مجسمات منذر علي
الشعور المتوقد في الذاكرة
ماضي حسن نعمه
النحت لدى الفنان منذر علي هو اكتشاف المعاني المستترة وراء الأشياء ، إذ تعبر الصورة الشكلية لديه عن المادة ، والاختزال يوصل إلى التجلي ، والتجلي معنى ينطوي في استدارات الذاتية المحلقة في تأملاتها المنشدة نحو المجهول لكن جذورها تتغلغل بين ثنايا امتدادات الواقع المرئي 0 انه حاله نصل إليها من خلال المحسوسات ، والدوران حول الشيئيات المشخصة ، هكذا يندفع الفنان منذر دونما توقف عن الخوض في مبررات مقيده ، ولكن بكل وعي وتؤدة وتفكير ، انه يبحث عن هدف يحلق في أعالي هاماتنا ، ولكنها مرئية بين امتدادات وشائج الأفق ، فالشخوص الآدمية المحتشدة والمتفاوتة القامات كأنها تعبر عن جوانب مبهمة في العقل الذي ينساق مع الروح الجمالية المتماثلة بالواقع وتمثلنا للحياة ة ، كأنه يريد إن يقول إن الاقتراب والتلاحم بالمفهوم السيسيولوجي هو ا قرب من الشفاعة في الاحتماء ، انه تمسك في الحياة على الرغم من كل شيء عن طريق تعبيراته الإبداعية الجمالية 0
في أعماله وجوه مشدودة نحو أفق معلوم ولكن نيله أضحى حلما مجهولا بين ارتطامات الواقع الصاخب وادرأنه الموبقة ، قامات ممشوقة في نسق اصطفافي تعلن توازناتها الداخلية وفضاءاتها المفتوحة كي تحقق هدفا مفاده يتجلى بمحتوياتها الواقعية ضمنا ، انه هاجس الأمومة والدفيء الأسري الذي يأتي مؤجلا ، وجوه واجمة حزينة وأخرى متأملة رؤؤس صغيرة منتصبة أعناقها على أجساد مترا صفة يلفها نسق واحد من الألفة الإيقاعية سوى بعض التبدلات النسبية إنها رغم ذلك موضوعات اجتماعية من الواقع منتخبه من نسيج خيال الفنان ، امرأة تحتضن صغيرها ورجل يحتضن امرأة في محاولة للترميز عن العشق أو المحبة الأسرية ، أو هو حالة من بناء تكويني مفترض يتبناه الفنان في بعديه الوجداني والسيسيولوجي – الاجتماعي – انه تعبير مكتفي بذاته انه فن خالي من تعقيدات مشفره أو غامضة ، ولكنها استطاعت تسبر أغوار عمق الماضي ببساطة تلقائية ومعبرة فانتصاب الأشكال بكثافة وبحركات يسودها الوقار تذكرنا بالتراث الرافديني لاسيما التماثيل المصغرة والمنتصبة في اروقة المعا بد الاان لمسات الفنان ببعديه المعاصر والخصوصية – العراقية كان واضحا سواء كان ذلك في استخدام الخامات من الخشب ، كالسدر ، التوت ، والنارنج ، والبلوط ، والجوز وغيرها ، أو في ميكانيزمة الأداء التقني للعمل الفني والذي يتطلب الصقل والتنعيم المضني
اختيار الخامات
لماذا مادة الخشب ؟
من الملاحظ إن الفنان منذر علي فضل استخدام مادة الخشب بأنواعه في أعماله النحتية ، من المعروف إن مادة الخشب تتطلب عملية هدم وحذف وإلغاء وتشذيب أي عملية خوض أدائي من الخارج إلى الداخل كغيره من مادة الحجر وهذه العملية تتطلب حذاقة وحذر في الأداء لان إلغاء أجزاء أو مناطق في الزحف غير المقصود أو بزلات الأزميل الجارفة يؤدي إلى خلق مشكلة من الصعب معالجتها ، على عكس النحت لمراحل الشمع والطين وغيرها من المواد التي تتطلب الدخول إليها من الداخل في عملية بناء لبناتها الأولى منتهية إلى أهدافها المرسومة والفنان منذر علي اختار هذا النوع من المواد رغم علمه بانفرادية ووحدانية هذا النوع من النتاج الذي لا يتكرر بالاستنتاج كالبرونز مثلا ادرك ذلك كي يمنح العمل قيمة الواحد قيمة نادرة في النتاج لايسمح بالتكرار رغم تحمل تبعاته المعنية إذا أراد الفنان أن يحقق أعلى قدر من التمتع الشخصي المنسجم مع هواجســــــه الذاتية بعيدا عن متطلبات التسويق المفترضة ويبقى مزاولا لحريته بصدق في مراحل التطبيق الأدائي ، انه يرغب في الإبقاء على نكهة انتخاب مقتربات الوجود الذاتي والموضوعي للعمل على حد سواء، ففي مادة الخشب هنالك صلة فسلجية بالاستعارة الواقعية والتأملية ،أنها تعامل مادة حسية لها خصائص النمو والحياة والموت ، طبقات من تراكيب خلية حية سايتوبلازم وغشاء البلازما ومواد أخرى، كائن حي ينبض ويشعر ويتألم بفعل كوارث الحرق والقطع وغيرهما 00 انه إذا فنان عارف بأسرار تلك المواد التي يتعامل معهـــا إذ يبغي من وراء ذلك تحقيق( المعادل الفني ) بين ماهو مادة من نوع خاص وماهو إنساني كي تجعل الحياة تعلن عن مدياتها عبر السكن الوجيز فالخشب ممكن أن يكون (تابوا ) يحتضن الأموات في حالات أخرى لكن الفنان يسخر وضيفة هذه المادة نحو ممارسة فتح فجوات داخل فضاء فسيح الأمل ، نابض بالحياة والألفة الأسرية ،انه ضرب من التعبير الشعوري المعلن رغم متاهاتها وقيود حرية حركتها ، من هذا الجانب كان الفنان يصنع شخوص تحمل معها تذكار البيوت وكل ما يأوي له الإنسان ليكون ملاذا آمنا لطرد العزلة والانكفاء المفرط عن مداخلات المحيط الاجتماعي ، انه تماسك مع النسغ الروحي النابض بالحياة إذ تتمثل تلك بصناعة التعويذات وطوطم النجاة بنداءات شفافة تلك الأجساد محتشدة بدون جدران من الناحية الموضوعية لكن أمنها منبثق من تلاحم وتقارب تلك الأجساد مع بعضها لتشكل صدا روحيا وتماسكا معنويا ، فامتداد قامات الأشخاص بهذا الشكل أشبه بامتداد سيقان الأشجار ، بهذا المقترب الشكلي البناء يحقق الفنان جذور المادة ابان وجودها الحي وبين وجودها بهيئة كائنات بشرية ، إذ منحت الوجود الحي في تمثلها الجديد بالهيئات الإنسانية ، لقد عول الفنان على مادة الخشب كمادة لرموزه التعبيرية،وخطابه الجمالي لتحمل أسرار حياتها البكر ،ويبقى يحمل أولى الحساسيات بـين نبض الكائنات الحية ومحيطهم الخارجي ، انه ضرب من الشعور المتوقد في الذاكرة – المتوهجة- تحمل معها نسيم الليل ورطوبة الماء ، وإذا كان استخدام مادة الطين يلتحم مع السخونة المتوقدة في مراحل الانصهار، وكذلك التحولات الجارية على مواد البرونز ،فان الخشب بجسيماته النابضة ترفض تلك المؤثرات القاسية والتي تغير المادة من حالة إلى حالة ومن صورة إلى صورة 0 إن هذه المؤثرات تلتهم هذه الخامة المفعمة بالحيوية النابضة التي يخطط لها الفنان بفعل مؤثراتها القاسية إن مادة الخشب لاشارات الفنان الحسية من الداخل إلى الخارج وتحاكيها بخيط التواصل الشعوري والباطني إلا إننا من جانب آخر ينبغي أن لانكون مغالين بإفراط ونرتمي في لجة الاستفاضة في حال منح المادة شيء من الإسهاب في أبعادها تلك رغم وجودها الفعلي 00ونعتقد إن هذه المادة يميل لها البعض من الفنانين لاختصار مراحل البناء والصب والعناء الخاص بها فضلا عن تكاليفها لاسيما مادة البرونز كما إن مادة الخشب ارتبطت مع صنعة الموبيليات أو الانتيك الاان الفنان منذر استطاع إن يمنحها فعلا متماسا مع سماتها الإبداعية المتفردة بأصالة ومن جانب آخر يدفع نتاجه نحو فرض صبغة شخصية تظهر عدم تكلفة أو عدم ادعائيته ، إذ نجد في نتاجه تبسطا مدققا بعيدا عن الديماغوجية الاستعراضية ، أعماله تنبع من دواخله دون إقحام أشكال فيها طابع الغرائبية أو التلاعب المفرط في تباين السطوح واتجاهات الحركة ، كما انه تجنب الموقف الانتفاعي واستثمار بعض ما يتحقق من نجاحات في تجربته الفنية باللجوء إلى استنساخها وتكرارها والتأليف على غرارها دون ملل ، لكن رغم ذلك فالفنان مطالب بتجديد تغيرات دافقة تجري على ملامح الشخوص المتشابهة وكذلك حركة انتصابها الراسي باتجاهات مصاحبة أخرى أفقية 00شعاعية 00وغيرهما
متوخين ذلك مفاجآت قد لايتوقعها هو قبل مشاهدي أعماله الفنية والفن عموما هو نوع من التحدي والتغيير والاكتشاف والتجديد والمفاجآت المثيرة كي تفعل فعلها عند المتلقي أولا وأخيرا 0
البناءات الشكلية
تنسجم البناءات الشكلية للتكوينات عند الفنان منذر مع دلالاتها المستخلصة من طبيعة الخامة المستخدمة ( الخشب ) وبذا فأنني لاازعم إن طبيعة تراكيب المادة التكوينية قادة الفنان نحو إرساء صروحها الشكلي ، بل ربما قد تكون عونا طيعا وملائما لثيماته المرسومة 0
يغلب على أعماله النحتية صفة الامتدادات الراسية سواء كان ذلك في أعماله الرمزية أو حتى التي تقترب من بناءاتها التجريدية باستثناء إيماءاتها غير المباشرة ولو تمعنا جليا في احد أعماله المنجزة بعد الأحداث التي جرت على البلد نجد هنالك مجموعة من التلاميذ ينتصبون واقفين بأطوال ممشوقة فوق رحلات أو مقاعد الدراسة المحطمة من جراء ما حصل من عبث وتخريب إن تلك الشخوص الواقفة تدلنا إلى أمرين أولهما يشكل هذا الوقوف حالة من التحدي والاستمرار في مواصلة العلم والتعليم نحو أفق المستقبل ومن جانب آ خر حالة من التسجيل والتوثيق لتلك الأحداث الدراماتيكية المؤلمة لذلك ، أما في أعماله الأخرى رغم ما ذكرته سلفا من جذورها الطولية كالسيقان والأغصان أقول : رغم ذلك فان الفنان جعل من ذلك البناء الشكلي ذا نسقا ربطيا مع المخلفات الأثرية لمصغرات النحت الرافد يني السومري والبابلي ووقوفهم المنتصب وعيونهم المحدقة والشاخصة بحشمة ووقار فالذاكرة تتوارث رغم عمقها ألزماني والانقطاع المتواصل بفعل مؤثرات عقائدية وأخرى تتعلق بتسويغ قبول ذوقي ناجم عن المؤثر الأول ولو تمعنا مرة أخرى في رؤؤس أعناق هذه الشخوص توحي لنا بتلك التماثيل ومنها تمثال كوديا مثلا رغم الاختلاف كونه في حالة جلوس ولكن تقربها من ناحية الحجم كذلك فالفنان لايميل إلى عمل تماثيله بإحجام كبيرة ربما تتعلق بسهولة السيطرة عليها وكذلك أمرا يتعلق بنقل هذه الأعمال من مكان لآخر وقبول أحجامها بما يتناسب مع الصالات والحجر لغرض الاقتناء الشخصي وهذا الأمر انعكس على اغلب الفنانين في الرسم والنحت بسبب غياب دور المؤسسات الحكومية لاقتناء الأعمال بأحجام كبيرة لاسيما العقد التسعيني من القرن المنصرم وما تلاه وأعود مرة أخرى لقراءة البناء الشكلي لإعمال الفنان فأقول إنها امتشاق أطوالها تتقارب لتعبر عن حالة من الحنو والعاطفة والدفيء الاجتماعي الذي يتم بالأمان والاستقرار إن هذه التكوينات الآدمية عمد الفنان أن يجعل من كل تكوين من الأشخاص يرتكزون على أنصاب متدرجة في المرتبة وهذا يسمى بأسس الفن التشكيلي بالإيقاع المتزايد وهو في الوقت ذاته إيقاع رتيب لان الوحدات ( الأشخاص ) متساوية مع الفترات والسكون ( الفراغ ) وكذلك بسبب تشابه الوحدات مع بعضها وتساوي الفراغات مع بعضها ففي هذا السياق يبدو إن الفنان قد التزم بضوابط الفن الإسلامي في مجالاتها غير الحرة ، امافي أعماله الأخرى فان الكتل الفنية في صنع زوايا وانحناءات الأجزاء الواحدة للشكل ورغم إعلانها الغامض للشخوص إلا أنها توحي بذلك بطريقة تجريدية تعبيرية ولقد بذل الفنان منذر جهدا مضنيا في صقل ملمسها الخارجي في جميع أعماله 0لم يترك اويسمح بوجود ملمس يؤكد نتوءات مفتعلة لغرض التكنيك المغاير لتلك السطوح إلا إن بعضا من أعماله هناك أجزاء من الوحدات من نفس العمل تأخذ تكنيكا مغايرا ،خطوط غائرة وبارزة أفقية منحت العمل تجديد لها ولانتقالات رؤاها البصرية 0 إما علاقة الفضاء بالتكوين فان التكوين يشكل مساحة مغايرة ومكملة لها وهذا الأمر ينطبق بشكل عام على النحت المدور خاصة وبهذا التنفيذ غير المعقد ، سوى بعض الثقوب التي تتخلل الأعمال بشكل دوائر تبدو إنها تلقائية فائضة من جراء البناء التكويني 0 مما شكلت عمقا داخليا للعمل فضلا عن تجديد رتابة الانتقالات البصرية بين حلقة وأخرى لذات العمل النحتي 0 أما الحركة فإنها تتبع منظومة السياق المتبع لانتصابها الرأسي فتأخذ اتجاها تصاعديا للأعلى مما يجعل عين النظارة تنتقل بشكل تصاعدي أو تنازلي رأسيا للعمل 0
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق