الاثنين، 15 يونيو 2015

ذاكرة التشكيل العراقي أرداش : الرسام شاعرا- جبرا إبراهيم جبرا

ذاكرة التشكيل العراقي

أرداش : الرسام شاعرا


  جبرا إبراهيم جبرا
رائع أن يكتب الرسام شعرا . فهذه المساحات الشاسعة من الألوان ،هذه القماشات المالئة فضاءات الجدران بشخوصها ورموزها وغوامضها ، هذه كلها لم تكف أرداش لقول ما يريد أن يقول . وكان لابدّ له من الكلمة ، المنقذ الاخير حتى لمن أتقن الضربات اللونية العريضة في فسحات لوحات لعلّ ما من حرية في تجربة الإنسان تساوي التعامل معها إنطلاقا ونشوة وجرأة.
الكلمة ، هذه السرينة الغاوية ، هذه الشرسة الناعمة ، هذه الملوحة ابدا بصور تتوالد ، وتنشطر ، وتتشظى ، الى ما لانهاية. ومن هنا عشق الرسام لها ، حين يجدها تأتيه بصور أخرى تعجز عنها الريشة . حتى ميكيلأنجلو ، الذي طوّع الخط واللون والحجر كما لم يطوّعه إنسان ، وجد أن لا بد له من أن يكتب قصائد / ملجأه الأخير ، منقذته الأخيرة ، من عذابات لجاجة التعبير.
وشاعرية أرداش هي في أنه يكتب الشعر كما لايكتبه الا رسام لايغمض له جفن. فهو يقظ أبدا ، يتسقط الكلمات بالعين ، لا بالذهن ، فيقذفها صورا ً ، لاجملا ً، وتتناثر المعاني في كل صوب ، وتراها العين في نثارها وتجمّعها في إضطراب كإضطراب الحلم .
شاعريته هي في أنه يكتب الشعر كما يخشى أي شاعر أن يكتبه ، أو كما يتمنى لو أنه يستطيع أن يكتبه. لاتنسيق ، لاتناغم ، لا منطق ، حيث الإعتماد في معظمه على الشررالذي ينطلق من قدح الأضداد.
إنها الشاعرية التي تنتعش بروعة المستحيل. فهو ، كما يقول ، يستطيع أن يرسم الغيوم والطيور ، السفن والبحار ، يرسم الله غاضبا ويرسمه رحيما ، يرسم الأرض والأمطار والمناجم ، لكنه لايعرف كيف يرسم ملامح الوجه الذي يحب ، لأنه المستحيل الذي يعصى على كل فن ويستحث الأصعب من كل فن .
وهذا سرّ من أسرار العشق. وهو عند أرداش عشق دائم ، جريح ، ساخر من نفسه ، لايبالغ ولايهوّل ، أسير المفارقات المستمرة التي تجعله يرى أحلاما ، ( وهوالذي لم يحلم قط ) ، كما يقول. يأتيه الشيء صورة ً ليندرج في سياق صورغير متوقعة ، فتتجّدد صدمة الألم ، وتتكرربها طعنة العشق .
ما أبسط هذه اللغة ! ولكن ما أكثف دلالالتها وإيحاءاتها!
الصداقة ، الحب ، الشهوة : الإتصال دوما جسدي ودوما ضبابي . فالتجربة آنية وفيزيائية ، غير أنها في ومضة واحدة تتحول الى غمام أبدي : إنها تزاوج اللذة والذكرى في غيبوبة الشعر.
هذا الذي يرى المدينة ( عذراء مباحة ) / مستباحة ، هذا الذي يحاور أحجارها ، وأبوابها الوحشية ، ويقرأ رسائل الأحباب على مصاطب شوارعها : يرى نفسه أميرها ، وإذا هو ( محارب من خزف ) في سيرك المدينة . إنه المهرّج الذي يعتصر الأحزان ضحكة ً للآخرين .
وفي طرقات المدن ، في حدائقها ، في ضباباتها ، في لهيبها ، هو دائما مع ذلك ( الطير الأبيض ذي الشفاه العريضة ) ، تلك المخلوقة التي يشعرنا في كل ساعة بأنه وإياها ثائران في أرض حرقتها الشمس ، حيث هما أيضا يحترقان عبثا ، مع الأزهار.
والزهرة فراشة ضائعة في الطرقات .
أهمس وئيد هنا ، أم صراخ مكتوم ؟ لايأس هنا ، ولكن أيضا ، لا أمل. ولاشيء يبقى هنا ، الا الشعر والأسى ، حيث الزمن هارب ، لايستكين. يسرق ، ويهرب ، والشاعر هو ( عاشق هذا الزمن ) محاولا الإمساك بالطير الأبيض مرة أخرى .
رائع أن يمسك أرداش بلحظات العشق الهاربة ، عن طريق الكلمة ، كما حاول أن يمسك بها عن طريق الصورة ، وهو هائم في متاهات الغربة ، متاهات الحنين الى نبعه الأول / أيام كان معنا ، في الخمسينات ، فتى أصغرنا سناً في ( جماعة بغداد ) ومليئا مثلنا برؤى المستحيل .

1990
عن كتاب ( معايشة النمرة ) لجبرا إبراهيم جبرا

ليست هناك تعليقات: