السبت، 17 مايو 2014

فن الحاضر و اشكالية التحول من الخلق الى ( الانتاج )- علي النجار


فن الحاضر و اشكالية التحول من الخلق الى ( الانتاج )
 
علي النجار
 




سعت ما بعد الحداثة ومنذ بوادر ظهور اختلافاتها الأولى في العقد الستيني من القرن الماضي إلى القضاء على اسطورة الطليعة (الأفان - كاردزم) الحداثية, من خلال تجاوز أطروحاتها الفلسفية والأسلوبية الجمالية، سعيا لإلغاء التمركز على الأنا بجذره الأوربي. لكن لم يكن للإلغاء من معنى, بقدر كونه تفكيكيا وتجاوزا للمنجزات الحداثية الأولى. فالدادائية الجديدة هي الوليد الشرعي لدادا عام(1917). لكن ان كانت الدادائية الأولى عدمية, بسبب من الإحباطات النفسية التي افرزها الهوس التكنولوجي الميكنني, و تداعياته الاقتصادية التي تسربت من تحت خطوط الرفاهية الزائفة الطافية على السطح في نهاية القرن التاسع عشر. فان بشائر وتداعيات الحرب في العقد الثاني من القرن العشرين قضت على سلوكيات الرفاهية لصالح الشك وعدم اليقين. الدادائية وصمت كل معايير الثقافة والفنون السابقة بالدجل والرياء. لكن ثورتها العبثية أطلقت العنان لحرية الأداء والتصور الحداثي بدون شروط وخارج كل الأطر, وكانت الشرارة التي حصدت ما قبلها, لتوقظ ما بعدها .
الدادائية الجديدة, حالها حال العديد من اتجاهات ما بعد الحداثة الفنية, هي الأخرى من نتائج عدم اليقين التكنولوجي. أو نقيضه, اليقين المفرط. وكإيهام عصري تقني يتجاوز افتراضيته. فان كانت الدادائية الأولى تلصق أجزاء اللا فكرة عشوائيا. فان جديدها يبعثر الأفكار في فضاء افتراضي أوسع وأعم.
ما بعد الحادثة هجرت علم النفس الحديث, في بعض من أطروحاتها, وبالذات شق التداعيات الحلمية لفرويد و يونغ. من اجل أحلام أخرى خضعت لمنطقها الخاص المحدد, كفن عرقي(فن السود) أو جنسي(النسوية والمتحولين جنسيا والمثليين) وليتحول المسكوت عنه إلى العلن, ضمن الفوضى الخلاقة بشقيها: المعلن عنه, والمتستر به. وغير بعيد عن سلوكيات اقتصاد السوق العولمي التي تجاوزت(المقدس و المدنس), وأباحت الجسد مجرد مؤدي(بروفانس), وليس مستعرضا. وكان الفعل( هابنس) ومنذ بداياتها الأولى حضورا فنيا اجتماعيا. كما النص(كونسبت) والفيديو - ارت, والإنشاءات المختلفة(انستليشن). وضمن غلبة التصور الإيهامي(ألمفاهيمي) على الواقعي. فان كانت الآلة في الزمن الحداثي الأول ( التاسع عشر) تروس صلبة تدور وتطحن البشر حتى كارثة الحرب الكونية الأولى.فان التقنية باتت اقتصاديات ناعمة غير مرئية تمر عبر شبكات الأثير. وبات العمل الفني أثيرا هو الآخر في بعض من عروضه وتقنياته.
دشن مانيه في لوحته ( فطورعلى العشب) حداثة نهاية القرن التاسع عشر وحرر العمل الفني من مضمونه المقنن ضمن مرجعيته التاريخية, أو مدلولاته الواقعية. منذ ذلك الوقت والفنانون حريصون على إقصاء المرجعيات أو مراوغتها. ما عدى فناني الشرق الأوسط ونظرائهم اللاتينيين والشرق أقصى. إذا تجاوزنا الفن المؤدلج الذي بقي في إسار مرجعية سابقة. اعتقد أن مانيه في عمله هذا هو الذي مهد لعصر الصورة الحديثة المكتفية بذاتها.



عصر الصورة السينمية التي أخذتها السريالية لريادة خفاء العالم لا وضوحه. كما في(الكلب الأندلسي) ليونيل ودالي. وكما في صور( مان راي) و عشيقة بيكاسو( دورا مار) وغيرهم, واحدث منهم. فان كان الغموض الحداثي بعض من نتاج السريالية. فان ما بعد الحداثة هي الأخرى صنعت أساطيرها الواضحة والغامضة, على الضفة الأخرى من ممارسات الفكر البشري. وحيث الآلة التقنية الرقمية. أو مواد العمل نفسه, هي التي تمارس دورها الإبداعي. وما الفنان إلا مجرد روبوت, في حالات كثيرة, تابع لتنفيذ اقتراحاتها. لقد باتت التقنية المختبرية في العديد من نتاجات الفنانين هي الحكم على جودة النتاج. وبات التخصص التقني مطلوبا في تنفيذ المشاريع الفنية, سواء الفردية او الجماعية. لقد انتهى الدور الريادي للفنان الصانع المتفرد, ضمن مشاعة الاشتغالات الفنية. وبات الفنان صاحب البصمة المتميزة, سلعة نادرة. لقد حققت ما بعد الحداثة ديمقراطية اشتغالاتها. وبات الفنان الأكثر انتشارا والأعلى سعرا هو هدفها النهائي. ونجحت في تحويل الفنان من خالق ( كما الزمن الحداثي ) الى مجرد منتج غالبا ما لا يختلف عن غيره إلا في بعض التفاصيل وفي القدرة على تسويق عمله. او قدرة السوق الفني على تسويقه.

* الوهم الافتراضي الأول: الاكتشاف الأول للأطباق الطائرة في تكساس الأمريكية في عام(1947), أي بعد الحرب الكونية الثانية وكوارثها التقليدية والذرية! اكتشاف ملحق أو الحق ليخدم ويغطي على نتائج الحرب, حسب ما اعتقد.



* الوهم الافتراضي الثاني: اكتشاف(زكريا ستيثسن) بان(الأنانوكي) آلالهة السومرية, هبطوا من السماء, ثم غادروا الأرض عام(1700) قبل الميلاد بعد أن تركوا كتاباتهم وعلومهم المتقدمة حضاريا إرثا للبشرية, وبعد أن تزوجوا من نساء العراق وخلفوا, وهم العمالقة !
ان كان الافتراض الأول, كان مجرد تلفيق لخدمة أغراض سياسية, كما اثبتته الوقائع المتأخرة. فان الافتراض الثاني هو الأخر اعتقده تلفيقا لإلغاء الصفة التاريخية الحضارية لسكان جنوب العراق القدماء, وربما لنفس الأسباب. فلحد الآن لم يكتشف من آثار العراق الا القليل حسب رأي علماء الآثار, ولعلنا نجد في المطمور منه حلا لهذا اللغز. المهم أن افتراضات الكائنات الفضائية استولت على مساحة واسعة من الثقافة الفنية الصورية لزمننا المعاصر. بالتزامن والتقنية الروبوتية. وبتوقعات حصول كارثة كونية, أو محاولات لتلافيها. محاولة صناعة هذه الأوهام العلمية والتنبؤية. هي بعض من انجازات ما بعد الحداثة في شق عدم اليقين الفلسفي, ومن ضمنه تجاوز معطيات التاريخ.
منذ بداية الستينات والسؤال المعرفي الفني يؤرق فناني العراق والمنطقة العربية. وكانت الحلول في جاهزية التزاوج مابين الأصالة ( المنجز الفني التاريخي ) والحداثة. وكان حضور الوعي التاريخي طاغيا في أعمالهم الأولى سواء التشخيصية أو الحروفية الشكلية. فهل كانت حلولهم الفنية هذه صائبة بالنسبة إلى زمنهم. اعتقد بما أن الحداثة العالمية وصلت للمنطقة متأخرا نسبيا. ولكي لا يطفو الفنان العراقي أو العربي في فضاء عائم. فكان النسب التاريخي حافز لهم لتأصيل النتاج الفني, ضمن هوس التأصيل, ولو ببعض من الملامح. من خلال معالجة المفردات التاريخية والمحلية بأسلوب حداثي لا يلغي انتمائه للحداثة العالمية. ولا يفقد السمات المحلية في نفس الوقت. وفي النحت كانت أعمال ( جواد سليم ) و ( إسماعيل فتاح الترك ) خير مثال لذلك. بل باتت تشكل إيقونة فن النحت العراقي الحديث.
توفي جواد سليم في عام(1961). وتوفي إسماعيل في عام(2004). جواد لم يشهد الحرب. وإسماعيل شاهد ثلاثة حروب. لم تخل منحوتاتهم من ملامح أثرية رغم حداثتها. وان كانت رسوم جواد تنتمي للعقود الأولى من القرن العشرين. فان رسوم إسماعيل كانت تعبيرية محدثة, مثلما بعض منحوتاته الصغيرة أو الفخارية.



من جيل النحاتين العراقيين الجديد, الثمانيني ( أحمد البحراني ) الذي تتلمذ وتأثر بأستاذه النحات التجريدي ( عبد الرحيم الوكيل ) الذي كان متأثرا بدوره بمدرسة النحت الانكليزية الحديثة. أحمد أعلن اختلافه بمنحوتات لا تشخيصية ( تكوينات شكليه استدارية ) من الحديد, بصياغات متعددة. لكن, وبما انه من جيل الحرب ( كما أطلق على جيل الفنانين العراقيين في زمن حرب الثمان سنوات. العراقية الإيرانية. وشاهد على الحرب الأخيرة (تحرير أو احتلال العراق ) عام(2003 ). وما تبعها من تعرض العراق لموجات الإرهاب والفساد الإداري المستمر. وبتأثير من كل ذلك ارتبط مفهوم الحرب والإرهاب( المتداول ) في ذهنه. وكان من نتائجه انجاز مشروعه النحتي( ماذا لو ) الذي شارك في معرض بازل ميامي العام الماضي.
ماذا لو :
نفذ النحات السويدي(كارل فردريك روترسوارد(1)عمله النحتي البندقية المعقودة, متأثرا بحادثة اغتيال صديقه عضو البيتلز(جون لينون) كإدانة للاغتيال, والحرب متمثلة بأسلحتها, مشروع اغتيال جماعي. ثم تحول عمله إلى إيقونة للسلام, نصب في أكثر من مدينة عالمية. عالج( روترسوارد ) واقعة واضحة المعالم. أحمد البحراني لم يكن كذلك. لقد اخترعت تلفيقات كثيرة لإسقاط النظام الدكتاتوري العراقي.



لكن بالمقابل لم يكن التغيير إلا إعادة لصياغة دكتاتوريات لطوائف متعددة. وضاعت الحقيقة أو الوضوح, ضمن مساحة تعدد التبريرات واختلاط التصورات المصالح والمفاهيم. ولم تبق غير حقيقة واحدة, هي استمرار الحرب او الحروب الداخلية. أو حسب مصطلح ما بعد الحداثة الجديد: الإرهاب.
بيكاسو, الأم تيريز, مندلسون مانديلا, رونالد, غاندي, مايكل جاكسون. شارلي شابلن. سبعة شخصيات ايقونية حداثية وما بعد حداثية, بعضهم ترك بصمة على القرن العشرين. في مجالات متعددة, أو مستويات تتراوح مابين ذروة الإبداع, وما بين الأداء الشعبي. لكن يبقى قاسمهم المشترك هو مجال الإبداع الإنساني السلمي. أحمد استل هذه الشخصيات من محيطها من اجل ان يعالج قضية الحرب, وليس السلم. صنع منها جنودا محتضنين أسلحتهم. فالعالم بات في نظره مجرد غابة والوجود أو المجد للسلاح فقط, ليس للدماغ. هذا ما استخلصه من درس حروب العراق. وإذا كانت هذه الشخوص المختارة من الضفة الأخرى تنكبت السلاح. فماذا بقي للإنسانية كي تمارس وظيفتها.
في عرض بينالي مدينة كوتنبرغ السويدية( خيارات السياسة وتحديات المعارضة) في عام(2007) الذي تناول موضوعة الحرب والإرهاب. وفي مساهمة لفنان روسي, عرض خمسة تماثيل برونزية ذهبية لأطفال عراة بخوذ حربية حاملين أدوات موسيقية في وضع استعداد هجومي. كان هدف الفنان تهجين الفعل الحربي, شخوص وأدوات هي ابعد ما تكون عن فعل الحرب. أحمد كرر هذا الفعل المفهومي, لكن بأدوات الحرب نفسها. فهل من الممكن تصور الأم تيريزمحاربة. أو غاندي أو مانديلا و بيكاسو وغاندي,وحتى مايكل جاكسون بمظهره المبهرج, لكن ربما نتصور رونالدو محاربا. رغم كونه يحارب بطريقته الخاصة في ساحات كرة القدم. لكنه بالتأكيد لا يفضل أن يترك استثمار قدميه. الوحيد الذي فعلها هو الفنان حينما قلدهم أسلحة الحرب, و صاغهم حركات استعراضية, لكنها ليست هجومية على اية حال. هو اكتفى بتقليدهم السلاح لينسخهم شخوصا جديدة, مغايرة لشخصياتهم الحقيقة. فهل الحرب إلا استنساخا لبيادق قابلة للإبادة ليس إلا..
سعى الفنان في عمله هذا لأحداث فعل الصدمة, وهو فعل من أفعال ما بعد الحداثة. كما تعارض وارث النحت العراقي الحداثي. وبصياغة واقعية شعبية ( بوب ), تذكرني بالمنحوتات الصينية الواقعية الاشتراكية. وكان الفنان صائبا في اختياره فريق عمل صيني في التنفيذ. ومنحوتاته هذه اقرب لأشكال المنحوتات الشعبية. لكن بصيغة سياسية افتراضية. والافتراض هنا أيضا هو الأخر من أفعال ما بعد الحداثة, كونه يحمل صفة اغترابه.

يبدو أن بوادر جيل فني عراقي جديد تتشكل رؤاه ضمن مفهوم الفوضى الخلاقة التي من تداعياتها فقدان الكثير من مفردات السلوك الاجتماعي السابق لأزمنة الحرب والحصار. مثلما هو حاصل في مفردات اللغة الشعبية الجديدة التي تسللت للخطاب الشعبي, والتي هي من مبتكرات ضرورات السلوك المستجد ضمن ظروف غير إنسانية يسودها الشك وانتهاز الفرص وانعدام الضوابط الخلقية. اختلاط المفاهيم ضمن هذه الفوضى, أدى إلى النتائج التي عالجها مشروع النحت هذا.







النقائض وحدها كما يرى الفنان هي التي تسود. فماذا لو تسنم كل من شخوصه المختارة سلاحا حقيقيا وانضم لجوقة الحرب. ربما كانوا في صف المحررين, وربما تحولوا لصف الإرهابيين. اليس نحن من نخلق الإرهاب وننميه. ومن ثم نسعى للقضاء عليه, أو على آثاره. فمن يحزر من منا هو المشروع الإرهابي القادم. ما دام الإرهاب مصطلحا ما بعد حداثيا متداولا عالميا. فلنتصور هؤلاء المختارين إرهابيين. فهل تصح معادلة العيش بسلام واردة. أم بات اليأس ينخر نفوسنا. الم تطلق ما بعد الحداثة العولمية السياسية وأجهزتها الثقافية رصاصتها الأخيرة على ما تبقى من مفاهيم الحداثة الإنسانية. بعد أن فككت منظومتها الفكرية والفنية, وعبثت بها على هواها. فان كان الفنان طليعيا في العصر الحداثي. فانه تحول الآن إلى مجرد فرد مؤدي ضمن ملايين الأفراد. وبات متشيئا ضمن أشياء أخرى لا تعد. لكن درس الحداثة لم ينقطع كليا, بقدر كونه تفكك لمفاصل عدة, أحيانا جرى بعثرتها. وأحيانا أخرى إعادتها بطرق وأساليب جديدة, ضمن جدة الأشياء الأخرى. ويحق لنا ان نطلق على المعاصرة حداثة متأخرة. فلكل زمن حداثة وتحديث. والعصر كلمة زئبقية لا ثبات لها.

20ـ03ـ2014

هامش :
1- Swedish sculptor Carl Fredrik Reutersward in 1980: "knotted gun "

ليست هناك تعليقات: