قصص قصيرة جدا ً
عادل
كامل
[1] الحفيد
لم يعد لديه، وقد تجاوز
الثمانين، إلا ان يراقب حفيده، الذي مازال في عامه الثاني. كان الجد يراقب الجهد
الكبير الذي يبذله الطفل في سحب كرسيه، ويضعه فوق الآخر، الذي كان قد اشتراه
لوالدته، قبل نصف قرن، لكن الطفل لم يكتف بذلك، فقد استولى على كرسي آخر، يعود
لشقيقته، وجرجره، بجهد شاق، ووضعه فوق الكرسيين السابقين، ثم ...، تأملها، لبرهة،
كي يصعد ويتربع فوقها جميعا ً! لم يفتح الجد فمه، بل دار بخلده: الآن لا امتلك إلا
ان اجلس فوق الأرض!
[2] قمر
بعد ان وضع في الزنزانة، سأله
السجّان:
ـ أين نحتجزك كي تغلق فمك؟
ـ انتم لم تتركوا لي سوى نافذة صغيرة، في أعلى الجدار، ولكنها سمحت لي ان
أرى القمر، في أول الشهر، فأتذكر إنني، في ذات يوم، كنت أهرول في الحقول،
وأتذكر الأطفال وهم يذهبون إلى المدارس،
وفي كل يوم، استنشق رائحة الحقل، مثلما أرى الأطفال يكبرون، وما ان يبلغ القمر
منتصف الشهر، حتى أرى إنني كبرت، وكبر الصبية، أنا أصبحت مشاكسا ً، والأطفال
أصبحوا أشداء...، وما ان يغيب القمر حتى لا أرى شيئا ً. فانتظر الفجر...، كي أجد
سببا ً لبراءتكم، لأنكم، في يوم ما، كنتم تهرولون في البساتين، وتلعبون في الحدائق،
وفي يوم ما كنتم تحلمون الذهاب إلى القمر!
[3] الحصيلة
سأل التلميذ معلمه العجوز:
ـ أستاذي، ما هي الحصيلة التي تعتز انك حصلت عليها خاتمة لحياتك الطويلة في
المعرفة، والبحث، والدرس..؟
ـ لم أكن اصدق، يا ولدي، أنني سأتعرف على كل هذا العدد الكبير من الأنذال!
ولم أكن اصدق أنني سأرى هذا العدد الأكبر من الذين يستخدمون الأقنعة، وبها يتسترون
عليها، ولا على هذا الفظيع من الفاسدين، والمزورين، والجشعين، والقتلة!
ـ وأنا؟
ـ آمل ان لا تدعني أتعرف على صفة أغفلتها، وغابت عني! فانا انشغلت طوال
حياتي ان لا أؤذي أحدا ً...، وها أنت تراني أصبحت، يا ولدي، موغلا ً في الأذى!
فاغفر لي أنني لم أجد صفة ـ في ّ ـ خالية من النذالة! وأنا الآن أخشى ان يأتي
الزمن الذي تتحول فيه هذه الصفات إلى فضائل، وحسنات!
[4] غفران
وجد نفسه مطوقا ً، والأسئلة
توجه له:
ـ أما تعبت من الاعتراض، هل تأسف، وهل تطلب الغفران...؟
ـ وهل لدي ّ قدرة على الاعتراض حقا ً، وهل لدي ّ قدرة على الآسف، أو رغبة
بالغفران..؟
ـ الم ْ تجد إجابة أخرى اشد إيذاء ً من الاعتراض، ومن عدم الآسف، ومن عدم
طلب الرحمة..؟
ـ من يمتلك قدراتكم...، أتراه ترك لنا قدرة الاعتراض، أو جدوى الأسف، أو
الرغبة بالغفران ...؟
[5] مجسمات
لم يكن، دار بخلده، فقد ذاكرته،
بل استعادها، وهو يلهو بالطين، وقد صنع مجموعة كبيرة من الدمى، والمجسمات: حيوانات
لها رؤوس آدمية، مكعبات مشققة، نساء نحيلات وأخريات مفرطات في البدانة، طيور ذات
أجنحة معدنية، دوائر مشطورة، أعمدة تنتهي بأصابع، أجسد متناثرة، مثلثات وعيون
وقواعد متلاصقة....، فراغات وكتل سائبة....
ـ ما هذا اللهو ...، والحرب في أشدها؟
لم يرفع رأسه، ولم ينطق، فقد
ترك أصابعه مشغولة بجمع ما أنجزه وحملها ودفنها في حفرة، وأغلقها بإحكام، مرددا ً
مع نفسه بصوت خفيض: هم يعبثون بنا، بأولادنا، بفتياننا، بنسائنا، بشيوخنا....،
بمدننا، بمواردنا، بممتلكاتنا، وبمصائرنا، ولا احد يقول لهم: ماذا تفعلون؟
قيل، انه، منذ ذلك اليوم، لم ينطق بكلمة، وما رفع رأسه عن الأرض!
[6] الصيادون
عندما وقع الذئب الذي كان قد
افترسني قبل قرون، في قبضة الصيادين الجدد، شعرت بالحرج، ليس لأن الذئب لم يجد إجابات
مناسبة للآثام التي ارتكبها، وفي مقدمتها، افتراسي، كما أسلفت، بل لأنه بدأ يتضرع،
ويستنجد، ويطلب الرحمة، حتى حسبته تحول إلى حمل، أو إلى حيوان وضيع.
كانت قبضة الصيادين الجدد شرسة،
لا تعرف المرونة، ومحكمة، بعد أو وضعوه داخل قفص حديدي، بغية نقله إلى حديقة
الحيوان، أو قتله، أو وضعه في السجن، او عرضه في احد المتاحف، عندما قررت المغادرة.
صاح كبير الصيادين في وجه الذئب:
ـ أيها الصنم، أيها الطاغية، هذا هو أول ضحاياك!
وكاد يطلق النار عليه، أو يبتر رقبته، فصرخت:
ـ لحظة، أيها الصياد، من قال لك انه هو الذي افترسني؟
ساد الصمت لحظات، ليسألني الصياد
الأكبر:
ـ ماذا تقول، ونحن عملنا هذا من اجل إنقاذك..؟
ـ أقول...، واعترف إنني أنا هو من دخل في جوف الذئب، فهو لم يفترسني، بل أنا
وجد ملاذه هناك، ودخلت، بإرادتي...وها انتم شاهدتم أنني خرجت بإرادتي أيضا ً!
ولم اخبرهم بالباقي، فقد كنت
وجدت بابا ً فدخلته واحتميت بجدرانه، وفي البيت، عثرت على حفرة، كانت هي ملاذي
السعيد.
[7] الصياد
انتظر الصياد طويلا ً، أمام
البحر، حتى كاد يرجع من غير ان يصطاد حتى سمكة واحدة، عندما سمع من يسأله:
ـ من سمح لك ان تصطاد، هنا، عند سواحلي...؟
ـ من أنت كي تسألني هذا السؤال؟
ـ أنا اله البحر!
ـ آ .....، لكنك لم تعرف من أكون أنا...؟
ـ من تكون؟
ـ أنا عبدك، الفقير، المسكين، الذي يكاد يموت، مع أولاده، جوعا ً!
ـ حسنا ً...، لقد أحزنتني، فانا سأسمح لك ان تصطاد، شرط...
ـ وهال سأعترض!
ـ إذا ً ....، لك سمكة، ولي تسع سمكات، مما تصطاد.
ـ وهل سأعترض! ولكن....،قل لي، يا كبير آلهة البحار، من ذا سيصدق هذه
الرواية! فإذا كان البحر كله بحوزتك، مع السواحل، والمصبات، والينابيع، والأنهار، فهل
يليق بمقامك ان تترك لي سمكة واحدة وأنا لم ابدأ حتى بالصيد؟!
ـ ماذا تقصد؟
ـ اقصد....، أنني سأحتفل بأنك تركني أعود إلى بيتي، حتى من غير هذه السمكة
الوحيدة التي لم اصطدها بعد!
[8] رحمة
وأخيرا ًسألت نفسي من غير تردد،
أو خوف: من ذا الذي قادني إلى ارتكاب كل هذه الشطحات: حواسي أم عقلي، عاطفتي أم إرادتي،
غبائي أم عقلي، عفويتي أم مقاصدي، عبثي أم مكري...؟
لم اعثر على إجابة شافية، بل
عثرت على أسئلة لم تخطر ببالي أبدا ً، وأنا أصغي إلى صوت مجهول يخاطبني: ما الذي
باستطاعتك ان تفعله...، وقرار الحكم كان قد صدر عليك قبل ان يكون هناك زمن،
وفضاءات، وسواحل، وقرى، ومدن، وعولمة، وقبل ان تكون هناك أسواق حرة، وشركات عابرة
للمحيطات، والقارات، وقبل عصر الشفافية، والحريات، والديمقراطيات، وقبل تهرب من
الضواري، ثم بعد ان أصبحت تطاردها، حتى تم وضعك داخل هذه الجدران.
ـ كيف، انجدني، مع أنني لم أتضرع من قبل، ولم اطلب العون...؟
ـ اعد السلسلة منذ بدأت،
بالثواني، والأيام، والشهور، والقرون، وضاعف العدد إلى الملايين، والمليارات، والترليونات،
ومضاعفاتها، واحدة واحدة، ستجد انك ستصل إلى ذلك الذي ليس له ابتداء، أو حركة، نور
أو ظل، جسم أو اسم، اثر أو علامة، وجود أو لا وجود، ولكن الذي ليس باستطاعتك ان
تقول له: وهل كنت امتلك إرادة تمنع إرادتي من التوغل في هذه الممرات: أليس النور
القليل الذي رايته هو وحده الذي أضاء لي هذه الدروب، وهو وحده الذي سمح لي ان امتد
في لا حافات هذه المديات، وفي ما هو أكثر امتدادا ً من هذه المسافات، كي أدرك،
أخيرا ً، أنني أصبحت لا امتلك حتى الفرار من هذا الضيق! يا أيتها الرحمة ما
أوسعك!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق