الجمعة، 12 يونيو 2015

قصة قصيرة-المستنقع- عادل كامل

قصة قصيرة

المستنقع

عادل كامل

    ـ هل أنجزت مهمتك...؟
    رفع الدب رأسه وأجاب الجرذ المسؤول عن المتابعة:
ـ يبدو إنني أكملت الجزء الأكثر أهمية فيها...، لكن الأمر ليس بهذه البساطة...، سيدي.
   ولم يتوقف عن الكلام، موضحا ً مدى عنايته بانجاز ما كلف به. فرفع الجرذ صوته،  بعد أن صمت الدب:
ـ تستطيع أن تقول أن المهمة التي يصعب وضع خاتمة لها، لا يمكن عزلها عن أسبابها...؟
ـ وهذا ما أكدته تماما ً.
فضحك الجرذ:
ـ  وإلا فانك ستواجه مشكلات أيها الدب العجوز.
   فكر الدب، مع نفسه، ثم رفع صوته بخوف:
ـ أمهلني فترة وجيزة من الزمن، فالوباء الذي تسلل إلى المناطق البرية، من الحديقة، نجح في إحداث اختراقات...
ـ ليس هذا ما نريده منك...
وسأله بصوت أعلى:
ـ  هل هناك استجابة، أو قل ترحيبا ً، أو تسترا ً ...، أو... خيانة؟
ـ بحسب زياراتي الميدانية اليومية، خلال ساعات النهار والليل...، وبعد المعاينة المباشرة، التفصيلية، وإجراء الفحوص المختبرية، والنفسية، والفكرية....، ظهر لي أن الوباء محض إشاعة!
ـ إشاعة...؟
ـ ليس لدي ّ كلمة أدق....، وإلا لقلت لسيادتكم:  إنها حالة اعتيادية!
ـ ولكن عدد الوفيات في زيادة ..، حتى أكدت بعض التقارير ان حالات الانتحار فاقت الإشاعات ...، دالة على وضع مبيت،ومقصود، يرتقي إلى الشبهات، بل إلى الخيانة...؟
  اقترب الدب من الجرذ:
ـ لم اترك شاردة ولا واردة إلا ودونتها...، أما مهمة البحث عن الأسباب الملغزة، فانا غير معني ...، وغير مسؤول عنها.
ابتعد الجرذ قليلا ً:
ـ سأخبر مكتب السيد المدير بذلك...!
ـ انتبه...، يا سيدي، فانا سأعثر على هذا الذي بدا لكم بلا أسباب، وعلل.
ـ جيد.
   اختفى الجرذ، المسؤول عن المتابعة، والمراقبة، والرصد، ففكر الدب مع نفسه، انه لم يعد يميز ما إذا كانت الحياة قد بلغت ذروتها، أم إنها ستبدأ من جديد. فثمة حد لا هو بالعازل ولا هو بالموصل بينهما؛ هل نحن خاتمة دهر أم أوله؟  وهل الكارثة واقعة بالضرورة أم أنها في طريقها إلى الاكتمال....؟  فتذكر ان الجرذ حذره من الوقوع في هذه المناطق الرخوة، والغامضة ، لأنها شديدة الالتباس، وقد لا تزيد الغموض إلا  مزيدا ً من التعقيدات غير الضرورية...، لهذا عليه بذل أقصى ما يتمكن من العثور على النتائج التي تؤكد ان المرض وجد استجابة، وليس محض ضيف أو زائر دخيل، وليس محض إشاعة!
ـ هل عثرت على هذا الذي لا وجود له...؟
    ورفع رأسه، محدقا ً في عيني جاره، الذئب العجوز:
ـ المشكلة ان الذين يموتون لا يتركون أثرا ً دالا ً... ، على أسباب الرحيل الغامض.
ضحك الذئب:
ـ بل المشكلة إننا أصبحنا غير معنيين بموتانا، ولا بأسباب الموت، أصلا ً! 
فقال الدب:
ـ سيان...، إن كانت الدوافع حقيقية أم كانت مراوغة، ووهمية، فالجثث المجهولة الهوية تملأ الممرات..، والزرائب، والحفر، والحظائر، وضفاف المستنقعات...
   ضحك الذئب مرة ثانية:
ـ قبل ان نرحل...، وقبل ان نطرد منها، وقبل ان نختفي من هذه الحديقة، طالما انتابنا هذا الإحساس بالغياب...
ـ لم افهم قصدك؟
ـ كلامي ليس بحاجة إلى الشرح، ولا إلى التأويل...، فعندما حل الوباء، فينا، قاومناه، وعندما فشلنا في القضاء عليه، تصالحنا معه، وبعد هذا الصلح أصبح الداء يمتلك لغز الغائب في حضوره، وهو لغز الحاضر في غيابه!
ـ كأنك تتحدث عن هذا الذي يحصل اليوم...
ـ أنا اعتقد ان الرغبة بالموت، في الأصل، كامنة فينا، أي إنها ليست مستحدثة، وليست بحاجة إلى من يوقظها ...
       عدنا إلى الحد الفاصل بين السراب والماء، بين الوهم والحقيقة، وبين الجائر العادل، والعادل الجائر...، عدنا إلى الفاصل الذي نجهل سر عمله وهو يموه علينا قدرته على التجدد، والانبثاق...، وأضاف يدندن مع نفسه بصوت أعلى:
ـ فإذا كان الوباء قد وجد من بانتظار حضوره، ووجد من يستقبله، ويحتفي به، ويتضامن معه، ويشاركه أهدافه.....، فما معنى البحث عن الأسباب الكامنة وراء هذه الأسباب؟
قال الذئب بصوت مذعور:
ـ لأننا سننقرض!
ـ ماذا نفعل إذا كانت النتائج واحده؟
ـ نحد منها.
ـ لدينا من وجد الموت حلوا ً مثلما هي الحياة...، ولدينا من فر وغادر...، ولم يبق إلا من لا عمل له سوى انتظار هذا الزائر الجميل!
ـ آ ...، أيها الدب، انك شغلت حياتك بقضية خاسرة....، للأسف لا جدوى حتى من الأسف، أو الاعتذار، أو حتى طلب الغفران!
ـ صدقني أنا لم انشغل بها...، هي التي شغلتني...، أو هكذا وجدت نفسي منشغلا ً بقضية تداخلت مقدماتها بنتائجها، ونتائجها بالمقدمات..! فانا الآن لا أرى إلا هذا الحشد غير المكترث لمصيره، ولمصيرنا جمعاء، فها أنت تراهم يتنزهون، ويتسامرون، ويتجولون...، بين الجثث، وتراهم لا يكترثون لموجات الفرار، والنزوح، والهجرة...، وكأن شيئا ً ما لم يحدث...
ـ هذه هي الحقيقة!
ـ حتى تكاد الحديقة أن تخلو من سكانها!
ـ الحقيقة أم الحديقة...؟
ـ سيان، مثل أن تقول: ما الصمت إلا اعلي الأصوات...، ومثلما تقول: ما الشمس إلا ذرة فحم! لأنك عمليا ً ستجد داخلها المجرات والشموس والكواكب، وهذه هي الحقيقية التي سكنت الحديقة، وهذه هي الحديقة التي ترعرعت فيها الحقيقة!
ابتعد الذئب عنه قليلا ً، فخاطبه الدب:  
ـ لِم َ لم تستنطقها...، وكلاهما يتضمنان اللغز نفسه...، مثل قولك: المفتاح هو القفل، والقفل هو المفتاح؟!
   اقترب منه، وتكلم همسا ً:
ـ كان علي ّ أن افعلها، قبل نصف قرن، ولكنني، لأسباب اجهلها، لم افعلها...، فقد قلت: دع الأيام تكمل مساراتها حتى لا تتعثر فتتعثر معها!
ـ لكنك تعرف أن المشكلة لا تكمن هنا...؟
ـ أين تكمن..؟
   هز الدب رأسه مذعورا ً:
ـ أنا أيضا ً لا اعرف...، فالحياة تبدو تعمل وهي تحول لا شرعيتها إلى واجب...، والواجب إلى لامبالاة!
ـ ها أنت تقترب من الحقيقة...
ـ إن متنا ورحلنا أو غبنا أو لم يحصل ذلك، إن ولدنا أو لم نولد،  فالنتيجة تبقى كامنة في عوامل ديمومتها، وهي عوامل فنائها...، وتستطيع أن تقول: القفا يستكمل الوجه!
ضحك الدب:
ـ دعك من الهزل!
ـ هل سردت لك طرفة، أم تراني اسخر...؟
ـ بل سمحت لي بالعثور على الأسباب المؤدية إلى وجود الأسباب...، ومنحتني قدرة الولع بلا أسبابها أيضا ً!
ـ آ ...، عدنا إلى الشر الذي تربص بضحاياه...، فما أن يجد الوباء سكنه حتى يغدو هو المأوى!
ـ لم افهم...، أرجوك، فهذا العدد الكبير من المعلومات يشوش علي ّ ما كنت أظن إنني عرفته...!
ـ سيدي، ببساطة، نحن أصبحنا المعضلة غير القابلة إلا كي تكمل مقدماتها...، فالوباء لم يتسلل، ولم يجد من يأوهيه، وليس هو إشاعة أيضا ً.
    ابتعد الدب ولصق جسده بالجدار:
ـ انك تدعوني إلى الموت؟
ـ ها، ها، ها....، كأنك لم تمت بعد؟
ـ لكن بماذا اخبر سيدنا المدير....، عندما يأتي الجرذ ويزعق في وجهي: هل أكملت مهمتك؟
ـ ها أنت تخترع مشكلة لا وجود لها...، كي تجعل منها مشكلة شرعية؟ فقبل أن يستوطن الوباء، كنا نعمل على استبعاد حضوره، وعندما حل، وراح يفتك بنا، أدركنا استحالة مقاومته، وعندما اعتدنا وجوده بيننا أصبحنا نعمل على مراضاته...، وعندما جاء من يدعونا للقضاء عليه...، أدركنا استحالة اجتثاثه!
    رد الدب بصوت واهن:
ـ لعل الزمن السعيد الوحيد الذي عرفته حديقتنا، كان زمنا ً لا وجود له....، وإلا كيف تتحدث عن السعادة والمسرة والمرح بمعزل عن الذين هم أصل البلاء، والوباء، والبلية...؟
ـ ها أنت تقول الصواب..
ـ سيدي، هذه نتيجة، وهم يطلبون مني أن اعثر على أسبابها...
قال الذئب وهو يبتعد نحو المستنقع:
ـ كان عليك أن تتعلم من الأشجار لغز مرحها، وكان عليك أن تتعلم من الصخور سر سكينتها، وكان عليك أن تتعلم من الماء سر شفافيته!
هرول الدب خلفه:
ـ لا تسرع...، فإذا مت أنت يا جاري، بعد أن حصد الموت أرواح هذا العدد الهائل من المخلوقات، فعن من أدوّن، ولمن أبوح بالأسرار...؟
ـ لا تدوّن....، ولا تفشي سرا ً...، مع إننا اتفقنا بعدم وجودها، إلا بحدود ظاهرها المعلن...، لا تدوّن ...، فمن طلب منك أن تشتغل في مهنة اختراع الوهم،  ومن طلب منك أن تكد وتشقى في وصف تفاصيله الدقيقة، من ثم لتعيد بناءه، كي تدرك أخيرا ً انك لم تعرفه...، تارة تقول انك أضعته، وتارة تقول انه أضاعك، وفي الغالب تكون أضعت  حياتك، هذا إذا كانت لديك حياة أصلا ً!
ـ توقف..، لا تسرع، فالجرذ لم يمت بعد...، ومادام لم يمت فهو سيعثر علينا، وسيلقي القبض علينا حتى لو متنا!
تسمر الذئب مذعورا ً:
ـ كأنك أصبتني بالعدوى...؟
ـ العدوى...؟
ـ فانا أصبحت اجهل ما سيحصل لي بعد الموت؟
ـ سيدي، لا اعتقد انه سيحصل لك إلا ما كان حصل لك قبل أن تولد!
ـ آ ....، ها أنت تعيد لي السكينة...، فما سيحصل لي بعد الموت هو استكمال للمشروع الذي سبق ولادتي...، فانا أدرك الآن ـ الحقيقة وفي هذه الحديقة ـ إنني لم اربح خسائري، ولم اخسر مكاسبي...، فالعدم السابق على الوجود سيمتد إلى الوجود المكمل لعدمه...!
ـ بالضبط!
ـ هل ستدوّن هذا في تقريرك أيها الدب الأحمق؟!
ـ أرجوك ...، فإذا كنت أحمقا ً فهذا لأن الحماقة سابقة في وجودها وجودي...، فانا لم اخترها، مثلما لا يوجد احد ما يختار الذهاب إلى جهنم بطيب خاطر، وإنما لأن الاختيار يحصل من غير قدرة على قهره...؟
صرخ الذئب:
ـ  إنها الحرية الشفافة! إنها الحرية التي لا يصنعها إلا الأحرار...، لأن ناتج عمل الأحرار لا يأتي إلا بها، مع إن أحدا ً لا يعرف لماذا دامت أغلال العبودية بديمومة وجود هذا العدد الغفير من الأحرار..؟  ذلك لأن الحرية إذا ً سابقة في وجودها وجودي...، وهنا يبدو الإيمان بها وهما شبيها بمن يدحضها أو يغفلها...، وهكذا عدنا ـ سيدي ـ إلى المعضلة...؟
ـ تقصد ... التي وجدت قبل وجودنا...، لأنها هي التي ورطتنا بالوباء، ثم علينا أن نجد ونكد ونشقى ونعمل على استبعاد إنها معضلة...، وهكذا تمتلك الشرعية قدرتها على التمويه، والديمومة، والخلود؟!
ـ على البطش، والجور، و...على ما لا يقال.
ـ أسكت...، قد تلتقط ذبذبات أصواتنا...، وقد يرصدون ومضات عمل أدمغتنا، ما داموا يمتلكون مفاتيح فك شفرات هذا المفاتح في هذا القفل؟
ـ لم افهم..؟
ـ الم تقل إن الحقيقة وجدت مأواها في هذه الحديقة، وان خلاف هذا القول لا يحتمل الدحض: فلولا الحقيقة لا وجود للحديقة، ولو لم تكن هناك حديقة فان الحقيقة تكون عادت إلى ما قبل وجودها، ووجودنا، وإنها خالدة بعد فناء الزمن؟
ـ قلت اسكت..، رغم إن هذه الذبذبات، سيدي، سابقة في وجودها وليس ملحقة به!
ـ نحن أم الذبذبات...؟
ـ كلانا...، فهل لديك قدرة فصل هذا السابق عن اللاحق، في ديمومة بقاء النهايات متسترة على لغز انبثاقها، وتجددها....، أم لديك قدرة عزل النهايات الممتدة عما سبقها من أزمنة لا بدايات لها....؟
    تهاوى الدب..، فاقترب الذئب منه:
ـ مسكين! أمضيت حياتك منشغلا ً بهذا الذي  ذهب ابعد من وجودك! ابعد من الماء والأشجار والصخور والزمن...، ابعد من الحديقة، ومن الحقيقة أيضا ً...؟
    وجد الدب لديه قدرة على النطق:
ـ وأنت...؟
ـ أنا لم اترك حملا ً لامه، ولم اترك ذئبة لبعلها، ولم اترك أرنبا ً طليقا ً، ولا طيرا ًيدب فوق الأرض، ولا بشرا ً يتبختر، إلا واعدت له عدمه...، سقته إلى الدرب الذي ضل مساراته فيه! فكنت اردد مع نفسي: أنا هو عدمكم وقد اكتمل وجوده!
ـ آ ....، أنت إذا ً هو الوباء، سيدي؟
ـ بل أنا هو العقار...، يا حيوان، يا حمار، يا معزة، يا بعير، يا بعوضة، يا جاموسة، يا ...
ـ اسكت، أرجوك، فقد يظنون انك تقول الحقيقة، فكيف اثبت لهم إنني لست إلا حيوانا ً، حمارا ً أو قنفذا ًأو بغلا ً....، كيف اخلص نفسي مع إنني فقدتها قبل أن يكون لها وجود ...؟
ـ هذه معضلتك التي عليك أن تستكمل فصولها... ولا تتركها مبتورة، ناقصة، فلا يصح أن تكون حكيما ً من غير مغامرة، ولا يصح أن تكون ربحت شيئا ً من غير خسائر...، فالنار لا تترك إلا رمادا ً، والحياة، في الأخير، لا تترك ما يدل عليها!
ـ إذا ً...، لم تعد لدي مهمة...، بعد حديثك المروّع هذا...، فأنت لم تبق لي شيئا ً ما من الوهم أتعكز عليه...؟
ـ هي التي ستعثر عليك، ولن تدعك وحيدا ً، فالذي يولد وتراه يهرب من الموت هو في الواقع يخدعنا ويخدع نفسه لأنه وحده من يقترب منه....، فإذا اعتقدت بأنني سأرمي بجسدي إلى المستنقع، فانا في الواقع ألبي نداء الأغوار النائية...، لأننا عمليا ً لم ندوّن إلا ما كنا نسعى إلى محوه..!
ـ وهل ستتركني أراقب كيف نغطس في هذه المياه الآسنة...؟
ـ هذه هي المشكلة...، لأنني كنت احلم أن أموت في المياه العذبة! لعلي أولد في مستنقع  آخر تندمج نهاياته بدشيناته وتغيب فواصله وتلاشى قبل أن تترك أثرا ً لها، ولا أثرا ً يدل على إنها قاومت حتى زوالها!
ـ ها أنت تجعل الحد الفاصل بينهما متحدا ً...، مادمت ستولد من موتك مرة ثانية، لتكون لك صورة غير التي محوتها...؟
ـ أنا ـ يا سيدي ـ مثلك، فانا هو الوباء الذي لا يمكن استئصاله إلا بالعودة إلى هذا الذي نلبي نداءه...!
صرخ الجرذ، وهو يقترب منه،  يتبعه حشد من النمور، والتماسيح، والأسود، وأفراس النهر، ويمشي خلفه السيد المدير:
ـ قفوا ...، قفوا...
    لكن الذئب غطس في ماء المستنقع، واختفى...، تاركا ً فقاعات من الهواء، فوق السطح، تحولت إلى هالات!
ـ ها أنا أرى ما لا يحصى من الكواكب تتلاشى، ومن الشموس تنطفئ، وثمة مجرات تتناثر...، في هذا الفضاء المشغول بالفضاءات، وقد تخللته هذه الومضات الغريبة! فالدورة لم تستكمل دورتها وما انفكت تدور....
   امسك الجرذ بالدب:
ـ هل دوّنت كلماته...؟
ـ نعم، سيدي، فانا لم اترك شاردة إلا ولحقت بها، ولم اترك واردة إلا واقتنصتها، لم اترك أدق التفاصيل تغيب عني، ولا اللا مرئيات تتوارى داخل مكنوناتها، حتى عثرت على اللا أسباب التي ستشغلنا ملايين السنين، ورحت ارصد مساراتها الملتوية، المراوغة، لظاهرها وباطنها، كما تعقبت الأصداء بعد زوال أصواتها، وتحريت عن مصادر الظلال، والضلال، ولم اترك ضالة، ولا بدعة، ولا منكرا ً، ولا فرية....، إلا ونبشت في حفرها وفي دهاليزها المظلمة وأخرجتها من مخبئها ومناطقها المجهولة....
    سمع المدير كلمات الدب، فسره ما سمع، فأمر بحركة من رأسه الجرذ، نفذها في الحال.
صرخ الدب:
ـ  لم يحن أوان نهايتي أيها الزعيم....، فهناك الكثير الذي لم أدوّنه بعد....، الكثير...، بل الأكثر من الكثير....، من هذا الذي نقشته فوق هذه الألواح...؟
ـ مت بوقار الصمت!  فهناك ألف ألف حسنة ستحصل عليها، وألف ألف أخرى تنتظرك بعد الموت...، وألف ألف ألف مضافة عندما تبعث إلينا من جديد!
ـ سيدي أيها الزعيم الذي لا يموت، يا واهب المقدمات من غير نهاية، وواهب النهايات من غير مقدمات،، يا من  ظله لا يزول، ولا يستحدث، يا سيدي الجبار لا أريد إلا واحدة .... من هذه الحسنات!
ورفع صوته:
ـ واحدة فقط...
فأمر المدير الجرذ:
ـ دعنا نستمع إلى رغبته...
قال بصوت غائب:
ـ لا أريد أن أموت!
   ابتسم المدير وقال للجرذ:
ـ ولكنهم لا يريدون أن يتأخر...
وخاطب نفسه:
ـ أما أنا فلا صلاحيات لدي ....، وأنت أول من يعرف ذلك!
فصرخ الجرذ:
ـ سيدي...، لدي ّ كلمة أخيرة...
ـ قل.
ـ إنهم لن يدعوك، بعد موته، حيا ً!
ضحك المدير:
ـ اعرف!
فقال الدب لنفسه:
ـ وأنا أيضا ً كنت اعرف لماذا لم يردم هذا المستنقع!
9/6/2015


ليست هناك تعليقات: