الخميس، 8 مايو 2014

شيزوفرينيا عربية انفصامية الانسان العربي بين ماضيه وحاضره-وليد خالد أحمد حسن

شيزوفرينيا عربية

انفصامية الانسان العربي بين ماضيه وحاضره

 

وليد خالد أحمد حسن


يشكل الماضي قيمة هامة في حياة الإنسان ، فهو المحرك الأساسي الذي يدفعه إلى الحاضر ويأخذ بيده إلى المستقبل . لذلك ، تشكل العلاقة بين الماضي والمستقبل قضية هامة برغم قدم طرحها ، حيث احتلت  حيزاً بارزاً ومتقدماً في مواجهة الاهتمامات والقضايا المحورية التي تتركز عليها وتدور حولها أحاديث المثقفين العرب وكتاباتهم . حيث يتواصل البحث فيها والحوار حولها تحت عناوين متنوعة ، كالأصالة والمعاصرة ، والقدم والحداثة ، والتقليد والتجديد ، وما شابه ذلك من عناوين هي بمثابة تقاسيم على وتر واحد.
مع أن هذه المسألة قد طرحت منذ عقود ، وكثر فيها الجدل والنقاش ، الأمر الذي افقدها مقداراً من ألقها وجدتها وربما جديتها أيضاً . فأننا نجدها بين حين وآخر تقفز من جديد إلى موقعها البارز والمتقدم في صالونات الأدب ومنابر الفكر العربيين ، فتتصدر محاور الاهتمام الفكرية في الساحات العربية مشرقاً ومغرباً.
ولقد بات واضحاً ، أن المناقشات الطويلة التي جرت بشأن هذه القضية قد أسفرت عن تبلور ثلاثة مواقف أساسية تجاه الماضي تتراوح بين التعصب له والتعصب عليه مروراً بالنظرة الموضوعية أو القريبة من الموضوعية ، وهي النظرة التي لاتضفي على الماضي طابع التقديس والتزكية المطلقة ، لكنها في الوقت نفسه لاترشقه بسهام الرفض والاستعلاء وإنما هي تدعو إلى دراسته وتقويمه للكشف عما فيه من جوانب الإيجاب والسلب ومعرفة ثوابته وتحولاته .
أما العبء الواقع علينا في التعامل مع هذه المواقف ينحصر في ضرورة الوعي بخصائصها وبإبعاد الصراع الإيديولوجي بينها . لأن علاقتنا بها ستتحول إلى علاقة تصديق غيبي إذا تخلينا عن وعينا النقدي في التعامل معها . وهذا الأمر سيتطلب منا مستوى متقدماً من الوعي يحمل في مضمونه أسئلة تتمحور حول الإشكاليات التي يضج بها واقعنا العربي . وضمن هذا السياق العربي سنتجنب التسليم بكل ماجاء بها ، وسنجعل بالتالي وعينا جدلياً قائماً على الحوار والفعل كي لاتكون ضحية من ضحايا الأفكار المدسوسة التي تغلف بعضها .
ولنبدأ أولاً من علاقة أية أمة في الحاضر بماضيها . هل الماضي يشكل ثقلاً على ظهر أية حضارة أم العكس ؟ هل ماضي الأمة وعمق هذا الماضي يؤديان إلى إغناء الحاضر ؟ وهل نحن العرب نتعامل مع الماضي باعتباره تعويضاً عن الحاضر ؟
لنتخذ من هذه التساؤلات مبرراً عاماً لمناقشة نقطة في غاية الأهمية :- انفصامية الإنسان العربي أو بمعنى آخر ، حيرة هذا الإنسان بين ماضيه وحاضره، مع محاولة أن نجمع حولها بعض الظواهر الأساسية التي يعيش فيها الآن .
لنأخذ أوربا على سبيل المثال ، والتقدم الذي شهدته ، وكيفية موازنتها بين التكنولوجيا المعاصرة وماضيها وتقاليدها في كل أوجه حياتها اليومية ، على الرغم من ماضيها وإنجازاته الرائعة على مدى أكثر من عشرة قرون وفي ميادين متعددة جداً . ومع ذلك ، لاأعتقد أن الأوربي المعاصر يعيش في ماضيه ومعه أو تجمعه بماضيه العلاقة ذاتها التي تجمع الإنسان العربي بماضيه .
إن هذه المسالة طالما أثارت نقاشاً عميقاً بين مثقفينا ، وعليه ، فإن هذه النقطة تعد أساسية ، ومنها نستطيع أن نعالج مشكلة موقفنا من الماضي ، مشكلة عدم مواجهتنا للحاضر بشكل مباشر ورغبتنا الدائمة في التهرب من هذا الحاضر، في سبيل الاجترار المستمر لأمجاد ماضيه ، حيث نتصور أنها ستعوضنا عن قصر الحاضر وفراغه .
إن هذا الصراع الفكري الذي يمزق شخصية الإنسان العربي ويصيبها بالفصام والقلق والاغتراب النفسي نتيجة لثنائية مصطنعه بين المثال والواقع ، وبين حياة الإنسان الروحية وحياته المادية ، الأمر الذي يحملنا على القول :- إن الكثيرين من العرب هم حالياً في واقع الأمر ، الصورة الجامدة السطحية للحضارة العربية الإسلامية التي يحيونها من الخارج لا من الداخل ، كما أنهم الصورة الباهتة الشوهاء للحضارة الغربية الحديثة التي يستهلكون قشورها دون جوهرها ، إنهم حيارى ، مبتوروا الجذور ، فلاهم مع جوهر التراث الماضي ولاهم مع روح العصر ، وليسوا بقادرين على استشراف آفاق المستقبل .
لذلك نرى ، أن علاقة الإنسان العربي بماضيه علاقة غير طبيعية ، وهذه العلاقة تنحصر في أن الماضي يريد أن يحل محل الحاضر في ذهن الإنسان العربي . وفي رأيي أن مختلف التيارات التي تسيطر على الوطن العربي اليوم وتتحكم في توجهه ، أو بمعنى آخر ، بعض فئاته خصوصاً الدعوات السلفية التي ظهرت لتقتلع كل شيء ، وابرز أسباب ظهورها بهذا الشكل القوي هو فشل المشروع النهضوي الحضاري العربي ذي السمات القومية . وهذه الدعوات لاتريد أن تحل هذه المشكلة حلاً حقيقياً ، بل ربما وجدت لها مصلحة أساسية في بقاء هذه العلاقة التي قد نعتبرها علاقة مرضية بين الماضي والحاضر .
ولكن ، ألم نجد بين تجارب الشعوب ما نجح منها في الاستفادة من الماضي وتطويعه في سبيل التقدم؟ أليس من الممكن أن يكون هناك مجال للاستفادة من تلك التجارب ؟
اعتقد أن هناك علاقة وثيقة بين الماضي والحاضر والمستقبل ولايمكن بتر المراحل عن بعضها بشكل قسري . وهناك فارق كبير بين من يدعو للعودة إلى الماضي والتقوقع فيه وبين من يدعو إلى الاستفادة من ايجابيات الماضي وإلغاء سلبياته .
في تصوري ، أن مسألة الموقف من الماضي تحكمها أو تحسمها قضية التطور الاقتصادي والاجتماعي التي يمر بها المجتمع ، لأنه كلما كان المجتمع متخلفاً كان حنينه إلى الماضي كبيراً خاصة إذا كان طريق التطور إمامه غير واضح المعالم .
أما إذا اندفع المجتمع على طريق التقدم الاقتصادي والاجتماعي ، فاعتقد أن علاقة الإنسان بماضيه وحضارته القديمة تصبح علاقة حميمية وجدلية . بمعنى انه يعتبر بهذا الماضي دون أن يجعله متحكماً في حاضره وفي مسار مستقبله ، فيأخذ من هذا الماضي ما يفيد الحاضر وربما ما يفيد المستقبل .
فمما لاشك فيه ، أن الماضي يصبح عبئاً ثقيلاً على الشعوب إذا لم تعرف كيف تدمجه دمجاً وثيقاً بالحاضر والمستقبل ، وإذا لم تحسن تجديده لتبقيه حياً متحركاً يملك الديناميكية اللازمة للتفاعل مع العصر والتفاعل مع المستقبل . لكن لابد من الإجابة على السؤال التالي :- لماذا هذا الحنين الخاص الذي يكنّه العرب لماضيهم ؟
لابد أن نذكر ، بأن العودة إلى الماضي في مرحلة من مراحل حياتنا العربية اضطلعت بدور الحفاظ على الذات العربية وعلى الهوية ، ولاسيما في مرحلة الاستعمار حيث مثلت بسببه عاملاً ايجابياً متمثلاً في الحفاظ على الذات والحفاظ على الهوية وعدم الذوبان في ثقافات الآخرين وفي ثقافة المستعمر بوجه خاص .
كان هذا التصرف حذراً مفروضاً على العرب في مرحلة ما . غير أن هذه الظروف زالت وأصبح العربي يواجه ظروفاً جديدة ، لكننا ما نزال إلى حد ما في الموقف نفسه فيما يتصل بارتباطنا بالماضي والحنين إليه .
صحيح أن الصيغ تغيرت ولكن هنالك غزواً ثقافياً وبالتالي هنالك حاجة إلى تأكيد هوية ثقافية لأنها هي المحافظة في النهاية على كرامة الشعوب وذاتيتها ، وهي التي تحول بينها وبين الذوبان ، لاسيما إننا أمام تقدم علمي وتكنولوجي يغزونا شئنا أم أبينا ، وهذا التقدم يحمل قيماً هي قيم المجتمع الذي أنتجها .
والتقدم العلمي والتكنولوجي ليس حيادياً ، إذن لابد من هويتنا الذاتية ، وموضوع الهوية مايزال مفتوحاً ، ولكن ينبغي أن يطرح بعبارات جديدة تتلخص في نظري في النقطة الآتية :-
          لايعني تأكيد الهوية العودة حرفياً إلى شكل من إشكال الماضي وتفاصيله ولاسيما أن الماضي ممتد وواسع وهو مجموعة من المواضي وليس ماضياً واحداً. ولكننا بحاجة إلى صيغة جديدة . ومعنى ذلك ، أن الحل لايكمن في الرجوع إلى أي شكل حرفي من إشكال الماضي ، وان كان يكمن في أن نستمد كثيراً من القيم والمبادئ والتجارب والخبرات التي علمنا إياها هذا الماضي ، وان ندرسها ونحللها. والحل يكمن في أن ندرك حقيقة أساسية ، وهي أن الثقافة أو الهوية الثقافية تتحقق عندما نبني ثقافتنا – واقصد الثقافة في المعنى الواسع للكلمة – بذاتها وبأيدينا .
هذه هي الثقافة الذاتية التي تحقق الهوية ، والثقافة التي تحقق الهوية ليست مجرد ثقافة تعود إلى شكل من أشكال الماضي . الثقافة الذاتية التي تحقق هويتنا هي تلك التي نبنيها بناءاً جديداً من عناصر جديدة ، ولابد أن تكون مركباً جديداً فيه من الماضي وفيه من الحاضر والمستقبل ومن تجربة العصر . وهذه الصيغة التي نتبناها مشروعاً لمستقبلنا ولحضارتنا ، هي هويتنا في نهاية الأمر .
أعتقد أن مسألة الهوية مشكلة زائفة استدرجنا إليها احتجاجنا ضد الغرب لأنها لاتعني سوى الوجود في مقابل الأخر ، فكان الأساس هو الأخر ، وكيف اثبت نفسي إزاءه . والواقع إننا لسنا في حاجة إلى إثبات هويتنا أولاً لأننا نحملها دائماً .
إذن ، لابد أن تحدث ثورة ، وهذه الثورة مرتبطة بالتفكير ، وهذا يقودنا إلى نمط التفكير العلمي ودور المثقف فيه وبالتالي التبعية المضروبة حول المثقف ونوعية العلم وما تقدمه مؤسساته الأساسية .
إن الإنسان كما هو معروف ، هو المركز الأساسي للتغيير الاجتماعي ، ومركز التغيير في الإنسان هو المعرفة ، وهذه مرتبطة بالمعلومة وبالثورة العلمية، وبالتالي بمؤسسات الأعلام . وهذه إلى حد كبير – في الوضع العربي الراهن – تدخل في إطار التبعية ، بحيث لاتخرج عن الإطار المضروب حولها . وهذا يقودنا إلى ما يدور حول التفكير الميتافيزيقي بالماضي والسلفية وغيره ، وبالتالي الاستمرار في إطار التبعية.
واذا أردنا خلق تفكير علمي وكسر حاجز الصراعات والتناقضات والتعقيدات ... فإنني أعتقد إننا نصطدم  لامحالة مع السلطة . وهذا يقودنا إلى السؤال :- مانوع العلاقة بين الثقافة والسلطة ؟ وإذا سرنا في اتجاه هذا التفكير نستطيع الإجابة على السؤال :- إلى أي مدى يمكننا الاستفادة من تاريخنا ؟
          إن المعرفة هي الاستفادة من تجارب التاريخ ، وهذا يقودنا إلى قضية أساسية مرتبطة بالفكر العلمي والأعلام ، هي قضية الديمقراطية بممارستها .
          إن الثقافة بمعناها الواسع هي أنماط السلوك المادي والمعنوي السائد في مجتمع من المجتمعات . وهي أهم محرك لحياة المجتمع وأهم عامل من عوامل تقدمه ، وهي واحدة من مقومات التنمية الاقتصادية والاجتماعية . لذلك ، ينبغي أن نعتني بالثقافة بهذا المعنى . ولعل هذا أجدى بكثير من أن نتحدث عن الماضي وان نعتني بدراسة هذه القيم الثقافية ومغالبة ما يحتاج إلى فعالية ، وعلى التأكيد على مايحتاج إلى تأكيد .
          واضح من مجمل ماطرح ، إننا في أوقات الأزمة السياسية والاقتصادية العاصفة وفي ظل التبعية للعالم الغربي المتقدم اقتصادياً وتكنولوجياً ، نجد في العودة إلى الماضي نوعاً من الراحة النفسية ونوعاً من محاولة إغلاق الإذن عما يدور والبحث عن نوع من التطمين الذاتي الخادع للنفس ، ولكن هذا الخداع لاينكشف إلا بعد تضحيات جسيمة .
          والسؤال المطروح الآن هو :- هل العلاقة بين الماضي والحاضر علاقة توفيقية ؟ هل يمكننا أن نأخذ قليلاً من الماضي وقليلاً من الحاضر ونمزجهما بنوع من التوليفية في محاولة للخروج من المأزق الحالي ؟ أم هل سيظل الماضي يسحبنا في اتجاهات الرجعية السلبية ؟
والسؤال ليس جديداً ، فقد طُرح في القرنين الثالث والرابع الهجريين بشكل واضح جداً ، وأمامنا تجربة المعتزلة ماثلة . فالقضية المطروحة ليست بالجديدة ، وتاريخنا مليء بمناقشات مشابهة .  



 

ليست هناك تعليقات: