب يذهب إلى المجهول - عادل كامل






في رواية فاضل العزاوي: "آخر الملائكة"
حكاية شعب يذهب إلى المجهول




  عادل كامل
[1] مدخل
    استمد فاضل العزاوي رمزية عنوان روايته [آخر الملائكة] (1) من الوعي الجمعي لمفهوم: الخلاص، وإلا لكان بإمكاننا استبدال العنوان بآخر، مغاير، ليرجعنا إلى مكوناته.
واقصد ـ كي لا اذهب ابعد من الالتباسات السائدة وصعوباتها ـ ان هناك فهما (ما) جمعيا ً للمعضلة وقد تحولت إلى رواية: سرد.
  مثال على ذلك ان نشأة الكتابة لم ترافق ظهور الآلهة، بل رافقت العمل، وأدواته، وتقسيماته، فاقترنت الآلهة بالشغل، وفي الوقت نفسه بزغ السؤال الذي لم يفقد ديناميته، وحضوره، السؤال الخاص بعلاقة الصفر بالعدد، والخلود بالعدم.  فثمة ضرورة حتمت هذه المزاوجة/ المفارقة، بين الوعي الجمعي/ الشعبي، والوعي المغاير له؛ ليس الفردي، الذاتي، الشخصي، بل الذي يحفر في المستحيلات.
   ومثال آخر سمح  لهذه المزاوجة/ المفارقة، بمعناها الجدلي، ان تنج نسقا ً موازيا ً لها كما لدى (دانتي) ـ ولدى شكسبير أو حتى دستويفسكي ـ حيث كسبت جمهورا ً عريضا ً من المتابعين، مع عناية من المتخصصين في شتى المجالات: اللغات، المعتقدات، الايكولوجيا، وباقي الحقول المعرفية.
  ومع ان الرواية ترجمت إلى الانكليزية/ الألمانية، إلا إنها كانت وليدة ثقافة شرقية، وكتبت باللغة العربية. فالملائكة ـ بالجمع ـ كالإجماع العام الذي يمنح الألوان دلالاتها المشتركة، رمزيا ًـ يمثلون نزعة (فطرية) و (مكتسبة) ، متداولة ومستحدثة، لمفهوم الخلاص (الجنة/ الفردوس)، معادلا ً بين الشقاء الأرضي، والأبدية كمكافأة له. لأن البحث عن المعنى لم يمت، رغم تحول المثل، ذاتها، إلى سلع، بالمفهوم الهيغلي، ورغم تحول القيم المثالية إلى أشياء، بالمعنى الماركسي، وتحولها إلى شقاء، وفق موت الإنسان، وتفكيكه، واستبعاد الميتافيزيقا عنه، بحسب فوكو.
   فالكاتب اختار ـ وفق لا وعيه ووعيه المتطابق مع تجاربه وثقافته ـ الملائكة، كما اختار دانتي تصوير الجحيم والمطهر والفردوس، كمفارقة شيدّت على نزعة افتراضية تكاد تكون خارج دائرة الشك. هل هناك خلاص ...، عند دانتي، وهل هناك خاتمة سعيدة عند شكسبير، وهل هناك ملائكة عند فاضل العزاوي في روايته التي اقترنت بها..؟  هنا يحتم الجدل إعادة بناء ديمومته قائمة على المفارقة، لكن مادام لا احد اختار ولادته...، وبنيته الفسيولوجية، فانه سيجد مصيره محكوما ً بالحفر في المستحيلات. فالحياة برمتها لم تحسم برد أو إجابة أخيرة، لا عند السحرة، ولا عند الأنبياء، ولا عند الزعماء، ولا عند الفلاسفة، ولا عند الشعراء، ولا عند المجانين ..الخ: مادامت الحياة قائمة على بقاء أو حضور كل ما هو قيد الغياب، مما يمنح المتلقي ـ الجمعي أو المتخصص ـ عنوان الرواية ـ مع أحداثها المستمدة من مدينة ومن شخصيات محددتين مكانا ً وزمنا ًـ تمرينا ً للارتقاء بالجحيم إلى ذروته: إلا إنها ذروة ممتدة، كأنها تطبيقات لمفهوم الدورات، التي تحدث عنها فلاسفة سومر، وفلاسفة الهند، بالوحدة المتكاملة السلاسل، أي الدورات، مقدرة من لدن الآلهة أو مقيدة بالقوانين الكونية، الوضعية، لكنها تمتلك شروطها المنطقية، والموضوعية. فالأسباب تسبق النتائج، كالنهايات لا يمكن عزلها عن مقدماتها، إنما شاعرية فاضل العزاوي ـ الشبيهة بمواهب كتاب مراثي أور ومراثي أكد ـ لا تجعل من (المأساة) ملهاة، ولا تستبدل الرداءة برداءة حسب، وإنما تتكون بوعي يجري جراحات بالغة التعقيد للوعي ذاته. فالروائي يبني معبده (المهدم) الذي يماثل عمل الاثاري وهو يعيد إنشاء حضارة توارت، وكالفيزيائي يرجعنا إلى أزمنة لم تترك إلا إشارات لا مرئية تحولت إلى أشكال، والى ومضات.
  مثال ثالث ـ وأنا أتخلى عن القاريء العام ـ يذكرنا برسومات جيروم بوش (2): كيف صوّر وقائع محاكم التفتيش، والعصور المظلمة، حتى لو كانت لديه الأدوات الحديثة للتصوير...، عندما يحكم الإنسان بالتنكيل، والعقاب، كوجود آثم، ومحكوم بالشقاء، بطرق شتى: كالحرق، أو الموت بالخازوق، أو الدفن حيا ً. لقد ذهبت ملايين الأرواح، واندرست، واستبدلت الخرائط بخرائط أخرى، بحسب نتائج المذابح، لكن نصوص الرسام بوش مازالت تحكي سؤال ملائكة فاضل العزاوي:  أيحدث هذا للإنسان حقا ً، وهل على البشرية ان ترضخ للجور كعدل، وللأمر الواقع كحرية، وان تتحول اللا شرعية إلى نظام وسلوك وأعراف؟ (3)
     ربما نجد نقدا ً لاذعا ً بحجة (الفنتازيا) إزاء نصوص فاضل العزاوي التي تخلت عن الانحياز، ونسق المواعظ، والأحادية، أو المحاكاة المباشرة، ولكن الفنتازيا  شبيهة بما يجري فوق الأرض تماما ً، وليست فرية، أو بدعة.  وان فاضل العزاوي استمد واقعيته منها، كأستاذ بنّاء لعالم ممسرح، وكوميدي للرثاء، قائم على أمثلة استبدلت الشرعية بالقسوة، والعدالة بالتعسف، والحياة بالخراب...؟
   آخر الملائكة، هنا، لا تصوّر إلا جحيما ًشبيها ً بما يجري عند نهايات الحضارة، التي لم تترك إلا انثلامات أو أطياف آثار دالة على نسق قائم على العنف، والتدمير حد محو الأثر.  ولكن هذه الحقيقة ـ بأرقام ضحاياها ومختلف ضروب الخسارات والخساسات والرداءات ـ لا تتوقف عند: التعبير، ولا تحوله إلى مشاهد سوريالية، بل إلى كوميديا، ولكنها ليست من اجل التسلية، أو إضاعة الوقت، بل كي لا يكون المتلقي خارج القفص، أو بعيدا ً عن دوره  كمرتكب للآثام.  فليس ثمة أبرياء، ولا ملائكة، كي نتساءل: ما هذا الشيء الذي لا يقاوم...، المستديم، الذي شغل دستويفسكي وأرعبه، وهو يجد الشر يزدهر بالتقدم البشري ـ وليس الحضاري، فلا صدام بين الحضارات، كما ذهب صموئيل هانتغتون....، وإنما هو صدام سفاكي دماء، ومتوحشين، فالإنسان، بحسب فرويد، لم ُيعد لصنع الحضارة ـ وان المواعظ لا تدحضه، بل تعيد إنتاجه، على نحو أقسى، وبلا مبالاة، متخذة من الشعارات تمويهات تجعل حفلة الحياة شبيهة بما يجري في مستنقع آسن، أو سجن معزول، أو مصح للمنفيين، تضافرت فيه عوامل نشأة بذور الخلق الأولى...، كي تبلغ درجة: الملائكة! وهي درجة الذين يتحكمون بأسلحة الفتك، ومكائد الحصول على الثروات، وهو دور رؤساء الشركات، وهم يعيدون إنتاج نظام الغاب: الصياد ـ الطريدة، أي التحكم بالمصائر، لكن هذا كله لا ينتهي نهاية، كالتي اختارها كافكا ًفي القصر أو في القضية، أو في سور الصين العظيم، بل ثمة إضافة لهذا الاتجاه تجعل النهايات بنية تتكون فيها بذور الواقع الذي يستمد ديناميته من هذا (الغائب/ المشفر) الشبيه بالمرئي كأصل لعدمه أو للصفر، والذي يماثل النسق المكون لمحركات للزمن، وليس للمسافات، والحركة.
   فاخر الملائكة، لا تقود للقبول إلا بما يماثل من نذر مصيره للحرية، فيلقى حتفه، مثلما تتلاشى مجرات تمحو بعضها البعض الآخر، كي تولد مجرات بأشكال جديدة تعقب زوالها.

[2] علامات
   تحافظ رواية "آخر الملائكة" على النظام ذاته الذي لم تجر تعديلات عليه، لا قبل ان تبدأ الرواية، بحادث طرد موظف من شركة النفط التي يعمل فيها، ولا عبر أحداثها المتصاعدة، ولا بعد ان بلغت ذروتها بحدث طالما تكرر، في العراق، وهو ـ هنا ـ استبدال النظام الملكي بجمهوري، كي تحافظ على ديمومة عالم (الملائكة)، من غير مس يذكر.
      إنها تسلط الضوء على المحركات اللا مرئية للشخصيات، بمختلف انتماءاتها، وقومياتها، وأديانها، بحثا ً عن (الخلاص). فالتاريخ ينتج نفسه: التصادم، بقسوة، حد المحو. فما حدث في العصور المظلمة، يحدث في نهاية الألفية الثانية، وفاتحة الألفية الثالثة أيضا ً: ضرب من الإعادة، من المأساة، في الأولى، إلى الكوميديا، في الثانية، بحسي ماركس. فالتاريخ لا يمتد، ولا يتقدم، ولا يتراجع، بل يغدو شبيها ً بسيزيف، لا الصخرة تتخلى عنه، ولا هو تخلى عنها.
   ولأن الرواية، ككوميديا سوداء، مرة حد فقدان مرارتها، قائمة على المفارقات، فان (الملائكة) يدوّنون، يحفرون، ويمحون تاريخهم من: الصفر إلى الصفر.
   فالروائي يرصد النظام المتكامل الذي لم تجر عليه إلا تغييرات ظاهرية، بالرغم من حدث اكتشاف النفط، في مدينة كركوك، حدثا ً ميز زمن الرواية، لكن الخراب الروحي للشخصيات مكث يتصاعد، ويتكرر، تبعا ً للنظام الذي أنتجه، وقيده بأصوله، وأنساقه. فالنقد الموجه إلى سلوك الشخصيات، يؤكد مدى قوة هذا النظام وهو ينتج ديمومته؛ فليس هناك اختلافات تذكر بين الشخصيات، في سلوكها، وأعمالها، وأفكارها، ومخيالها، عدا إنها كانت حريصة على حفظ نظامها هذا تماما ً من التغيير، أو الدحض. لم تنته الرواية عند دخول الغرباء، الذين يبشرون بإقامة دولة (الملائكة)، ولكن بنية الرواية، عبر مائة عام، كانت قد غاصت في تفكيك تماسك بنية التكرار: تكرار العنف، وما أفضى له من دمار، وخراب، أو من تهجير، ومنافي، أو الاستسلام للأمر الواقع، والقبول بالموت، حتى لو كان حرية مقدسة، أو  رمزية.
   لا تنفرد مدينة كركوك بالتنوع السكاني، فهناك العديد من مدن العالم، ومدن العراق، تتفوق عليها بالتنوع: الديني/ القومي/ الثقافي، إلا ان حدة الصراع، عبر الدورات الزمنية، تخمد كي تنفجر، وتنفجر كي تخمد، بانتظار انفجار اكبر.
    مسلمون، مسيحيون، ويهود، قوميات مثل العرب والكرد والتركمان، فقراء وأغنيا، سكان المدينة إلى جانب الغرباء، متنفذون وحثالات ...الخ، ولكنه خليط، يتجانس تارة، ويشتبك حد الموت تارة أخرى. فالرواية تبدأ بحادث عابر...، لكنه عمل عمل شرارة النار، كي تنتهي الرواية بأزمة شبيهة بما سيحدث للمدينة، بعد 70 عاما ً، من فاتحة أحداثها. لكن الكاتب لم يلفت نظرنا إلى وجود الغرباء، من مليشيات أجنبية، لإقامة دولة (الملائكة) إنما الرئيس الفرنسي، هولاند، صرح بوجود أكثر من ألف متطرف، من سكان عاصمة الحداثة، باريس، تطوعوا للقتال فوق الأرض العراقية، الموصل، كركوك، والمدن المجاورة، إلى جوار الأرض السورية. لم يلفت نظرنا لأن الرواية تنتهي في خمسينيات القرن الماضي، عمليا ً، لكنها لا تتستر عن امتداد نظامها الذي أنتج شخصياتها فوق الأرض، فالمستقبلية عند فاضل العزاوي ستمثل استشرافه للقانون ذاته العنيد الذي لا ينتج إلا ماضيه.
   فإذا كان الروائي قد أوحى لنا بمتابعة مسارات (الملائكة)، فانه عمليا ً تحدث عن مسار ينتهي بأقدم حادث (عنف) مدوّن، موازيا ً بآخر النكبات التي ستضرب المدينة، وتضعها فوق بركان. فالنظام الذي أنتج أقدم فعل للقتل، قابيل وهابيل، سيبلغ ذروته باستقبال (ملائكة) جدد، صنعتهم عاصمة مثل باريس، إلى جانب (ملائكة) من عواصم دول أوربية ذات أنظمة ديمقراطية ...، إنها إشارة غير مباشرة تسمح للمتلقي ان يعيد كتابة النص الروائي، لكن ليس بوصفه منتجا ً له، بل بوصفه متورطا ً في ديمومته أيضا ً.
    إنها إشارة تجعل (الأنظمة) معراة من تمويهاتها، ليس لأن العنف، نتيجة فحسب، بل لأنه يمتلك أصوله السابقة على ما سينتجه. فهل تنغلق الرواية أو تغدو امتدادا ً شبيها ً بما يحدث في مستعمرات الجذام، أو في حفلات الإبادة الجمعية، عبر تقدم التقنيات، والحداثات، أيا ً كان شعارها أو غايتها، مستبعدة أي أمل للانعتاق، أو الخلاص، أم إنها رواية حرصت ألا تقع في كمائن أي (ملاك) كان يود، بسبب بنيته (الأصلية)، ونظامها، أي بسبب برمجته، للخروج من المأزق، حيث (العرض) سيبقى محكما ً بين علله (الحقيقية/ والظاهرة) وما أنتجته، من علامات، في نهاية المطاف..؟
      الرواية لا تمتلك عقدة كي تمتلك حلا ً، فهي لا تمتلك بداية كي تمتلك خاتمة، بالرغم من توفر شروط الرواية فيها، إلا إنها راحت تحفر في (المعنى) بوصفه الحياة ذاتها؛ المعنى وقد تأسس على استلابه، تدميره، وغيابه في الأخير.

[3] قراءة كولن ولسن







    ربما نحن بحاجة لمن يفك لغز معرفة الغرب بحكايات ألف ليلة وليلة، مع ما ترجم من المقامات الأدبية، وعدد من نصوص المتصوفة، إزاء الغبار الذي غطى المنجز الفكري والأدبي والفني، كي تأخذ تلك النصوص مساحة اكبر في الانتشار.
   إشارة كولن ولسن حول رواية (آخر الملائكة)، في عام 2007، تلفت النظر إلى نص ينتمي إلى تراث قائم على مجموعة من العناصر، شديدة التداخل، حد استحالة حصول تطور يذكر فيها، يقول ولسن " ما يعرفه معظمنا عن العراق يبدأ مع الغزو الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية في العام 2003، وكل صورنا الذهنية عن هذه البلاد هي عن سجن أبو غريب، العنف الطائفي، والأفلام الإخبارية التي تنقل صور أولئك المصابين في تفجيرات القنابل, "آخر الملائكة" تتيح لنا ان نعيش أجواء عراق مختلف عن ذلك".(4)
   انه اختلاف في النوع، وفي المظاهر، وليس في (البنية)، فثمة سبعة قرون عاشها العراق خارج التاريخ، وعبر أزمنة متواصلة من الظلمات، وخارج إرادة سكانه. وعندما تبلغ أحداث الرواية ذروتها بقتل الملك (1958)، فإنها تسلط ضوءا ً على هذه القرون الحالكة، وليس على قرون من الثقافات،  كما ذكر كولن ولسن، ولكن هذا ليس إلا تأكيدا ً على المعنى ذاته الذي تحمله الظلمات ـ الثقافات.! فالانجاز الثقافي لهذه القرون يتم استعراضه عبر الرواية، نتيجة منطقية لبناه التحتية، والعاملة، برسوخ نادر.
 يلخص الكاتب الكبير رؤيته للنص الروائي، على النحو التالي:" تدور أحداث الرواية في بداية الخمسينيات في حي اسمه جقور في مدينة كركوك التي يتميز المجتمع فيها بالتعددية الثقافية: هناك نلتقي عربا ً وتركمانا ً وأكرادا ً وبدويين وغجرا ً، فضلا ً عن شخص من أصول افريقية. معظم الأبطال مسلمون، على الرغم من ان العديدين منهم لا يقصرون في احتساء الكحول. المسيحيون واليهود حاضرون أيضا ً، ولكن في الغالب على هامش الأحداث."
  الكاتب يمسك بلغز الرواية، فبعد ان بتحدث عن المحلة التي تدور فيها الأحداث، الزاخرة بالأشباح والموتى الأحياء والملائكة الصغيرة المتنكرة، والانكليز الذين يديرون صناعة النفط المحلية، وتناقضات وجهات نظر شخصيات الرواية، يلفت النظر إلى ان الرواية مصممة على أساس كونها (كوميديا) اجتماعية تدور بصورة خاصة حول عبثية سلوك النخبة في مدينة صغيرة. فالكوميديا ـ يقول كولن ولسن:" تلقي بظلالها هنا على مشاهد الصراعات الاجتماعية لتمهد الطريق لحكايات عن عالم روحاني آخر.
    فإذا كان حدث أو محور الرواية يبدأ بمشروع يخص شركة النفط التي يسيطر عليها الانكليز وهو شق طريق يخترق المقبرة، حيث ينفجر الأهالي في مظاهرات غاضبة، مما يؤدي إلى إطلاق الشرطة السرية النار عليهم فيقتل حلاق زنجي ويدفن بعد تشييع شعبي هائل لجثمانه، في الليلة التالية تقع المعجزة؛ فينفتح ضريح الحلاق ليتدفق عمود ضوء يغشى الأبصار ويرى الناس الميت يرتفع إلى السماء في طريقه إلى الفردوس، على ظهر البراق، الفرس الخاصة بالنبي، ثم يعقب ذلك ظهور طيور أبابيل سحرية في السماء تلقي بحجارة من سجيل على الشرطة الذين يلوذون بالفرار.
   ثم يختتم الكاتب إشارته: " تتغير نبرة الكتاب في الفصول الأخيرة، حيث يقدم الكاتب وصفا ً لانقلاب 1958، الذي أدى إلى تشكيل الجمهورية العراقية، في النهاية يخرج بطل الرواية الشاب إلى المنفى ثم يعود ثانية إلى المدينة بعد سنين طويلة.
   لكن كولن ولسن يستنتج، بعد ان وصف الأحداث القائمة على النسق الأسطوري/ الخرافي، الكوميدي الأسود، بان الرواية ترينا أكثر من أي عمل آخر قرونا ً من (الثقافة) العراقية المتجذرة عميقا ً في القدم، فهل هذه هي الثقافة هي التي تجسدت عبر الفتن، والاضطرابات، والقسوة، في هذا المجتمع، أم إنها تحمل مفهوما ً آخر للثقافة..؟
    إنها إشارة ملغزة، ربما مفتاحها يحتفظ بعمل القفل، وليس بعمل الإيضاح، أو حتى التأويل المنطقي، فالغنى الثقافي، المأساوي حد الفكاهة، لا يرجعنا  ـ مثلا ًـ  إلى ابعد من سبعة قرون عاشها العراق في الظلمات، والتي وصفها ولسن تحديدا ً بالغنى الثقافي ـ الدال على الفقر ـ الذي شكل أجواء الرواية ومحركاتها التحتية، لأن التاريخ الأقدم ـ الأقدم من الليالي، التي عرفها الغرب، مختلف بوصفه نتيجة أنظمة قائمة على السلطة المركزية، الثيوقراطية، في الغالب، في حين تدور رواية آخر الملائكة بعيدا ً عنها، أو بغيابها،  لتمثل بنيتها نهاية تاريخية للقرون المظلمة، بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد دخول (النفط)  رمزا ً للمحرك أو بديلا ً عن السلطة المركزية، حيث الرواية تمثل نهاية لعهد، وفي الوقت نفسه، فاتحة لعهد آخر، قائمة على منطق الخرافة، ومتمثلة بالقسوة والعنف، وهي خاتمة منطقية ليس للغنى الثقافي، ولا للتعددية، ولا للتنوع السكاني، أثره، بل العكس هو الصواب، أي لفقره، أو غيابه.
  وإذا كان كولن ولسن قد ذكر أخيرا ً ان الكثير من القراء سيجدون الإلهام لمواصلة الكفاح من اجل وضع نهاية للحرب، فانه لم يغفل ما حدث للعراق، بعد الغزو، وبعد الاحتلال، من دمار شاركت فيه مختلف الفصائل السكانية، حيث (الغنى الثقافي) عكس إدقاعا ً، وخواء ً، تمثل في مشروع الفوضى المهلكة، والمفككة، والهدامة،  وليس لبناء العراق الجديد، بعد 2003.
      إنها رواية (رائعة) بحد ذاتها، يقول كولن ولسن، وهذا حكم يقود إلى قراءة لا تسلط الضوء على (الثقافة) بل على غيابها، وعلى شبح العنف الذي سيبلغ ذروة مضافة، باحتلال أجزاء من كركوك، التي دارت فيها أحداث الرواية، بعد 9/6/2014، لكن ليس من لدن الولايات المتحدة الأمريكية، بل من لدن فصائل تسعى لتأسيس دولة الخلافة!
[4] نصوص سابقة




     بوصفي متلقيا ً منشغلا ً بإعادة إنتاج النص، وليس تقيمه، والحكم عليه. أي بوصفي مازلت متشبثا ً بحياة (ما) خارج سلاسل الموت التي واجهت الإبداع: موت الفن، موت الفلسفة، موت المؤلف، وموت الإنسان نفسه ـ منذ هيغل إلى ما بعد الحداثة ـ فان ضمان هذا الشيء (ما) ليس وهما ً، وإنما هو برهان متواصل لديمومة لا علاقة لها بالخسران أو الربح، ولا يمكن فهم رواية (آخر الملائكة) بوصفها لعبة تجري بين طرفين، وهي المثنوية، التي أسست احد مرتكزات الصراع، ذلك لأن (الحرية) ـ أو ما يرمز لها ـ حافظت على صلابة (ما) لها للمرور عبر هذا الاشتباك، فالخطر مكث يداهم الحرية، ليس بتفكيكها، ومحوها، بل بإعادة إنتاجها, إنها إشارة تسمح للشك ألا يخمد إزاء الثوابت، حيث تتحول (الميتات) إلى رماد متوقد.
    "آخر الملائكة" لم تدوّن إلا بعد أكثر من نصف قرن من الكتابة، وعندما أقول كتابة، فانا اقصد ان الكاتب ـ ومنذ وقت مبكر ـ وضع مسافة بين (الموت) وكل ما هو مضاد له.
     ولأن رسومات الكهوف، وقبلها الدمى وما نقش فوق سطوح الفخاريات ـ أسست هذا التحول، فان مواجهة الغياب قاد إلى استحداث دفاعات توخت إدامة الاشتباك، وليس حسمه. فإعادة قراءة تلك النصوص ـ أي إنتاجها ـ منح الصوت (الاستثنائي) للصانع (بمعنى: المستحدث)، مهمة صياغة محركات اللعبة، وإعادة إنتاجها: مخفياتها، أقنعتها، وعلاماتها.
    وإذا كانت كل رواية هي حاصل تدوّين أصواتها، المعلنة، والمخفية، فان دور الذات يكف عن الانغلاق. لأن حرية الكاتب لم تعد مغامرة في العدم، بل مغامرة داخل بنية شديدة التماسك، ولكنها مهددة أبدا ً بالهدم.
   ولعل كتاب بوريس بورسوف (الواقعية اليوم وابدأ ً) دراسة نادرة لإنقاذ (الواقعية) من موتها ـ الجمعي ـ بعد ان لم تعد للاشتراكية قدرات مؤكدة في مواجهة الحريات إزاء الرأسمالية، وما بعدها، وهو مسار كان روجيه غارودي قد بدأه بالحديث عن كافكا وبيكاسو وسان جون بيرس، ليس كواقعية بلا ضفاف، بل لأن ألازمات مكثت تذهب ابعد من محاولات وضعها بين قوسين، أو حسمها. فالكلمة الأخيرة، خاصة على صعيد المهارات الاستثنائية للفنون، تعبر موتها. ولم يكن لوكاش أعمى وهو يتلقى مظاهر اللا واقعيات خلال النصف الأول من القرن العشرين: لا واقعيات كانت قائمة على عالم دائم التحولات. فلا الناس، ولا علاماتهم، ولا مقدساتهم، تقدر على مواجهة لغز الزمن، فضلا ً عن الزمن في بعده التاريخي.
    كانت هذه (الهواجس) لدي ّ تغلي في نهاية ستينيات القرن الماضي، فنية وأدبية وفكرية....، وعندما التقيت فاضل العزاوي، وكنت منشغلا ً بالتصدعات العالمية، والقومية، والمحلية؛ من الثورة الثقافية في الصين إلى الكفاح المسلح في أمريكا اللاتينية، ومن نكبة حزيران 1967 الى الانقلابات الأحادية التي حصلت آنذاك...، تمتلك ـ بعد تجربة شخصية ـ رؤية ما يحدث بشموليته، وبترابط أكثر أجزاءه غموضا ً، وتشفيرا ً. فالعالم ينتج أشكاله، وظواهره، وعلى المبدع ان يكون رائيا ً، وليس أطلالا ً، أو رمادا ً في حريق.



      ففي نهاية عام 1970 أو فاتحة عام 1971، ناولني فاضل العزاوي مسودة رواية (القلعة الخامسة)، لأقول كلمتي. قلتها. وصدرت الرواية عام 1972.(5) كانت تعالج مفهوم غياب (العدل)، أي: الاغتراب، واستلاب الحرية، والغبن، فضلا ً عن إجراء جراحة للجسد (البنية) الذي ليس هو في عداد الموتى، فيتم تجاهله، ولا هو في عداد الأحياء، ليتم الاحتفاء به. ثمة قلعة، داخل تلك القلعة، وسجون تفضي إلى سجون، عبر سلاسل شديدة الترابط، والإحكام.
    قلت له إنها ستحدث صدمة على صعيد الأخلاق، والمعايير السائدة...، فالذين ناضلوا من اجل الحرية، لن يجدوا عزاءهم في نص يوثق التصدعات العميقة الحاصلة في إنساننا الحديث، والمعاصر، إن كانت في العالم الرأسمالي، أو الاشتراكي، أو في العالم الذي وجدوا له عنوان: الثالث، أو النامي، أي النائم.
   فالقلعة الخامسة رواية تمارس رصد شخصياتها وهم يغطسون في ظلماتهم، ولكن هذا لا يدعم شيئا ً يمجد الموت، أو الرداءة، ولا ثوابتهما، بل على العكس، انه يسمح لصياغة مواقف لا تجعل من الحرية سلعا ً، بل توقا ً آخر لا يكف عن تفكيك مغاليقه، وأبوابه الموصدة، حتى لو كانت الحرية القادمة لا تذهب ابعد من قانون الدورات، والأزمنة، وما ستؤول له النهايات، داخل التاريخ، وخارجه.
   وقد سبق للكاتب ان تبنى كتابة نص كانت الحداثة الأوربية قد أنضجت أنساقه، ليغامر برواية مفتوحة تلبي نزعة الفنان التجريبية في قراءة العالم وصياغته بفن خارج نظام المواعظ، والتلقين، والشعارات، والأحادية، واعني به " مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة"
   فالكاتب دوّن ـ إجابة على سؤال هذه الرواية لماذا ـ: " في البهجة والوهم تحترق الرواية بنظافة دون ان تدوّن أخلاقا ً للناس الذين يسيرون في شوارع العالم. إنها تتحدث عن نفسها بطريقتها الخاصة جدا ً حيث لا تقول شيئا ً معينا ً بالذات"(6)
    هذا اللاشيء، هو كل الأشياء! هو، بقراءة الزمن، الذي يمكث محافظا ً على لغزه.
     فـ "مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة" تنتمي إلى الجنس الأدبي الذي لم يكن مألوفا ً، فهو أشبه برسومات فوق جدران لم يبق منها إلا ما سنعيد إلى تصوّره، وتخيّله، وافتراضه: مثل نزهة الحرية الموحشة داخل العالم الميت، بانتظار العبور إلى دورة قادمة.
      فهذا اللاشيء، لا ينتمي إلى العدم، ولكنه سيبقى يدحض أية واقعية وثنية، فالجمال لن يقترن بالحرية فحسب، بل بما بعدها. هذا هو اللاشيء إزاء الموت الذي خيم على أجواء الرواية وأدق مفاصلها.  فمخلوقات فاضل العزاوي، وقلعته الخامسة، و "آخر الملائكة" ليست شهادات، أو تذكارات المرور بالعبور، أو وثائق إدانة، واحتجاج، بل ستبقى تحمل مقترحا ً يتوهج في مواجهة واقعه، وعدمه، في فضح التزوير، والأقنعة، وفي دحض كل واقعية مهددة بالتحجر، أو التحول إلى أوثان.

[5] المتخيل ـ والأصل






     في "آخر الملائكة" وفي نصوص العزاوي الإبداعية الأخرى، الشعرية أو الروائية، يتم قهر الفاصل الافتراضي، الوهمي، بين المقدمات ونتائجها، أصلها وتحولها إلى أصل آخر، مختلف، مضاد، ممتد، ولكنه لا يقول الذي غدا أثرا ً إلا كي ينسج أثرا ً آخر: حياة تتآكل، لكنها تقاوم غيابها. ففي تجارب أخرى، على سبيل الافتراض، لغائب طعمة فرمان، أو جبرا إبراهيم جبرا، أو موفق خضر، فان هذا الحد الفاصل قد يعزل الواقعي عن الوهمي، والأصل المجهول في أصل معلن، الواقعي عن المتخّيل، الافتراضي، وأخيرا ً: المقدمات عن النص الفني بوصفه مستقلا ً، إلا ان العزاوي لا يكف ان يبني نصوصه بعد ان تأمل أصولها: الخرائب، والمندرسات.
   عمليا ً لا توجد مسافة واضحة، محددة، بين الأسباب ونتائجها، كمعادلات رياضية، أو حسابيه، ولكن ثمة جسور ُتتهدم، كيانات تزول، في بعض التجارب، وثمة جسور تشّيد، في تجارب أخرى، وآخر الملائكة مثال على ذلك. فالأصل قد لا يكون مشتركا ً، ولا واحدا ً، بمعنى، في الأصل، يمتلك فرادته، ندرته، كمثل للاستثناء، مع ان الواقع هو الواقع، ومع ان المنحى الأدبي توخى غاية ما، قد تكون محددة، أو واضحة الأبعاد، أو تضمنت ديمومتها ـ والحفاظ على لغزها.
   ولأنني افترضت عند قراءتي ـ هنا ـ  وجود ما للقارئ المنتج للنص، وليس للمستهلك له، فان هذا المتلقي لن يفلت من معضلات سائدة، في الواقع، أو على صعيد النخب: موت الفن، الفلسفة، المؤلف، النص، والإنسان نفسه...، فان كل ما جرى ـ يجري ـ وسيجري، ينتهي بوجود (ما) تكمن مهمتنا البرهنة على انه لم يكن موجودا ً!
    فهل "آخر الملائكة" مثال نادر تذكرنا بالحوارات المبكرة للفلسفة في بلاد الرافدين؛ في سومر، ومن ثم، في بابل، تلك التي افترضت ان (الآلهة) أكثر نزاهة من ان تقترن بالإنسان...، وآثامه، وظلماته، كي يتحدث حكماء بابل، عن العدم الخالص، للعثور على حل منطقي أو مقبول للموجودات، بوصفها عدما ً ممتدا ً...، أي إنها محكومة بلغزها المزدوج بين: الأزل ، والأبد..، أم انه مثال مستمد من عصر ما بعد الحداثة، حيث العدم يمتلك قدرات غير قابلة للدحض...؟
   فاضل العزاوي لم يستمد ثيمة روايته من العدم، مع إنها، في الأخير، تغطس فيه. فالرواية ليست افتراضية، ولا متخيلة، ولا رمزية ...، فكل ما جرى فيها له حضوره، ووجوده، وشخصيات الرواية لها هواجسها، وعالمها، ومخاوفها، وبحثها عن الخلاص ...، فالملائكة ليسوا كائنات وهمية، بل هم من صنعوا تاريخهم، وهم من صنعوا التاريخ، وبدمج العنصرين يكون النص قد تكوّن، مثل (ضرورة) حولها الكاتب إلى (حرية)، إلا إنها حرية تقع على الجانب الآخر من التاريخ، لأنها ولدت تحت شروط خاتمتها الممتدة.
   فالنص الفني يترك علامات شبيهة بالتي نعثر عليها في نصوص عصور: الدمى، والفخاريات، وفي رسوم المغارات. فقد توحد المعنى، الدافع، المحرك بالعلامة، حد استحالة عزل أيهما كان علّة للآخر. لكن هل هذا يكفي للعدم ان يمتلك مثل هذا الحضور...؟ لأن العلة قد لا تمتلك امتياز ان تكون نفيا ً إزاء الزمن، وقد لا تكون ـ إزاء الموت ـ سوى دخان النار التي انطفأت!
     تحديدا ً يكتب فاضل العزاوي نصه بعيدا ً عن (الوظيفة/ الشغل) ويعزل دور الملصق عن الفن، بل ويستبعد الوسائل عن الغايات، ليس لأنه مكث يبحث عن المستحيلات، كالبحث الملغز المضني لجلجامش عن الأبدية، أو الديمومة، الخلود،  بل لأنه أدرك منذ صدم بغيابها، بضرورة ان لا يحتفي، وان لا يحتفل بهذا الغياب.
     لو أحصينا رغبات، وهموم، وشطحات، وأخطاء، كل شخصية من شخصيات الرواية، وما سعت الرواية إلى إيصاله، فان (الحرية) ستكون شبيهة بالعامل المساعد...، لأن الاختيارات، في الأخير، حصلت على هذا النحو، والرواية  تكون قد أكملت دورتها، كي يأتي الواقع ـ في المدينة ذاتها ـ مماثلا ً بما أشرته، ورصدته، وتنبأت به.   فالوهم الذي حول الزنجي إلى مقدس، سيشكل الحياة اليومية التي لم تعد فيها الخرافة إلا واقعية عنيدة. حيث تنعدم الحدود بين المخيال والتاريخ، والإثم والمطهر، والمصير بالمندرسات.
   بمعنى ان النص السردي، المشحون بالطاقة الشعرية الاستثنائية للكاتب، لم يختف، بل لخص المعنى للفن في النصوص ذاتها التي كان الزمن فيها علّة محركة للشخصيات، في إنتاج علاماتها.
        فالجسور، مع الماضي، تفصح عن قرون أدت إلى ديمومة الصراع، الاشتباك، بواقعيته التي استحالت إلى فنتازيا، والى طرائف خيالية، وخرافية، حولت المأساة إلى كوميديا، إنما تخلو من المرح، بالمعنى النيتشوي، لأن ذاكرة المتلقي ستعمل بمخياله، في القراءة، بالحفر في لغز ديمومة (الخرافة)، عبر العصور، وعبر الحاضر الذي رصده الكاتب وهو يتوغل في الحفر: المستقبل وقد جرجره إلى الأصل، والى ماضيه.
      إنها دورة لم تكتمل، لأنها مازالت تنتج واقعها، أو ما يحمل حضوره، عبر كابوس محكم وعنيد. فالمدينة لم تغادر عصورها المظلمة، بالرغم من أزمنة التغيير، فالخروج من هيمنة الإمبراطورية العثمانية، والدخول تحت بساطيل الاحتلال، ثم الجمهورية الزائفة، القناع، والحروب المصطنعة، واستبدال الغزو بالتحرير...الخ، لم يخرجها إلى عصر النور.
      "آخر الملائكة" لا تهدم الجسور مع الشقاء الذي حول (الخرافة/ الوهم) إلى: فن، كي يمتلك الفن الضرورة ذاتها بوصفها حلما ً، توقا ً، وانعتاقا ً فحسب، بل مكثت الرواية تواجه (عدمها) كأثير هو كل ما سيتبقى من كوكبنا، ومجرتنا.
     ذلك لأن الروائي عمل على هدم (الوهم)، وهدم مقدمات الجسور ونهاياتها، الأصل والأصل الآخر المستحدث، فلم يوظف فنه إعلانا ً أو حتى مراثي ـ شبيهة بما دونّه السومري، الاكدي، والبابلي بعد ان تعرضت تلك الحضارات إلى الخراب، والتي حافظت على علامات مماثلة للوعة البشرية في تأمل الحرية والعدم ـ بل ترك للمتلقي ألا يقع في أية غواية من الغوايات، ولا ان يقع ضحية وهم من الأوهام، إن كانت مقدسة أو مخادعة، إنما تبقى الاختيارات تعمل وكأنها محكومة بالعودة إلى ذاتها التي لم تجعل من الموت عقبة، ولا من الخرافة طقوسا ً للهلاك، ولا من المستحيلات يقينا ً غير قابل للشك، أو الدحض. ذلك لأن الفن لن يصبح دحضا ً لهذه الثوابت الوثنية، بل يقينا ً متضمنا ً نفيه، بانتظار قراءة لحاضر اقل فجيعة، وخديعة، وخرابا ً.

[6] الشاخص ـ العلامة والأثر

   رواية "آخر الملائكة"، ليست ـ هي ـ مجموع أصوات شخصياتها، مثلما لا يمثل الكل مجموع أجزاءه، بداهة. فالراوي، مثلا ً، يماثل عمل أية بنية تحافظ على لغز مخفياتها، ولا تفرط ، أو تتوقف، عند المظهر، والأشكال،  ولكن (الراوي)  في "آخر الملائكة"  ـ كما في مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة ـ سمح لدوره ان لا يكون معزولا ً عن رصد كل ما يمكن الحفر في مخفياته، ونبشها، وتتبع أصدائها. هكذا لا يشكل الكل مجموع أجزاءه، حسب، بل يعيد انتجاعها، ككل آخر، مختلف، ومغاير، بعد الغوص في مناطق الغياب. إن صوت الراوي، بخبرة شاعر وصحفي وباحث أكاديمي ومترجم ومراقب ومنشغل بقضايا العصر، ومحترف في بناء إبداعه السردي، والشعري ..الخ،  يكف عن (ذاتيته) المنغلقة،  ليحررها، عبر: الرصد، والتأمل، والمراقبة. فالكاتب يعيد بناء الأثر، المخلفات، اللقى، الكسور، الأصداء،  وحتى الغبار، ـ كما فعل جيروم وقد صوّر فنتازيا عصر محاكم التفتيش، وأزمنته المنحطة ـ  بوصفها أكداس تمويهات، حريات زائفة، أفكار مخادعة، معتقدات مزّورة، أي أكوام خيبات، وانكسارات، مثل حياة لم تجتز عتبة مقدماتها. فخاتمة الرواية،  بعودة المنفي إلى مدينته، يضطر إلى مغادرتها، كغائب من الصعب البرهنة على أي ولادة له.
    فالشخصية الأولى: حميد ـ الذي سيحمل لقب (نايلون) إلى النهاية، يطرد من عمله في شركة النفط، بسبب محاولته للتحرش بزوجة الانكليزي (ماكنلي)، وليس لأية قضية أخرى. وحميد نايلون، بهذا المعنى، لا يمثل أيديولوجية محددة، أم معتقدا ً، أو قومية، أو ثقافة، بل نموذجا ً للإنسان (الرث)، غير المنتج، بمعنى: الموجود خارج حدود المدينة التي ينتمي لها، ولكنه جزء منها، لأنه سيحمل علاماتها، مع باقي الشخصيات.
  فحميد نايلون، إنسان عادي، غير مختلف، ولكن لقبه سيفند ذلك: نايلون ـ ليس هو المرن، وليس هو شعرة معاوية، وليس هو المتقلب، الانتهازي، ولا هو الخيالي، بل هو الذي سيمنح باقي الشخصيات موقعها في الأحداث، التي سرعان ما ستشكل محور الرواية: ثمة نية لشركة النفط بشق طريق جديد، سيمر عبر مقبرة المدينة، ليفجر أزمة أخرى مضافة إلى أزمات محلة جقور، فبعد معجزة نزول المطر، سيواصل الوعي (الجمعي) باستبدال طرد حميد من عمله إلى موقف مماثل للاعتراض على شق الطريق عبر المقبرة، بعد حادث مقتل الحلاق الزنجي، وتحول جنازته إلى معجزة حيث سيصعد إلى السماء، ليتحول مدفنه إلى مزار، ولكن شركة النفط ستوقف عملها، من غير تدخل الملك، بعد توجه نخبة من السكان للقائه، لتضع حدا ً للاضطرابات، والاحتجاجات، لكن أعمال الشغب ستتوسع، خارج المدينة، كي تتحول إلى ثورة، تبدأ من الريف، ثم يقتل الملك، رمز السلطة، في بغداد، كي تتداخل الشخصيات وهي ترسم أجزاءها: الملا زين العبدين، الذي سيتولى شؤون الضريح، المعجزة، خضر موسى، عباس بهلوان، اللص محمد العربي، برهان عبد الله.الخ، وهي شخصيات ليست رئيسية ولا ثانوية، فالذي سيتكرر، منذ حادث سقوط المطر، وصعود الحلاق إلى السماء، كولي من الأولياء، وتحول قبره إلى مؤسسة مالية، والعصيان المسلح، بقيادة عدد من الفلاحين، ومقتل الملك نفسه، وعودة برهان عبد الله من المنفى...، تجعل من الفعل السحري للخرافة قوة تتفوق على الحقيقة، صانعة الأمل الذي راح يؤسس قرنا ً ـ وقرونا ـ شبيهة بماضي المدينة، والمحلة، تعيد معجزاتها، عبر أفعال شبيهة بما تم رصده، وتدوّينه، والقائم على تصوّرات يتكرر عبر حلقات قانون المحو، بعيدا ً عن التراكم، والخبرة، والمعرفة. فاحد الشخصيات التي هربت من جقور وعادت بعد سنوات طويلة من النفي يظن سكان المدينة انه هو المخّلص، وليس الحلاق، لكن العائد من الغربة سيعترف بصراحة لهم انه إنسان معدم، ووحيد، واشد بؤسا ً منهم...، فلا يصدقونه، مما يضطر، بفعل بحث الشرطة عنه، إلى الهرب، محلقا ً كطائر في السماء، ويغيب.

     فمن هو الملاك إذا ً ....في رواية "آخر الملائكة"، من بين شخصياتها..؟ انه ليس حميد نايلون، ولا برهان عبد الله، ولا الحلاق الزنجي الذي ذهب ضحية مجانية، ولا زوجته، ولا اللص، ولا أية شخصية أخرى من شخصيات الرواية، بل هو (الحدث) السحري لمدينة مكثت بانتظار معجزة ما تنقلها من الظلمات إلى النور. فالمطر سقط بمعجزة، والميت صعد إلى السماء بمعجزة، والانقلاب حدث بمعجزة...، كي يتحول الانتظار ـ بحد ذاته ـ إلى معجزة!  لكن هذا القانون، المماثل لعقاب سيزيف، يتم تفكيكه، بالتعرف على تفاصيله المتناثرة في دقتها، بمهارة كاتب ترك المأساة تبلغ ذروتها، كي تمتد، لا كي تنتهي؛ من المأساة إلى الكوميدية، ومن الكوميديا إلى الابتذال، حيث تأسست على القبول بالأمر الواقع، لأن الصراع لا يجدد إلا ثيمة أساسية تقول بان الخلاص ليس إلا ما سيشكل الحياة ذاتها، وليس تغييرها، أو استبدالها، أو تعديلها، ربما ليس للقبول بالقهر، كقدر، وإنما ليس بالوقوف ضده. فالشخصيات ستكف ان تكون مسؤولة عن قدرها، لكن هل يمكن عزلها عن لغز هذا القدر...، فالملاك ـ كي يحمل سمات الملاك في الذاكرة الجمعية ـ هو الكل الذي ذابت فيه عناصر الحدث، والمتغيرات، عبر تكراراها، بانتظار بزوغ ضوء ما من العدم، كي يصبح طاقة. (7)

[7] بمثابة خاتمة

     ليست مهمتي ـ كقارئ ـ إعادة سرد الرواية كما دوّنها كاتبها، كما تفعل الجدات أو الأمهات مع الأطفال المشاكسين، قبيل النوم!  فإعادة السرد، ببساطة، لا يتضمن إلا قتل الآخر ـ المتلقي ـ تأكيدا ً لقانون إن كل ما ينتج، لا ينتج إلا ليلقى حتفه، ويمحى، ويزول! فالمتلقي ـ هنا ـ يؤدي دور القاتل، الصياد، المركز، بشعور تام، حتى عندما يعمل على دحض عمل اللاوعي، الكلي لنظام: الحياة ـ والموت.
     لكن المشكلة اعقد بكثير من اختزالها، أو مما هي عليه، ففاضل العزاوي لم يعد ينتج نصوصه لنخبة من القراء، كما فعل في فاتحة حياته الثقافية. لأن الوسط المعرفي شبيه بالسوق، مهما أبدينا اعتراضنا أو امتعاضنا، لا يمكن استبعاده. فمنذ أنتجت الدمى الطينية الأولى، ذات الرؤوس الغائرة، بل والخالية منها، تماثل الحزوز والعلامات والرموز التي نقشت فوق سطوح الفخاريات في العصور الموغلة بالقدم، فهي شبيهة برسومات المغارات، أنتجت للآخر، بالحدود التي لم تغب فيها (الأنا) عن عملية الإنتاج/ الإبداع بعد ذلك. فلمن أنتجت رواية "آخر الملائكة" ـ ونصوص فاضل العزاوي الشعرية، والنقدية عامة ـ ..؟ هل كتبت للمتعة، أم للتسلية، أم لقضاء الوقت، والكاتب يستعيد ذكريات حياته المبكرة في كركوك، أم كتبت لتؤدي أي دور، عدا (الإعلان) أو التمويه، أو الدعاية، حتى لو كان ذلك  من اجل الحرية، أو من اجل الله نفسه...؟!
   انا لا
امتلك إحصائية عن عدد القراء العرب، بنسب صحيحة، مقارنة بالقارئ الأوربي، لكن ما ذكر بان معدل القراءة لدى القاريء العربي لا تتجاوز الست دقائق، على مدار العام، مقارنة بـ 200 ساعة قراءة لدى القاريء الأوربي، تتركنا أو تنحدر بنا إلى القاع. بمعنى ان ما يكتب من أدب جيد، وغير جيد، كأنه يقذف إلى الجحيم، أو إلى الفضاء...، فالمنجز الأدبي ـ وضمنا ً الفكري والإبداعي النقدي ..الخ ـ يكاد يماثل ما ينتجه العرب، في عصرنا، ومنذ قرون، لا موقع يذكر له في السوق، ولا بين العلامات الإبداعية.
   لكن الليالي، ونصوص أدبية وفنية أخرى، أسهمت بوجود هذا السوق، حتى على مستوى المخيال، لدى الأوربي، عن إبداعنا العربي.  إنها على خلاف العملة الرديئة، صاغت دافعا ً للتوسع في القراءة، وهذا ما شغل عدد من الكتاب العرب، وهم يكتبون بغير اللغة العربية، أو ممن ترجمت نصوصهم الإبداعية إلى اللغات الأكثر تداولا ً، في الأوساط المعرفية.
   فاضل العزاوي، لفت انتباه كاتب كبير مثل كولن ولسن، وأخيرا ً ـ 2014 ـ ترجمت إلى اللغة الألمانية، مع وجود قراء عرب متناثرين في المنافي، وموزعين في الأرض، بمعنى ان هناك قراءات متعددة للنص الفني الواحد، حيث تسعى هذه القراءات الإسهام ببناء مخيال يعيد الحياة لهذه النصوص، بدل ان تهمل وتذهب إلى المجهول، أو تلقى المصير ذاته للضحايا في البلدان العربية، وقد غدا مشهدا ً مرئيا ً عبر وسائل الاتصال اليومية.
    ولا مناص فان وسائل الاتصال، منذ عقود قليلة، رافقت طرق التجارة الحديثة، وهو استذكار مباشر لأقدم وأشهر طريق وهو طريق الحرير، وللمواصلات القديمة التي كانت تنسج خرائط مواصلاتها، واتصالاتها، بين مختلف الشعوب، بعيدا ً عن الأحادية، والتزمت، والأسوار. فالأدب ـ بشكل أو آخر ـ احد أكثر النماذج المتداولة للسلع: الإنتاج ـ الاستهلاك ـ والاندثار.
   فاضل العزاوي، لم يضف هالات زائدة على المنجز المعرفي، إن كان شعرا ً أو نثرا ً، فكتاباته المبكرة، استبعدت (الوهم) و (المقدس) و(المثالي) عنه، ولكنه لم يلغ ما تضمنه اللغز من الغاز، فكلما يتم تفكيكها، وهدمها، انبتت جينات أكثر عنادا ً في الحفاظ على مخفياتها، وماركس لم يستخدم إلا مصطلح (الميتافيزيقيا) في حديثه عن السلعة، بقوله: لا احد يعرف كم من الميتافيزيقا كامنة فيها.
   هذه العلاقة، بين (المنجز/ النص) والسوق ـ الآخر، تفضح إشكالية مساحة الثقافة لدي ّ القاريء باللغة العربية، وقد لا أكون ـ بحسب عملي في الثقافة على مدى نصف قرن ـ إلا قارئا ً اعتياديا ً، ولكنني أكاد اختتم حياتي بخبرة تسمح لي الاعتراف بغياب هذا القاريء!
   ففي القارة العربية، اليوم، قد يسمح لازدهار أي شيء، عدا: السلع! يسمح للفساد، الدعارة، الوعظ، التلقين، ويسمح للتمويهات بمختلف أجناسها ـ من الخطابة إلى الأحاديات ـ عدا ان تكون للهوية حريتها في الحفاظ على مغامرتها في الوجود.
   وحتى عندما دخلت بعض الأجهزة الحديثة، كالكومبيوتر، فقد كانت طارئة، وليس لها سياقها في عمليات التطور، الذاتي، كانت التقنية بلا هوية، سلعة وافدة، وبعد نصف قرن، ستعمل الأجهزة الحديثة للاتصالات، عمل (المنظمات) في التمويه، وليس الحفر في المخفيات، والتأسيس، لأنها ستعمل بمعزل عن الواقع، والواقعية التي تحدث عنها بوريس بورسوف وجعلها معيرا ً للمقارنة بين دستويفسكي وكافكا، مثلا ً...، فهي شبيهة بما يتم استيراده من أساسيات الحياة، ومقوماتها، بإلغاء الإنتاج، والتصدير، باستثناء الخامات (الطبيعية)، الشبيهة بكنز يبحث عنه أبطال الليالي، وليس هو ما يتم إنتاجه.
   فاضل العزاوي، حسم الإشكال، بل وقلب المعادلة، راجعا ً إلى الأصول الأكثر قدما ً في نشأة الحضارات، في الثقافات وفي الفنون، والى أكثرها حداثة أيضا ً.
      فقد ذكر في روايته "مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة": ان الحرية تعني ان تولد مرة أخرى في عالم مهجور..!
   انه ليس عالم المنفى، فانا اجهل مصير فاضل العزاوي لو كان قد اختار بغداد مأوى له، عبر حياة اكتظت فيها الأحداث، والمتغيرات، عدا: الحياة. فقد اختار حريته في العالم، بعيدا ً عن الانغلاق، والأحادية. لأن المراقب قد يستطيع ان يعثر على جثة مرمية، في النهر، أو مع النفايات، أو تتربص به، وقد لا يجد صعوبة في مشاهدة حفلة قتل في ساحة، أو في زقاق، مصوّرة بالفيديو، لتبث عبر الفضائيات، وعبر وسائل التواصل المختلفة، ولكنه سيجد صعوبة بالعثور على (مثقف) غير طائفي، وأيديولوجي متزمت، أو بائع سلع مسروقة!
    وبالرجوع إلى "آخر الملائكة" فان الكاتب قد استبعد شخصيته عن الرواية، وعزل أفكاره عن شخصياتها أيضا ً، لكن حضور الكاتب فيها لم يغب، كجزء تمثل فيه الكل، وغدا (منفيا ً/ ملقى) في الوجود، وليس إلها ً أو طاغية. فالكاتب اختار المدينة، ككثير من الروايات المقترنة بمدنها، من لندن إلى دبلن، ومن بطرسبرج إلى باريس، ومن الوركاء إلى نيويورك، واختار الشخصيات التي نسجت: أوهامها، أحلامها، ومصائرها. فإذا كان جان كوكتو يقول: أنا الكاذب الوحيد الذي يروي الحقيقية، فان فاضل العزاوي لم يبذل هذا الجهد الاستثنائي إلا لإنتاج: الحقيقة.  الحقيقية المقترنة بمفهوم الحفر فيها، ووراء سطوحها، وأقنعتها، كي نشاهدها عن قرب. فالماضي ـ قبل قرن أو نصف قرن ـ إن لم يثر فزعا ً أو خيبة أمل، أو أسفا ً عميقا ً، مقارنة بما تلاه من الزمن، فأي معنى تبقى لصناعة (الأدوات) ومنها: الأدب أو الثقافة..؟
     لكن عندما يكون عمل (المتلقي) كعمل حفار القبور، الدفان الكلاسي الذي مازال يتعامل مع الحفر، التراب، والطمر، فان ما سيحدث، بعد قرون، سيكون نسخة مستعادة للذي تم إنشاؤه، وهو عمل مغاير لعمل الكاتب تماما ً. ففاضل العزاوي راح يعيد إنتاج العالم الذي رآه يتفكك، يتداعى، يُخرب، ويزول، كعالم وحّد بين الموتى وشواخصهم، وليس بين أحلامهم المسروقة، ولا بين كياناتهم الممحوة. حيث (الخرافة) مكثت تتناسل بعناد، كما ينتج الديناصور سلالات مفترسة لا يمكن إجراء تهذيب ما عليها، إلا بكارثة ما، أو بانتظار مرور ملايين السنين. فاضل العزاوي راح يحفر في ارض سكانها ينسجون غزلا ً غير صالح إلا لديمومة ما يجري تحت الأرض، أو في الكهوف، وفي المستنقعات. فالرواية  ليست ملصقا ً، أو إعلانا ً (للثقافة)،  إلا بوصفها تنبأت بما ستقود مقدماتها له من نتائج، وعلى أية حال، إنها ليست نهاية عدمية، أو ما يفضي إليه الانتقال من الزمن إلى كينونته العصية على مدارك إنسان مازال ينتمي إلى فصائل المفترسات. فإذا أعدنا قراءة نظرية تدعم وجود (الكتلة المظلمة)، وتحولها إلى (طاقة) مظلمة  تنتج لغز النور ـ بذرة الخلق الأولى، ، فان الطاقة الكامنة في ظلمات أرواح ملائكة العزاوي، ترجعنا إلى الله نفسه، الذي سمح لأكثر مخلوقاته عيادة لجلالته، بالعصيان! وإلا من ذا يمتلك قدرة ـ  منذ حكاية أيوب السومري الذي لم يجدف قط، والذي قال مخاطبا ً إلهه: من منا بحاجة إلى علاج! بحسب تحليلات يونغ ـ فهم لماذا لا يمكن عزل النور عن الظلام، أو عزل الموت عن الولادة، أو عزل الحرية عن العدم؟  فهل أرواح ملائكة فاضل العزاوي ـ مثلها كمثل ترليونات الحيوات ومنها نوعنا الأشد تميزا ً بالفتك والغدر والخيانة ـ لم تلق في الوحل، لتتمرغ فيه، وتلقى حتفها، كأنها تلقى في  واقع لم يستحدث إلا وهو يعيد إنتاج نظامه الأقدم، كي لا تثير مخلوقات العزاوي المرهفة إلا السؤال ذاته الذي توجهت به الملائكة نحو صاحب الجلالة، بإدراكها ان النوع البشري ليس إلا زمر مهمتها سفك الدماء، فجاء الرد غير القابل للجدل من لدن الله: أنا اعرف ما تعرفون! لكن فاضل العزاوي ليس إلها، بل كاتبا ً، حفر في الظلمات، وتوغل في مخفياتها، وكتب ملحمة عن شعب يذهب إلى المجهول بعناد لم يجد من يدحضه، لا بالمأساة، ولا بالكوميديا، بل بمنزلة بين منزلتين: المستقبل بوصفه ماض ٍ، والنصر بوصفه علامة مؤجلة لنهاية زمن القص، والصخب، والغويات.
 بغداد ـ 25/10/2014

1 ـ منشورات الجمل. ألمانيا. والرواية كتبت بين عامي 1987 ـ 1990.
2 ـ هيرونيموس بوش(جيروم)_Hieronymus Bosch(Jeromeرسام هولندي من عصر الباروك ولد عام 1460 في بلدة هورتوجينبوش الهولندية التي قضى فيها جل حياته، وأعطته اسمها.   أشتهر بوش برسم الموضوعات الخيالية الغريبة , وصفه كارل غوستاف يونغ محقاً بـ"سيد الرهبة ... ومكتشف اللاوعي" وأيضاً أطلق علية سيد بشع ومكتشف العقل الباطن فنّ بوش يعكس العادات الغامضة للعصور الوسطى ، ويعتبر أفخم رسّام لوقته . .
3 ـ في نص "البار المتألم" وهو يرجع إلى العصر السومري، ، قبل أكثر من خمسة آلاف عام، وأعيدت كتابته في العصر البابلي أيضا ً ـ وفيه شبها ً بقصة أيوب التي دونت بعد ذلك بألفي عام ـ كلمات لا تقارن إلا بما ينتجه الحاضر. فيقول (شوبي ـ مشتري ـ شاكان)  الشخصية الرأسية في النص الشعري، مثلا ً:
[فمي الذي كان من قبل مليئا ً بالثقة، إنهم يلجمونه،
أنا الذي كانت شفتاي سريعة الكلام، أصبحت الآن مثل أصم ـ أبكم،
ونداءاتي التي كانت رنّانة قد أرغمت على الصمت.
ورأسي الذي كنت ارفعه عاليا ً، قد انحنى حتى الحضيض،
وقلبي القوي قد ضعف من الهلع،
.....
وبعد ان كنت متبخترا ً، أصبحت عبدا ً.
وعوض أسرتي الواسعة، أصبحت وحيدا ً!]
[ المعتقدات الدينية في بلاد وادي الرافدين ـ مختارات من النصوص البابلية] ترجمة الأب ألبير أبونا ، ود. وليد الجادر. جامعة بغداد ـ كلية الادب. 1988 بغداد ص392
4 ـ قرأ الكاتب البريطاني كولن ولسون الترجمة الانكليزية لرواية «آخر الملائكة» للشاعر والروائي العراقي فاضل العزاوي وكتبت عنها «سوشيالست ريفيو» (شهر أيلول/سبتمبر 2007) وكانت الترجمة الانكليزية قد صدرت عن الجامعة الأميركية في القاهرة كما صدرت طبعة أخرى للرواية في الولايات المتحدة.
5 ـ  فاضل العزاوي [لقلعة الخامسة] اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1972
6 ـ  فاضل العزاوي "مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة" منشورات دار الكلمة ـ مطبعة الآداب النجف ـ العراق 1969
7 ـ في زمن مبكر، كتب فاضل العزاوي: " ... لمن نكتب؟ ولماذا؟ في المدى الأخير: نحن نكتب لكون مهجور، أي بمعنى ما إننا نكتب للأشياء التي لا تمتلك أي وعي، وإذا كان الوعي هو الذي يعطي للوجود معناه فإننا نكتب لوجود لا معنى له: العبث. " متابعا ً: " هذا القانون الغريب غير موجود في حركة وعي معينة، انه نمو تثاقلي ينتهي إلى شيء يصبح حالة أخرى. وكما تدخل الحركة في جلد الكرة: الكرة + قوة الدفع أو الكرة + طاقة  كذلك كان العدم. العدم الملتف على نفسه امتلك شيئا ً مرتبطا ً بالعدم ولنسمه في البداية: العدم + طاقة العدم...الخ وهكذا اذا ابتدأنا من صفر إلى صفر + حركة فان النتيجة لا تكون نفس الصفر الأول ولا تعنيه بالضبط " المخلوقات ص 102 ـ 103





الأربعاء، 29 أكتوبر 2014

غالب المسعودي - ألأنثى وأجنحة الحمامة

المبدع والمدّعي- *يحيى القيسي


المبدع والمدّعي


*يحيى القيسي
لو بحثنا في كل مؤسسة تعنى بالإبداع ونشره في مجال الأدب والفنون لوجدنا العجب العجاب، أتحدث هنا بشكل عام عن بلادنا العربية، حيث اختلاط المفاهيم، وانتماء من لا علاقة له بالأمر إلى أهل الاختصاص والمبدعين من غير أن يجد له رادعاً، ولا من يسهم في الغربلة قبل "وقوع الفأس بالرأس" وتسرب المدّعين إلى صفوف المبدعين، إذ إن القائمين على الأمر يكادون أيضاً ينتمون إلى صفة المتسللين إلى هذا الفرع الإبداعي أو ذاك، ولهذا يمكن أن تجد في بلد من عشرة ملايين نسمة ألف شاعر، كلهم يطلقون على أنفسهم هذه الصفة وحتى تفرز القمح من الزوان تحتاج إلى دهر أو يزيد، ولو جمعنا عدد أعضاء رابطة الكتّاب في الأردن مثلا مع اتحاد الكتاب، ورابطة الفنانين، ورابطة التشكيليين، والأساتذة الجامعيين وأعضاء الفرق الفنية، والجمعيات والملتقيات الثقافية الأخرى المنتشرة في شتى أنحاء المملكة لوجدنا أنّ لدينا أكثر من خمسين ألف عضو يفترض أن يكونوا مثقفين فاعلين، هاجسهم دعم الإبداع الحقيقي هذا إضافة إلى أعضاء الأحزاب وبعض رجال الدين المتنورين وأولئك المستقلين والزاهدين بالتجمعات، وهذا عدد كبير لو قدّر له أن يسهم بشكل حقيقي في بناء المجتمع المدني، وتغيير البنية الاجتماعية إلى الأفضل عبر الإشارة إلى العيوب وعوامل الهدم والتعرية التي تطالها ونقدها، وإعطاء دفقة من الثقافة الجادة بديلاً للثقافة الاستهلاكية الهشة لأصبحنا في حال مختلفة اليوم .
وبالطبع فإن معايير الإبداع تزيد وتقل، فليس الكلّ سواء بالمستوى نفسه، لكن من غير المعقول مثلاً أن ينتمي للفنانين التشكيليين من لا يجيد غير صبغ الجدران وقطع الأثاث، ولا للممثلين من هو من المجاميع (الكومبارس) الذي مرّ بالصدفة من الشارع أثناء التصوير، ولا للشعراء من كتب خاطرة على الفيس بوك، ولا للمطربين من يمتلك صوتاً مشروخاً لا يصلح حتى لبيع الخضار على العربات .
وأي متتبع لمثل هذه الظاهرة ستكون له تفسيرات كثيرة لمثل هذه الاختراقات التي أصبح فيها المدعي هو السائد والمبدع هو الاستثناء، فأول التحليلات سهولة القبول في مثل هذه التجمعات، أي ان شروط العضوية ميسرة، وخصوصا في الدول ذات الطابع الحزبي، فإنّ تسريب أعداد كثيرة من "الأصوات" الانتخابية والجماعات السياسية الضاغطة تحت مسمى "عضو عامل" في هذه الرابطة أو تلك مسألة عادية، وأذكر في زيارتي الأولى لبغداد نهاية الثمانينيات أني رأيت رجلاً نشيط الحركة ويبدو مسؤولاً في اتحاد الأدباء والكتّاب هناك، ولا أرغب بالطبع في تسميته، فربما لا يعني لأحد الكثير اليوم، وحين سألت عن صفته الإبداعية أي هل هو قاص أو شاعر أو روائي أو باحث لم أجد أي جواب يشفي الغليل، فقد كان كما فهمت لاحقاً شاعراً من الدرجة العشرين وحزبيا من الدرجة الأولى، وهذا ما شفع له .
أما التحليل الثاني لاختلاط الأدعياء بالمبدعين فهو عدم وجود جماعات جادة ضاغطة من المبدعين الحقيقيين، لا بل إن بعضهم أسهم بشكل واضح في إدخال هؤلاء إلى العضوية ومنحها لهم بشكل ميسر لكي يظهر جانبه المتفوق عليهم إبداعياً، وعلى ذمة أحدهم قد نخسر الكتاب لكن سنربح القراء على الأقل، ويبدو أن هذا الأمر غير دقيق أيضاً، فهؤلاء غالباً لا يقرأون ولا يكتبون إنما هم عالة على غيرهم، وأعجب من أنهم أصبحوا في الإدارات الثقافية لروابط الفنانين والتشكيليين والأدباء من دون أن يرف لهم جفن من حياء أو تراجع، لا بل إنهم غالباً ما يتعرضون إلى الهجاء في الصحف، أو حتى المباشر لكي يدفعهم ذلك للاستقالة وترك الأمر لأهله ولكن دون جدوى .
في النهاية لن تصنع من الحمير غزلاناً، ولا من الحديد ذهباً، ولا من المدعين شعراء حتى لو هلل لهم الإعلام وحفتهم جنيات الإلهام .
________
*روائي ومؤسس ثقافات/الخليج




الاثنين، 27 أكتوبر 2014

عادل كامل/ الوثن السابع -أعياد ومتاهات]




الأوثان
[أعياد ومتاهات]


عادل كامل/ الوثن السابع               

[1]
اصطحب الخرائب مزارات للوردة: هياكل غفلة، وبراءات تراب. ليس للعتمة استثمارات ولا للفجر               فوائد             قبل أن يكون ليل وقبل أن يكون كلام وهب القفل حكمته: قبل أن يكون بحر وقبل أن تكون كلمات وهبتني حكمة هذا الصفاء.


[2]
        ما الذي يصاغ باليد .. ما الذي تسعى إليه المطارق: هي الأقوام تطيبت بالطيب وأعلنت مباهاتها أعياد: ينتزعون منك الغفلة مثلما كأنها جواهر، ويناصفوك براءة المنحدرات: أيا يا قوّامون على العماء لنيل سبيل المبنى، ما من سكن لساكنه، وما هذه البرية لأحد: العرش فطنة برق، والمثوى تذكارات مناديل: فإلى أي القلوب سلواك وقد أخلت المسالك ممراتها للمتاهات.



[3]
        تلك إذا ً جمرات النذر: المطرقة تصاغ بالمطارق. واليد باطلة بنشوة التطهر: أتسكن فينا لوعة المباح: السارية توجتها النياشين، والروح بمناديلها ترفرف فوق الودائع.
        أية مدن هذه التي جمعتنا إليها: أي معبد هذا الذي بابه كل الأبواب: لا تؤخذ النجمة بالمسافة، ولا النطق بالأفعال، فينا جمرات يتبادلن خطابات الرسل: ملكات يجمّعن الأتباع رهائن، وفي كل امتداد فضاءات المدّون للمحو مسلات متاهة.

[4]
        باستئذان المنسيات، هي اليد قطفتها الحدائق، فإلى أية صخرة تنحدر الظلال: يا للقلب الأكثر صخبا  من رفات، بماذا جاءت بذرتك والزاد وفير، القبر فوق الماء عنوان
 


  

 
                                            لنتجاهل عنوانات
الدخان: إني مثلك اختلي إلى الكواكب.
 ارقد مع ظل في          الأنوار
  
                         واكتفي بزمردة
 

 
                       تدور في الأكوان.
[5]
 



        بدا القلب ينحدر/ عاليا عاليا / تلك هي لذات  الرمال: لا أخطاء للعذارى، ولا أحزان للمتوج بالأحزان، هذه هي سارية الضوء ..ماذا كنت تريد بهذه الشجرة  
 

 
      ضـاع الضـائع ضياعـاً: هذا هو كوخي، ومعي الفقراء يتنـزهون على القلائد.

[6]
        انفرطت في تجمعها الجواهر: ليس من اصداء ليس سوى البرق فوق البرق والموائد موزعة بين الحدائق. أيها الوثن ألا تغادر ألا ترسم لنا نداءات المناديل، فبمن أراك تبصر، جبروت الماء فيك خطابات أعياد .. أم الموتى فيك بيانات تذكر؟ إني انقسم إلى قارات عتمة، ادفن بالبلاغات عواصفي، ثم  استوي بالنياشين مدافن.
[7]
        الذين يبدلون المطرزات بالمطرزات هم بامتلاك الليل أشقاء الوردة: لا احد يرث الرمال

                                    إني اجمع أسلافي ككواكب
منثورات وبهبات الريح انثر ياقوتي

                                 هو ذا
كله يتجزأ في سلالات مبهمات معلومات. أيها البستاني إليك الدعاء: النار اشتعلت في البذرة، فلا تغلق بابي بالوعد، ولا تمنحني الدار متاهات جمرة.

لا تمس غصن اليقين؛ فالكلام فينا خطابات             قتلى. هذا الفتى جمع ظله للرحيل، توازن مع الخيط ،               ثم فكك سـره

        هبني اليد التي بها اكف عن النطق: ضجاتي أعياد نبيلات منسيات، ومدافني ساعات مدفونات قبل النطق وقبل الدفن: هبني نبلك للنزول لكي لا يأخذني الماء. هبني نشوة الميت قبل الدفن وبعد قيام الساعة.

[8]
 



        تجمّع المنسيون فينا إشارات: أيها الظل لملم جراحك فهي الودائع: الغابة فينا قلائد منثورات                 والنار نوقدها خواتم حكمة: تنتهي فواصل الفصول بمحو، أم هي الأنعام تدور دورتها فينا تطلع بذرة ولا تختتم إلا بجمرات. 

[9]
        ليس من خاتم للنداء: الأنوار استظلت بالأنوار واليد آخذتها متاهات الحكمة: هذه للريح داري وتلك            بالمفاتيح للأطلال فتحت: فأرى بين الغرقى ظلي ،               أيتها النفس اخرجي متاهة إلى الأرض، القلائد يتنزهن            بلا أوامر، ومن أحبته نفسي تجمع رماد: يا قلب                  ما للساعات صرّن منافٍ نتقاسمها بالعهد تذكارات،               وما لهذا  المزار كلما كاشفناه اخرج لنا مزار.
خـذ مني طـرق الاستـدلال ودعني في مناجاة الغيب: هذه الروح نازعتنا اوخرها بأولها، مثلما اختلط الفجر علينا بالفجر. فلا كوخ للضال مأوى، ولا للتيه اكتمال الأعياد.
[10]
أي يا وردة اكتبي فوق الورد: هذا الأثر أزال الأثر، وهذا الاسم محا الأسماء: وهذه النرجسة خرجت من هذا النرجس، فدوّن يا حفار تاريخ الاكتفاء: الأرض مرآة وأسماء أعلنت ساريتها. ويا يد لا تنقسمي، من تجمّع تفرق. هذا حبيبي قلائده الليل والفجر عترته. من ذا تطور للنشور ومن ذا خرج قبيل الإنشاد. هذا معبدي تزّين بالقيامة وعندي الأعياد نذور. فمن ذا سبقني اليّ: من مد لي بالنور عون، ومن شاطرني الجنة كفاف الرمال.
        وكان يمسك بالنور يدله عليّ. وكنت بعصاي أرعى انكسار القبائل .. وكنت من لا أراه كان لا يراني ‍! فلا تصغ إن كل من لا يسمع لا نداء له. فتعال احصد ليلك، ابذر بذرتك، فما كواكب العتمة إلا أساس الجدار.
                لا وردة داخل الوردة : الجراح جمعت في سلال الهدايا ، والأعراس استئناف مواعيد. كل مذنبة بذنبها احتفاء براءات، وهذا عيدي وقد أغلقت من حوله الأعياد.
[11]
 



        يأخذنا من ثمار الأحلام وينفينا إلينا: هذا ملكوت  النفس بالرمل يقيم الأسحار: ويا لروحي من مرآة تصدعت   قبل            التكون: أيتها الأشكال أني أعرفك، افتح الباب وأغادر: الأسرى في المنفى يزرعون حصادي، وأنا منذ البدء وزعت البيادر. 

[12]
        وهي سلالم الجهات ولا مدرج لنا سوى المنفى: فبأي سؤال تسأل المواقيت بالذنوب عن الكواكب. اشتاقت لك نفسي في بريتك .. وتاقت روحي لفضاء مدافنك. فتعال ناصفني الهدوء، يا كوكبي، ما من لبن أو زرع: عندي الأعناب فهات كتاب الأحداق : تاه من عليها باليقين وانا أمسكت بحبل العتمة: تعال شاهد هودج الجرح العرش ثم خذ صكوك الإقامة. من فتح ودخل غادر، وأنا مازلت أقيم في دار الغفران. تاق المشتاق لغائبه، أما من سلوى للمشتاق غير الغياب: هي الأصداء تبادلنا نياشين أيامنا، تارة لك الطبل، وتارة لك المدى كتمانات أبواق.
[13]
        وليس للحكمة ينابيع صخرة: كلاهما فيّ انطفاءات: الذي أعطانا الدخان أغوانا بالثمار. قلائدي انفرطت وانا أسرني  الظل: الجسد كما بعد الجسد مناديل مخاطبات، وأوامر غابات: الميتون الطيبون ينظرون برفق للدهور وللأيام، وأنا أقيم لخرزاتي الأعياد.

[14]
        يد من غابت لتطلع منها اليد. النور تكوّر على النور والقلائد تخرج من القلائد خرزات مبهمات من تحت الرمل.  اقرأ النطق باب. والأسماء قوارير، والنفس تغيب فيها النفس: كل ينفي نفسه ولا يستدل. وكيف صارت الأنوار بقايا لبقايا والروح قفل لمزار. تعال أني اجمع ثماري مناديل مباركات ملمومات مستورات بكاءات منتشيات خاشعات نائحات معزولات مهجورات مفجوعات وفرحات مثل متاهات عند الباب.


[15]
        اهو الصائغ صاغ قرارات الماء أم البحر اكتفى بالقرار: كلانا أيها اللون اللا مسمى تواريخ كنسوة يجلسن يطرزن الجراحات: ليس لدىّ ما أعلنه وليس لدي ما أدوّنه فوق المحو: الفضاء حل محل الفضاء. والكوكب الطارق جلد القلب أخذنا كدس رماد، ويقولون جاء أجمل فتى فتيان النار يلملم انطفاءات عباءات الغانيات الملكات البكاءات المجهولات. ويقولون غادر وبيده حفنة أسرار. وأقول الفضاء استبدل بفضاء والكواكب المبهمات مازلن كنسوة ذقن لحن النبع يخطفن الأبصار. وما خطفت الروح، إنما وردة الهواء زينتنا كعروس أعياد. لا تتركيني إذا جئت اليّ، ولا تأخذني إذا غادرتني .. هي الأضواء أبجديات عتمة .. وما الغابات إلا شوك نقيم له المتاهة في القلب. هذا معبدي ادخلوه سكارى فما من صحو يتبعه إلا صحو، كالموت استراحة وما العمر إلا بروج مرحات كمرضعات آخذهن الرضع. ولا تقاسمني ما وهبت الريح وما وهبت: أنا رمادك فوق الممحوين أكوّن العهد.


[16]
        وهن العظم المطوق بحمامات الفضة؛ ألا يا ذرية الدورات انعمي علينا بالتذكر، فأنا صرت أعمى القبائل، ويدي فوق الأطلال كياقوت فوق جمر. وطلع من الطلع عبق الأنساب: طوفانات مكتوبات فوق الرمل: موتى يتشبثون بالبيارق، ونسوة المدن يتشبثن ببقايا الليل. هذه فضائل كشف الأسرار وهذه زينة الكتمانات تحت البرق. دار النادل دورته ودارت الأنوار: كل يجذب بعضه والبعض فيّ غريق. ألا أيها الكلام مالك تجرجرنا تتركنا تلعنا وما لنا عليك سؤال: القلب باليقين اختطاف، والروح بالكواكب مسرة.

[17]
        صنع من الشق بحراً وجاء بالسفين: أوقف الكلام عند ظل وقال أنا مبين. قالت الصخرة أنا لم ألد وما فيّ غريب. قال الطارق باب الطرق اخرج يا من في الصوت حجارتي والناس أناشيد، ووردة البرية طوق غوايات كل بساريته متاهة ويقين، فتعال الىّ نغادر براري التائهين.

[18]
        هو الليل بعض بقايا أعراس؛ يا ياقوت الفجر ماذا لديك: المرضعة وضعت مرضعها والبحر بالاستذكارات أمين. هي النفس كلما خرجت شيّدت معبدها، كالعرش في منفى المنفيين. وما كنا نطالع في الغيب ألواحنا، إنما الآمال فوق الآمال اخترعت مزار المفقودين. وما تكورت النفس، إنما السفر بالوعد إلى حين: هذا هو بالقلب العشق تباهى، وبالكتمان اختتم دار اليقين.

[19]
        تمهل، هذه ليست خطاك: تضادات الصخرة أو إتلاف الريح بالريح: تمّهل: ليس للمطرقة يد بالطرق: ليس للسحب دوافع الريح، أكثر فأكثر القلائد ينابيع، والماء فاض باليقين: تمهل: الشمس بذرة عند البذار، الخاتم جمرة في نواة: تمهل:  تم استحضار أرواح المدن الأولى، مثل قلب ترك للفضاء. تمهل أيها الراقص تمهل: الثمار أنضجها الوعد، وبالكرامات لملمنا بقايا العهود.

[20]
        هو النور أخذنا أم القلب وهب الحدائق المعجزات: لم تدخل الحرب بعد ابتهالات النشوة، ولا استسلم              السيف ليد تائهة في الريح: تقدم تقدم هذه              عنوانات البيـارق وتلك مـدونات المخـطوطات التالفات.
 
لغات تبتكر هزائم الإشارة، وترتفع، مثل مجد،                مع غبار الاحتمالات: اني امنح العشب لون المداولة، وأغادر          
قبل اكتمال نضج المتاهات.

[21]
        للصخرة الأولى أولت ولاءها؛ تعطرت وتزينت وتجملت ثم أفاقت لنا بخاتم الرماد. أعادت لغيبتها غيبتنا وما علمت: خيط بالامتدادات تساوى، كجسر بين جسور: لا ظلمة في الظلمة ولا توهجات في النور: فإذا أنت شغلتك بيارق الرفيف، فانا شغلت بما قبلها: إنما هي الأفلاك آخذتنا بغفلتنا، وبصداها ما كان هناك صوت. لا يأتيك من فيك، فالمنادي شغلته المشاغل، والمنادي بالمناديل يجمل البرق، أنا لم أكن قبل اليوم دوّاراً بفلكها، ولا هي أمسكت بمفاتيح الغياب. كل في بذرته انطفاء، وكل في مثواه اكتفاء.

[22]
        أنا نطقت بنطقي وقلت هذا اكتفاء: هذه ذرية الأشجار، وتلك مصنفات الجوائز: أيها الموقد أي السلالات عبرت: المدن تدثرت فاندثرت، فمن ذا بالريح يدق بئر الغيب. وما خطبي عما في الغيب. عظامنا في القاع تناثرت، مربعاتنا بالنقاط والفواصل بالمطرزات عند الخالات والعمات المجهولات: هذا الياقوت حجاب: ولا أبصر ما أرى. وما جف حبر المبهم فوق المخطوطات المحتجبات. كأن الصوت بدل ما فيه ومحا ما فينا. وكأنّ الحمامات المطوقات بالأطواق صرن طليقان بأطواقهن: هن النسوة الرطبات الأرحام تزّين بصخرتهن ثم سحبن النور إليهن واحتجبن بنا. وهذه دورة القبائل، وهذا هو القلب  في الفضاء: يا نسوة الاستقبال أنا عدنا من رمل انكسارات البوادي، لم نمش فوق سراط، لهونا بالنوادر ودوّنا الكبائر، صنعنا الأسواق، شيدنا بيت الصلصال للنسوة المرحات الروميات الكرجيات الفارسيات واللائي جئت مع البحر النسوة الهنديات واللائي خلعن حزام العفة اللائي بلا نار أو جنة بنسوة البدو والبربريات البيضاوات المتعففات وبسواهن من كتب الجبل والسهل لندوّن بالدم الشائخ مخطوطات أسرار الصغائر. أيها السراط تباهى اني أكثر استقامة.
***
        تعالي اليّ كنذر يستر ما بينهما: يا عروسي أنت اقامات المغادر. ضعي الحد على الحد ولا تدعينا نغادر. بالباطل جاء الفصل، وبالصمت ندوّن إعلانات المهاجر: من سفر إلى سفر تخترع البيانات، ومن سفر إلى سفر بالحبر. نكشط ما دوّن في المحاجر. ولا نر فيك إلا من ولي وتولى، عبس وآفاق أيتها الثمرة هذه سلال المرضعات، وهذا ما أخرجته لنا المدافن.

[23]
        في العمق، يتكون الليل، خال من البيانات: نشوة طلق في العالم الأسفل، ونحو الأعالي، مرة بعد مرة، لا تروى الرواية كأنها استعادات: هذه الصخرة لها انعطافات، كذلك الظل الذي يأتي به الرعد. أينما تكون سنكرر أغلاط العرش، ونطرز بجلد الممحوين أوراق مخطوطاتنا التالفات.

[24]
        تاقت روحي لصائغها: للدار التي دار بها المفتاح وللدار التي بها أمسكت الدرب: تاقت روحي لرمال قلائدها وللدخان الذي خرج منه الجسد: لثرثرات  الفجر مع الرعاة: لبرق يعلن بدء المواسم، لهمسات تأخذني إلى القارات: تاقت روحي لمن أراه ولا أراه لمن يراني ولا يراني، للرقص فوق صفحات الفضاء، وتاقت روحي لهذا ألتوق الذي غافلني، وحجب عني آخر الأصداء.
[25]
        هو النور إذا، عبر المودات، يدور دورته: الموسم غير المسمى للرمل، للغرقى السعداء؛ هكذا تبدأ ذرية البرق، وتأخذ الجسور بالوساطة: صخب الكراسي وسط سكينة المناديل: أنا الزائر لا اصطحب معي صكوك الإقامة، ولا أتعجل الرحيل. هو ذا القطار خلع قراه ليوزع نذوره،  ويتآخى مع قرع المسافات: هكذا الكلمات تختتم بنقطة.
[26]
 



        هكذا كتم  الرمل لذة التندر: الوعد                بالاستفاضة           تقدم على مهل: ظل البرق محاه البرق. قلائد حبيبي منثورات كأنما الغابات لا تحمل إلا لامبالاة النار. امن كلام صعب يحصل خارج هذا الكلام: تفيض الينابيع بالنذور، والذبائح مستلذات بالنعمة. يا قلب لن انشد طويلا، لكأني جئت بدعوات الاستثناء. أيتها الوردة اكتمي سلالاتك، يكفي اني أبصرت بالذي لا يبصر. 

[27]
        ومرة ثانية يطرق الطارق بالمطرقة: لا يدخل إلا من تاه بها: أغناه الدار بطول الأعياد، تكرارات المودات المنتظرات لصق الأوامر: إذا كنت ترغب بالسفر أقم في ظلك: هنا الظل مخطوطة استعادة: الجد محا الأب والأخير جاء بأبناء البيادر: كل كتاب لا يحمل نورك عتمة: يا قلب العاشق أليس هذا كله احتفال بالنسيان.


[28]
        وتدخل قوافل البركات بالغرقى: الفصول آنستنا  والحروب زودتنا بذاكرة الدخان: وتدخل الأصداء الدار بلا قفل يدور، ها هي ينابيع الياقوت وأثقال الحدائق يتنـزهان فوق  مخطوطات العمر: امرأة لم يبق منها إلا  هذا النهار. ولا احد عنده معجزة  أن يبصر في الشمس الأولى: كل يغيب إذا آفاق، وكل بمسافاته.

[29]
        ليلة عيد، هي ليلة الكلمات عند نذورها بينما    يتوارى، مشهد تكوّن الكلمات: اني أبصر بالذي لا أراه: آمالي تتكون كصائغ سحره سحره، ثم لا احد هناك.
***
        من أين آتيت ستأتي، كل راحلٍ سيتتبع خطاه: فما انكدرت إلا مصنفاتها، وما سيرت إلا أثقالها، وما عطلت إلا ساعاتها، ولا تحشر إلا من غيبتها، يتبين ليلها من نهارها. لا اقسم إلا بمن تنفس،  يوم يكون النداء كل من ناداها، ألا ترى كيف تكوّن الماء: العاصفة بمن عصفت، والمؤودة لا تسأل عما يفعلون: الدورة دارت، الباب خلعت، فلا ترجع إلا النفس التي امتحنت، لا قدمت ولا الأرحام ما أنجبت. أفلا تكتمل الدورة، تجرجر الفصول، يوم لا تبغي إلا ترابها، سكينة ما قبلها وما بعدها.

[30]
        اهو الخاتم كتم أسرار البيانات أم عتمة البرق رفعت رايات الدلالة: حبيبي قال لي الوردة مزار. قل ماذا ننشد لحدائق التذكر.  حبيبي خاطبني، فتاه التائه، غرق بمواسم الحصاد، ثم استدلت  السارية بانتشاءات الغرقى: هو ذا يأخذني بخاتمه كأسم تطرزه اللائي هجرهن الرطب: يأخذني الىّ، ويقفل الفضاء بأصداء المطارق.

[31]
         المطارق تدوّن تاريخها: بلا مبالاة .. بلا مبالاة .. تتنزه لصق عنوانات المسرة. المرأة التي فتحت باب الماء اختطفها البرق: وذبائح النذور تدوّن محوها تذكارات أوثان.

[32]
        إنما ليس لليد أكثر من مسافة الضوء ما بين الأضداد: كل عنده الباب ذريعة، وأنا عندي القفل فضاء: هو ذا بابي استدل به لنياشين الملكات اللائي متن مسمومات بداء الوعد. وهذا بساطي عيد: يا تراب ذريتنا المرأة التي أحب تخط بأنوارها تاريخ أضرحتنا: فاستدل بالذي استدل بي. أيتها القطارات هاك قرانا وساطة للغزلان. وليس ابعد من اليد استحالة للمعجزات: هنا أيها القلب ضع نورسك، تآخى مع الحشائش، ودعني أتكوّن مع الرياح.

[33]
        غوايات عشاق: هو ذا النثر يرفرف استضاءات واهنة الإشارة: لا حبيب لديّ إلا الذي استعاد مكانات النجوم عند ترتيب خفايا الأيام: ليلاً  غادرني معي اليّ وفتح القفل: هو ذا دربك. فأمسكت بضريح خالٍ ومحوت التدوين. هذا عهدي إليك ثمار قيامة، لا عاد لا ثمود ولا العهد إلا والقيامة باب. أيها الشرك علمني المسرة، أيها الميت علمني الكلام. قال من أحب قل البحر آتانا بنوارسه، قلت آخذنا البحر مع البحر بغفلة إليه فالنوارس قلائد غرقى: لا تكتم عليّ أني كتمت عليك الشمس.
[34]
        آنسني الذي غاب عني: هذا حضوره: كأن العرش لملم بقاياه، وكأن الحطابات احتطبن ثمار آخرتهن. ثم آفاق فيّ الطارق: هذا سبيلي خذه: هذه رايتي دلالة .
        آنسني الذي فتح قفل الريح، أغواني بمراتب الفصول: وزع مناضد الأفلاك، كأن الذي لا أبصره آتاني: يا كاتب كتاب الموتى دوّن محو الفضاءات: المراعي للنذور، والمدن للمباهاة.
[35]
        نتقاسم زاد الرجاء: محنة الورقة مع الورقة، والماء مع الكلام . نتقاسم زاد الترجي: الجذر الذي صار قيامة، والعيد الذي بالقفل أضاء.
        وتقول من له نفسي تراب قل الأعياد قلائد. يا قلب قل محونا ما كتبنا، وامض: هذا برق الوداع.
***
شاطرني كتمانات الغابة وأكتم عليّ الغياب.
[36]
        استضاف البرق ظلال التراب: مخطوطات النوافذ لصق اليد: الجبال العارية فوق شراشف ومياه الرقص عند انتصاف التجمد.
        واستضاف النور عتمة الثمار: الذات ممحوة بصحبة المارة، أخيرا، في المدى المؤجل، تستفيق العوائل اثر صخور النداء: الميتون خارج شواهدهم، كالسوسن بلا خطابات الاستدلال. انه احتفال الزيارة: أيها الوالد البكاء اكتم .. أما من فضائح مستباحة، أم الاكتفاء بالدفن إشارة أوراق.
        واستضافني الحبيب خالٍ من النذور، صافٍ كعيد مطرز بقلائد الرطب: انه التراب الذي أغوانا بالمفاتيح، فعقدنا العقد وتركناه للسابلة، لا منج من ليل الدار سوى الدار: ميتون تحت البرق، ميتات يخطبن الود، وفي الوادي يزدهر النرجس. يا لأطياف روحي، تعالي اليّ، لملمي جراحي، فانا حديقة، والغرقى الغرباء تركوا خيامهم باتجاه الرمال: ليس للباب قفل: ولا الرياح لها آمر: كل بعتمته بيان، وكل الخرائط إقامة. تعال خذني رقية هدهد، أودعني غابة للورقة. الأيام سلالم سلاسل وسلام إلى حين، والليل بسر الرطب يعلن بدء المواسم.
***
 



        لم أخذ منها إلا ما تركته: نياشين               ومطرزات            ساعات  وثكنات وترقيات ومدافن أوراق: كل بما غادر: أنبياء يتنـزهون بلا جوازات سفر: عراة إلا مني. أيها الكبرياء هذه هي مرارة الرماد. 

[37]
        أتانا البرق أم أتانا الوعد: كل التوبات مناديل مطوقات، والموتى، بما لا يسمى،  يستأنسون الدوران: الجسد الغامض كف عن المناداة، والعتبات ابتعدت عن استطالات الدار: حبيبي أخذني حيث لا يعرف، الكوكب تهاوى  وسائد مصالحات: هذه قبائلي انكسارات لذات غافيات: هذه رمالي بوابات امتحان. يا جند النهار اخرجوا من كتماناتكم، الفرق تآخت انشقت كأنها بدلت المسار .. وأنت يا ثمرتي أتدعيني اطوي مسافاتي بالمسافات.

[38]
        هو التراب سوانا مخطوطة، وكراسٍ للممرات: هذا منامي خالٍ إلا من خبز وتين ورميم أحلام: ألا أيها الداخل كوخ المناداة تعلم إن الصحو غفلة، والمزارات دخان: تعال اليّ إذا الأنوار رحلت، والمدافن بعثرت، الكتمانات أباحت: أنا عندك خرزة تسليات، وأنا عندك مخطوطات دفن.

[39]
        الم تر انها أفاقت على غير عهد، الحطابة حبلت بقيامتها والآخرة اضاءات الدرب، ألا أيها التائه هذا القلب ليس بدليل، ولا المناديل مصالحات عرش.
***
        هي أخذت إليها عرشها، كنحالة في مملكة النحل وقالت إنا ما شيدنا هذا إلا كبساط ثمار: أيتها الميتة إنا موتى وما كان بيننا إلا العهد: تدور بنا الأفلاك وندور بها عرافون بمن يزور هذا المهد وما كان الكتاب إلا كتاب غيبتنا هذا النور آتانا محض غيب: اطرقي بابي، المدن لديّ كف فوق كف، والمتنـزهات نقاط: ليس لدينا إنذارات شكوى وليس لدينا طبول للقرع . قلت لقلب اسكن حجرتك : يا روح لا تعذب خلجان الاستراحة .. الصحف غبار والبيادر مدافن.

[40]
 



        ليس من صلح للذرات المتآخيات لصق الساعات الغافيات: لا أزمنة بعد أزمنة المناديل: كل بتعويذته عيد، وكل عيد بغيابه قيامة. تعالي اليّ يا آلهة المعادن، المدن الثمرات أسرى عند الأسرى: تعالي اليّ الضوء حجبني عن قديسات الضوء : تعالي نتصالح كعروش مخطوطات لصق الرأس .        [ كل قبر خالٍ مني وهم]              أيها المزار أجئت بنياشين الاستضافة، أنا غادرت حجارتي، والمثوى مخطوطات شك. تعال اليّ بيقين الإشارة، صوتي أهرامات رماد، وقلبي محنة هجرة. 

[41]
        وتأتي الموجة بالبحر، والغريق بالكتاب: دوران  الكواكب بالخاتم والأسرار اباحات طرقات مدونات، يا نفس لا أحد يزكيها إلا من تاه بها: الصخرة النائحة لصق البيانات، والأوامر المستباحة: القلب الذهبي الذي ضاع، والأيام المنتظرات بمحاذاة المكافآت: هذا أنا مزار لمفتاح لم يفتح إلا هذا القفل: هذا أنا نشيدك بلا أسباب.

[42]
        تتغنى بأسرار عدتها: الصخرة المنثلمة والسيف النائم فوق الغبار: تتغنى بعيد حنائها: الموجة ذات السيادة، والأولاد الرعاة لصق الانارات: هي الحرب أخيرا بين الأنوار: تفكك الخاتم، الفجر غادر الاستحالات. تتغنى بأساورها وحيدة مع الليل: هديل الكواكب في غابات الأسرى: امرأة الإنجاب والثانية الأقل صبراً بانتظار الانحناءات: المدن آخذة بالزحف على حساب الكلمات، الرمال الأقل لمعاناً في قبور الأمراء: يا نفس كلت اليد عن الرؤيا، لا أحلام ينقشها النقاش، ولا بيارق للفلك، وتتغنى بأسرار عدتها: وردة فوق وردة من اجل الغياب.

[43]
        من طوق من .. يا طوق الحمامة: لا احد أنبأ الأنباء بعروس الياقوت .. ولا بحر بمحاذاة السواحل: الرمال كونتنا أخذتنا، هذه أساور الفجر، وهذه مدافن الكلام: تعالي نتقاسم اليقين: وتعالي باستئذانات الاستحالة. هذه الشمس قاسمتني عتمتي، وهذا الليل بمناديله اخترع الإقامة. تعالي كالماء يدور دورته، ومعي غادرني إليك مباهاة استضافة.

[44]
        كونتنا وغابت: رجاءات التذكر. أيها الرمل أين كوكبي، أين سارية الريح، هذا الدخان وسائد حرب، وهذه المطرزات مصالحات أزقة: فبأي الآمال تكتم آمالك: هي عروس ياقوت في أسرة غربتنا، لا تقلب الثمرة إذا نضجت، فالموت تاج الفقراء.

[45]
        أهدتك ثمارها وغيبتك: الأعوام النائمات  لصق المناشير: النسوة اللائي طرزن الحكمة واخترعن وشايات الضوء، تلك التي بذلتها عبّدت مسارات الماء، والأخرى الأقل حنكة، إذ غيبت الكوكب واخترعته. وثالثة مهدت لمصالحات القلائد. أيها الولد الذهبي تاه العيد بين الأعياد، فكل بها من صاغها. وهذه هي المطارق تطرق أبواب من هجرها. تاه الذي اخترعها: هذا هو الشرق تحت الفضاء، السيف فوق السيف ذريعة، والحبيب للحبيب نسيان.

[46]
        تعالي نتقاسم ما لا نملك من زاد، أو نتطهر بدخانات الماء: تعالي استذكار منافٍ أو بوابات نار: الفتى الذهبي امسك بالمزار. أيها الغائب هذه ثمار أعوامنا محنيات الإنارة: وهذه هي الصباحات مزارات مؤجلات: ألا أيتها المرضعة أنبئينا بجبل الأثقال، يوم تفترق الأجساد عن الأجساد، وتضع كل نفس أطواقها. تعالي برداء الوهم طرزي جدران السواقي: عن هذا الرمل أزيحي محو الأسماء، وعن هذا الشرق أزيلي وهن الأيام: هذه خلاصات الدخان: الساعات المؤودات المنثلمات، وهذه هي ممرات الرمال  كواكب منشغلات، وأعياد بلا أقفال منغلقات.

[47]
        تبارك الليل بسره، وتباركنا بعلانية الغبار: أيتها الأشجار هذه مفاتيحي: نوافذ مشرعات للكلمات: لا تدخل في مأوى لا تخرج منه الأيام: هي بعض اقامات، نرتبها موائد حجارة، مثلما الكلام يزيح الكلام: وما هي إلا أمواج مسمومات كالنسوة المرات شرعن شرائعهن رايات: حضرن وغبن وما أبصرنا طريق: أيتها المطوقة طوقينا بالرفيف، العمر لا يحتمل مطوقات: صحبي أخذتهم القارات، وذاكرتي غدت         انتقالات: هي الثمار المكتنـزات أغوتنا بصمتها، وأنا         أضعت مكاني بين المنحدرات: لا تأخذ الأيام                   إلا يقينها: والرطب أشهى من الوعد ..فبأي الاستضاءات      تضاء الخواتم المنطفئات فوق المزارات. العهد                     ختم عهده بالفضاءات.
[48]
        كونيني بادية أسفار: تذكارات ياقوتات  لصق      أسحار العرافات المدفونات فوق الكف :                          هذه يدي  مخطوطات
       
              تحت الأمطار :
 


  

 
              وتمحو الأمطار ثمار لوعتها : مناف لصق            مناف :

المعادن ، هي أيضاً، أناشيد خرزات : فضاءات مطرزات بالرجاء : ثم أقول تسلى يا قلب هذه مناديل التفحات اليانعات: هذا هو جفاف النذور .

[49]
يتشكل الوعد رمادات وعقابات وكمادات وعود: من جنات الرمان إلى انهار الياقوت: ضجر الضجر من الرأس، من اللائي شيدن أبناء الأشجار. وكل بمحوه ذاكرة، وكل الأسماء أساور هو الطارق آخذنا بالسلالات، شيد لنا مزارات النفي، وأباح لنا شرائع التدوين: ألا يا نور قلبي لا تنعطف، المقامات سؤال، والدفن إضاءة: ولدان مخلدون بمخطوطات الترجي، ونسوة قائمات على الطرق: كل بمنفاه هاتف، من منجد هذا المنجد، البراري، كلمات والأنعام قوافل، فبأي المسارات اختارك المسار: أيها المحب هذه هي السواحل نعم أنعام ومدونات عروش. ألا أيها الغصن لا تدعني انفرد، حبيبي أخذني إلىّ وشيّد  أوراق البلابل، غرّد كأني أعياده، وكأن غياب الراحل إقامة. ألا أيها المغادر بماذا تسعى والرمال آخذتك بها. الليل تاج عروس. والكائنات البكاءات العصابات الخرزات الكمادات هن السلوى يوم لا سلوى غيرهن عند الميلاد وعند الجنائن: لا احد يكتب مخطوطاته إلا بما تقدم: العمر دوائر، والنفس شراع.

[50]
        لك المطرزات مدن مباهاة ، ولك العذوبات آلهة يد عند الليل ومفاتيح لطيور سماويات: البرق أباح ثمار أسوار عظامنا وانتشى بالغبار، وأسرى القلب مع الأيام مسارات: والمفاتيح أوثان مدن: هذه هي الفضة سجادات منبسطات لصائغها، خيوط تلملم نجوم ناثرها ومكورها، وكنوز من له اليد مع اليد: هذه عروس الخيط أفاضت بنعيم هجرتها: فبأي رداء ندخلها وبأي كفن نغادر آبنوس هيكلها: من أعالي الغيمة حتى سجادات الظل، شيّدنا بناءات الرطب، وأقمنا للغائب الانتظار، أقمنا الجدران نوافذ رسائل، وسكبنا زاد الفضة شراشف من ذهب. ألا أيتها الحائكة غواياتنا تمهلي بشد الخيط، العابرون أمواج، والبحر غريق فوق القلائد.

[51]
        يلملم الزمرد عاشقيه وزائريه: ها هي  أفلاكه الخفية بساطات منثورات معطرات مطهرات وبالنعيم مبجلات: وها هي اليد ممحوة فوق السجاد وبالقرابين تكتمل النداءات. هذه هي دخانات الخاتم وخرزات الاستضافة، تكرارات الموجة المنكسرة عند الأشواق: وباب الغفران قبيل النجاة: إنا بها ما شططنا وإنما أغوانا فيها طارقها وكاتمها: أيها الثمر أما من منج، ويا قلب العاصفة أما من سلام ؟ - : آمالي تدوّرت تكوّرت انبسطت وأقامت لنا هذه الأوثان: كل بساريته عهد، وكل بأيامه قيامة. ألا أيها الشجر حرك بنا خفايا التكوين: تلك هي الأرحام ممرات سابلة، واليد كتاب تحت النار.

[52]
        بخفايا المودات صنعنا بساط ممراتنا: أيها الدار در بقفلك وناولنا سجاياك، شغلنا الطارق ولم يشغلنا الباب: ها هو الزائر يخترع الكلام: الولد الذهبي انثلمت مطارقه فما غادر عرش الثبات. لكل ضلاله، لكل النائحات سبيل: أيها العشاق أنا هبات فضائل وأنا أطواق حمامات. يا روحي أتعبني الترجي الاستذكار فخذي رسائلي سجايا أدغال. لا وردة  إلا والقلب صانعها صائغها وفانيها. ولا بحر إلا أنت موجته وغريقه، ولا قلب خالٍ منها: تعالي بمزار ضعيه إلى جانب المزار: الخوذة فيالق تذكر .. المناديل مخطوطات ممحوات بتواريخ نساء: أيها المعدن العذب هات لنا من يروي الحكايات.
[53]
        بجمراتكن بسطت بساطي وبالقلائد حكت أسواركن وخرجت نسياً منسيا. بمياهكن وعاداتكن ونسلكن سويت بعض أيام الإقامة. فغادرتكن بثياب نذوركن إلى براري بعض أيام الإقامة . فغادرتكن بثياب نذوركن  إلى براري حطاباتكن وطاهراتكن وأقمت أعيادي  خالٍ من حبالكن وطلقكن وأمراض الفجر: أيها الوجع هل ادعوك امرأة: العرش دار علينا بفصوله فلهونا بكن. وما سجدنا لوثن عدا وثنكن مزار الثمار فوق سواحلكن ودياركن وخرائبكن ثم أقمنا الأعياد فاتحة ختامكن وغفرانكن. وشيدنا بالخرز معابدكن وكهوفكن أناشيد وداعكن ولقائكن حتى تدور دورتكن ونتقاسم ثماركن وبركاتكن ومدافنكن. هو ذا الجرح لا يصاغ إلا بأناملكن وأحزانكن ومسراتكن من أعلى سواد الصوت حتى انتصاف عذوبتكن. الكل مباهاة إلى حين مثل رطبكن وبلوطكن واناملكن موجات تلملم خيوط حكاياتكن وأسفاركن وأسراركن كأنا بركة ماء مختومة بدمائكن ولعناتكن  ونوارسكن .. لتعرى المعرة عن جبل ولتبدأ أزمنة الأدغال بفاتحة منكن لا يدور بها المفتاح ولا داع فيها إلا معكن لكن وحتى سلام آخر مواسمكن.
[54]
        هو المزار أخذنا والمتاهة باحت لنا بخفايا الدار: كل مجرور بفعلته، وكل فعل هو خاتمة اللا أفعال؛ الدنيا مؤجلة  بفصولها، والكلام فطنة أرحام.

[55]
        بأي المتاهات أقمنا يا أفعال لا تكتم إلا فاعلها: هن أخيرا سيقمن لنا الخيام ويضربن لنا العملة [ وكل المصابيح نياشين عبور ] : وهن سيفرشن السجدات عتبات عبور: أيتها الحشائش ازرعي الدخان لنا دورة، وابسطي لنا الأرض مأوى: هي القارات أخذتنا، والأرحام لملمتنا: هي الأجساد بذراتها أعياد، والعابر بالأناشيد متاهة.

[56]
        آنسني قدري  كرماد مواقد، والجسد محنة، فبأي المصابيح تُنار الأنطفاءات: يا من غادرني خذ المخطوطات مفاتيح كتمانات عشرتنا: ويا من معي الأطواق حمامات شتويات مدثرات بالمعاطف: وما هي إلا تركات أوراق، خزانات الجمر المستأنسات بداء العظمة: ملكات الأسواق، المدثرات بفضاء الفاقة: أيها الجبل هذا قدري فلنذهب إلى صحراء نعمتنا، كل بياقوته ميزان، وكل بساريته آخرة.

[57]
        أخذني البرق سارية: هذا هو الشعر لا وظائف له إلا الإضاءات المنكسرات فوق الرذاذ: أيتها الخفايا أدلينا عليك إنا أدلة: لا مكان أضاع المكان، والفراغ مشغول بنفسه. أيتها المرأة المصاغة من الثمار لي عندك نبأ: ألا اخبري نفسي بالهلاك: ولك منا زيتونات الخواتم، عقيق الآثام الماجدات بلصق المتاحف مثلما  القلائد ساجدات لأرباب النعمة.

[58]
        ونقاسمك زاد ما لديك من بركات التراب: النار لهم عصيان والجنات لنا معابر: والكلام ضاق بما فيه، فتعالي خذينا منا إليك، ومنك إلينا تباريح نجاة: وأين تذهب الروح المعصومة، وأين يكون للكلام جلال الكلام: هذه القرون خوالٍ إلا من شوائبها، المدن المدفونة تحت المحن، والأخرى المضافة لها بالنسيان.
        وأقاسمك المحذورات تبدلات إقامة: العمر المزور بالحبيبات، والأيام الكاملات العدة، وبالسنوات الفائضات عن الحاجة. أيتها المزارات من منا سيدون الفضة المنسكبة في حقائب اللصوص: تعالي اليّ مثل نشوة غياب، الإقامة جسر، والراحل  كامل الجلال .



[59]
        الغيمة حمامة أشجار، والمخطوطات تذكارات نياشين. ألا أيها الطارق أنا مطرقتك: يد الليل مع العروس. ألا أيها الباب لا تدر باستقامة الفضاء، دع للنوافذ حريات الهواء: هذا قلبي مخطوطات لمخطوطة وهذه أصابعي تجّمع غرقاي: اليد بما بذرت، الفلك بما دارت: هذه حمامتي حمامة ضاعت بين الحمامات، أعطني صمتي أعطيك كل الأصوات. الجدول بخجله، والنار بهاتف من يهتف فيها: القلب ودائع، والمحنة بقايا زاد.

[60]
        لك السماءات استضافة، ولي التراب مؤجلات: تلك مواعيد الأيام، وتلك مواقيت الساعة: فمن ذا يمدني بزمن الثمار: أيتها الرياح تعالي بالسحب اليّ تعالي بالأسماء: الممحوات يرقدن ضاجات بالمواعيد، ويطرقن ضمن المطارق: هو التضاد يقع خلف الودائع، مثلي، في انثلامات الرأس: تعالي اليّ سحابة بمفاتيح لا افتح بها أو أغلق باب الدخان، تعالي بالنذر الدنيا ودائع والأيام مخطوطات رماد: هذه حماماتي يطوقن الليل بليل ويفتحن لنا السر: لك المدى جهنمات معمولات بالعاج، ولك المدى جهنمات مزورات معمولات بالتراب.

[61]
        امسك الليل مفاتيحه فدخلنا: لا تفتح بابك أيها القلب ألا لهذا الطارق وما هذا إلا صنو المسافات: غرباء لصق الظلال، مثلي، بلا ألقاب ولا حسنات ولا عكازات: ادخلوا مخطوطتي قبل أن تأخذنا المدافن  إلى الفراغات: لدينا عروسات الجن وأسحار المناحات: الدوى لا يسمع إلا بالاستبصار: أيتها الأرملة ادخلي  كل هذا التكور فضاء، ولا يبدل الفراغ إلا بالفراغ.
[62]
        هنّ النسوة جلسن يرتبن غبار المخطوطات: هن العرافات المسمومات بغيوم مطارقنا: تلك هي البيادر أعدت لها، فيا حطابات هذا مرقد التذكر: وهنا خاتمة النسيانات: قبل اليوم ختم علىّ الخاتم فصوله .. قال تريث، وقال الفصل ادخل لا تمح الأسماء أولها، فكل زوال تذكار .

[63]
        وأفاقت الجراحات ندية، مثلما الأحلام تتنـزه مهجورة ترتب أوراق الغيوم: حكايات النسوة اللائي تركن وحيدات: أيها القلب ادعوك لوليمة الليل: لدى البارود زاد والخنادق كتابات مؤجلة: وترتفع الدخانات منائر؛ هي اليد انسحبت إلى مثواها تائهة بلا تذكارات. والنذور بيارق. أيها الوطن الذي اسمه الأسماء، وحدنا الرماد لا أنت بعيد لكي أزورك ولا أنت لديّ قبلةً. هذه حدائقي فضاءات أشواق، وهذه خرائبي سجادات ملونات مطرزات بنداءات البرق: هي الحرب جمعت المزارات؛ لملمت أغصان التذكر، ووزعتنا تذكارات قبائل.

[64]
        ولي عند الغائب قلائد نسيانات، أساور ونياشين أفراح، ولي  عنده تفاحات بلون الفجر، ولي عنده مصابيح إقامة: ألا أيتها الحرب بأي النداءات أدوّن: صخبك اللمّاع: تاج حبيبي فضة، والفجر خطبني لحبيبي، وحبيبي عني غاب: ما أشهى قبلة تدّون في الدفاتر .. وما أعذب الأيام التي تمحى بالأيام: أنا ممرات الموت جرجرتني إليها أعياد بنات ونسوة مثقلات بالنذور: وكلي محنة ياقوت، وخيالات مجروحات بالخيال. ألا أيتها الروح لم يبق  لدينا باب أو مفتاح. خذينا إليك ثمرة واقفلي بقفلك علينا الاستعادات: ما عادت النفس مشغولة بتوقها، ولا المسافات بالمسافات، كل بغايته غاية، والممرات متاهة بين الممرات.

[65]
        لتذكارات المنسيات احتفالات ورود: ممرات معلومات للبيارق البهية، تلك هي يد السوسن في الوادي، وهي المدينة أقفلت ليلها: لا خاتم ينازعك الخاتم. ولا أفعال تجرجر أسماءها.  وبأحلام النائم تفتح البذور دورتها: فصل يعقبه حرسه المزخرف، ومخطوطات ليست بحاجة إلى تعويذات.

[66]
        أي نور  أضاء، إذاً، هيكل الليل المتدفق: المخطوطات تأخذ مفاتيحها وتغادر: هكذا النفس تدور دورتها: أيتها الفصول لنجتمع مودات احتياط : هذه المدن، كالنسوة لا يمتلكن إلا الغربال.

[67]
        وتتفتح الصخرة  عن هاوية أعياد، عن يد تدلنا على اليد. ليس للقطارات محطات ترجي، غادرت المواكب بأعراس الموتى: والأسماء بدلت بالأسماء، جردت، فامسك بها من لم يرها، محي خطاه وبالرمال أقام الأعياد.

[68]
        هي ابتهالات مدثرة بالأمطار، إذا، وبفصل آخر للخدمات: الكتابة لغايات مندثرة: أيها الظل اسحب عضويتك منا، أو دعنا نخط فوق الأوراق نشوتنا الطاعنة بالسن: الأرامل اللائي أنجبن هذا الدوى الأليف .. برفيف خواتم  محكومة الأثر، ببينات يقطفن البراءة تعويذات لماعات: هذه موسيقى لشيء ما، معلن كفجر، ومجروح التضرعات: ليس الغصن هو الذي اشتبكت عنده اندثارات، إنما الأدغال توحدت بالجذور.
[69]
        ليس بلا قلائد شيدت مزارها باتجاه الغيوم، إنما كحقول  سيمحوها الدخان، لملمت غرقاها بركات أبنوسية: انها استئنافات بالسوسن وغرف محاكاة بالانثلامات: أيها الليل لن تعثر على مصباح خالٍ منك: هنا، ما بين الأوراق، تكمن عظام أمراء، ومرة بعد أخرى، تغرق اليد تواريخ الصفحات: هكذا في المشهد الثانوي خلف الشاشات، تجمع رتب الموتى، نجمة اثر نجمة، كعقيد مسترخ لتاج الموت: نجمع بلذة الخبز الأسود، وفرة الهبات، وإنما ليس من مقبرة أكثر سعة من هذه الابتهالات، وليس من فرح محاك أكثر من هذه الدقة.

[70]
        ما الذي أخذته  الريح سوى المطارق: اليد الأولى المتوحدة معها: لا المطرقة ولا الريح إنما الأمطار في بدء حصاد الموتى: الفتى اليانع وكسل القلب والأسلحة المصدأة: إنما أيضا ليس للغفران مسالك، هنا، عدا نقل ما تبقى من البيانات: وعود اليد للأكثر بهجة، وتندر: السيول التي جرفت المدَّون والأخبار المنهوبة: سبايا بالعباءات مبرقعات، والكلام المجمع على شكل زقورات، ومعابر، فإذا سئل من داخلها  ماذا عن المعاول، قال اشتدت واشتد ساعدها، فتكور ما في الأرحام، وانثنت هامات صائغها، فتساقط الرطب  وماس الأرض. والحطابات بالتحطيب انشغلن، والكلمات بالكلمات خمدن: لا أخ لأخٍ فيها، وما في القبور صار قلائد منهوبات، ولا عروس لبعلها، والمراعي خلت من راعيها: إلا أيتها الساعات المباركات، وضعنا النذور على النذور أمام طهر أرضك، فما أخصب الماء، ولا النار قالت كفانا اشتعال: ويوم لا زانٍ فيه ولا قبائل للادعاءات، ويوم لا السماء تمحو ما تحتها ولا الأرض تزهو بما فقدت، تخرج من الوردة غيابات الأضاحي، ويقول من صاغها يا ليتنا كنا التراب.

[71]
        وحصدنا تذكارات البيادر، لملمنا أضواء نوافذنا، واعددنا للفصول  نذور الرغبات: أكان هذا للإقامة وعد .. أكان هذا للرجاء سلام ؟ - : هي البيارق جمعتنا فتية ونثرتنا إعلانات .. وهي القطارات مرت بالقرى، وسارت في خطاها المسافات. كل قال لا تحجب اسمك عني، الأسماء تذكر بالأسماء، ولا ظاهر للصوت .. لقد كانت أسوارنا  نوافذ، وكانت لنا أعياد فأين هي الأعياد .. كل بأبوابه يجمع مفاتيح غيبتها. وكانت لنا الأقمار مناديل مواساة: غير مجد أن تذهب أو تأتي، وليس كل وقوف حيرة، نادى المنادي إلا أيتها الرمال المتعبات الواهنات أما للنفس من رداء: كل بما لا يرى يقول، وكل من رأى كتم سره.

[72]
لا تبدل الرغبة بالرغبات، ولا تحجب الكلمة بالكلمات: هو النداء نادى مناديه: إنما الأمواج عبرت ساريتها، والفلك حطت عند سواحلها: اهو الظل كتم نفسه وكشف بما فيه .. أم هو النور حجب عنا أنواره: النفس بما لم تبصر أيتها الساعات الشائخات لغروب البوادي، الروح تاقت لمزارها: العين لا ترى والجوارح خائبات بالصحو وقد أسكرهن الفضاء.



[73]
تتبع السلالم أم تتبعنا هناك حشائش في الرمال: سيكون الارتفاع موازٍ لعدد القلائد، للصخب في كتمان الثمار: وهذه النذور لمن لم آزره، وهذا المزار باب لمثواي: الفضاء  خلاق الدغل والبلابل، التراب الأقل تمكنا من الغفلة، الماء بما أعاد من تشظيات، والنار وقد استحالت منحدرات للبيادر.

[74]
        ليس من دعائم للغربالات السود، ليس سوى هذا المدى؛ الباب المنقط بإشارات التوقف: الضوء المتكاتف بصحبة بقايا الاستدارات: ليس سوى مزارات مضبابات بفصول قمرية: أيتها الشمس هل أنت الحجاب ؟ - : سأجلس اقرع صخرة أزهاري حتى تعاد المسافات إلى المسافات، والجميع إلى المتاهة.



[75]
        ما الذي دفع بالقافلة للتستر بطابوقات الأرامل ؟ ما الذي جمّع الأمطار فوق كف  النار؟  ما الذي وزّع القبائل إلى أقصاها في التندر .. إنما هذا كله لا يماثل المطرقة أمام الأثر؛ ولا سكين الروح المنشغلة بفخامة الهياكل. لم يندرس الراحل ولا كفت عطاءات النذور: جرى الأمر كأن التواقيع ابتهالات أعياد، وكأن البحر لا يقهقه إلا عالياً تحت يد مطارق القبور الفخمة  كل هذا الحصاد وثمة بذرة لا تجهل انها تبشر بهلاهل الأعياد.

[76]
        وضعت مدوناتها بقايا اصداء: اكتمالات فضاءات الدار. أقامت مزارها نخلات يظللن تموجات الصوت: ووهبت خزائنها المعصومات للأمطار: ليس أكثر حكمة من ذلك: البرية النائمة خلفها تحرسها بلا أتعاب والمدن ضاجة بإعلان إلغاء الأصوات: قط لم تنشغل إلا بنجومها الذابلة: بورود لم تزل تأتي أخبارها من الخنادق .. قط لم تر أن العواصف  عصفت، ولا الزلازل زلزلت .. بسطت يدها للتراب وبأعلى الكتمانات باحت بما لا تريد .. شيّدت لضحكاتها مزارات ولنجومها أرغفة ضوء .. ودوّنت فوق الماء ما تريد وما لا تريد.
[77]
        وغاب الغائب غيبة الحضور. لا أنت للباب ولا المفتاح لدينا عبور: امتدت المسافات بالمسافات أنوار منطفئات وبرق حضور: أيتها المرضعات اللائي حبلن  بأعراس  الرمل ضعن قلائدكن عند العتبة، عترة النسل ينابيع صخور. ويا أيتها الساعات الشائخات ما من قارع للمسافات.. وما من أمطار للكروم: خلت المدافن من حاميها. والمخطوطات من النور. احضر حاضرها للحضور.

[78]
        ومن منا تجمع أكثر: مناديل الحشمة أم عباءات الدخان: من منا سّرح وعوده للسلام .. ومن منا مع رماد الفجر تدثر: أيتها الساعات الزانيات لا منجٍ من بحر لملم غرقاه:  لا منج لنار خرجت من غابتها: هذه جهنم تربعت تخرّز خرزها للبنات المنسيات .. فبأي صوت تنادي .. ومع من دفنت مع الغبار .. أيها الوعد لست إلا قفل الذرات المجنونات الفتيات الصاخبات تلملنا للمحو وتجمعنا انفراطات.

[79]
        وتنهض الحجارة تقف في طابور النسيان: من آذاك أيها الفجر: الوردة أمسكت بأعياد الوادي .. والتراب احتطب أسراه. هذا هو الدوى كأنه كوّن الأرض كأنه انهيار الثمرة .. وكأن من في الأرحام دوّن الغفران لنا أناشيد. أيها الثمر  المشتهى لا تجرح هذا النسيم، هذا عيد الماء، الموتى هبطوا باصطحاب حرسهم، والنسوة  الغافيات يزّغردن بكتمانات بيارق الليل: أيها القاتل أنت الوحيد الذي خسرك الجمال، وأنا الوحيد الذي لم يلق القبض عليّ. الجمال، أيها الموت، كيف هو شكل التفتح.

[80]
        كقفل تجّمع الليل في الأحداق، فحملنا وثننا عبر الانثلامات: أيها النور توارى، تكفينا سنواتك العجاف: ستأتي الأمطار بالبيادر .. وأسلحة الدخان بالدخان. وتكفينا ذئاب بريتنا، لا نريد سوى هذه النار. من صفر إلى صفر، هو الهواء غربالات مدفونات .. وهو النور وساطة بين الترجيات: إلا أيها القلب توارى  بسر الغنائم، وليأخذ منك التراب ما تبقى من التراب، ليست هي بالحرب وليست هي بالياقوت: هذه اشد المطارق طرقاً فوق الطارق .. وهذه أمطار تطهر الأمطار: الم تر كيف تكوّرت الساعات وعاد السؤال إلى السؤال. هذه الزمردات فضحتنا بالكرامات. وهذه اليد ما زالت تمسك بأسرار البيانات.

[81]
        واستحال البحر، مثلما الدوى الصاعق إلى نقاط : طرز المناديل باحتفالات ثانية: كأن منازلات النار أعدت للأغصان عدا، فبأي الحبال اعتصمت يا من اعتصمت: الداران في مجرى الافتراق ولكن البصر كليل، ومن رأى امسك بالفضاء. هذه الساحات بعض حكايات غافلات، وهذه الأجساد ساعات راقدات يتصفحن مدوّنات الغبار: وهذا عشقنا ولعبنا ومسارنا بناءات زقورات، غادرنا الفيروز تاركاً ياقوتة: فلكل القلائد دعوات. ونداولها، هوامش البيان جراحات فضيات لصق الثمار: إنما الزلزال خرج من مأواه: مسافات تحاك وارى تطويها  المسافات .. فأي خاتم ينجدك وأي حبيب يهديك الأمطار .. إنما الحبيبات دفاتر محصنات لا يمسهن إلا الأطهار.
[82]
        قديس هو المأوى الذي أوانا، كعرش ثمار: وليس في الذرة إلا كواكب ويد تتلمس يد: لا تغضب علىّ فكل مغادرة تقرب. وبالرحيل تورق هوامش الكرامات. أيتها الساعات النائمات قرين أجزاء الفتى: هذا الوثن المدفون مع الغرقى، الأعشاب رتبّن المدفن  فالعاشق كل الحدائق:  ولا عتمة في الخاتم ولا ريب أن الراقد آفاق .. وما كان الرقاد سوى رحلة: يا امرأة البرية والماء قربي الكلمات للنار، فالمنازل ذكرى، والعاصفة فجوات.

[83]
        العاصفة فجوات، كماءٍ كوّن لنا الحكاية، ثم محانا بالحكايات: نتلذذ بها، نترك تناسلنا خيمة، نرقد لصقها متاهات. ثم تأتي المطرقة فتطرق: هدا المتوحد بوحدته لصق النسيانات. الم تر أنا قلنا مضى وتدثر .. تزين وتبارك بالماء. الم تر إنا ما قسمناها إلا درجات: هذا السوسن  فضيحة، ولهو الخواتم أوثان: يا من مضى بسرها إليها لن تعود لنا إلا بما سنأتيك بها مطرزة بالأسرار. وما الظل صاغه صائغ، وما الجسور تشيدها مسافات: كل ما عليها ثمرة، صارت ثمار، وكل ما عليها أطلال، صارت دار.

[84]
        أنت طلبت مودتها، يا من بحت بسر الدار: فيا بيارق عودي إلى مستقرك، الخيبات آمال إنما من بسطها سيزلزلها، ويأخذ من اليد ما تغنت به  الأفكار: وكل برضاه راضٍ، هذه عروش مودتنا وهذه مدافننا تتبادل الأكفان: التيجان رمال والقلب غبار:  ويا أيتها الملكات المدثرات ما بينهما لا ندعوه مسافة .. إن الفواصل حلقات في الدوران. هو النبض باقٍ بعد أن جمعنا الحصاد وبعد أن نثرنا البذار.

[85]
        ليس بينهما احتكام، الذي دار دورته، أو قطرة الندى فوق الماء: كلاهما نداء، وليس أكثر من هذا طرافة، إنهما معا لا ونعم تتبعهما الظلال: صلاة ما قبل الدوى، وصلاة قبيل الانهيار: إنا نرقد في الضدين، وبنهرين نجري. تاجه النهار والليل وما بينهما، وليس لقلبه مكان.

[86]
        يا وثني طاوعني على المغادرة، أما من سبيل: بي شوق للراقد فيّ، لا يصغي اليّ، إنما قلائده سورتنا بالأسوار: يا أشجار روحي أأصابك الكبر، أم أني سبقت عهدي بزوال الزوال: خرجت روحي تتنزه فضاعت، ثم أضاعني الدليل: ثم تلد الثمرة بنـزف الريح هذا الشكّل بالرهائن، وهذا الحرف المنكسر برفقه الرايات: وليس لدينا دليل القفل: وردة تكتم ملذات  الصواعق، وساعات منحنيات يرقبن مرور القوافل. تحرك قليلاً لكي لا تطاردك الغابة، ولا تتجمد لكي تغادرك الريح.

[87]
        وتبدلت الدار، وتبدل حاميها: كل أخذته مودته إليه  وعند البئر خلعنا ظلال خواتمنا. لا تقرع طبلك يا طبال دع الماء يأخذ مجراه أو دع المجرى يسرنا بزواله: عروسي أخذها من فيّ وغادر: أيتها العتبات هل مرت بك الأنعام، ويا مأوى ألغدك تقام هذه الولائم .. رحل من امسك بها، واحتشدت الساعات لصق الساعات جنازات فارغات: مخطوطات ندوّن فيها تاريخ الغد وأيام الهجرة: صفحات سود ورايات بيض ملحقات بطوابير القسمة: أيتها المزارات لا تطرقي بابي، يدي تكورت بأدغالها، وروحي مع الدخان عقدت عزمها. لا دقة مضافة ولا دقة هالكة، هي المطارق بعض أناشيد صائغها: أيها الذاهب إلىّ جرجر مسافتك وبالغضب رفقاً فانا معك حتى قيام الأعياد.
[88]
         امسك الليل رنين مارته، وزعنا هدايا مطعمات بالقير زودنا بتوقعاته: هي الرمال تنحاز لها اضطراراً، ليس للأسباب أسباب، عدا تصفيات النذور. وكتب كاتم خزائنها إنا اجتزنا ستار الستر، لا فضائح عد الماء أثار الفتنة. لا الدار تعد الريح ولا ما في الغيب امسك سره. يا تراب أقدام النور أين تركت خطاك ؟ - : أصحاب التوقيعات بك سائلون، وبك راغبون، وبك حفنة قتلة. فتعال أعط بصري استقرار الوسائل، وأوقد في الأطراف حكمة السواحل.
[89]
        الذي أخذته معك تركته، فالدار لدينا سؤال: سنقيم خيمتنا ونحفظ بها الثمار: ونغادر مثلك، هذه عروسي أصابها الكبر .. وفتاها تاه. الأعراس مصادفات والدفن احتفال.
ولم تترك لنا إلا ما أخذته، سراب الملذات وحكمة الأخبار.
        ولم تترك لنا ما سنترك، لك فضاء  البراري  ولنا انغلاق الأبواب: المدن العجوزات المتصابيات يرقدن تحت انهيار الأسئلة. جاءتنا النار بثمار مبتورات الأطراف، وانتزع الفجر منا كتاب المواقد. هي السلالم مدافن لا يرتقيها إلا من تاه، ومن امسك بها كان أولها، فلا تبدل الأسماء نوايا الأسماء. النور ختم الكتاب بدورته وما الكلام سوى غطاء كلام.

[90]
        أبايع نفسي بثمن رضاها : هذا مدفني حدائق بيضاء ، وهذا أنا تركت للريح بوابات التندر . روحي اشتاقت لرحلتها: لا أراه هذا الذي يريد .. ولا يراني هذا الذي طلبته نفسي . تبارك من سواها ، فالقلوب مرايا امتحانات ، والدار موزعة على فواصل.
[91]
        لأي إقامة بايعناك، ولأي رحيل قدمت لنا الأضاحي: اشتبكت أيامنا وتداخلت السنين بالسنين: لك ما وهبتنا ولنا الفضاء. لا نأخذ إلا ما فاض منها: هذه موائد الأعراس وهذه حدائق الأحبة: التاج أزاح التاج، والآتي لا يكتم سره.

[92]
        وتقول  البذرة ما خطب  الأشجار .. ويقول الطائر ما سر صدى الغيمة .. وتقول ظلال الكف من ذا دوّن من ذا غاب: أنت تركت وصاياك مخطوطات لماعات مزركشات مع الغبار، مثلما لم ادع أصابعي تأخذني لك لسلالمها: وما هي إلا هاوية نقلب فيها أشكال الرجاء: النسوة المسرورات ليس لديهن مسرة، والمدوّن فوق الرمل تخلت عنه الأصداء: هذه هي أيام معدودات مزركشات يدخلن ويخرجن كساعات هرمات ثم نوقد عتمتنا حتى الفجر: تعال أقم في وردتنا: فمن أعلنها تاه. وما المسرات إلا موجات تجري بما حملت. فما أنت بمغادر، الدار أخذتنا إليها، وبها للمزارات أقمنا، وما أنت إلا مهاجر، وتلك هي الأيام المؤجلات المختومات بالمصائر.
[93]
        يتبادلان النطق مثلما شغلهما الفراغ: لليابسة أيام وللماء أيام، وما خلع الشكل ظله. هي استرجاعات ونسيانات دوّنت في دفاتر عكاظ. لا كاسب فيها ولا ندم على خسران: الذي جاء بالثمار اخذ الشجرة. ثم تعود حكايات اللحد إلى المهد، ومن المزارات إلى المتاهة، لا ينج منها إلا من فتح لها، نذر لها المعابد والأطلال. هو القلب أضاء سبيل النداء، استقامت المستقيمات، وغاب من أحياها: هذا عيد الكف عند الأعياد، وهذا تراب من قدس سره: من المتاهات إلى المزار، ومن الأشجار إلى السواحل: رحالون صالحون وأفاقون طيبون تبادلوا ادوار المسافات: سلاما لها حتى اكتمال الثمار، وسلاماً عليها باختتام الأدوار.

[94]
        دعانا لوليمة كواكبه: أأنتم مخلدون كما القوس والراية: الم تر ماذا فعل الغبار: لكم دورتكم ولي صراط المتاهات: ودعانا لأنفسنا قلادات منفرطات: ثم طهرنا .. فك الباب، بلا أفعال زكانا: الم تر  ماذا فعلت الجمرة، لكم مدنكم ولنا الأوثان: أتذهب أفعال اليد كما أخذت الصحف أطياف القلب: خذونا إذا ياقوت  ذبح، فان لم ننج من رامينا أتيناكم كالفجر يجرجر أذيال الفجر: وكل بخطابه بيان: الخاسر من تاه، والكاسب تشهى حرائق الماء.

[95]
        بينهما، جرجرنا صمت  الدوى المبشر بالمسرات وجرجرنا الذي مهد لنا غابات النار: فلم القلب عصى أمر طاعته، وغدا، مثل مثال لا يخترع إلا الأشكال: ها أني اصطحب أغنيات العتمة والنور، وابعد ابعد بين صمتين، أكّون مشاهد التكوين.

[96]
        وستعود العربات الملكيات إلى الحدائق، نسوة الأمس اللائي لعبن بمحاذاة النوافذ، يعدن برداء التندرات. ملكيات وشمطاوات مصطحبات كلابهن ذات الدم البارد. مثلما هي الفصول في المشاكسات. نرتقي السلالم حتى الثمالة: هي الأعياد الأولى المتوجة بتاج الشك، عاقٍ وعظامه فضة، الذي اخترع عربات جمع الأطياف. عاق مثل نذور المتاهة، الذي ذكرنا بالذكرى، وأقامتا في الكتاب.

[97]
         كتبت أم كتمت أناشيد صداك أنت تركت ما أخذت، وأخذت ما تركت: هذه متاهات المفاتيح، وهذه هي طبقات المدن: ولا اليد أخذت ما أعطت، ولا أعطت ما أخذت. هذه موازين الأنعام مع التراب .. وهذه هي المرتفعات بوابات انثلام: أتتضرع في مثواك خشية الغاشية، أم النفس اضطربت لرطب الغانية.
        كتمت أم كتبت الساعات المهملات برفاتهن تدثرن. لا تين يقّدم للغرباء ولا زيتون: هذه هي الأنوار عكازات هرمات ينسجن خطابات الدخان، يسار القلب استبدلناه وغرقانا ما تركناهم سواحل: تقدمت أم تراجعت الأصداء روت، الألواح كشطت، والصائغ صاغ المحو: وقع طبلك طبلك غير سامع، وأقم أوثانك ما من عابد: البذور للبذار، وما في السفن إلا يأخذها إلا الربان: كل نفس بما كابدت اليوم اكتمل الفضاء، يوم لا يتقدم فيها ما تأخر، ويوم تعود الصفحات إلى الصفحات: إنا أخرجنا الكلام كنبات للعهد شاهد، والصمت مآثر: فما كان عليك أن تقسم بالرمال، وبالأنعام أنت جاحد: والنفس بما حفظت، عملت  بما كسبت، الم تر ما في البيادر، لكم  سلواكم ولي من المتاهات بشائر.

[98]
        ليس لي أكثر من أعياد فوق الكف، مجرجرة نحو الياقوت. بعيداً عن ضوضاء المستحدثات، هكذا إلى الخلف، تتكون زنابق مضافة، بحكمة نادرة، تأخذ مدى البدائل، كأن لا احد قفل الفضاء بغوايات العجوزات اللماعات، لأن الالتباسات بالفصول يخيطن ممزقات الغيم. هي الأمطار لم تكن قط أليفة. أو يانعة الطلعة، لكنها أكثر تقدماً، كلما كان للأمر حواشٍ وشروحات: انه الكلام المسموح بالفواصل، بلا نقاط، نحو هواياته المسموح بها، هنا، وهناك، لكن بلا تمنيات الحجارة.

  
[99]
        لا ناج أو منج منها: هذه .. هي .. إشارات لا شارات سلفت. فإذا فتح الفاتح ودفع لنا بالنور ادخل هذه هي الأسماء، وبالأمس كأن من عليها نهض، وغادرها لحين مذاق الردة، وما أدراك كيف دارت .. كشطت المسافات، كور من سواها: لا منج أو ناجٍ إن ابتلاها أو غادرها. الفرات أنبتها، وعلى المدى هذه مدافن من زرعها ومن أفناها: هناك البلور لمن تاه، الشائخات لذوي العزم، والساعات الرميم هياكل عن محاها. يا من  في الجب إن شئت تسلى .. لا ناجٍ من نعيمها ولا من ذنوبها: يتساءلون عن الرماد، عم يتساءل من أشعلها: أفلا تر يوم تنكسر الأوثان، يوم السوسن يغلق بابه، لا وادٍ لمرضعة مأوى، ولا للرايات قبائل: يوم تحشر العنوانات مع الحواشي، لا ذنب لمن بشر بها، هذا شاءته الألواح، وما أدراك يوم يرى الأعمى فيخلعه ترابه. الحصاد حصد بذارته، والثكلى ثكلت بسلواها: بيانات محكمات لا يراها إلا من اختتمها.

  
[100]
        ثم تنهض في مداها الأخير: فصوص الدورة بلذات مكتومات الحواشي، عانسات يشعلن بخور التآلف: حافات عذابات المشهد: أكثر مطاوعة من رغبات: هذا فتاك فتى لم نعثر عليه مع الماء، ولا أرضعته بالبرية حطابات ليل: المخطوطات يلدّن أيضا: لا جسر بين وعدين. الريح حفنة أوامر .. وبئر القلب أفاضت بالمغادرات: أعذب ماؤك يا فرات أم شيوخ طرقنا أغلقوا علينا الباب. ونخترع بالأنوار الشائخات فوق الموائد ن لصق الأجداد، باستثناء رفيف رفات مداعبات التصابي: ليس أكثر من مراجعات  لفك طلسمات سم الأفعى، وتنهدات صمت الحرف المجر جرا ً، والشمس وما أدراك ما ضحاها والليل إذا انشطر، هي الصواعق إذا سئلت من أخفاها الماء كفنها، يوم توحدت العناصر، لا نياشين لمن رآها أو رواها: وما جئنا بنص لكتاب أو حرفنا هوامش من دحاها: هذه البرية لها ليل بالأصفاد يحرسها. فما أنا بمنجد لمن ودعها، أو أخفاها: الأرض زلزلت فأخرجت بلواها، وما هي الأيام إلا ساعات منسيات الأكفان: الغارات جمع جموع مكسورات الجناح. فأنذرت القبائل، لا ناج من غبارها. كل ما عليها غَبَرَ .. الغبش آخر ما في البيدر: جاء الطارق يبعثر أطلالها، فوصفت الصافة، انقسمنا بالجمع وتآخينا برمالها؛ ثم أقمنا للكراسي ولائم الصلح: فعم يتساءل من فجرها: يا من قاسمني خبز الموت، ما أنا بمغادر  ولا أنا للمزارات بزائر، إني أزيّن موتي بالزيتون والرطب، لا اترك ما تركوا، كتبت علينا الخيمة بالبرق كتاب الرمل، عظامنا رميم، ومزاراتنا قيامة.
31/12/1993