الخميس، 8 مايو 2014

تجارب أنور الرحبي ... وثبات الأطياف ومشفّرات الرسم- عادل كامل


تجارب أنور الرحبي ... وثبات الأطياف ومشفّرات الرسم














عادل كامل
لا يغادر النص الفني ، في رؤية الفنان انور الرحبيي ، ذاكرة أقدم النصوص الفنية : زمن تدوين الصّورفوق جدران الكهوف ، متتبعا ً كل علاقة بين الاصابع ، والمحيط الخارجي . انها رحلة الرؤية – الفضاء ، بين المخفي الداخلي ، والاثر بصفته شاهدا ً . وفي السياق نفسه ، تأتي نصوصه في عصر لا تتجانس فيه الحدود ( والعلامات ) . فالرحبي يلملم شتات مصادره الثقافية والحياتية بالاداء الفني 0 فالنص ليس محض علامة ، علامة بين العلامات ، بل هو مخيال اس
تذكاري لمصائر ومواقف : شهادة تعلن عن ال ( ها هنا ) الوجودي .. هذا التحديق في تعاقب – تراكم الصور ، تلاشيها وانبثافها ، في حدود الامتداد .
ان مفهوم الصور ، الأشياء ، الاجزاء ، يتوازن مع شاعرية السكن في الذاكرة الخيالية : ذاكرة اليد والقلب وكل ما يكوّن مكونات اللامتناهي في الذرات : في تلك الطاقات الباثة بقوتها حول المحور الذي استلمه الرسام ، وجعل منه نسيجا ً بنائيا ً لرؤية قيد التدفق .. لأن التعبير البكر – والاخير ، يتلازمان الكيف ، مع شفافية أسئلة العقل – القلب معا ً . فتجاربه تلخص مغزى مفهوم البنائية – التوليدية .. والنص الواحد ، لا ينعزل عن سلاسل المغامرة ، بل يشتغل جاعلا الحضور ، في الحاضر ، امتلاء ً ، وليس شهادة لزمن غاب ـ أو قيد الغياب .



هذا الحاضر / هو النص الذي يعيد وجوده بصفته يحمل مخيالا لبنية جدلية يصير النفي فيها ضرورة لحريات التدفق ، والانبثاق ، والتواصل . ان انور الرحبي ، في الزمان العربي في فاتحة الالفية الثالثة ، يتلمس وجوده شعرا ً : نصا ً مضادا ً لمقولات وافكار أو مفاهيم موت الاله ، والفن ، والانسان .. فالنص لا يتلمس حضوره الا بقوة مركزية الرائي انسانيا ً : هذا السكن الذي يضفي على ساكنيه طرازا ً لحداثة شرقية : حداثة تعّرف ذاتها داخل اشتباكاتها وتضادتها كي تتوازن فيها المرجعيات مع القلب ، والضرورات بالحلم ، والموت بارادة ما بعده داخل فاعلية الكائن في الوجود .



انه ببساطة لا يربكنا بعلامات متطرفة ، غرائبية ، أو وظائف استهلاكية في عصر الرفاهيات المفترض ، بل يدمج شتى المصادر لصالح نص يسكننا ، بفعل مغزاه التوليدي .لأن الحساسية تعلن عن جدلها بما هو محذوف داخل النص ، وبما هو مكون عبر الاداء آنيا ً.انها علاقة كثافة لا علاقة فجوات ، مع ان الرحبي ، بمنحاه الشاعري ،لا يغادر أسئلة اغتراب الكائن ضمن انظمة حضوره . انه يختزل مولدا ً كثافة مشفّرة لكنها تقول الذي يقلص الامتدادات في النص / البيت /كي تصير – في هذا الخطاب – بلا حافات ، كباثات تتوحد عبره دالات الخبرة ، والمخفيات ، والبوح .. فالنص ليس علامة قطيعة ، وليس جزءا ً مقتطعا ً ، بل هو كل الذي يأخذنا اليه ، وهو الذي ، عبر المراقب / المشاهد ، يتضمن فاعليته في التعاقب ، والالفة . فالفنان يختفي ( يخفي – ميعلن ) كلما كان مصير نصه يمارس انبثاقاته وباثاته القائمة على ايقاع نبضات الفاعل ، والقلب ، واشتغاله بآليات عناصر الفن . هذا التجانس ، في ديناميته ، يتضمن موضوعيته : ان الرسم ، مرة بعد مرة ، يستدعي ذاته ، مفهوما ونصا ً ، مع كائن يتحرى اقامته جماليا ً . الا يصح ان نتلمس ، عبر قرن من حداثات الرسم العربي ، مغزى أو معنى لهذا الدافع : التوق ولبس الاكتفاء ، الشاعرية وليس الاستهلاك ، التحرر وليس الانغلاق . الا نجد ، في الرهافة ، مغزى الاتساع ، وفي العلامات المعلنة ، رغبات مكتومات للبوح ، والتواصل ، والامتداد .








انتقالات : التجريد طيفا

يصعب العودة الى ( موندريان ) أو ( كاندنسكي ) ، بحجة بلوغ الذروة . ولقد كان جبرا أبراهيم جبرا ، يرى هذا المصير الذي توؤل اليه مصائر التشخيص في الرسم العربي المعاصر بيد ان التجريد منذ تكوّن مفهوم ( النص ) كبنية تامة الاكتفاء بذاتها ، منذ عصر الكهوف مرورا ً بالختم وانتهاء ً بمشفرات ما بعد الحداثة ، كان منجزا ً ذاتيا ً على صعيد المخيال ، وعلى مستوى انبثاق الفن كظاهرة ما زالت تقاوم مغزاها الاستهلاكي . اي هذا الذي لا يتوقف عند التأويل ،أو حافات الشرح ، والفلسفة . وليس هو ، كما سعت التحليلات الجدلية ، ظاهرة عصر أو حقبة 0 انه ، كما الانسان ، يمتلك عناد المقاومة والحفاظ على الذي لا يقبل ان نقول فيه كلمة الختام . والفنان انور الرحبي ، كمعظم الرسامين ، عاشق غوايات : فضاءات الصحراء ، سحر نجوم الصيف ، رفرفة اجنحة الطيور ، غنج اللائي يحملن الموت ولا يمتن ، اعياد الطفولة واقواس المعابد ، حجارة المدن العتيقة ، نوافذ الازقة وابوابها ، حشود البشر ، دخان المقاهي الخ .وقد نفذها استنادا ً الى ضبط قواعد الرسم ، وتقاليده ومن ثم ، في مجال مغاير ، دفع بالعاطفة نحو التعبير ، مازجا ً الصمت بالصخب ، والكتمان بالتضرع ، والعناد بالمغامرة .



ان الاسلوب لا يعاند ، والبنية لا تمارس خيانتها مع الحساسية فكل رغبة تجد معالمها بترتيب العناصر . فالفنان يبني ، كما تشيّد المدن : انه يبني داخله ، مع موروثات ومرجعيات موضوعاته المختلفة يبني الاسلوب ، ليمتد ، بالتدفق والتواصل . فالمرور بالواقعية والانطباعية والتعبيرية لم يفض الى التجريد التعبيري ، ولا الى شفافية الرسم الحديث ، بل كان التجريد متكونا ً كبناء تضمن انتقالاته ، حيث التجريد ليس اختزالا ً ، من المشخص الى اللاتشخيصي ، بل بمعناه الاخر : انه ( نظرة ) الذي لا يتوقف عند الجزء ، بل ، يذهب حد الاندماج . ولكن الفنان يحافظ على مروره بالموضوعات ، لانه سيحذفها حد الاكتمال . فالمكعب الذي صار مرئيا من جهات عده ، صار مدينة مصغرة . بل صار داخله كمجسم لا يفارق احلامه في اكتناز المشاهد ، وجعلها مصدات . كما ان المناخ اللوني ، وتقطيع النص ، والتلصيق ، وترك الاصابع تمارس كلامها وآليات اشتغالها وما تريد البوح به ، كله ، كما غعلت اصابع الكنعاني والسومري والمصري . انها لم تبح الا بالذي ما زال يريد ان ينطق به . وماذا كان الماضي يريد ان يقول ؟ اليس انور الرحبي ، هو الاخر ، جاور فضاء الحلم ، ليدوّن ، كل الذي سيبقى يجذبنا اليه ، متكلما أو صامتا ً : هذا الطيف الكامن في نسيج الحائك وعبث اللعب السحري المنتظم حد اختفاء نظامه ودوافعه ؟ اليس الرحبي ، لا يلعب لعبا خارج اشتباك العلاقات بعد ان اتسمت نصوصه بالشفافية والالفة بل يحرر اللعب من اللعب ، ويدفع به نحو الاكتفاء والنعيم لكن اي نعيم عندما لا نرى الا مرارات عالجها الرسام بالتوازن والتشذيب . فالجمال الكامن في النص يختفي .انه ظهور خاطف ، كطيف يثب بعيدا عن الاقامة . ومع عناية الرسام بالمكان ، والاطار ، والايقونة ، والاشكال ، والتوازنات ، فانه يترك للاصابع ، كما للقلب ، ذلك الاضطراب الذي يؤرخ للعشق استحالة ان تكون له ذروة ، وختام .







اليس الرحبي ، كما في تجارب مماثلة ، ولكن استثنائية في الرسم العربي ، لا تتعكز على المعنى ، وعناده ، بل على البدائل . انه يرجعنا من الغد الى ولادتنا التي هي بلا ماض . فالعدم يختفي في نسيج الضؤ ، هذا الذي يقال – بعدانشتاين – يأتينا من اللاحافات . لان مقدار الضؤ في اللانهايات ، لا يسمح للعدم الا ان يكون هذا الذي مازال الضؤ يعمل فيه ، ولكن عبورا نحو لا حافات أبعد . ان فنه ، مثل تكونه يعمل على تصوير هذا الذي نراه ، هذا الذي يتخفى كي نعثر عليه في موضوعات الضؤ ، كما في كل باثات نبضات اللامرئي مؤطرا ً بالحدود والعلامات ، ومكتنزا عبر الغياب ، والانبثاق .

فن التخطيط : المرأة والمدينة

المدينة انثى ، وليست تجريدا ً . ربما لو كان الوجود محض فلم مسجل داخل شريط ، ونظرنا الى المسافة المحصورة بين الكهف ، واية مدينة ، لقلنا ، هو ذا التراكم والتطور فالمدينة كانت قائمة في الذاكرة بيد ان هذا الشريط الوهمي ، المتخيل ، ينتمي الى الوجود التوليدي ، حيث لا قطيعة في سلاسل الازدهار والتدهور لكن اللاشيء انتج ، في الاخير ، وفي اي احتمال ، مفهوم التراكم . هذه المدينة ، في تخطيطات أنور الرحبي ، مدينة لم يتم احتلالها ، ولم تتعرض للبغي ، والذل .انها انثى خالصة ، لها حدودها ، ولها تضاريسها ، وفاكهتها . انها مدينة تعزف الناي ، لتتحول ، هذه المدينة الى انثى لا تعرف التراجع ، لانها عاشقة ، مدينة آتية من اعماق الصحراء ، ومحصنة بدفاعاتها الذاتية : جمالها وثمارها وامتلائها فالمرأة سابقة ، ولاحقة ، زمن الاخصاب الذكوري ، وكأنها تمتلك معجزتها في ذاتها ، مثل بذور الكون البكر ، التي تطرد اي نهاية متوقعة وقاطعة للفناء . فالرسام يرسم بنية لا تدخل في اطار ، ولا تغلق في مفهوم كأن الفنان جعلها – المدينة / المرأة – شعرا دونّت اولياته ، ومازالت في البدء . فالقصيدة ، كفن التخطيط ، غير قابلة للاكتمال والفنان الذي جعلها تكوّن جغرافيتها ، محمية بحدود الموسيقى ، ملاْْها بالرهافات ، وغفوات العشق . ان الرحبي يرسم كل الذي ينتمي الى عناد المقاومة ، بعيدا ً عن التشويهات النقدية ، ورموز العدوان . فالمرأة ، مع الطير أو حتى في عزلتها مع اصابعها ، أو مع مصباحها ، تجعل الوجود محتملا ً فهي تولد مدينة للرقص ، والتأمل ، والموسيقى والنعيم ، في هذه التخطيطات ، تجسده ليونة وصفاء الاداء . فالخطوط ، شعريا وربما هندسيا ، تدوّن همس المدن ، وكأنها لا تتحدث الا عن ابديات المسرة . ان ( مثالية ) هذه التخطيطات ، لا تغادر واقعيتها ، لا لان كل ما يرد في الذهن ، له موضعه او انه جزء لا يستغني عنه الكل ، بل لأن التضاد يتحاور مكونا واقعية أقل اثارة للمرارة ، والاسف . فالرسام ينفي ضرورات العقاب ، والمراجعة ، الا عبر شفافية تقاطع الخطوط ، مع اختلاف نسب الاشكال ، وملامسها الاقرب تدوينا لتمثل الاصوات . فالمدينة تعزف ، ولكن ، ليس لأحد . انها تعلن عن غائبها .



وانا افترض ان الاسطورة ، في عصر تصدع الحضارات وتحولاتها ، تذهب ابعد من محاولات اغتيالها ، ودفنها . فالحياة تشتغل بالمخيلة ، والانثى ، المدينة – من الكهف الى الى حلب او دمشق او حماة ، لا تخفي مشروع القرية الكبرى : الارض . بيد ان احدا ً لا يقدر ان يجعل العزف الا متنوعا ً ، مشحونا ً بالحواس والباثات ، بالاشكال موحدة بمداها المستحيل ، انها توقع توقيعها الذي لا يتلاشى امام الزوال. هذه الخصوصية للمرأة ، للمدينة ، تكتمل باشتغال اليد فوق القماشة ، بهذا التماس ، بالنار المتولدة والمشعة اكتمال دفئها . انها درجة مناسبة كي تتشبث بهذه العلامات ، لا ان نكون في حال المرمي ، أو المقذوف ، أو المتجه نحو نهاية الرؤية . فالرسام يخطط اشكاله ليمنحها شكلها بعد ان حصن داخلها ، فالبعد يكمن في أول الخلق : انها البذور البكر المخفية في لاحافات الخيال : بذور توّلد السلام الذي غدا وهما ، وقد صارت له حافات : طيور ، ثمار ، نايات ، دفوف ، ومصابيح ، حيث السكينة لا تصّدع بالرغبات ، والاستهلاك .ان واقعية هذه التخطيطات ، تجسد داخلها الشفاف ، ومثاليتها – حيث تستعيد فنون الكرافيك ورسومات كبار رسامي العصور – لا تغدو الا ضربا ً من السحر ، والنعيم . فهي علامات صنعها الرسام على ايقاع نبضات قلبه ، وشيدها بمزيد من اصغاءات لباثات لا نراها ، لكنها صارت تمتلك الابعاد ، حيث المدينة / المرأة تمتلك عبور الذي يبقى متحركا ً ، كالطيف ، لا يسكن مدينة الا واعاد لها نايها . انها تخطيطات سريعة ، خاطفة ، حيث يصعب ان تبلغ درجة الكمال ، درجة الموت .



شرقية الخطاب : الالفة وأقدم البذور

تكاد الحداثة تتوج مجدها ، بعد ( هايديغير ) ، وفي سياق ما بعد الحداثة ، بمشروع لا يجعل من اوربا عتيقة ، بل ميتة . انها سلاسل لم تنقطع منذ لم يعد للفكر الاسطوري / الخرافي مغزاه في تحليل الوجود ، واعادة دفعه باتجاه المجهول . والرحبي ، مع قلة من مثقفي العرب ، تأمل المشهد . لكن ماذا لو تم استبدال التصور ، بالبراغماتية الجديدة ، بعد الموجة الثالثة ، وصناعة عصر يمتاز بالقوة ، وهو يبرهن ، ان ما بعد الرأسمال ، واقنعة الحوار ، فعالة عبرالجبرية ، لا عبر حقوق المشاركة ، والتجاور . ان اسلوب الرحبي ، يرث مغامرات قرن من التحديث ، والتشويه ، والخبرة . ومع ان الماضي ليس ملكية راسخة ، كالنقد ، ومثل الانسانية والافكار ، الا ان دفاعات القلب لديها ، امام التسارع وجنون الانخلاعات ، وقفات : انها وثبات . فالاحتماء بالاركان / الزوايا / الجسد / الدائرة / البيت / والمرأة ، تطرد المسافة . انها فعاليات لا تؤجل الزمن ، ولا تنحاز الى ميتافيزيقيا عمياء . فقرع طبول الالفية الثالثة ، مدوخة ، لا تتمتع بلذة ، بل بالمحو ، فماذا تفعل حواس كائن يقاوم مشهد الازاحات : كأن العالم محض مختبر بالغ الاطراف ، ومعادلات لا تقف الروح فيها كعامل مساعد ، بل علامة اندثار ، الا استعادة الامل . فالرسام يحفر ، يكوّن ، يركب ، يدوّن بالعناصر كتمان مصائر مليارات الكائنات ، بدل الصمت ، صمت الذاكرة والمخيال معا . ان الفنان يقاوم منحازا ً للحلم ، والاطياف .والغريب ان ( انا ) الرسام لا تنغلق ، بل تتوازن بين البدايات والحاضر ، وبين الاساليب ، ولا تبعد تعقيدات ما يحدث في العالم ان ( اناه ) تغادره وكأنها الطيف ذاته الذي اخترع الهة الفرات ، التي خرجت من الجزيرة العربية : انا صابرة ، مكتنزة بالامل ، فهي تتدفق وتنبثق داخل نصوصه : انا تجد مستقرا ً في النص الكوني ، كومضات لها انظمتها وخبرتها . فالخطاب المتكون يتضمن المحنة ، وحصار الفجوات ، ووعورة الطرق لكن الرحبي يستعيد ، بفعل مخيال يتذكر ، حاضره : كائناته ومكانها ، مدينته ورائحتها . فالرسام لا يفترض وجود قطيعة تامة ، كي ينخلع ، أو ينحاز لفعاليات الابادة . انه يتحصن بالشعر والالوان والاقواس بعد ان صار الجمال مرا ً ، فاجعا ، لكنه لا يحدق في العدم . ان هذا الخطاب البديل لحداثات تهرول وراء خرفان تائهة ،أو خيول معدنية ، يتوقف عند النص / الحلم ، والفن / الالفة . فالفنان يستذكر اقدم ميكرسكوبيات البذور الحية : المناخ والنبض. انه لا يتحجر ، ولا يتمثل مشاهد معسكرات الموت ، بل يصنع آلفة المتحضر الاول : سكان بيوت الطين ، حيث الاخير ولدّ حياة الموسيقى . يتمسك بحماية عشتروت ، وموروثات حضارة الفرات والجزيرة وروح الازمنة المشتركة هذا الخطاب ، لا يتكون سلفا ً ، بل يبنى بالرهافة ، وبايقاع تنتظم داخله مسارات وعلامات لا تحصى ، فليس الدفن عيدا ً ، بل صار يرصد الذي يبقى في حالة التوهج . انه يصّور عزلة الكائنات آلفة حرية ، حتى عندما لم يعد لديها الا هذا المصير . فالانسان يولد ويعيش حرا ً بحرية بالغة الانضباط . حتى ان اللامعنى ذاته يغدو ، كما عندما لا امل في العثور على حلول تامة ، يصبح ، معنى ، وسكينة للامتلاء . بهذا الصبر ، والعفوية ، والتعبير ، يركب ، ويبني ، البيت الذي يغدو شكلا للداخل . فالرسام ينقش مدوناته ، يرسم الوثبات ، وثبات حاضر يعلن عن جغرافية ألفته : انسانية محصنة بالفضاءات لانها انسانية تحمل معها ارادتها : شفافيات كانت المعلقات العظيمة قد حفرته شكلا لعهد لم يندرس ، ولا يستعاد أو يتكرر ، بل يتجاور ، حيث الحياة لها مذاقها وليس لها الا ذلك ، كي لا اقول كراهيتها وتحجرها . هذا الخطاب ولدتّه الرمال وعويلها ، مسار قوافل التجارة والهجرة ، وآثام غزاة حفرت في القلب وفي الذاكرة حيث صار الرسام يرسم كل الذي يمتد ويحصن ويبث : انه يعيد بناء وتأليف وتوحيد وتركيب اجزاء عالمه الكبير ، عبر بعد يضاف للابعاد المكانية والزمنية ، المتخيلة ، والمرئية واقعا ً ببعد الالفة . البعدالذي يدمج الواقعي بالخيالي ، والغائب بالحاضر . فالنصوص تخترع سكنها الافتراضي ، لكنه الملموس ، والمعتنى به . كما ان النصوص قائمة على دفع الحلم نحونا – لان حلم الفنان يغدو مضادا ً للشرح والتفسيرات . الا يبدو الشرق ، هنا ، يمتلك مخياله ممتزجا ً بدينامية الوحدات التشكيلية : بذور التخفي وصدمات عالمنا الذي يبتكر زواله. ان الفنان انور الرحبي ، يترك اصابعه تذهب مع حافات مكعباته وسطوحه وسقوفه والوانه حيث المصغرات تبقى تعلن عن اقامتها داخل بيت الالفة : هذه الالفة التي تمتد جذورها الى اقدم نصوص الجزيرة وحضارة الفرات والنيل ، مرورا ً بما صاغته ذاكرة المدن العربية الكبرى ، كي تكون المعاصرة قد جاورت بعناد عصر ما بعد الحداثات ، ولكن ، لا بالذوبان في مفاهيم علامات الاستهلاك ، او الكف عن شفافية الخطاب ، بل في صياغة دوافع بناء رائحة المرور والسكن المؤجل والاطياف . فالالفة تمتد وتعود الى اسباب حتميات ظهور حريات بذور التدفق الشفاف للكائنات ولا تنتهي بخطاب ينطوي مستقبله على ماضيه . ان الرحبي لا يجازف بالشعري والحدسي الا لان المجازفة / المغامرة تنطوي على أستحالتها : أنها أنجذابات بلا حدود ، صلة قوى أستمدت أشكالها بتآلفها وتوحدها ، وبما تتضمنه من أرسال أو باثات . هذا المنحى الذي يتضمن هندسته ، وشاعريته ، وبوحه ، يحافظ على جسوره مع المرجعيات وتجارب حداثات التشكيل العربي ، فضلاً عن تجاوره مع حداثات لا تحصى أسبابها ، كي لا يفرط بمركزية الفنان ( والفن ) : ان الفن لا يخفي ألا ما صار فجوة ، وفضاءً .. فكلاهما يكونان نصوص الألفة ، وخطابها الجمالي .




ليست هناك تعليقات: